الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٢٤

طريقة التحريم والعمل بها وهضم حقوق الأيتام الصغار ، والكناية بالقول عن الفعل للملازمة بينهما غالبا شائع في اللسان كقوله تعالى : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) الآية : ـ البقرة ٨٣ ، ويؤيده توصيف القول بالسديد دون المعروف واللين ونحوهما فإن ظاهر السداد في القول كونه قابلا للاعتقاد والعمل به لا قابلا لأن يحفظ به كرامة الناس وحرمتهم.

وكيف كان فظاهر قوله : ( الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) إنه تمثيل للرحمة والرأفة على الذرية الضعاف الذين لا ولي لهم يتكفل أمرهم ويذود عنهم الذل والهوان ، وليس التخويف والتهديد المستفاد من الآية مخصوصا بمن له ذرية ضعفاء بالفعل لمكان لو في قوله : ( لَوْ تَرَكُوا ) ، ولم يقل : لو تركوا ذريتهم الضعاف بل هو تمثيل يقصد به بيان الحال ، والمراد الذين من صفتهم أنهم كذا أي أن في قلوبهم رحمة إنسانية ورأفة وشفقة على ضعفاء الذرية الذين مات عنهم آباؤهم وهم الأيتام والذين من صفتهم كذا هم الناس وخاصة المسلمون المتأدبون بأدب الله المتخلقون بأخلاقه فيعود المعنى إلى مثل قولنا : وليخش الناس وليتقوا الله في أمر اليتامى فإنهم كأيتام أنفسهم في أنهم ذرية ضعاف يجب أن يخاف عليهم ويعتنى بشأنهم ولا يضطهدوا ولا يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا : من خاف الذل والامتهان فليشتغل بالكسب وكل يخاف ذلك.

ولم يؤمر الناس في الآية بالترحم والترؤف ونحو ذلك بل بالخشية واتقاء الله وليس إلا أنه تهديد بحلول ما أحلوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم وأكل مالهم ظلما بأيتام أنفسهم بعدهم ، وارتداد المصائب التي أوردوها عليهم إلى ذريتهم بعدهم.

وأما قوله : ( فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) فقد تقدم أن الظاهر أن المراد بالقول هو الجري العملي ومن الممكن أن يراد به الرأي.

(كلام في انعكاس العمل إلى صاحبه)

من ظلم يتيما في ماله فإن ظلمه سيعود إلى الأيتام من أعقابه ، وهذا من الحقائق العجيبة القرآنية ، وهو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أن بين الأعمال الحسنة والسيئة وبين الحوادث الخارجية ارتباطا ، وقد تقدم بعض الكلام فيه في البحث عن

٢٠١

أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

الناس يتسلمون في الجملة أن الإنسان إنما يجني ثمر عمله وأن المحسن الخير من الناس يسعد في حياته ، والظلوم الشرير لا يلبث دون أن يذوق وبال عمله ، وفي القرآن الكريم آيات تدل على ذلك بإطلاقها كقوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) : ـ حم السجدة ٤٦ ، وقوله : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) : ـ الزلزال : ٨ ، وكذا قوله تعالى : ( قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) : ـ يوسف : ٩٠ ، وقوله : ( لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ) : ـ الحج : ٩ ، وقوله ( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) الآية : ـ الشورى : ٣٠ ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الخير والشر من العمل له نوع انعكاس وارتداد إلى عامله في الدنيا.

والسابق إلى أذهاننا ـ المأنوسة بالأفكار التجربية الدائرة في المجتمع ـ من هذه الآيات أن هذا الانعكاس إنما هو من عمل الإنسان إلى نفسه إلا أن هناك آيات دالة على أن الأمر أوسع من ذلك ، وأن عمل الإنسان خيرا أو شرا ربما عاد إليه في ذريته وأعقابه قال تعالى : ( وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) : ـ الكهف : ٨٢ ، فظاهر الآية أن لصلاح أبيهما دخلا فيما أراده الله رحمة بهما ، وقال تعالى ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) الآية.

وعلى هذا فأمر انعكاس العمل أوسع وأعم ، والنعمة أو المصيبة ربما تحلان بالإنسان بما كسبت يدا شخصه أو أيدي آبائه.

والتدبر في كلامه تعالى يهدي إلى حقيقة السبب في ذلك فقد تقدم في الكلام على الدعاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب في قوله تعالى : ( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ) : ـ البقرة : ١٨٦ ، دلالة كلامه تعالى على أن جميع ما يحل الإنسان من جانبه تعالى إنما هو لمسألة سألها ربه ، وأن ما مهده من مقدمة وداخله من الأسباب سؤال منه لما ينتهي إليه من الحوادث والمسببات قال تعالى : ( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) : ـ الرحمن : ٢٩ ، وقال تعالى : ( وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ

٢٠٢

اللهِ لا تُحْصُوها ) : ـ إبراهيم : ٣٤ ، ولم يقل : وإن تعدوه لا تحصوه لأن فيما سألوه ما ليس بنعمة ، والمقام مقام الامتنان بالنعم واللوم على كفرها ولذا ذكر بعض ما سألوه وهو النعمة.

