كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

تعترف وتقر أربع مرات.

ومتى نكلت عن اللعان قبل استيفاء شهاداتها ولعانها ، كان عليها الرجم.

فإن اعترفت بالفجور بعد مضي اللعان ، لم يكن عليها شي‌ء ، إلا أن تقر أربع مرّات على نفسها بالفجور ، فإذا أقرّت أربع مرّات أنّها زنت في حال إحصانها ، كان عليها الرجم ، وإن كانت غير محصن كان عليها الحدّ مائة جلدة.

وإذا قذف امرأته بما يجب فيه الملاعنة على ما قدّمناه ، وكانت خرساء أو صمّاء لا تسمع شيئا ، فرّق بينهما وجلد الحدّ ، إن قامت عليه البيّنة ، وإن لم يقم بيّنة به لم يكن عليه حدّ ، ولم تحلّ له أبدا ، ولم يثبت أيضا بينهما لعان.

فأمّا إن كان الزوج أخرس والمرأة غير خرساء ، فقد قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة ، الأخرس إذا كان له إشارة معقولة ، أو كناية مفهومة ، يصحّ قذفه ، ولعانه ، ونكاحه ، وطلاقه ، ويمينه ، وسائر عقوده ، ثمّ استدلّ ، فقال : دليلنا قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ) (١) الآية ، ولم يفرّق ، وأيضا إجماع الفرقة وأخبارهم على ذلك (٢) هذا آخر كلامه.

ولا أقدم على أنّ الأخرس المذكور يصحّ لعانه ، لأنّ أحدا من أصحابنا غير من ذكرناه لم يوردها في كتابه ، ولا وقفت على خبر بذلك ، ولا إجماع عليه ، والقائل بهذا غير معلوم ، فأمّا الآية التي استشهد شيخنا بها ، فالتمسّك بها بعيد ، لأنّه لا خلاف أنّه غير قاذف ولا رام على الحقيقة ، فالنطق منه بالشهادات في حال اللعان متعذر ، والأصل براءة الذمة. واللعان حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وأيضا لو رجع عن اللعان عند من جوّزه له ، وجب عليه الحدّ ، والرسول عليه‌السلام قال : « ادرءوا الحدود بالشبهات » (٣) ومن المعلوم أنّ في إيمائه وإشارته

__________________

(١) النور : ٦.

(٢) الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة ٨.

(٣) الوسائل : الباب ٢٤ من أبواب مقدمات الحدود ، ح ٤.

٧٠١

بالقذف شبهة أنّه هل أراد به القذف أو غيره؟ وذلك غير معلوم يقينا ، كالناطق به بلا خلاف ، وإن قلنا يصحّ منه اللعان كان قويا معتمدا ، لأنّه يصحّ منه الإقرار ، والأيمان ، وأداء الشهادات ، وغير ذلك من الأحكام.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا طلّق الرجل امرأته قبل الدخول بها ، فادّعت عليه أنّها حامل منه ، فإن أقامت البيّنة أنّه أرخى سترا ، أو خلا بها ، ثمّ أنكر الولد ، لاعنها ، ثمّ بانت منه ، وعليه المهر كملا ، وإن لم تقم بذلك بيّنة ، كان عليه نصف المهر ، ووجب عليها مائة سوط ، بعد أن يحلف بالله أنّه ما دخل بها (١).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : ما ذكره رحمه‌الله ، ذهابا إلى قول من يذهب إلى أنّ الخلوة بمنزلة الدخول ، والأظهر والأصح عند المحصّلين من أصحابنا أنّ الخلوة وإرخاء الستر لا تأثير لهما ، والقول قول الزوج ، ولا يلزمه سوى نصف المهر ، ولا لعان بينهما.

وإلى هذا يذهب شيخنا في مسائل خلافه في الجزء الثاني في كتاب الصداق ، فقال : مسألة ، إذا طلّقها بعد أن خلا بها ، وقبل أن يمسّها ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، فذهبت طائفة إلى أنّ وجود الخلوة وعدمها سواء ، وترجع عليه بنصف الصداق ، ولا عدّة عليها (٢).

وهو الظاهر من روايات أصحابنا (٣) ، ثم استدلّ بأدلة ظاهرة قوية على صحّة ذلك ، وقد أوردنا نحن ذلك في كتابنا هذا في كتاب الصداق (٤) ، رجحنا القول في ذلك.

وإذا انتفى الرجل من ولد امرأته الحامل منه ، جاز أن يتلاعنا ، إلا أنّها إن اعترفت ونكلت عن الشهادات ، لم يقم عليها الحدّ ، إلا بعد وضع ما في بطنها.

وإذا قذف الرجل امرأته فترافعا إلى الحاكم ، فماتت المرأة قبل أن يتلاعنا ،

__________________

(١) النهاية : كتاب الطلاق ، باب اللعان والارتداد.

(٢) الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة ٤٢.

(٣) الوسائل : الباب ٥٥ من أبواب المهور.

(٤) راجع ص ٥٨٤ من الكتاب.

٧٠٢

فقد ماتت على حكم الزوجية ، ويرثها الزوج ، ويرث وارثها من جهة النسب الحدّ على الزوج ، لان حد القذف عندنا موروث ، لأنّه من حقوق الآدميين ، إلا أنّه لا يرثه إلا ذوو الأنساب دون ذوي الأسباب ، فإن عفا الوارث إلا واحدا ، استحقّه جميعه ، لأنّه لا يتبعض.

وقد روي أنّه إذا قذف الرجل امرأته ، فترافعا إلى الحاكم ، فماتت المرأة قبل أن يتلاعنا ، فإن قام رجل من أهلها مقامها ولا عنه ، فلا ميراث له ، وإن أبى أحد من أوليائها أن يقوم مقامها ، أخذ الزوج الميراث ، وكان عليه الحدّ ثمانين سوطا (١) أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢) ، إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثالها ، ولم يوردها غيره من أصحابنا ، ولا أودعها كتابه ، ولا ضمّنها تصنيفه ، لا شيخنا المفيد ، ، ولا السيد المرتضى ، ولا غيرهما من الجلّة المشيخة المتقدّمين.

