الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

قوله تعالى : « وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ » إلى آخر الآيات كأين كلمة تكثير وكلمة « من » بيانية والربيون جمع ربي وهو كالرباني من اختص بربه تعالى فلم يشتغل بغيره ، وقيل : المراد به الألوف والربي الألف ، والاستكانة هي التضرع.

وفي الآية موعظة واعتبار مشوب بعتاب وتشويق للمؤمنين أن يأتموا بهؤلاء الربيين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة كما آتاهم ، ويحبهم لإحسانهم كما أحبهم لذلك.

وقد حكى الله من فعلهم وقولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به ويجعلوه شعارا لهم حتى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم أحد من الفعل والقول غير المرضيين لله تعالى وحتى يجمع الله لهم ثواب الدنيا والآخرة كما جمع لأولئك الربيين.

وقد وصف ثواب الآخرة بالحسن دون الدنيا إشارة إلى ارتفاع منزلتها وقدرها بالنسبة إليها.

* * *

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ـ ١٤٩. بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ـ ١٥٠. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ـ ١٥١. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ـ ١٥٢. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى

٤١

أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ـ ١٥٣. )

( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ـ ١٥٤. إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ـ ١٥٥. )

(بيان)

من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد ، وفيها حث وترغيب للمؤمنين أن لا يطيعوا غير ربهم فإنه هو مولاهم وناصرهم ، وإشهاد لهم على صدق وعده وأن الهزيمة والخذلان لم يكن يوم أحد إلا من قبل أنفسهم ، وتعديهم حدود ما أمرهم الله به ودعاهم رسوله إليه وأن الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لأنه غفور حليم.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا » إلى آخر الآيتين لا يبعد أن يستفاد من السياق أن الكفار كانوا أيام نزول الآيات بعد غزوة أحد يلقون إلى المؤمنين ـ في صورة النصح ـ ما يثبطهم عن القتال : ويلقي التنازع والتفرقة

٤٢

وتشتت الكلمة واختلافها بينهم ، وربما أيده ما في آخر هذه الآيات من قوله ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ) « إلى أن قال » ( ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الآيات : آل عمران « ١٧٣ ـ ١٧٥ ».

وربما قيل : إن الآية إشارة إلى قول اليهود والمنافقين يوم أحد : « إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى عشائركم » ، وليس بشيء.

ثم لما بين أن إطاعتهم للذين كفروا والميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الذي هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله : ( بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ).

قوله تعالى : « سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ » « إلخ » وعد جميل للمؤمنين بأنهم سينصرون بالرعب ، ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يذكره فيما حباه الله تعالى وخصه به من بين الأنبياء على ما رواه الفريقان.

وقوله : ( بِما أَشْرَكُوا ) ، معناه : اتخذوا له ما ليس معه برهان شريكا ، ومما يكرره القرآن أن ليس لإثبات الشريك لله سلطان ، ومن إثبات الشريك نفي الصانع وإسناد التأثير والتدبير إلى غيره كالدهر والمادة.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ » إلى آخر الآية الحس ـ بالفتح ـ : القتل على وجه الاستيصال.

ولقد اتفقت الروايات وضبطه التاريخ في قصة غزوة أحد أن المؤمنين غلبوهم وظهروا عليهم في أول الأمر ووضعوا فيهم السيوف وشرعوا في نهب أموالهم حتى إذا خلى الرماة مكانهم في المكمن حمل خالد بن الوليد فيمن معه على عبد الله بن جبير ومن بقي معه من الرماة فقتلوهم ، وحملوا على المؤمنين من ورائهم ، وتراجع المشركون عن هزيمتهم ووضعوا السيوف في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقتلوا منهم سبعين ثم هزموهم أشد هزيمة.

فقوله تعالى : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ ) ، تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوى والصبر ، وقوله : ( إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ) ، يقبل الانطباق على ما رزقهم في أول الأمر من الظهور على عدوهم يوم أحد ، وقوله : ( حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ ) ، ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك

٤٣

مراكزهم واللحوق بمن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لنيل الغنيمة ففشلوا وتنازعوا في الأمر وعصوا أمر النبي بأن لا يتركوا مراكزهم على أي حال ، وعلى هذا فلا بد من تفسير الفشل بضعف الرأي ، وأما كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم جبنا بل طمعا في الغنيمة ، ولو كان الفشل بمعنى الجبن كان منطبقا على حال جميع القوم ويكون على هذا « ثُمَّ » في قوله : ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ ) ، مفيدة للتراخي الرتبي دون الزماني.

ويدل لفظ التنازع على أن الكل لم يكونوا مجمعين على الفشل والمعصية بل كان بعضهم يصر على الإطاعة والبقاء على الائتمار ولذا قال تعالى بعده : ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ).

قوله تعالى : « ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ » ، أي كفكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتنازع والمعصية ، وبالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم ويختبر إيمانكم وصبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط الابتلاء ليتميز المؤمن من المنافق ، والمؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلون السريع الزوال ، ومع ذلك فإن الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال : ( وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ).