ثم إن ما يفعله الإنسان لنفسه ويوقعه على غيره من خير أو شر يرتضيه لمن أوقع عليه وهو إنسان مثله فليس إلا أنه يرتضيه لنفسه ويسأله لشخصه فليس هناك إلا الإنسانية ومن هاهنا يتضح للإنسان أنه إن أحسن لأحد فإنما سأل الله ذلك الإحسان لنفسه دعاء مستجابا وسؤالا غير مردود ، وإن أساء على أحد أو ظلمه فإنما طلب ذلك لنفسه وارتضاه لها وما يرتضيه لأولاد الناس ويتاماهم يرتضيه لأولاد نفسه ويسأله لهم من خير أو شر ، قال تعالى : ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) : ـ البقرة : ١٤٨ ، فإن معناه أن استبقوا الخيرات لتكون وجهتكم خيرا.

والاشتراك في الدم ووحدة الرحم يجعل عمود النسب وهو العترة شيئا واحدا فأي حال عرضت لجانب من جوانب هذا الواحد ، وأي نازلة نزلت في طرف من أطرافها فإنما عرضت ونزلت على متنه وهو في حساب جميع الأطراف ، وقد مر شطر من الكلام في الرحم في أول هذه السورة.

فقد ظهر بهذا البيان أن ما يعامل به الإنسان غيره أو ذرية غيره فلا محيص من أن ينعكس إلى نفسه أو ينقلب إلى ذريته إلا أن يشاء الله ، وإنما استثنينا لأن في الوجود عوامل وجهات غير محصورة لا يحيط بجميعها إحصاء الإنسان ، ومن الممكن أن تجري هناك عوامل وأسباب لم نتنبه لها أو لم نطلع عليها توجب خلاف ذلك كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى : ( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) : « الشورى : ٣٠ ».

قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) » الآية يقال : أكله وأكله في بطنه وهما بمعنى واحد غير أن التعبير الثاني أصرح والآية كسابقتها متعلقه للمضمون بقوله : ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ) الآية وهي تخويف وردع للناس عن هضم حقوق اليتامى في الإرث.

والآية مما يدل على تجسم الأعمال على ما مر في الجزء الأول من هذا الكتاب في

٢٠٣

قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما ) : « البقرة : ٢٦ » ولعل هذا مراد من قال من المفسرين إن قوله : ( إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) ، كلام على الحقيقة دون المجاز وعلى هذا لا يرد عليه ما أورده بعض المفسرين : أن قوله : ( يَأْكُلُونَ ) أريد به الحال دون الاستقبال بقرينة عطف قوله : ( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) عليه وهو فعل دخل عليه حرف الاستقبال فلو كان المراد به حقيقة الأكل ـ ووقته يوم القيامة ـ لكان من اللازم أن يقال : سيأكلون في بطونهم نارا ويصلون سعيرا فالحق أن المراد به المعنى المجازي ، وأنهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه نارا انتهى ملخصا وهو غفلة عن معنى تجسم الأعمال.

وأما قوله : ( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) فهو إشارة إلى العذاب الأخروي ، والسعير من أسماء نار الآخرة يقال صلى النار يصلاها صلى وصليا أي احترق بها وقاسى عذابها.

(بحث روائي)

في المجمع ، : في قوله تعالى : ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) الآية : اختلف الناس في هذه الآية على قولين : أحدهما أنها محكمة غير منسوخة ، وهو المروي عن الباقر عليه‌السلام.

أقول : وعن تفسير علي بن إبراهيم أنها منسوخة بقوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) الآية ، ولا وجه له ، وقد ظهر في البيان السابق أن الآية بيان كلي لحكم المواريث ولا تنافي بينها وبين سائر آيات الإرث المحكمة حتى يقال بانتساخها بها.

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة: في الآية قال : نزلت في أم كلثوم وابنة أم كحلة أو أم كحلة ـ وثعلبة بن أوس وسويد وهم من الأنصار ـ كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها فقالت : يا رسول الله ـ توفي زوجي وتركني وابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها : يا رسول الله لا تركب فرسا ولا تنكي عدوا ـ ويكسب عليها ولا تكتسب ، فنزلت : ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ) الآية.

أقول : وفي بعض الروايات عن ابن عباس أنها نزلت في رجل من الأنصار مات وترك ابنتين فجاء ابنا عمه وهما عصبته فقالت امرأته تزوجا بهما ـ وكان بهما دمامة

٢٠٤

فأبيا فرفعت الأمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت آيات المواريث. الرواية. ولا بأس بتعدد هذه الأسباب كما مر مرارا.