وشيخنا أبو جعفر قد لوّح بالرجوع ، بل صرّح عما أورده في نهايته ، في مبسوطة ، ومسائل خلافه ، فقال في مبسوطة : الأحكام المتعلّقة باللعان أربعة ، سقوط الحدّ عن الزوج ، وانتفاء النسب ، وزوال الفراش ، والتحريم على التأييد ، فهذه الأحكام عند قوم يتعلّق بلعان الزوج ، فإذا وجد منه اللعان بكماله ، سقط الحدّ ، وانتفى النسب ، وزوال الفراش ، وحرمت المرأة على التأييد ، ويتعلّق به أيضا وجوب الحدّ على المرأة ، فأمّا لعان المرأة ، فإنّه لا يتعلّق به أكثر من سقوط حدّ الزنا عنها ، وحكم الحاكم لا تأثير له في إيجاب شي‌ء من هذه الأحكام ، فإذا حكم بالفرقة فإنّما تنعقد (٣) الفرقة التي كانت وقعت بلعان الزوج ، لا أنّه يبتدئ إيقاع فرقةَ ، وقال قوم ـ وهو الذي يقتضيه مذهبنا ـ : إنّ هذه الأحكام لا تتعلّق إلا بلعان الزوجين معا ، فما لم يحصل اللعان بينهما ، فإنّه لا يثبت شي‌ء من ذلك (٤) هذا آخر كلامه رحمه‌الله في مبسوطة.

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٥ من أبواب اللعان ، ح ١.

(٢) النهاية ، كتاب الطلاق ، باب اللعان ، والارتداد.

(٣) ل. ق : تنفذ.

(٤) المبسوط : ج ٥ ، كتاب اللعان ، ص ١٩٩.

٧٠٣

وقال في مسائل خلافه : مسألة إذا قذف الرجل زوجته ، ووجب عليه الحدّ ، فأراد اللعان ، فمات القاذف أو المقذوفة ، انتقل ما كان لها من المطالبة بالحدّ إلى ورثتها ، ويقومون مقامها في المطالبة ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ليس لهم ذلك ، بناه على أصله ، أنّ ذلك من حقوق الله ، دون الآدميين ، دليلنا : ما تقدّم من أنّ ذلك من حقوق الآدميين ، فإذا ثبت ذلك فكلّ من قال بذلك ، قال بهذا ولم يفرّق (١) هذا آخر المسألة.

وقال أيضا : مسألة ، إذا لا عن الزوج ، تعلّق بلعانه سقوط الحدّ عنه ، وانتفاء النسب ، وزوال الفراش ، وحرمت المرأة على التأبيد ، ويجب على المرأة الحدّ ، ولعان المرأة لا يتعلّق به أكثر من سقوط حدّ الزنا عنها ، وحكم الحاكم لا تأثير له في إلحاق شي‌ء من هذه الأحكام ، فإذا حكم بالفرقة ، فإنّما تنفذ الفرقة التي كانت وقعت بلعان الزوج ، لا أنّه يبتدئ إيقاع فرقة ، وبهذا قال الشافعي ، وذهبت طائفة إلى أنّ هذه الأحكام تتعلّق بلعان الزوجين معا ، فما لم يوجد اللعان بينهما لم يثبت شي‌ء منها ، ذهب إليه مالك ، وأحمد وداود ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، ثمّ استدلّ فقال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، فإنّها دالة على ما قلناه ، وروى ابن عباس (٢) أنّ النبي عليه‌السلام قال : المتلاعنان لا يجتمعان أبدا (٣).

هذا آخر استدلاله في مسألته رحمه‌الله ، وهذا مثل ما ذكره في مبسوطة.

وأيضا الرواية التي أوردها في نهايته مخالفة لأصول المذهب ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا يعمل بها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا.

__________________

(١) الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة ١٠.

(٢) التاج : ج ٢ ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، أورده في ذيل ص ٣٤٨ مرسلا عن البيهقي. ورواه ( في سنن البيهقي ، في كتاب الطلاق ، باب ما يكون بعد التعان الزوج .. ج ٧ ، ص ١٠ ـ ٤٠٩ ) عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا ». ونحوه عن سهل الساعدي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة ٢٥.

٧٠٤

وأيضا فإنّ الله تعالى قال ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) (١) ثمّ قال ( وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ ) (٢) وما قال أن يشهد وليّها ، فعلّق تعالى الأحكام بشهادته وشهادتها ، فمن قال : يقوم غيرها مقامها يحتاج إلى دليل.

وأيضا فعندنا أنّها ايمان ، وليس شهادات لقول الرسول عليه‌السلام : « لو لا الايمان لكان لي ولها شأن » (٣) فسمّى اللعان يمينا ، والأيمان عندنا لا يدخلها النيابة بغير خلاف ، فكيف يحلف وليها عنها.

وقال في التبيان : وفرقة اللعان تحصل عندنا بتمام اللعان من غير حكم الحاكم ، وتمام. اللعان انّما يكون إذا تلاعن الرجل والمرأة معا ، وقال قوم : تحصل بلعان الزوج الفرقة ، وقال أهل العراق : لا تقع الفرقة إلا بتفريق الحاكم بينهما ، ومتى رجمت عند النكول ورثها الزوج ، لأنّ زناها لا يوجب التفرقة بينهما ، وإذا جلدت إذا لم يكن دخل بها فهما على الزوجية ، وذلك يدلّ على أنّ الفرقة انّما تقع بلعان الرجل والمرأة معا (٤) هذا آخر كلامه في التبيان لتفسير القرآن.