قوله تعالى : « إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ » الإصعاد هو الذهاب والإبعاد في الأرض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال يقال : أصعد في جانب البر أي ذهب فيه بعيدا ، وصعد في السلم أي ارتقى ، وقيل : إن الإصعاد ربما استعمل بمعنى الصعود.

والظرف متعلق بمقدر أي اذكروا إذ تصعدون ، أو بقوله : ( صَرَفَكُمْ ) ، أو بقوله ( لِيَبْتَلِيَكُمْ ) ، ـ على ما قيل ـ وقوله : ( وَلا تَلْوُونَ ) ، من اللي بمعنى الالتفات والميل قال في المجمع : ولا يستعمل إلا في النفي لا يقال : لويت على كذا ، انتهى.

وقوله : ( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) ، الأخرى مقابل الأولى وكون الرسول يدعو وهو في أخراهم يدل على أنهم تفرقوا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم سواد ممتد على طوائف أولاهم مبتعدون عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخراهم بقرب منه ، وهو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه لا أولاهم ولا أخراهم فتركوه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بين جموع المشركين وهم يصعدون فرارا من القتل.

٤٤

نعم قوله تعالى قبيل هذا : ( وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) ـ وقد مر تفسيره ـ يدل على أن منهم من لم يتزلزل في عزيمته ولم ينهزم لا في أول الانهزام ، ولا بعد شيوع خبر قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يدل عليه قوله : ( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ) الآية.

ومما يدل عليه قوله : ( وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) إن خبر قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما انتشر بينهم بعد انهزامهم وإصعادهم.

قوله تعالى : « ( فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ ) إلخ أي جازاكم غما بغم ليصرفكم عن الحزن على كذا ، وهذا الغم الذي أثيبوا به كيفما كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله : ( لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ ) ، فإن الله تعالى ذم في كتابه هذا الحزن كما قال : ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ ) : « الحديد ـ ٢٣ » فهذا الغم الذي يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة وموهبة فيكون هو الغم الطارئ عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم والتحسر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل ، ويكون حينئذ الغم الثاني في قوله : ( بِغَمٍ ) ، الغم الآتي من قبل الحزن المذكور ، والباء للبدلية ، والمعنى : جازاكم غما بالندامة والحسرة على فوت النصر بدل غم بالحزن على ما فاتكم وما أصابكم.

ومن الجائز أن يكون قوله : ( فَأَثابَكُمْ ) مضمنا معنى الإبدال فيكون المعنى : فأبدلكم غم الحزن من غم الندامة والحسرة مثيبا لكم ، فينعكس المعنى في الغمين بالنسبة إلى المعنى السابق.

وعلى كل من المعنيين يكون قوله : ( فَأَثابَكُمْ ) ، تفريعا على قوله : ( وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) ، ويتصل به ما بعده أعني قوله : ( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ ) ، أحسن اتصال ، والترتيب : أنه عفا عنكم فأثابكم غما بغم ليصونكم عن الحزن الذي لا يرتضيه لكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا.

وهاهنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله : ( فَأَثابَكُمْ ) ، على ما يتصل به بمعنى أن يكون الغم هو ما يتضمنه قوله : ( إِذْ تُصْعِدُونَ ) ، والمراد بقوله : ( بِغَمٍ ) هو ما أدى إليه التنازع والمعصية وهو إشراف المشركين عليهم من ورائهم ، والباء للسببية وهذا معنى حسن ، وعلى هذا يكون المراد بقوله : ( لِكَيْلا تَحْزَنُوا ) « إلخ » :

٤٥

نبين لكم حقيقة الأمر لئلا تحزنوا ، كما في قوله تعالى : ( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) الآية : « الحديد ـ ٢٣ ».

فهذا ما يستقيم به نظم الآية واتساق الجمل المتعاقبة ، وللمفسرين احتمالات كثيرة في الآية من حيث ما عطف عليه قوله : ( فَأَثابَكُمْ ) ، ومن حيث معنى الغم الأول والثاني ومعنى الباء ومعنى قوله : ( لِكَيْلا ) ، ليست من الاستقامة على شيء ولا جدوى في نقلها والبحث عنها.

وعلى ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد مما فات في قوله : ( لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ ) هو الغلبة والغنيمة ، ومما أصاب ما أصاب القوم من القتل والجرح.

قوله تعالى : « ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ » الأمنة بالتحريك الأمن ، والنعاس ما يتقدم النوم من الفتور وهو نوم خفيف ، ونعاسا بدل من أمنة للملازمة عادة ، وربما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب وطلبة ، وهو حينئذ حال من ضمير عليكم ، ونعاسا مفعول قوله : أنزل ، و ـ الغشيان ـ : الإحاطة.