وفي المجمع ، : في قوله تعالى : ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى ) الآية : اختلف الناس في هذه الآية على قولين : أحدهما أنها محكمة غير منسوخة قال : وهو المروي عن الباقر عليه‌السلام : وفي نهج البيان ، للشيباني : أنه مروي عن الباقر والصادق (ع).

أقول : وفي بعض الروايات أنها منسوخة بآية المواريث ، وقد تقدم في البيان المتقدم أنها غير صالحة للنسخ.

وفي تفسير العياشي ، عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليه‌السلام : أن الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين : أما إحداهما فعقوبة الآخرة النار ، وأما الأخرى فعقوبة الدنيا ـ قوله : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ـ خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) ، قال : يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى.

أقول : وروي مثله في الكافي عن الصادق عليه‌السلام ، وفي المعاني عن الباقر عليه‌السلام.

وفيه ، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال أبو عبد الله عليه‌السلام مبتدئا : من ظلم سلط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه ، قال : فذكرت في نفسي فقلت : يظلم هو فيسلط على عقبه وعقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم : إن الله يقول : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ـ خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ).

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله ص قال : اتقوا الله في الضعيفين : اليتيم والمرأة ايتمه ثم أوصى به ، وابتلاه وابتلى به.

أقول : والأخبار في أكل مال اليتيم وأنها كبيرة موبقة من طرق الفريقين كثيرة مستفيضة.

* * *

( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ

٢٠٥

نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ـ ١١. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ـ ١٢. تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ـ ١٣. وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ ـ ١٤. ).

٢٠٦

(بيان)

قوله تعالى : « يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » الإيصاء والتوصية هو العهد والأمر ، وقال الراغب في مفردات القرآن : الوصية : التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ ، انتهى.

وفي العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أن حكم السهم والسهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة ، وأما أولاد الأولاد فنازلا فحكمهم حكم من يتصلون به فلبنت الابن سهمان ولابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم كما أن الحكم في أولاد الإخوة والأخوات حكم من يتصلون به ، وأما لفظ الابن فلا يقضي بنفي الواسطة كما أن الأب أعم من الوالد.

وأما قوله تعالى في ذيل الآية : « آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً » فسيجيء أن هناك عناية خاصة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد.

وأما قوله : « لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء فكأنه جعل إرث الأنثى مقررا معروفا وأخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولا عليه يعرف بالإضافة إليه ، ولو لا ذلك لقال : للأنثى نصف حظ الذكر وإذن لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق معه ـ كما ترى ـ هذا ما ذكره بعض العلماء ولا بأس به ، وربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلا إلا لسهام النساء وإن صرحت بشيء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية والآية التي في آخر السورة.

وبالجملة قوله : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) في محل التفسير لقوله : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) ، واللام في الذكر والأنثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم أنثيين ، وهذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر وأنثى معا فللذكر ضعفا الأنثى سهما ولم يقل : للذكر مثل حظي الأنثى أو مثلا حظ الأنثى ليدل الكلام على سهم الأنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجيء.

٢٠٧

وعلى أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور والإناث كان لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم.

قوله تعالى : « فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ » ظاهر وقوع هذا الكلام بعد قوله : « لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » إنه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنه قيل : هذا إذا كانوا نساء ورجالا فإن كن نساء « إلخ » وهو شائع في الاستعمال ومنه قوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) : « البقرة : ١٩٦ » وقوله : ( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) : « البقرة : ١٨٤ ».

والضمير في كن راجع إلى الأولاد في قوله : ( فِي أَوْلادِكُمْ ) وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر ، والضمير في قوله : ( تَرَكَ ) راجع إلى الميت المعلوم من سياق الكلام.

قوله تعالى : « وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ » الضمير إلى الولد المفهوم من السياق وتأنيثه باعتبار الخبر والمراد بالنصف نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه.

ولم يذكر سهم الأنثيين فإنه مفهوم من قوله : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فإن ذكرا وأنثى إذا اجتمعا كان سهم الأنثى الثلث للآية وسهم الذكر الثلثين وهو حظ الأنثيين فحظ الأنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالا وليس في نفسه متعينا للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده : وإن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلا لكن يعينه السكوت عن ذكر هذا السهم والتصريح الذي في قوله : فإن كن نساء فوق اثنتين ، فإنه يشعر بالتعمد في ترك ذكر حظ الأنثيين.

على أن كون حظهما الثلثين هو الذي عمل به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجرى العمل عليه منذ عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عهدنا بين علماء الأمة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس.

وهذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الأنثيين ، قال الكليني رحمه الله في الكافي : إن الله جعل حظ الأنثيين الثلثين بقوله : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، وذلك أنه إذا ترك الرجل بنتا وابنا فللذكر مثل حظ الأنثيين وهو الثلثان فحظ الأنثيين الثلثان ، واكتفى بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين بالثلثين ، انتهى ، ونقل مثله عن

٢٠٨

أبي مسلم المفسر : أنه يستفاد من قوله تعالى : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وذلك أن الذكر مع الأنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الأنثيين ، انتهى وإن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفا فليتأمل فيه.

وهناك وجوه أخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم : إن المراد بقوله تعالى : ( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) ، الاثنتان وما فوقهما فهذه الجملة تتضمن بيان حظ الأنثيين ، والنساء فوق اثنتين جميعا. ومثل قول بعضهم : إن حكم البنتين هاهنا معلوم بالقياس إلى حكم الأختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك مما يجعل عن أمثالها كلامه تعالى.

قوله تعالى : « وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ » إلى قوله : « فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ » في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أن الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم ، وقوله : وورثه أبواه ، أي انحصر الوارث فيهما ، وفي قوله : ( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) « إلخ » بعد قوله : ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ) ، دلالة على أن الإخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الأبناء والبنات لا ترث مع وجودهم غير أن الإخوة تحجب الأم عن الثلث.

قوله تعالى : « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ » أما الوصية فهي التي تندب إليها قوله : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) الآية : « البقرة : ١٨٠ » ولا ينافي تقدمها في الآية على الدين ما ورد في السنة أن الدين مقدم على الوصية لأن الكلام ربما يقدم فيه غير الأهم على الأهم لأن الأهم لمكانته وقوة ثبوته ربما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد والتشديد ، ومنه التقديم ، وعلى هذا فقوله : ( أَوْ دَيْنٍ ) في مقام الإضراب والترقي طبعا.

وبذلك يظهر وجه توصيف الوصية بقوله : يوصي بها ففيه دلالة على التأكيد ، ولا يخلو مع ذلك من الإشعار بلزوم إكرام الميت ومراعاة حرمته فيما وصى به كما قال تعالى : ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) الآية : « البقرة : ١٨١ ».

قوله تعالى : « آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً » الخطاب للورثة أعني لعامة المكلفين من حيث إنهم يرثون أمواتهم ، وهو كلام ملقى للإيماء

٢٠٩

إلى سر اختلاف السهام في وراثة الآباء والأبناء ونوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان « لا تدرون » وأمثال هذه التعبيرات شائعة في اللسان.

على أنه لو كان الخطاب لغير الورثة أعني للناس من جهة أنهم سيموتون ويورثون آباءهم وأبناءهم لم يكن وجه لقوله : ( أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) فإن الظاهر أن المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث وهو إنما يعود إلى الورثة دون الميت.

وتقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعا من الأبناء ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) : « البقرة : ١٥٨ » وقد مرت الرواية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : أبدأ بما بدأ الله الحديث.

والأمر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم واعتبار العواطف الإنسانية فإن الإنسان أرأف بولده منه بوالديه وهو يرى بقاء ولده بقاء لنفسه دون بقاء والديه فآباء الإنسان أقوى ارتباطا وأمس وجودا به من أبنائه ، وإذا بني الانتفاع الإرثي على هذا الأصل كان لازمه أن يذهب الإنسان إذا ورث أباه مثلا بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلا وإن كان ربما يسبق إلى الذهن البدوي أن يكون الأمر بالعكس.

وهذه الآية أعني قوله : ( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ ، نَفْعاً ) من الشواهد على أنه تعالى بنى حكم الإرث على أساس تكويني خارجي كسائر الأحكام الفطرية الإسلامية.

على أن الآيات المطلقة القرآنية الناظرة إلى أصل التشريع أيضا كقوله : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) : « الروم : ٣٠ » تدل على ذلك ، وكيف يتصور مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزامية وفرائض غير متغيرة وليس لها أصل في التكوين في الجملة.

وربما يمكن أن يستشم من الآية أعني قوله : ( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ ) إلخ ، تقدم أولاد الأولاد على الأجداد والجدات فإن الأجداد والجدات لا يرثون مع وجود الأولاد وأولاد الأولاد.

قوله تعالى : « فَرِيضَةً مِنَ اللهِ » إلخ الظاهر أنه منصوب بفعل مقدر والتقدير خذوا أو الزموا ونحو ذلك وتأكيد بالغ أن هذه السهام المذكورة قدمت إليكم وهي مفرزة

٢١٠

معينة لا تتغير عما وضعت عليه.

وهذه الآية متكفلة لبيان سهام الطبقة الأولى وهي الأولاد والأب والأم على جميع تقاديرها إما تصريحا كسهم الأب والأم وهو السدس لكل واحد منهما مع وجود الأولاد ، والثلث أو السدس للأم مع عدمهم على ما ذكر في الآية وكسهم البنت الواحدة وهو النصف ، وسهم البنات إذا تفردن وهو الثلثان ، وسهم البنين والبنات إذا اجتمعوا وهو للذكر مثل حظ الأنثيين ، ويحلق بها سهم البنتين وهو الثلثان كما تقدم.