وإذا قال الرجل لامرأته لم أجدك عذراء ، لم يكن عليه الحدّ تاما ، وكان عليه التعزير ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه في كتاب اللعان ، فقال : مسألة إذا قال رجل لرجل : زنأت في الجبل ، فظاهر هذا أنّه أراد صعدت في الجبل ، ولا يكون صريحا في القذف ، بل يحمل على الصعود ، فان ادّعى عليه القذف ، كان القول قوله مع يمينه ، فإن نكل ردت على المقذوف ، فإن حلف حدّ ، وبه قال الشافعي وأبو يوسف ، ومحمد ، وقال أبو حنيفة : هو قذف بظاهره ، يجب به الحدّ ،

__________________

(١) النور : ٦ ـ ٧.

(٢) النور : ٨.

(٣) سنن أبي داود : كتاب الطلاق : باب اللعان ، ح ٢٢٥٦. ج ٢. ص ٢٧٨.

(٤) التبيان : ج ٧ ، ص ٣٦٥ ، ذيل الآية ١٠ ـ ٩ ـ ٨ ـ ٧ ـ ٦ من سورة النور.

٧٠٥

دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، وأيضا قوله زنأت في الجبل ، حقيقته الصعود ، فأمّا الرمي بالزنا فإنّما يقال فيه زنيت ، ولا يقال زنأت ، ألا ترى أنّ القائل يقول زنأت ، أزنو ، زنأ يعني صعدت ، وزنيت أزني ، زنا وزناء بالمد والقصر لغتان ، يعني فعلت الزنا ، فإحدى الصيغتين تخالف الأخرى ، وقال الشاعر وهي امرأة :

أشبه أبا أمّك أو أشبه عمل

ولا تكوننّ كهلّوف وكل

يصبح في مضجعه قد انجدل

وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل

وأيضا لو كانت هذه اللفظة تحتمل ، لوجب أن لا تحمل على القذف بالمحتمل ، لأنّ الحدود موضوعة على أنّها تدرأ بالشبهات (١) هذا آخر المسألة.

قال الجوهري في كتابه كتاب الصحاح : وعمل اسم رجل ، وقالت امرأة ترقص ولدها :

أشبه أبا أمك أو أشبه عمل

وأرق إلى الخيرات زنا في الجبل (٢)

عمل اسم لرجل وهو خاله ، تقول : لا تجاوزنا في الشبه.

وقال السيد المرتضى في الدرر والغرر لمّا أنشد البيت ، قال : روى أبو زيد : أنّ قيس بن عاصم المنقري أخذ صبيا له يرقّصه ، وأمّ ذلك الصبي منفوسة ، وهي بنت زيد الفوارس بن ضرار الضبي ، فجعل قيس يقول له : أشبه أبا أمك أو أشبه عمل يزيد عملي. والوكل : الجبان ، والهلوف ـ بكسر الهاء وفتح اللام وتشديدها ، والفاء ـ : الهرم المسن ، وهو أيضا الكبير اللحية (٣) فعلى قول المرتضى الشعر لقيس بن عاصم ، وعلى قول الشيخ أبي جعفر والجوهري الشعر لامرأة.

وعلى قول المرتضى لا يكون عمل اسم رجل ، وعلى قول الجوهري هو اسم رجل ، وهو الأولى والأشبه.

__________________

(١) الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة ٤٢.

(٢) الصحاح : ج ٥ ، ١٧٧٥ مادة ( عمل ).

(٣) أمالي المرتضى ( غرر الفوائد ودرر القلائد ) ج ٢ ، ص ٢٨٦.

٧٠٦

فأمّا المرتد عن الإسلام فعلى ضربين ، فإن كان مسلما ولد على فطرة الإسلام ، فقد بانت منه امرأته في الحال ، وقسّم ماله بين ورثته ، ووجب عليه القتل من غير أن يستتاب ، وكان على المرأة منه عدّة المتوفّى عنها زوجها ، فعلى هذا تكون وارثة من جملة الورثة ، لأنّه ساعة ارتد صار بمنزلة الميت ، وإن لم يقتل ، بأن هرب إلى بلد أهل الحرب ، فلأجل هذا لزمها عدّة المتوفّى عنها زوجها.

فإن كان المرتد ممن قد أسلم عن كفر ، ثمّ ارتد ، استتيب ، فإن عاد إلى الإسلام كان العقد ثابتا بينه وبين امرأته ، وإن لم يرجع كان عليه القتل.

ومتى لحق هذا المرتد بدار الحرب ، ثمّ رجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدّة المرأة ، وهي إمّا ثلاثة أقراء ، أو ثلاثة أشهر بحسب حالها ، كان أملك بها ، فإن رجع بعد انقضاء عدتها لم يكن له عليها سبيل.

فإن مات الرجل وهو مرتد قبل انقضاء العدة ، ورثته المرأة ، وكان عليها عدّة المتوفّى عنها زوجها ، وإن ماتت هي لم يرثها ، وهو مرتد عن الإسلام.

ولا تقتل المرتدة ، بل تحبس ، وإن كانت قد ارتدت عن فطرة الإسلام ، حتى تسلم أو تموت.

والزنديق من يبطن الكفر ، ويظهر الإيمان ، يقتل ولا تقبل توبته ، على ما رواه أصحابنا (١) وأجمعوا عليه.

باب الظهار والإيلاء

يفتقر صحّة الظهار الشرعي إلى شروط :

منها أن يكون المظاهر بالغا كامل العقل ، لأنّه لا يصحّ من صبي ، ولا مجنون ، ولا سكران.

وفي صحّته من الكافر خلاف ، فقال شيخنا أبو جعفر : لا يصح الظهار من

__________________

(١) الوسائل : الباب ٥ من أبواب حدّ المرتد ، ح ١.

٧٠٧

الكافر ، ولا التكفير ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا أنّ الظهار حكم شرعي لا يصحّ ممن لا يقر بالشرع ، كما لا تصحّ منه الصلاة وغيرها ، وأيضا فإنّ الكفارة لا تصحّ منه ، لأنّها تحتاج إلى نية القربة ، ولا يصحّ ذلك مع الكفر ، وإذا لم تصح منه الكفارة لم يصح منه الظهار ، لأنّ أحدا لا يفرّق بينهما (١).