والآية تدل على أن هذا النعاس النازل إنما غشي طائفة من القوم ، ولم يعم الجميع بدليل قوله : ( طائِفَةً مِنْكُمْ ) ، وهؤلاء هم الذين رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الانهزام والإصعاد لما ندموا وتحسروا ، وحاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة وهم في حال الفرار عن الزحف وهو من كبائر المعاصي والآثام وقد قال : ( وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ، وحاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء والمنكر حين يقترف من قبل أن يتوب وقد عنى في حقهم حين أثابهم غما بغم لكيلا يحزنوا فيتقذر قلوبهم بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مر بيانه.

فهؤلاء بعض القوم وهم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المحتفون به ، وكان ذلك إنما كان حين فارق صلى‌الله‌عليه‌وآله جموع المشركين وعاد إلى الشعب ، وإن كان عودهم إليه تدريجا بعد العلم بأنه لم يقتل.

وأما البعض الآخر من القوم فهم الذين يذكرهم الله بقوله : ( وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ).

٤٦

قوله تعالى : « وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ » هذه طائفة أخرى من المؤمنين ونعني بكونهم من المؤمنين أنهم غير المنافقين الذين ذكرهم الله أخيرا بقوله : ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ ) الآية وهم الذين فارقوا جماعة المؤمنين في أول الأمر قبل القتال وانخذلوا فهؤلاء المنافقون لهم شأن آخر سينبئ الله بذلك.

وهؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنهم قد أهمتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الأولى من العفو وإثابة الغم ثم الأمنة والنعاس بل وكلهم إلى أنفسهم فأهمتهم أنفسهم ونسوا كل شيء دونها.

وقد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين وإن كان أحدهما من لوازم الآخر وفروعه ، فذكر أنهم أهمتهم أنفسهم ، وليس معناه أنهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها الحقيقي فإن المؤمنين أيضا لا يريدون إلا سعادة أنفسهم فالإنسان بل كل ذي همة وإرادة لا يريد إلا نفسه البتة ، بل المراد : أن ليس لهم هم إلا حفظ حياتهم الدنيا وعدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلا إمتاع أنفسهم في الدنيا وإنما ينتحلون بالدين ظنا منهم أنه عامل غير مغلوب ، وأن الله لا يرضى بظهور أعدائه عليه ، وإن كانت الأسباب الظاهرية لهم فهؤلاء يستدرون الدين ما در لهم ، وإن انقلب الأمر ولم يسعدهم الجد انقلبوا على أعقابهم القهقرى.

قوله تعالى : « يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ » إلى قوله : « بِاللهِ » أي ظنوا بالله أمرا ليس بحق بل هو من ظنون الجاهلية فهم يصفونه بوصف ليس بحق بل من الأوصاف التي كان يصفه بها أهل الجاهلية ، وهذا الظن أيا ما كان هو شيء يناسبه ويلازمه قولهم : ( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ) ، ويكشف عنه ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم به ، وهو قوله : ( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) فظاهر هذا الجواب أنهم كانوا يظنون أن بعض الأمر لهم ولذا لما غلبوا وفشا فيهم القتل تشككوا فقالوا : ( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ).

وبذلك يظهر أن الأمر الذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظهور والغلبة ، وإنما كانوا يظنونه لأنفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنون أن الدين الحق لا يغلب ولا يغلب المتدين به لما أن على الله أن ينصره من غير قيد وشرط وقد وعدهم به.

٤٧

وهذا هو الظن بغير الحق ، الذي هو ظن الجاهلية فإن وثنية الجاهلية كانت تعتقد أن الله تعالى خالق كل شيء وأن لكل صنف من أصناف الحوادث كالرزق والحياة والموت والعشق والحرب وغيرها ، وكذا لكل نوع من الأنواع الكونية كالإنسان والأرض والبحار وغيرها ربا يدبر أمرها لا يغلب على إرادته ، وكانوا يعبدون هؤلاء الأرباب ليدروا لهم الرزق ، ويجلبوا لهم السعادة ، ويقوهم من الشرور والبلايا ، والله سبحانه كالملك العظيم يفوض كل صنف من أصناف رعيته وكل شطر من أشطار ملكه إلى وال تام الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه وحوزة ولايته.

وإذا ظن الظان أن الدين الحق لا يصير مغلوبا في ظاهر تقدمه والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو أول من يتحمله من ربه ويحمل أثقاله ـ لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنه لا يقتل أو لا يموت فقد ظن بالله غير الحق ظن الجاهلية فاتخذ لله أندادا ، وجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ربا وثنيا مفوضا إليه أمر الغلبة والغنيمة ، مع أن الله سبحانه واحد لا شريك له ، إليه يرجع الأمر كله وليس لأحد من الأمر شيء ، ولذلك لما قال تعالى فيما تقدم من الآيات : ( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ ) ، قطع الكلام بالاعتراض فقال ـ يخاطب نبيه ـ : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) لئلا يتوهم أن له صلى‌الله‌عليه‌وآله دخلا في قطع أو كبت ، والله سبحانه هو الذي وضع سنة الأسباب والمسببات ، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحق والباطل ، والخير والشر ، والهداية والضلالة ، والعدل والظلم ، ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر ، والمحبوب والمبغوض ، ومحمد وأبي سفيان.