وإما تلويحا كسهم الابن الواحد فإنه يرث جميع المال لقوله : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) وقوله في البنت : ( وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ، وكذا الأبناء إذا تفردوا لما يفهم من قوله : ( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، أن الأبناء متساوون في السهام ، وأمر الآية في إيجازها عجيب.

واعلم أيضا أن مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال وو إمتاع الورثة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين سائر الناس وقد تقدم نظير هذا الإطلاق أو العموم في قوله تعالى : ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ ). الآية ، وما ربما قيل : إن خطابات القرآن العامة لا تشمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لجريانها على لسانه فهو مما لا ينبغي أن يصغي إليه.

نعم هاهنا نزاع بين أهل السنة والشيعة في أن النبي هل يورث أو أن ما تركه صدقة ومنشؤه الرواية التي رواها أبو بكر في قصة فدك والبحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب ولذلك نرى التعرض له هاهنا فضلا فليراجع محله المناسب له.

قوله تعالى : « وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ » إلى قوله : « تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ » المعنى ظاهر ، وقد استعمل النصف بالإضافة فقيل : نصف ما ترك ، والربع بالقطع فقيل : ولهن الربع مما تركتم فإن القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهره أو مقدرة ، ومن هذه تفيد معنى الأخذ والشروع من الشيء وهذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشيء المبتدأ منه وكالمستهلك فيه ، وهذا إنما يناسب ما إذا كان المدخول قليلا أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدأ منه كالسدس والربع

٢١١

والثلث من المجموع دون مثل النصف والثلثين ، ولذا قال تعالى : ( السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ ) ، وقال : ( فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) ، وقال : ( فَلَكُمُ الرُّبُعُ ) بالقطع عن الإضافة في جميع ذلك ، وقال : ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ ) ، وقال : ( فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) بالإضافة ، وقال : ( فَلَهَا النِّصْفُ ) أي نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه.

قوله تعالى : « وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ » إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الإحاطة ، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ومنه الكل ـ بضم الكاف ـ لإحاطته بالأجزاء ، ومنه الكل ـ بفتح الكاف ـ لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كل عليه ، قال الراغب : الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة ، قال : وروي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن الكلالة ـ فقال : من مات وليس له ولد ولا والد فجعله اسما للميت ، وكلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث والموروث جميعا ، انتهى.

أقول : وعلى هذا فلا مانع من كون كان ناقصة ورجل اسمها ويورث وصفا للرجل وكلالة خبرها والمعنى : وإن كان الميت كلالة للوارث ليس أبا له ولا ابنا. ويمكن أن يكون كان تامة ورجل يورث فاعله وكلالة مصدرا وضع موضع الحال ، ويئول المعنى أيضا إلى كون الميت كلالة للورثة ، وقال الزجاج على ما نقل عنه : من قرأ يورث ـ بكسر الراء ـ فكلالة مفعول ، ومن قرأ يورث ـ بفتح الراء ـ فكلالة منصوب على الحال.

وقوله : غير مضار منصوب على الحال ، والمضارة هو الإضرار وظاهره أن المراد به الإضرار بالدين من قبل الميت كان يعتمل بالدين للإضرار بالورثة وتحريمهم الإرث ، أو المراد المضارة بالدين كما ذكروا بالوصية بما يزيد على ثلث المال.

قوله تعالى : « تِلْكَ حُدُودُ اللهِ » إلى آخر الآيتين الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر وارتفاع التمايز بينهما كحد الدار والبستان ، والمراد بها أحكام الإرث والفرائض المبينة ، وقد عظم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته وإطاعة رسوله فيها والعذاب الخالد المهين على المعصية.

(كلام في الإرث على وجه كلي)

هاتان الآيتان أعني قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) إلى آخر الآيتين ، والآية

٢١٢

التي في آخر السورة : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) إلى آخر الآية ، مع قوله تعالى : ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) الآية ، ومع قوله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) : « الأحزاب : ٦ ، الأنفال : ٧ » ، خمس آيات أو ست هي الأصل القرآني للإرث في الإسلام والسنة تفسرها أوضح تفسير وتفصيل.

والكليات المنتزعة المستفادة منها التي هي الأصل في تفاصيل الأحكام أمور : منها : ما تقدم في قوله : ( آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) ، ويظهر منها أن للقرب والبعد من الميت تأثيرا في باب الإرث ، وإذا ضمت الجملة إلى بقية الآية أفادت أن ذلك مؤثر في زيادة السهم وقلته وعظمه وصغره ، وإذا ضمت إلى قوله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) أفادت أن الأقرب نسبا في باب الإرث يمنع الأبعد.