وقال رحمه‌الله : يصح الإيلاء من الذمّي ، كما يصحّ من المسلم ، ثمّ استدلّ فقال : دليلنا قوله تعالى ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ ) (٢) وذلك عام في المسلم والذمي (٣).

قال محمّد بن إدريس : فرقه بين المسألتين فرق عجيب ، واستدلاله عليهما ظريف ، ولو قلب وعكس كان أولى ، وهاهنا يحسن قول « أقلب تصب » لأنّ الإيلاء لا يكون إلا بالله تعالى وبأسمائه ، والكافر لا يعرف الله تعالى ، ولا ينعقد يمينه ، ولا نيته في تكفيره ، فالأولى أن لا يصحّ منه الإيلاء ، لأنّ ما احتج به شيخنا على أنّ الظهار لا يصحّ من الكافر قائم في إيلاء الكافر.

والذي يقوى في نفسي أنّ الظهار يصحّ من الكافر ، لقوله تعالى ( الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) (٤) وهذا عام في جميع من يظاهر ، وفي مقدوره الخروج منه بالكفارة بأن يسلم ، ويعرف الله تعالى كما أنّه مخاطب بالصلاة والطهارة ، وكذلك المحدث مخاطب بالصلاة ، لأنّ في مقدوره الطهارة (٥) وانّما وجب هذا الحكم لحرمة اللفظة ، وهو قوله : أنت عليّ كظهر أمي ، فهذا اللفظ الذي سمّاه الله تعالى منكرا من القول وزورا ، وقد تلفظ به الكافر ، وقاله ، فيجب أن يتعلّق به أحكامه.

ومنها أن يكون مؤثّرا له ، فلا يصحّ من مكره ولا غضبان لا يملك نفسه.

ومنها أن يكون قاصدا به التحريم ، فلا يقع بيمين ولا مع السهو واللغو.

ومنها أن يكون متلفظا بقوله : أنت عليّ كظهر أمي ، على الصحيح من

__________________

(١) الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة ٢.

(٢) البقرة : ٢٢٦.

(٣) الخلاف : كتاب الإيلاء ، المسألة ٢٠.

(٤) المجادلة : ٣.

(٥) ل. ق : الصلاة.

٧٠٨

أقوال أصحابنا ، لأنّ الظهار حكم شرعي ، وقد ثبت وقوعه ولزومه إذا علّق بالظهر وأضيف إلى الأم ، ولم يثبت ذلك في بافي الأعضاء ، ولا المحرّمات ، وأيضا فإنّ الظهار مشتق من لفظة الظهر ، فإذا علّق بالبطن وما أشبهها بطل الاسم المشتق من الظهر ، ولم يجز إجراؤه.

وقال بعض أصحابنا إذا ذكر لفظة الظهر وقع ، إذا أضافه إلى بعض محرّمات النسب ، كان يقول : أنت عليّ كظهر بنتي ، أو عمتي ، أو أختي ، فإن لم يذكر لفظة الظهر ، بل ذكر الام ، كأن يقول : أنت عليّ كبطن أمي ، وقع الظهار. وإن يعرى من ذكر اللفظتين معا فلا يقع الظهار ، ولا يتعلّق بذلك أحكامه.

والأول هو الذي يقتضيه الأدلة ، وأصول مذهبنا ، وهو اختيار السيد المرتضى ، والثاني اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي ومذهبه.

ومنها أن يكون ذلك مطلقا من الاشتراط على الأظهر من المذهب ، لأنّ بعض أصحابنا يوقعه مشروطا ، ويجعله على ضربين ، مشروطا وغير مشروط ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (١).

والأوّل هو المذهب والأظهر بين أصحابنا الذي يقتضيه أصول مذهبهم ، لأنّه لا خلاف بينهم أنّ حكمه حكم الطلاق ، ولا خلاف بينهم أنّ الطلاق لا يقع إذا كان مشروطا ، وهو اختيار السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وجلّة المشيخة من أصحابنا ، والأصل براءة الذمة ، وتحليل ، الزوجة ، فمن حرّم وطأها يحتاج إلى دليل ، وإجماعنا منعقد على الموضع الذي أجمعنا عليه ، وما عداه لا دلالة على وقوع الظهار معه ، لأنّه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

ومنها أن يكون ذلك موجّها إلى معقود عليها ، سواء كانت حرّة أو أمة دائما نكاحها. وقال بعض أصحابنا : أو مؤجلا ، ولا يقع بملك اليمين على الصحيح من المذهب.

__________________

(١) النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.

٧٠٩

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إنّه يقع الظهار بملك اليمين (١).

والأول اختيار السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وهو الحقّ اليقين يعضده قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) (٢) وملك يمين المظاهر ، ما هي من جملة نسائه.

ومنها أن يكون معيّنا لها ، فلو قال ـ وله عدة أزواج ـ : زوجتي أو إحدى زوجاتي عليّ كظهر أمي ، من غير تعيين لها بنيّة أو إشارة أو تسمية ، لم يصحّ.

ومنها أن تكون طاهرا من الحيض والنفاس ، طهرا لم يقربها فيه بجماع ، إلا أن تكون حاملا ، أو ليست ممن تحيض ولا في سنها من تحيض ، أو غير مدخول بها على الصحيح من مذهب أصحابنا ، والأظهر من أقوالهم.

وقد ذهب بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى أنّ الظهار لا يقع بغير المدخول بها (٣).

والقرآن قاض بصحّة ما اخترناه ، لأنّ الآية على عمومها ، وهو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) وهي قبل الدخول بها يتناولها هذا الاسم بغير خلاف ، وما اخترناه اختيار السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد.

أو مدخولا بها وهي غائبة عن زوجها غيبة مخصوصة ، على ما قدّمناه في أحكام الطلاق ، لأنّا قد بيّنا أنّ أحكام الظهار أحكام الطلاق ، وشرائطه شرائطه في جميع الأشياء ، إلا ما أخرجه الدليل.