نعم لله سبحانه عناية خاصة بدينه وبأوليائه يجري نظام الكون بسببها جريا ينجر إلى ظهور الدين وتمهد الأرض لأوليائه والعاقبة للمتقين.

وأمر النبوة والدعوة ليس بمستثنى من هذه السنة الجارية ، ولذلك كلما توافقت الأسباب العادية على تقدم هذا الدين وظهور المؤمنين كبعض غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ذلك ، وحيث لم يتوافق الأسباب كتحقق نفاق أو معصية لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين ، وكذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع الناس فإن أعداء الأنبياء لكونهم أهل الدنيا ، وقصرهم مساعيهم في عمارة الدنيا ، وبسط القدرة ، وتشديد القوة ، وجمع الجموع كانت الغلبة الظاهرية والظهور لهم

٤٨

على الأنبياء ، فمن مقتول كزكريا ، ومذبوح كيحيى ، ومشرد كعيسى إلى غير ذلك.

نعم إذا توقف ظهور الحق بحقانيته على انتقاض نظام العادة دون السنة الواقعية وبعبارة أخرى دار أمر الحق بين الحياة والموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب الدين ولا يدعه تدحض حجته ، وقد مر شطر من هذا البحث في القول على الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب ، وفي الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

ولنرجع إلى ما كنا فيه : فقول هؤلاء الطائفة الذين أهمتهم أنفسهم : ( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ) ، تشكك في حقية الدين وقد أدرجوا في هيكله روح الوثنية على ما مر بيانه ، فأمر سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم فقال : ( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) ، وقد خاطب نبيه قبل ذلك بقوله : ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) فبين بذلك أن ملة الفطرة ودين التوحيد هو الذي لا يملك فيه الأمر إلا الله جل شأنه ، وباقي الأشياء ومنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليست بمؤثرة شيئا بل هي في حيطة الأسباب والمسببات والسنة الإلهية التي تؤدي إلى جريان ناموس الابتلاء والامتحان.

قوله تعالى : « يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ » « إلخ » ، وهذا توصيف لهم بما هو أشد من قولهم : ( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ) ، فإنه كان تشكيكا في صورة السؤال ، وهذا أعني قولهم : ( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا ) ترجيح في هيئة الاستدلال ، ولذلك أبدوا قولهم الأول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخفوا قولهم الثاني لاشتماله على ترجيح الكفر على الإسلام.

فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجيبهم فقال : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ) ، فبين لهم :

أولا : أن قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحق ، وعدم كون الأمر لكم على ما تزعمون بل لأن القضاء الإلهي وهو الذي لا مناص من نفوذه ومضيه جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع ، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ، فلا مفر من الأجل المسمى الذي

٤٩

لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون.

وثانيا : أن سنة الله جرت على عموم الابتلاء والتمحيص وهي واقعة بهم وبكم لا محالة ، فلم يكن بد من خروجكم ووقوع هذا القتال حتى يحل المقتولون محلهم وينالوا درجاتهم ، وتحلوا أنتم محلكم فيتعين لكم أحد جانبي السعادة والشقاوة بامتحان ما في صدوركم من الأفكار ، وتخليص ما في قلوبكم من الإيمان والشرك.

ومن عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدة من المفسرين إن المراد بهذه الطائفة التي تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنها تصف حال المؤمنين ، وأما المنافقون أعني أصحاب عبد الله بن أبي المنخذلين في أول الوقعة قبل وقوع القتال فإنما يتعرض لحالهم فيما سيأتي.

اللهم إلا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الإيمان الذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللازم إلى إنكار الحق قلبا والاعتراف به لسانا وهم الذين يسميهم الله بالذين في قلوبهم مرض قال تعالى : ( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ـ ) : الأنفال ـ ٤٩ ، وقال : ( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) : التوبة ٤٧ ، أو يريدوا أن جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبد الله بن أبي إلى المدينة.

وأعجب منه قول بعض آخر إن هذه الطائفة كانوا مؤمنين ، وأنهم كانوا يظنون أن أمر النصر والغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحق لما رأوا من الفتح والظفر ونزول الملائكة يوم بدر فقولهم : ( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ) ، وقولهم : ( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) « إلخ » اعتراف منهم بأن الأمر إلى الله لا إليهم وإلا لم يستأصلهم القتل.

ويرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ وهو قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ) ، وقوله : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ) « إلخ » ، وقد أحس بعض هؤلاء بهذا الإشكال فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه وقد عرفت ما هو الحق من المعنى.

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا » استزلال الشيطان إياهم إرادته وقوعهم في الزلة ، ولم يرد ذلك منهم إلا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم ومن أعمالهم فإن السيئات يهدي بعضها إلى بعض فإنها مبنية على متابعة هوى النفس ، وهوى النفس للشيء هوى لما يشاكله.