فأقرب الأقارب إلى الميت الأب والأم والابن والبنت إذ لا واسطة بينهم وبين الميت ، والابن والبنت يمنعان أولاد أنفسهما لأنهم يتصلون به بواسطتهم فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها.

وتتلوها المرتبة الثانية وهم إخوة الميت وأخواته وجده وجدته فإنهم يتصلون بالميت بواسطة واحدة وهي الأب أو الأم ، وأولاد الأخ والأخت يقومون مقام أبيهم وأمهم ، وكل بطن يمنع من بعده من البطون كما مر.

وتتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميت وأخواله وعماته وخالاته فإن بينهم وبين الميت واسطتين وهما الجد أو الجدة والأب أو الأم ، والأمر على قيام ما مر.

ويظهر من مسألة القرب والبعد المذكورة أن ذا السببين مقدم على ذي السبب الواحد ، ومن ذلك تقدم كلالة الأبوين على كلالة الأب فلا ترث معها ، وأما كلالة الأم فلا تزاحمها كلالة الأبوين.

ومنها : أنه قد اعتبر في الوراث تقدم وتأخر من جهة أخرى فإن السهام ربما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عين له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه ومثله الزوجة في ربعها وثمنها

٢١٣

وكالأم تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس والأب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد وعدمه ؛ ومنهم من عين له سهم ثم إذا زاحمه آخر سكت عنه ولم يذكر له سهم بعينه كالبنت والبنات والأخت والأخوات يذهبن بالنصف والثلثين وقد سكت عن سهامهم عند الزحام ، ويستفاد منه أن أولئك المقدمين لا يزاحمون ولا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الأصل وإنما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام.

ومنها : أن السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج وأخوات من كلالة الأبوين فهناك نصف وثلثان وهو زائد على مخرج المال ، وكذا لو فرض أبوان وبنتان وزوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنها سدسان وثلثان وربع.

وكذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحدة أو بنتان فقط وهكذا ، والسنة المأثورة التي لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت عليه‌السلام أنه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الذين لم يعين لهم إلا سهم واحد وهم البنات والأخوات دون غيرهم وهو الأم والزوج الذين عين الله فرائضهما بحسب تغير الفروض وكذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يرد الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت وأب فللأب السدس وللبنت نصف المال بالفريضة والباقي بالرد.

وقد سن عمر بن الخطاب أيام خلافته في صورة زيادة السهام العول وعمل الناس في الصدر الأول في صورة زيادة التركة بالتعصيب وسيجيء الكلام فيهما في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.

ومنها : أن التأمل في سهام الرجال والنساء في الإرث يفيد أن سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلا في الأبوين فإن سهم الأم قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة ولعل تغليب جانب الأم على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمس رحما بولدها ومقاساتها كل شديدة في حمله ووضعه وحضانته وتربيته ، قال تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) : « الأحقاف : ١٥ » وخروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حد المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعا.

٢١٤

وأما كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلا وكون الإنفاق اللازم على عهدته ، قال تعالى : ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) : « النساء : ٣٤ » والقوام من القيام وهو إدارة المعاش ، والمراد بالفضل هو الزيادة في التعقل فإن حياته حياة تعقلية وحياة المرأة إحساسية عاطفية ، وإعطاء زمام المال يدا عاقلة مدبرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يدا ذات إحساس عاطفي وهذا الإعطاء. والتخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال وتدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقل على تدبير الإحساس والعواطف فيصلح أمر المجتمع وتسعد الحياة.

وقد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف ، وعندها الثلث الذي تتملكه وبيدها أمر ملكه ومصرفه.

وحاصل هذا الوضع والتشريع العجيب أن الرجل والمرأة متعاكسان في الملك والمصرف فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا وله مصرف ثلثها ، وللمرأة ملك ثلث الثروة ولها مصرف ثلثيها ، وقد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقل على روح الإحساس والعواطف في الرجل ، والتدبير المالي بالحفظ والتبديل والإنتاج والاسترباح أنسب وأمس بروح التعقل ، وغلبة العواطف الرقيقة والإحساسات اللطيفة على روح التعقل في المرأة ، وذلك بالمصرف أمس وألصق فهذا هو السر في الفرق الذي اعتبره الإسلام في باب الإرث والنفقات بين الرجال والنساء.

وينبغي أن يكون زيادة روح التعقل بحسب الطبع في الرجل ومزيته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الذي ذكره الله سبحانه في قوله عز من قائل : ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) الآية ، دون الزيادة في البأس والشدة والصلابة فإن الغلظة والخشونة في قبيل الرجال وإن كانت مزية وجودية يمتاز بها الرجل من المرأة وتترتب عليها في المجتمع الإنساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع والحفظ والأعمال الشاقة وتحمل الشدائد والمحن والثبات والسكينة في الهزاهز والأهوال ، وهذه شئون ضرورية في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.