ومنها أن يكون الظهار منها بمحضر من شاهدي عدل.

يدلّ على ذلك كلّه إجماع أصحابنا ، ونفى الدليل الشرعي على وقوعه مع اختلال بعض الشروط ، ولا يقدح فيما اعتمدناه من الإجماع خلاف من خالف من أصحابنا بوقوع الظهار مع الشرط ، وثبوت حكمه مع تعلّق اللفظ بغير الظهر ، وإضافته إلى غير الام من المحرّمات ، ونفى وقوعه بغير المدخول بها ، ووقوعه بملك

__________________

(١) و (٣) النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.

(٢) المجادلة : ٣.

٧١٠

اليمين ، لتميّزه من جملة المجمعين باسمه ونسبه.

على أنّ قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) ينافي تعليقه بغير الظهر ، وعدم وقوعه بغير المدخول بها ، لأنّ الظهار مشتق من لفظ الظهر على ما قدّمناه ، وغير المدخول بها توصف بأنّها من نساء الزوج حسب ما بيّناه.

فإذا تكاملت شروط الظهار حرمت الزوجة عليه ، فإن عاد لما قال بأن يريد استباحة الوطء ، لزمه أن يكفر قبله بعتق رقبة ، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا ، لأنّ هذه الكفارة عندنا على الترتيب.

ولا يحرم عليه تقبيلها ، ولا ضمّها ، ولا عناقها.

وقال بعض أصحابنا : يحرم عليه تقبيلها قبل أن يكفر ، كما يحرم وطؤها ، واستدلّ بقوله تعالى ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (١).

وهذا لا دلالة فيه ، لأنّ المسيس هاهنا بلا خلاف بيننا المراد به الوطي.

ويستدلّ على أنّ العود شرط في وجوب الكفارة ، بظاهر القرآن ، لأنّه لا خلاف أنّ المظاهر لو طلّق قبل الوطء لا يلزمه الكفارة ، وهذا يدلّ على أن الكفارة لا تجب بنفس الظهار.

ويدلّ على أنّ العود ما ذكرناه أنّ الظهار إذا اقتضى التحريم ، وأراد المظاهر الاستباحة ، وآثر رفعه ، كان عائدا لما قال ، ومعنى قوله ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) (٢) أي للمقول فيه كقوله سبحانه ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (٣) أي الموقن به ، كقوله عليه‌السلام : « الراجع في هبته » (٤) أي في الموهوب ، وكذا يقال : اللهم أنت رجاؤنا ، أي مرجوّنا ، ولا يجوز أن يكون المراد بالعود الوطء ، على ما ذهب إليه قوم ، لأنّه تعالى قال ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (٥) فأوجب الكفارة بعد العود وقبل الوطء فدلّ على أنّه غيره.

__________________

(١) و (٢) و (٥) المجادلة : ٣.

(٣) الحجر : ٩٩.

(٤) مستدرك الوسائل : الباب ٨ ، من أبواب الهبة ، ح ١ ، ولفظه هكذا : « العائد في هبته » فراجع.

٧١١

ولا يجوز أن يكون العود إمساكها زوجة مع القدرة على الطلاق ، على ما قاله الشافعي ، لأنّ العود يجب أن يكون رجوعا إلى ما يخالف مقتضى الظهار ، وإذا لم يقتض فسخ النكاح ، لم يكن العود الإمساك عليه. ولأنّه تعالى قال « ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا » وذلك يقتضي التراخي ، والقول بأنّ العود هو البقاء على النكاح ، قول بحصوله عقيب الظهار من غير فصل ، وهو بخلاف الظاهر.

وإذا جامع المظاهر قبل التكفير ، فعليه كفارتان : إحداهما كفارة العود ، والأخرى عقوبة الوطء قبل التكفير ، بدليل إجماعنا ، ولأنّ بذلك يحصل اليقين لبراءة الذمة.

وإن استمر المظاهر على التحريم ، فزوجة الدوام بالخيار بين الصبر على ذلك ، وبين المرافعة إلى الحاكم ، وعلى الحاكم أن يخيّره بين التكفير واستباحة الجماع ، وبين الطلاق ، فإن لم يجب إلى شي‌ء من ذلك أنظره ثلاثة أشهر (١) ، فإن فاء إلى أمر الله تعالى في ذلك ، وإلا ضيّق عليه في المطعم والمشرب ، حتى يفي‌ء.

ولا يلزمه الحاكم بالطلاق ، ولا يطلّق عليه.

وإذا طلّق قبل التكفير سقطت عنه الكفارة ، فإذا راجع في العدة لم يجز له الوطء حتى يكفر ، وإن خرجت من العدّة واستأنف العقد عليها ، جاز له الوطء من غير تكفير.

ومن أصحابنا ، من قال : لا يجوز له الوطء حتى يكفر على كلّ حال.

وظاهر القرآن معه ، لأنّه يوجب الكفارة بالعود من غير فصل ، والأكثر بين الطائفة الأول.

وإذا ظاهر من زوجتين له فصاعدا ، لزمه مع العود لكلّ واحدة منهنّ كفارة ، سواء ظاهر من كلّ واحدة منهن على الانفراد ، أو جمع بينهن في ذلك

__________________

(١) ج : أنظره إلى ثلاثة أشهر.

٧١٢

كلّه بكلمة واحدة.

وإذا كرّر كلمة الظهار ، لزمه بكلّ دفعة كفارة ، فإن وطأ التي كرّر القول عليها قبل أن يكفر ، يلزمه كفارة واحدة عن الوطء ، وكفارات التكرار.

وفرض العبد في كفارة الظهار الصوم ، وفرضه فيه كفرض الحرّ ، لظاهر القرآن ، ومن أصحابنا من قال الذي يلزمه (١) شهر واحد ، والأول هو الأظهر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى ظاهر الرجل امرأته مرّة بعد اخرى ، كان عليه بعدد كلّ مرّة كفارة ، فإن عجز عن ذلك لكثرته ، فرّق الحاكم بينه وبين امرأته (٢).