٥٠

وأما احتمال كون الباء للآلة وكون ما كسبوا عين توليهم يوم الالتقاء فبعيد من ظاهر اللفظ فإن ظاهر « ما كَسَبُوا » تقدم الكسب على التولي والاستزلال.

وكيف كان فظاهر الآية أن بعض ما قدموا من الذنوب والآثام مكن الشيطان أن أغواهم بالتولي والفرار ، ومن هنا يظهر أن احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء الشيطان يوم أحد بقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما في بعض الروايات ليس بشيء إذ لا دلالة عليه من جهة اللفظ.

قوله تعالى : « وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ » هذا العفو هو عن الذين تولوا ، المذكورين في صدر الآية ، والآية مطلقة تشمل جميع من تولى يومئذ فتعم الطائفتين جميعا أعني الطائفة التي غشيهم النعاس والطائفة التي أهمتهم أنفسهم ، والطائفتان مختلفتان بالتكرم بإكرام الله وعدمه ، ولكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل لهما معا جهات الإكرام التي اشتمل عليها العفو المتعلق بالطائفة الأولى على ما تقدم بيانه.

ومن هنا يظهر أن هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله : ( وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) ، ومن الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللحن ففرق واضح بين قوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) حيث إنه كلام مشعر بالفضل والرأفة وقد سماهم مؤمنين ثم ذكر إثابتهم غما بغم لكيلا يحزنوا ثم إنزاله عليهم أمنة نعاسا ، وبين قوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) حيث ذكر العفو وسكت عن جميع ما أكرم الطائفة الأولى به ثم ختم الكلام بذكر حلمه وهو أن لا يعجل في العقوبة والعفو الذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط فإن قلت : إنما سوى بين الطائفتين من سوى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعا.

قلت : معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق وإن صدق على الجميع مفهوم العفو على حد سواء ، ولا دليل على كون العفو والمغفرة وما يشابههما في جميع الموارد سنخا واحدا ، وقد بينا وجه الاختلاف.

(معنى العفو والمغفرة في القرآن)

العفو على ما ذكره الراغب ـ وهو المعنى المتحصل من موارد استعمالاته ـ هو القصد لتناول الشيء ، يقال : عفاه واعتفاه أي قصده متناولا ما عنده ، وعفت الريح الدار

٥١

قصدتها متناولة آثارها ، انتهى وكان قولهم : عفت الدار إذ بلت مبني على عناية لطيفة وهي أن الدار كأنها قصدت آثار نفسها وظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين ، وبهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنه تعالى يعني بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب ويتركه بلا ذنب.

ومن هنا يظهر أن المغفرة ـ وهو الستر ـ متفرع عليه بحسب الاعتبار فإن الشيء كالذنب مثلا يؤخذ ويتناول أولا ثم يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه ولا عند غيره ، قال تعالى : ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا ) ، : « البقرة : ٢٨٦ » وقال : ( وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً ) : « النساء : ٩٩ ».

وقد تبين بذلك أن العفو والمغفرة وإن كانا مختلفين متفرعا أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنية لكنهما بحسب المصداق واحد ، وأن معناهما ليس من المعاني المختصة به تعالى بل يصح إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى : ( إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) : « البقرة : ٢٣٧ » ، وقال تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ) : « الجاثية : ١٤ » ، وقال تعالى : ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) الآية فأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعفوا عنهم فلا يرتب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة والعتاب والإعراض ونحو ذلك ، وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم ـ وهو تعالى فاعله لا محالة ـ فيما يرجع إليه من آثار الذنب.

وقد تبين أيضا أن معنى العفو والمغفرة يمكن أن يتعلق بالآثار التكوينية والتشريعية والدنيوية والأخروية جميعا ، قال تعالى : ( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) : « الشورى : ٣٠ » ، والآية شاملة للآثار والعواقب الدنيوية قطعا ، ومثله قوله تعالى : ( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) « الشورى : ٥ » ، على ظاهر معناه ، وكذا قول آدم وزوجته فيما حكاه الله عنهما : ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) : « الأعراف : ٢٣ » بناء على أن ظلمهما كان معصية لنهي إرشادي لا مولوي.

والآيات الكثيرة القرآنية دالة على أن القرب والزلفى من الله ، والتنعم بنعم الجنة يتوقف على سبق المغفرة الإلهية وإزالة رين الشرك والذنوب بتوبة ونحوها كما قال تعالى : ( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) : « المطففين : ١٤ » وقال تعالى : ( وَمَنْ

٥٢

يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) : « التغابن : ١١ ».

وبالجملة العفو والمغفرة من قبيل إزالة المانع ورفع المنافي المضاد ، وقد عد الله سبحانه الإيمان والدار الآخرة حياة ، وآثار الإيمان وأفعال أهل الآخرة وسيرهم الحيوي نورا كما قال : « ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) : « الأنعام : ١٢٢ » ، وقال تعالى : ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) : « العنكبوت : ٦٤ » ، فالشرك موت والمعاصي ظلمات ، قال تعالى : ( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) : « النور : ٤٠ » ، فالمغفرة إزالة الموت والظلمة وإنما تكون بحياة وهو الإيمان ، ونور وهو الرحمة الإلهية.