٢١٥

لكن النساء أيضا مجهزات بما يقابلها من الإحساسات اللطيفة والعواطف الرقيقة التي لا غنى للمجتمع عنها في حياته ، ولها آثار هامة في أبواب الأنس والمحبة والسكن والرحمة والرأفة وتحمل أثقال التناسل والحمل والوضع والحضانة والتربية والتمريض وخدمة البيوت ، ولا يصلح شأن الإنسان بالخشونة والغلظة لو لا اللينة والرقة ، ولا بالغضب لو لا الشهوة ، ولا أمر الدنيا بالدفع لو لا الجذب.

وبالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل والمرأة يتعادل بهما كفتا الحياة في المجتمع المختلط المركب من القبيلين ، وحاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم (١) ، ولا يظلم ربك أحدا (٢) وهو القائل : ( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) : « آل عمران : ١٩٥ » وقد أشار إلى هذا الالتيام والبعضية بقوله في الآية : ( بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ).

وقال أيضا : ( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) : « الروم : ٢١ » فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف الإنسان ( وهو الرجل بقرينة المقابلة ) بالانتشار وهو السعي في طلب المعاش ، وإليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسل إلى القوة والشدة حتى ما في المغالبات والغزوات والغارات ولو كان للإنسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكر وآخر يفر.

لكن الله سبحانه خلق النساء وجهزهن بما يوجب أن يسكن إليهن الرجال وجعل بينهم مودة ورحمة فاجتذبن الرجال بالجمال والدلال والمودة والرحمة ، فالنساء هن الركن الأول والعامل الجوهري للاجتماع الإنساني.

ومن هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزلي وهو الازدواج هو الأصل في هذا الباب قال تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) : « الحجرات : ١٣ » ، فبدأ بأمر ازدواج الذكر والأنثى

__________________

(١) سورة النور : ٥٠

(٢) سورة الكهف : ٤٩.

٢١٦

وظهور التناسل بذلك ثم بنى عليه الاجتماع الكبير المتكون من الشعوب والقبائل.

ومن ذيل الآية يظهر أن التفضيل المذكور في قوله : ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) الآية ، إنما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيوية أعني المعاش أحسن تنظيم ، ويصلح به حال المجتمع إصلاحا جيدا ، وليس المراد به الكرامة التي هي الفضيلة الحقيقية في الإسلام وهي القربى والزلفى من الله سبحانه فإن الإسلام لا يعبأ بشيء من الزيادات الجسمانية التي لا يستفاد منها إلا للحياة المادية وإنما هي وسائل يتوسل بها لما عند الله.

فقد تحصل من جميع ما قدمنا أن الرجال فضلوا على النساء بروح التعقل الذي أوجب تفاوتا في أمر الإرث وما يشبهه لكنها فضيلة بمعنى الزيادة وأما الفضيلة بمعنى الكرامة التي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت.

(بحث روائي)

في الدر المنثور ، أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي ـ في سننه من طرق جابر بن عبد الله ـ قال : عادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبو بكر في بني سلمة ماشيين ـ فوجدني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ـ ثم رش علي فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ).

أقول : قد تقدم مرارا أن أسباب النزول المروية لا تأبى أن تتعدد وتجتمع عدة منها في آية ، ولا تنافي عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها ولا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضر بالرواية ما فيها من قول جابر : ما تأمرني أن أصنع بمالي يا رسول الله فنزلت « إلخ » ، مع أن قسمة المال لم يكن عليه حتى يجاب بالآية ، وأعجب منه ما رواه أيضا عن عبد بن حميد والحاكم عن جابر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعودني وأنا مريض ـ فقلت : كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا ونزلت : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ).

٢١٧

وفيه ، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ، ولا الضعفاء من الغلمان ، لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال ـ فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر ، وترك امرأة له يقال لها : أم كحة ـ وترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله ـ فشكت أم كحة ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فأنزل الله هذه الآية : ( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ـ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ثم قال في أم كحة : ( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ـ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ ).

وفيه ، أيضا عنهما عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الفرائض ـ التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين ـ كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن ، وتعطى الابنة النصف ، ويعطى الغلام الصغير ، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ، ولا يحوز الغنيمة ، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ـ لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر.

أقول : وكان منه التعصيب وهو إعطاء الميراث عصبة الأب إذا لم يترك الميت ابنا كبيرا يطيق القتال ، وقد عمل به أهل السنة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب السهام التركة ، وربما وجد شيء من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيت عليه‌السلام بنفي التعصيب ، وأن الزائد على الفرائض يرد على من ورد عليه النقص وهم الأولاد والإخوة من الأبوين أو الأب ، وإلى الأب في بعض الصور ، والذي يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مر.