قال محمّد بن إدريس : والأولى أن يستغفر الله تعالى بدلا عن الكفارة ، ولا يفرّق الحاكم بينه وبين زوجته ، لأنّ التفريق بينهما يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك.

إلا أنّ شيخنا رجع في استبصاره ، وقال : يستغفر الله ، ويطأ زوجته ، وتكون الكفارة في ذمته ، إذا قدر عليها كفر.

والصحيح أنّ الاستغفار كفارة لمن لا يقدر على الكفارة رأسا.

وإذا حلف الرجل بالظهار ، لم يلزمه حكمه.

إذا قال : أنت عليّ كظهر أمي ، ولم ينو الظهار ، لم يقع.

وكذلك إذا قال : أنت عليّ كظهر أمي ونوى به الطلاق ، لم يكن طلاقا ، ولا ظهارا.

إذا قال : أنت عليّ حرام ، لم يتعلّق بذلك عند أصحابنا حكم من الأحكام ، لإظهار ، ولا طلاق ، ولا إيلاء ، ولا يمين ، ولا غير ذلك ، على ما قدّمناه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، في كتاب الظهار : مسألة ، المكفر بالصوم ، إذا وطأ زوجته التي ظاهر منها في حال الصوم عامدا ، نهارا كان أو

__________________

(١) ج : قال يلزمه.

(٢) النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.

٧١٣

ليلا ، بطل صومه ، ولزمه استئناف الكفارتين ، فإن كان وطؤه ناسيا ، مضى في صومه ، ولم يلزمه شي‌ء ، ثمّ استدلّ فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وطريقة الاحتياط ، وأيضا فإنّ الله تعالى قال ( فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (١) وهذا قد وطأ قبل الشهرين ، فيلزمه كفارتان على ما مضى القول فيه (٢) هذا آخر استدلاله رحمه‌الله.

قال محمّد بن إدريس : أمّا وجوب الكفارة الأخرى فصحيح ، وأمّا استئناف الكفارة المأخوذ فيها بالصوم إذا وطأ ليلا فبعيد لا وجه له ، ولا دليل على استئناف الصيام ، لأنّ الاستئناف ما جاءنا إلا في المواضع المعروفة المجمع عليها ، وهي إن وطأ بالنهار عامدا من غير عذر المرض ، قبل أن يصوم من الشهر الثاني شيئا ، فيجب عليه الاستئناف للكفارة التي موجبها الظهار ، وكفارة أخرى للوطء ، عقوبة على ما قدّمناه ، فأمّا إذا وطأ ليلا فعليه كفارة الوطء ، ولا يجب عليه استئناف ما أخذ فيه ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، فأمّا إذا وطأ بالنهار عامدا بعد أن صام من الشهر الثاني شيئا ، فعليه كفارة الوطء فحسب ، ويبني على ما صام ، ولا يجب عليه الاستئناف ، فليلحظ ذلك ، فهذا الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : مسألة ، إذا وجبت عليه الكفارة بعتق رقبة في كفارة ظهار ، أو قتل ، أو جماع ، أو يمين ، أو يكون قد نذر عتق رقبة ، فإنّه يجزي في جميع ذلك أن لا تكون مؤمنة إلا في القتل خاصّة (٣).

قال محمّد بن إدريس : اختلف أصحابنا في ذلك ، والأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، أنّ جميع الرقاب في الكفارات وغيرها لا تجزي إلا المؤمنة ، أو بحكم المؤمنة ، ولا تجزي الكافرة ، لأنّ الله تعالى قال : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ

__________________

(١) المجادلة :

(٢) الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة ٢٤.

(٣) الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة ٢٧.

٧١٤

تُنْفِقُونَ ) (١) والكافر خبيث بغير خلاف ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، والإعتاق يسمّى إنفاقا.

وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه ، لأنّ الذمة مشغولة بالكفارة بغير خلاف ، ولا تبرأ بيقين إلا إذا كفر بالمؤمنة ، لأنّ غيرها فيه خلاف.

وهذا اختيار السيد المرتضى وغيره من المشيخة ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي.

إلا أنّه رجع عنه في التبيان ، فقال في تفسير قوله تعالى ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (٢) : وفي الفقهاء من استدلّ بهذه الآية على أنّ الرقبة الكافرة لا تجزي في الكفارة ، وضعّفه قوم ، وقالوا : العتق ليس بإنفاق ، والأولى أن يكون ذلك صحيحا ، لأنّ الإنفاق يقع على كلّ ما يخرج لوجه الله تعالى ، عتقا كان أو غيره (٣) هذا آخر كلامه رحمه‌الله في كتاب التبيان لتفسير القرآن.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة ، عتق المكاتب لا يجزي في الكفارة ، سواء أدّى من مكاتبته شيئا أو لم يؤدّ (٤).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : الصحيح أنّه إذا لم يؤدّ شيئا من مكاتبته ، يجوز عتقه ، ويجزي في الكفارة ، لأنّه بعد عبد لم يتحرر منه شي‌ء بغير خلاف ، وبهذا قال في نهايته (٥).

هذا إذا كانت المكاتبة مطلقة ، فأمّا إن كانت مشروطة ، فإنّه يجوز إعتاقه ، سواء ، أدّى من مال كتابته (٦) شيئا أو لم يؤد ، لأنّه عندنا رق ، وأحكامه أحكام الرق في جميع الأشياء ، إلا ما خرج بالدليل.

__________________

(١) و (٢) البقرة : ٢٦٧.

(٣) التبيان : ج ٢ ، ص ٣٤٤.

(٤) الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة ٢٩.

(٥) النهاية : باب الكفارات ، والعبارة هكذا : ولا ان يعتق مكاتبا له وقد أدّى من مكاتبته شيئا.

(٦) ل : أدى مكاتبه.