فالكافر لا حياة له ولا نور ، والمؤمن المغفور له له حياة ونور ، والمؤمن إذا كان معه سيئات حي لم يتم له نوره وإنما يتم بالمغفرة ، قال تعالى : ( نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا ) : « التحريم ـ ٨ ».

فظهر من جميع ما تقدم أن مصداق العفو والمغفرة إذا نسب إليه تعالى في الأمور التكوينية كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه ، وفي الأمور التشريعية إزالة السبب المانع عن الإرفاق ونحوه ، وفي مورد السعادة والشقاوة إزالة المانع عن السعادة.

* * *

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ـ ١٥٦. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ـ ١٥٧. وَلَئِنْ مُتُّمْ

٥٣

أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ ـ ١٥٨. فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ـ ١٥٩. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ـ ١٦٠. )

( وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ـ ١٦١. أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ـ ١٦٢. هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ـ ١٦٣. لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ـ ١٦٤. )

(بيان)

الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد أيضا ، وهي تتضمن التعرض لأمر آخر عرض لهم ، وهو الأسف والحسرة الواردة في قلوبهم من قتل رجالاتهم وسراة قومهم ، ومعظم المقتولين كانوا من الأنصار فما قتل من المهاجرين ـ على ما قيل ـ إلا أربعة ، وهذا يقوي الحدس أن معظم المقاومة كانت من ناحية الأنصار ، وأن الهزيمة أسرعت إلى المهاجرين قبلهم.

وبالجملة الآيات تبين ما في هذا الأسف والحسرة من الخطإ والخبط ، وتعطف على

٥٤

أمر آخر يستتبعه هذا الأسف والتحسر وهو سوء ظنهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه هو الذي أوردهم هذا المورد وألقاهم في هذه التهلكة كما يشير إليه قولهم على ما تلوح إليه هذه الآيات : ( لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ) الآية ، وقول المنافقين فيما سيجيء : ( لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ) الآية ، أي أطاعونا ولم يطيعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو الذي أهلكهم ، فهي تبين أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس له أن يخون أحدا بل هو رسول منه تعالى شريف النفس كريم المحتد عظيم الخلق يلين لهم برحمة من الله ، ويعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم في الأمر منه تعالى ، وأن الله من به عليهم ليخرجهم من الضلال إلى الهدى.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا » « إلخ » المراد بهؤلاء الذين كفروا ما هو ظاهر اللفظ أعني الكافرين دون المنافقين ـ كما قيل ـ لأن النفاق بما هو نفاق ليس منشأ لهذا القول ـ وإن كان المنافقون يقولون ذلك ـ وإنما منشؤه الكفر فيجب أن ينسب إلى الكافرين.

والضرب في الأرض كناية عن المسافرة ، وغزي جمع غاز كطالب وطلب وضارب وضرب ، وقوله : ( لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً ) ، أي ليعذبهم بها فهو من قبيل وضع المغيا موضع الغاية ، وقوله : ( وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ) ، بيان لحقيقة الأمر التي أخطأ فيها الكافرون القائلون : لو كانوا ، وهذا الموت يشمل الموت حتف الأنف والقتل كما هو مقتضى إطلاق الموت وحده على ما تقدم ، وقوله : ( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) في موضع التعليل للنهي في قوله : ( لا تَكُونُوا ) « إلخ ».

وقوله : « ما ماتُوا وَما قُتِلُوا » ، قدم فيه الموت على القتل ليكون النشر على ترتيب اللف في قوله : ( إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ) ، ولأن الموت أمر جار على الطبع والعادة المألوفة بخلاف القتل فإنه أمر استثنائي فقدم ما هو المألوف على غيره.

ومحصل الآية نهي المؤمنين أن يكونوا كالكافرين فيقولوا لمن مات منهم في خارج بلده أو قومه ، وفيمن قتل منهم في غزاة : ( لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ) فإن هذا القول يسوق الإنسان إلى عذاب قلبي ونقمة إلهية وهو الحسرة الملقاة في قلوبهم ، مع أنه من الجهل فإن القرب والبعد منهم ليس بمحيي ومميت بل الإحياء والإماتة من الشئون المختصة بالله وحده لا شريك له فليتقوا الله ولا يكونوا مثلهم فإن الله بما يعملون بصير.

٥٥

قوله تعالى : ( وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) الظاهر أن المراد مما يجمعون هو المال وما يلحق به الذي هو عمدة البغية في الحياة الدنيا.