وفيه ، أخرج الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال: أول من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه وركب بعضها بعضا ـ قال : والله ما أدري كيف أصنع بكم؟ والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر؟ وما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص! ثم قال ابن عباس : وأيم الله ـ لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة ، فقيل له : وأيها قدم الله؟ قال : كل فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلا إلى فريضة ـ فهذا ما قدم الله ، وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي ـ فتلك التي أخر الله فالذي قدم كالزوجين والأم ، والذي أخر كالأخوات والبنات ـ فإذا اجتمع من قدم الله وأخر بدئ بمن قدم فأعطي حقه كاملا ـ فإن بقي شيء كان

٢١٨

لهن ، وإن لم يبق شيء فلا شيء لهن.

وفيه ، أيضا أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال: أترون الذي أحصى رمل عالج عددا ـ جعل في المال نصفا وثلثا وربعا؟ إنما هو نصفان وثلاثة أثلاث وأربعة أرباع.

وفيه ، أيضا عنه عن عطاء قال: قلت لابن عباس : إن الناس لا يأخذون بقولي ولا بقولك ـ ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثا على ما تقول ـ قال : فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ـ ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا.

أقول : وهذا المعنى منقول عن ابن عباس من طرق الشيعة أيضا كما يأتي.

في الكافي ، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض من المواريث ـ فقال ابن عباس : سبحان الله العظيم ـ أترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا؟! فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصري : يا أبا العباس فمن أول من أعال هذه الفرائض؟ فقال : عمر بن الخطاب لما التفت عنده الفرائض ـ ودفع بعضها بعضا قال : والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر؟ وما أجد شيئا أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص ـ وأدخل على كل ذي حق حقه فأدخل عليه من عول الفرائض ـ وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت الفريضة ، فقال له زفر بن أوس : وأيها قدم وأيها أخر؟ فقال : كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة ـ فهذا ما قدم الله ، وأما ما أخر الله ـ فكل فريضة إذا زالت عن فرضها ـ لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر ، فأما التي قدم فالزوج له النصف ـ فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء ، والزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء ، والأم لها الثلث ـ فإذا زالت عنه صارت إلى السدس ولا يزيلها عنه شيء ـ فهذه الفرائض التي قدم الله عز وجل ، وأما التي أخر ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان ـ فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقي ، فتلك التي أخر الله ، فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدئ بما قدم الله ـ فأعطي حقه كاملا ـ فإن بقي شيء كان لمن أخر وإن لم يبق شيء فلا شيء له ، فقال له زفر : فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال : هيبته.

٢١٩

أقول : وهذا القول من ابن عباس مسبوق بقول علي عليه‌السلام بنفي العول ، وهو مذهب أئمة أهل البيت عليه‌السلام كما يأتي.

في الكافي ، عن الباقر عليه‌السلام في حديث قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : إن الذي أحصى رمل عالج ـ ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو تبصرون وجهها لم تجز ستة.

أقول : في الصحاح : أن عالج موضع بالبادية به رمل ، وقوله عليه‌السلام : إن السهام لا تعول على ستة أي لا تميل على الستة حتى تغيرها إلى غيرها ، والستة هي السهام المصرح بها في الكتاب وهي : النصف والثلث والثلثان والربع والسدس والثمن.

وفيه ، عن الصادق عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الحمد لله الذي لا مقدم لما أخر ، ولا مؤخر لما قدم ، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى ، ثم قال : يا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها ـ لو كنتم قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله ، وجعلتم الولاية والوراثة حيث جعلها الله ما عال ولي الله ، ولا عال سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله ، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمر الله ـ إلا وعند علي علمه من كتاب الله ، فذوقوا وبال أمركم وما فرطتم فيما قدمت أيديكم ، وما الله بظلام للعبيد ، وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون.

أقول : وتوضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مر أن الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ست : النصف ، والثلثان ، والثلث ، والسدس ، والربع ، والثمن ، وهذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنه قد يجتمع النصف والسدسان والربع في الطبقة الأولى كبنت وأب وأم وزوج فتزيد السهام على الأصل ، وكذا الثلثان والسدسان والربع كبنتين وأبوين وزوج فتتزاحم ، وكذلك يجتمع النصف والثلث والربع والسدس في الطبقة الثانية كأخت وجدين للأب والأم وزوجة ، وكذا الثلثان والثلث والربع والسدس كأختين وجدين وزوج.

فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول ، وإن حفظنا فريضة الأبوين والزوجين وكلالة الأم وهي الثلث والسدس والنصف والربع والثمن عن ورود النقص عليها ـ لأن الله عين هذه السهام ولم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت والأخت الواحدة لأبوين أو لأب فما زادت وبخلاف سهام الذكر والأنثى عند

٢٢٠