٧١٥

وعتق أمّ الولد عندنا جائز في الكفارات ، وكذلك عتق المدبر الذي يبتدأ بتدبيره ، لا عن نذر قد حصل شرطه ، لأنّه إذا حصل شرطه ، فقد انعتق.

وقال رحمه‌الله في مسائل خلافه : مسألة ، إذا أعتق عبدا مرهونا ، وكان موسرا أجزأه ، وإن كان معسرا لا يجزيه (١).

قال محمّد بن إدريس : لا يجزي عتق العبد المرهون قبل فكّه من الرهن ، سواء كان الراهن موسرا أو معسرا ، لأنّ العتق تصرّف بغير خلاف ، وإجماع أصحابنا على أن تصرّف الراهن في الرهن غير صحيح ولا ماض ، وأنّه لا يجوز له التصرف فيه بغير خلاف بينهم ، وأنّه منهي عن التصرف فيه ، وكلّ تصرف يتصرّف فيه فإنّه باطل ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.

ثمّ ما قال بهذا أحد من أصحابنا ، ولا وجدته مسطورا في تصنيف أحد منهم. وشيخنا إن كان قال هذا عن أثر ورواية متلقّى بالقبول ، أو أخبار متواترة ، جاز العمل به إذا لم يمكن تأويله ، وإن كان قاله من تلقاء نفسه على سبيل الاستدلال والاستحسان ، فلا معول على ذلك ، فكيف ولم يرد به رواية ، لا من طريق الآحاد ، ولا من طريق التواتر.

ثمّ استدلّ رحمه‌الله على ما ذهب إليه في صدر المسألة ، فقال : دليلنا على أنّ عتق الموسر جائز ، قوله تعالى ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ، ولم يفصّل ، وعلى أنّ عتق المعسر لا يجزي ، أنّ ذلك يؤدّي إلى إبطال حقّ الغير ، فلا يجوز ذلك ، وعليه إجماع الفرقة ، لأنّهم أجمعوا على أنّه لا يجوز من الراهن التصرف في الرهن ، وذلك عام في جميع ذلك (٢). هذا آخر استدلاله.

وهذا الاستدلال قاض عليه ، وحاكم على فساد ما ذهب إليه ، لأنّ جميع ما استدلّ به على أنّ عتق المعسر لا يجزي ، لازم له في عتق الموسر ، حذو النعل

__________________

(١) و (٢) الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة ٣٢.

٧١٦

بالنعل ، والقذة بالقذة ، فالمخصّص يحتاج إلى دليل ، فانّي ما استجملت له رحمه‌الله مع جلالة قدره هذا القول.

ثمّ قال رحمه‌الله في مسائل خلافه : إذا كان له عبد قد جنى جناية عمد ، فإنّه لا يجزي إعتاقه في الكفارة ، وإن كان خطأ جاز ذلك ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا إجماع الفرقة ، لأنّه لا خلاف بينهم إذا كانت جناية عمد أنّه ينتقل ملكه إلى المجني عليه ، وإن كان خطأ ، فدية ما جناه على مولاه ، لأنّه عاقلته ، وعلى هذا لا بدّ ممّا قلناه (١) ، هذا آخر استدلاله.

قال محمّد بن إدريس : ما قاله رحمه‌الله في صدر المسألة غير واضح ، وكذلك ما قاله في استدلاله ، لأنّه قال : « وإن كان خطأ جاز » وأطلق الكلام ، والصحيح أنّه لا يجزي إلا إذا ضمن (٢) دية الجناية ، فأمّا قبل التزامه وضمانه ، فلا يجوز ، لأنّه قد تعلّق برقبة العبد الجاني حقّ الغير ، فلا يجوز إبطاله.

وما قاله في استدلاله أنّ مولاه عاقلته ، فغير صحيح ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا ، أنّ السيد غير عاقلة العبد ، وإجماعهم منعقد على هذا ، وشيخنا قائل به أيضا في غير كتابه هذا ، في هذا الموضع.

وقال في مبسوطة في كتاب الظهار : إذا كان له عبد قد جنى فأعتقه ، قال بعضهم : إن كان جنى عمدا نفذ العتق ، وإن كان خطأ فعلى قولين ، ومنهم من عكس هذا ، فقال : إن كان خطأ لم ينفذ العتق ، وإن كان عمدا فعلى قولين ، والذي يقتضيه مذهبنا ، أنّه إن كان عمدا نفذ العتق ، لأنّ القود لا يبطل بكونه حرّا ، وإن كان خطأ لا ينفذ ، لانّه يتعلّق برقبته ، والسيد بالخيار بين أن يفديه ، أو يسلمه (٣) هذا آخر كلامه رحمه‌الله في مبسوطة.

وهذا بخلاف ما ذكره في مسائل خلافه ، وهو قوي يمكن القول به ،

__________________

(١) الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة ٣٣.

(٢) ج : إذا ضمن مولاه.

(٣) المبسوط : ج ٥ ، كتاب الظهار ، ص ١٦١.

٧١٧

والاعتماد عليه.

وقال أيضا في مسائل خلافه : مسألة ، إذا كان له عبد غائب يعرف خبره وحياته ، فإن إعتاقه جائز في الكفارة بلا خلاف ، وإن لم يعرف خبره ولا حياته لا يجزيه (١).

قال محمد بن إدريس : وأخبار أصحابنا المتواترة عن الأئمة الأطهار ، وإجماعهم منعقد على أنّ العبد الغائب يجوز عتقه في الكفارة ، إذا لم يعلم منه موت ، لأنّ الأصل الحياة ، وهو موافق في نهايته على ذلك (٢) ، وقائل به ، ولا يلتفت إلى خلاف ما عليه الإجماع.

إذا كان عليه كفارتان من جنس واحد ، فأعتق عنها ، أو صام بنيه التكفير دون التعيين ، أجزأه بلا خلاف ، وإن كانت من أجناس مختلفة فلا بدّ فيها من نيّة التعيين عن كلّ كفارة ، وإن لم يعيّن لم يجزه.