وقد قدم القتل هاهنا على الموت لأن القتل في سبيل الله أقرب من المغفرة بالنسبة إلى الموت فهذه النكتة هي الموجبة لتقديم القتل على الموت ، ولذلك عاد في الآية التالية : ( وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ ) إلى الترتيب الطبعي بتقديم الموت على القتل لفقد هذه النكتة الزائدة.

قوله تعالى : « فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ » إلى آخر الآية ، الفظ هو الجافي القاسي ، وغلظ القلب كناية عن عدم رقته ورأفته ، والانفضاض التفرق.

وفي الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصل المعنى : فقد لان لكم رسولنا برحمة منا ، ولذلك أمرناه أن يعفو عنكم ويستغفر لكم ويشاوركم في الأمر وأن يتوكل علينا إذا عزم.

ونكتة الالتفات ما تقدم في أول آيات الغزوة أن الكلام فيه شوب عتاب وتوبيخ ، ولذلك اشتمل على بعض الأعراض في ما يناسبه من الموارد ومنها هذا المورد الذي يتعرض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن تحزنهم لقتل من قتل منهم ربما دلهم على المناقشة في فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورميه بأنه أوردهم مورد القتل والاستيصال ، فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم والتفت إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فخاطبه بقوله : ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ).

والكلام متفرع على كلام آخر يدل عليه السياق ، والتقدير : وإذا كان حالهم ما تراه من التشبه بالذين كفروا والتحسر على قتلاهم فبرحمة منا لنت لهم وإلا لانفضوا من حولك. والله أعلم.

وقوله : « فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » إنما سيق ليكون إمضاء لسيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنه كذلك كان يفعل ، وقد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أحد ، وفيه إشعار بأنه إنما يفعل ما يؤمر والله سبحانه عن فعله راض.

وقد أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعفو عنهم فلا يرتب على فعالهم أثر المعصية ، وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم ـ وهو تعالى فاعله لا محالة ـ واللفظ وإن كان

٥٦

مطلقا لا يختص بالمورد غير أنه لا يشمل موارد الحدود الشرعية وما يناظرها وإلا لغا التشريع ، على أن تعقيبه بقوله : ( وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) لا يخلو عن الإشعار بأن هذين الأمرين إنما هما في ظرف الولاية وتدبير الأمور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم.

وقوله : « فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ » ، وإذا أحبك كان وليا وناصرا لك غير خاذلك ، ولذا عقب الآية بهذا المعنى ودعا المؤمنين أيضا إلى التوكل فقال : ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) ثم أمرهم بالتوكل بوضع سببه موضعه فقال : ( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) أي لإيمانهم بالله الذي لا ناصر ولا معين إلا هو.

قوله تعالى : « وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ » ، الغل هو الخيانة ، قد مر في قوله تعالى : « ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ » : آل عمران ـ ٧٩ ، إن هذا السياق معناه تنزيه ساحة النبي عن السوء والفحشاء بطهارته ، والمعنى : حاشا أن يغل ويخون النبي ربه أو الناس ( وهو أيضا من الخيانة لله ) والحال أن الخائن يلقى ربه بخيانته ثم توفى نفسه ما كسبت.

ثم ذكر أن رمي النبي بالخيانة قياس جائر مع الفارق فإنه متبع رضوان الله لا يعدو رضا ربه ، والخائن باء بسخط عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ، وهذا هو المراد بقوله : ( أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ ) الآية.

ويمكن أن يكون المراد به التعريض للمؤمنين بأن هذه الأحوال من التعرض لسخط الله ، والله يدعوكم بهذه المواعظ إلى رضوانه ، وما هما سواء.

ثم ذكر أن هذه الطوائف من المتبعين لرضوان الله والبائين بسخط من الله درجات مختلفة ، والله بصير بالأعمال فلا تزعموا أنه يفوته الحقير من خير أو شر فتسامحوا في اتباع رضوانه أو البوء بسخطه.

قوله تعالى : « لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » ، في الآية التفات آخر من خطاب المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة ، وقد مر الوجه العام في هذه الموارد من الالتفات والوجه الخاص بما هاهنا أن الآية مسوقة سوق الامتنان والمن على المؤمنين لصفة إيمانهم ولذا قيل : على المؤمنين ، ولا يفيده غير الوصف حتى لو قيل : الذين آمنوا ، لأن المشعر

٥٧

بالعلية ـ على ما قيل ـ هو الوصف أو أنه الكامل في هذا الإشعار ، والمعنى ظاهر.

وفي الآية أبحاث أخر سيأتي شطر منها في المواضع المناسبة لها إن شاء الله العزيز.

* * *

( أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ـ ١٦٥. وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ـ ١٦٦. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ ـ ١٦٧. الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ـ ١٦٨. وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ـ ١٦٩. )

( فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ـ ١٧٠. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ـ ١٧١. )

(بيان)

الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد ، وفيه تعرض لحال عدة من المنافقين خذلوا جماعة المؤمنين عند خروجهم من المدينة إلى أحد ، وفيها جواب ما

٥٨

قالوه في المقتولين ، ووصف حال المستشهدين بعد القتل وأنهم منعمون في حضرة القرب يستبشرون بإخوانهم من خلفهم.

قوله تعالى : « أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها » لما نهاهم أن يكونوا كالذين كفروا في التحزن لقتلاهم والتحسر عليهم ببيان أن أمر الحياة والموت إلى الله وحده لا إليهم حتى يدورا مدار قربهم وبعدهم وخروجهم إلى القتال أو قعودهم عنه رجع ثانيا إلى بيان سببه القريب على ما جرت عليه سنة الأسباب ، فبين أن سببه إنما هو المعصية الواقعة يوم أحد منهم وهو معصية الرماة بتخلية مراكزهم ، ومعصية من تولى منهم عن القتال بعد ذلك ، وبالجملة سببه معصيتهم الرسول ـ وهو قائدهم ـ وفشلهم وتنازعهم في الأمر وذلك سبب للانهزام بحسب سنة الطبيعة والعادة.

فالآية في معنى قوله : أتدرون من أين أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها؟ إنما أصابتكم من عند أنفسكم وهو إفسادكم سبب الفتح والظفر بأيديكم ومخالفتكم قائدكم وفشلكم واختلاف كلمتكم.

وقد وصفت المصيبة بقوله : ( قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها ) وهو إشارة إلى مقايسة ما أصابهم الكفار يوم أحد ، وهو قتل سبعين رجلا منهم بما أصابوا الكفار يوم بدر وهو مثلا السبعين فإنهم قتلوا منهم يوم بدر سبعين رجلا وأسروا سبعين رجلا.

وفي هذا التوصيف تسكين لطيش قلوبهم وتحقير للمصيبة فإنهم أصيبوا من أعدائهم بنصف ما أصابوهم فلا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يجزعوا.

وقيل : إن معنى الآية : أنكم أنفسكم اخترتم هذه المصيبة ، وذلك أنهم اختاروا الفداء من الأسرى يوم بدر ، وكان الحكم فيهم القتل ، وشرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم فقالوا : رضينا فإنا نأخذ الفداء وننتفع به ، وإذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء.

ويؤيد هذا الوجه بل يدل عليه ما ذيل به الآية أعني قوله : ( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) إذ لا تلائم هذه الفقرة الوجه السابق البتة إلا بتعسف ، وسيجيء روايته عن أئمة أهل البيت عليه‌السلام في البحث الروائي الآتي.

قوله تعالى : « وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ » إلى آخر الآيتين ، الآية الأولى

٥٩

تؤيد ما تقدم أن المراد بقوله : ( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) ، اختيارهم الفداء من أسرى يوم بدر ، وشرطهم على أنفسهم لله ما شرطوا فإصابة هذه المصيبة بإذن الله ، وأما الوجه الأول المذكور وهو أن المعنى أن سبب إصابة المصيبة القريب هو مخالفتكم فلا تلاؤم ظاهرا بينه وبين نسبة المصيبة إلى إذن الله وهو ظاهر.

فعلى ما ذكرنا يكون ذكر استناد إصابة المصيبة إلى إذن الله بمنزلة البيان لقوله : ( هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) ، وليكون توطئة لانضمام قوله : ( وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، وبانضمامه يتمهد الطريق للتعرض لحال المنافقين وما تكلموا به وجوابه وبيان حقيقة هذا الموت الذي هو القتل في سبيل الله.

وقوله : أو ادفعوا أي لو لم تقاتلوا في سبيل الله فادفعوا عن حريمكم وأنفسكم وقوله : هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ، اللام بمعنى إلى فهذا حالهم بالنسبة إلى الكفر الصريح ، وأما النفاق فقد واقعوه بفعلهم ذلك.

وقوله : « يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ » ، ذكر الأفواه للتأكيد وللتقابل بينها وبين القلوب.

قوله تعالى : « الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا » ، المراد بإخوانهم إخوانهم في النسب وهم القتلى ، وإنما ذكر إخوتهم لهم ليكون مع انضمام قوله : وقعدوا أوقع تعيير وتأنيب عليهم فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتى أصابهم ما أصابهم من القتل الذريع ، وقوله : قل فادرءوا جواب عن قولهم ذاك ، والدرء : الدفع.

قوله تعالى : « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً » الآية ، وفي الآية التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والوجه فيه ما تكرر ذكره في تضاعيف هذه الآيات ، ويحتمل أن يكون الخطاب تتمة الخطاب في قوله : ( قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ).

والمراد بالموت بطلان الشعور والفعل ، ولذا ذكرهما في قوله : ( بَلْ أَحْياءٌ ) « إلخ » حيث ذكر الارتزاق وهو فعل ، والفرح الاستبشار ومعهما شعور.

قوله تعالى : ( فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ ) الآية ، الفرح ضد الحزن و، البشارة والبشرى ما يسرك من الخبر والاستبشار طلب السرور بالبشرى ، والمعنى : أنهم فرحون بما

٦٠