إذا أدخل الطعام أو الشراب في حلقه بالإكراه ، لم يفطر بلا خلاف ، وإن ضرب حتى أكل أو شرب ، فعندنا لا يفطر ، ولا يقطع التتابع.

ولا يلزمه أن ينوي التتابع في الصوم ، بل يكفيه نيّة الصوم فحسب.

والمعتبر في وجوب الكفارات المرتبة حال الأداء ، دون حال الوجوب.

من قدر حال الأداء على الإعتاق ، لم يجزه الصوم ، وإن كان غير واجد لها حين الوجوب.

يجب أن يطعم في كفارة اليمين خاصة ما يغلب على قوته وقوت اهله ، لا من غالب قوت البلد ، فأمّا غيرها من الكفارات ، فلا يلزم من قوت اهله ، بل الواجب عليه الإطعام ممّا يسمّى طعاما وإطعاما ، لأنّ دليل كفارة اليمين قوله تعالى ( مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) (٣) ولم يذكر في غيرها من الكفارات ذلك.

ولا يجوز إخراج القيم في الكفارات ، ويجوز إخراج القيم عندنا في الزكوات.

إذا كسي خمسة وأطعم خمسة في كفارة اليمين ، لم يجزه ، لأنّه لم يمتثل ظاهر الآية.

__________________

(١) الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة ٣٤.

(٢) النهاية : كتاب الطلاق ، باب العتق واحكامه ، آخر الباب.

(٣) المائدة : ٨٩.

٧١٨

وقال شيخنا أبو جعفر في التبيان ، في تفسير آية الظهار : والرقبة ينبغي أن تكون مؤمنة ، سواء كانت ذكرا أو أنثى ، صغيرة أو كبيرة ، إذا كانت صحيحة الأعضاء ، فإنّ الإجماع واقع على أنّه يقع الاجزاء بها وقال الحسن وكثير من الفقهاء : إن كانت كافرة أجزأت.

فهذا يدلك على رجوعه عمّا قاله في نهايته من أنّها تجزي ، وإن كانت كافرة.

باب الإيلاء

يفتقر الإيلاء الشرعي الذي يتعلّق به إلزام الزوج بالفئة ـ بفتح الفاء ـ أو الطلاق بعد مطالبة الزوجة بذلك ، إلى شروط.

منها أن يكون الحالف بالغا كامل العقل.

ومنها أن يكون المولى منها زوجة دوام.

ومنها أن يكون الحلف بما ينعقد به الأيمان عند أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنّه لا ينعقد اليمين عندهم إلا بأسماء الله تعالى ، دون أسماء المحدثات (١).

ومنها أن يكون ذلك مطلقا من الشروط.

ومنها أن يكون مع النية والاختيار ، من غير غضب ولا إكراه ، ولا إجبار.

ومنها أن تكون المدة التي حلف أن لا يطأ الزوجة فيها أكثر من أربعة أشهر.

ومنها أن تكون الزوجة مدخولا بها.

ومنها أن لا يكون إيلاؤه في صلاحه لمرض يضر به الجماع ، أو في صلاح الزوجة لمرض ، أو حمل ، أو رضاع.

لأنّه لا خلاف في ثبوت ذلك مع تكامل ما ذكرناه ، وليس على ثبوته مع اختلال بعضها دليل ، فوجب نفيه.

__________________

(١) ل. ق : دون سائر المحدثات.

٧١٩

ومتى تكاملت هذه الشروط في الإيلاء ، فمتى جامع حنث ولزمته كفارة يمين ، وإن استمر اعتزاله لها ، فهي بالخيار بين الصبر عليه ، وبين مرافعته إلى الحاكم ، فإن رافعته إليه ولو بعد الإيلاء بلا فصل ، أو بعده ولو تطاول الزمان ، أمره بالجماع والتكفير ، فإن أبى أنظره أربعة أشهر من حين المرافعة ، لا من حين اليمين ، ليراجع نفسه ، ويرتئي في أمره ، فإن مضت هذه المدّة ولم يجب إلى ما أمره ، فعليه أن يلزمه الفئة أو الطلاق ، فان أبى ضيّق عليه في التصرف والمطعم والمشرب ، حتى يفعل أيّهما اختار.

ولا تقع الفرقة بين الزوجين بانقضاء المدة ، وانّما يقع بالطلاق ، بدليل قوله تعالى ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) (١) فأضاف الطلاق إلى الزوج ، كما أضاف الفئة إليه ، فكما أنّ الفئة لا تقع إلا بفعله ، فكذلك الطلاق ، وأيضا الأصل بقاء العقد ، فمن ادّعى ان انقضاء المدّة طلقة بائنة ، أو رجعية ، فعليه الدليل.

ويخص ما اشترطناه من كونها زوجة دوام ، بقوله تعالى ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) والنكاح المؤجل لا طلاق فيه.

ونحتج على المخالف فيما اعتبرناه من كون اليمين بأسماء الله تعالى خاصّة ، بما رووه من قوله عليه‌السلام : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (٢).

ونحتج عليه في النية بقوله عليه‌السلام : الأعمال بالنيات (٣) ، والمراد أنّ أحكام الأعمال انّما تثبت بالنيّة ، لما علمنا من حصول الأعمال في أنفسها من غير نية.

ويحتج عليه في الإكراه بما رووه من قوله عليه‌السلام : رفع عن أمتي الخطأ

__________________

(١) البقرة : ٢٢٧.

(٢) التاج : ج ٣ ، كتاب الايمان والنذور ، ص ٧٤ ، سنن الدارمي الباب ٦ من كتاب النذور ، ورواه أبو داود في سننه في الباب ٥ من كتاب الايمان ( الرقم ٣٢٤٩ ) وفيه : فليحلف بالله أو ليسكت.

(٣) الوسائل : الباب ٥ من أبواب مقدمات العبادات ، ح ٦. سنن ابن ماجة : كتاب الزهد ،

٧٢٠