كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

والجد من قبله ، إلا أنّ لولاية الجد رجحانا وأولوية هنا بغير خلاف بين أصحابنا ، إلا من شيخنا أبي جعفر في نهايته (١) ، فإنّه يجعل ولاية الجد مرتبطة بحياة الأب في هذه الحال.

والصحيح أنّ ولايته بعد الأب باقية ثابتة في مالها وغيره ، والأصل بقاؤها ، فمن أزالها يحتاج إلى دليل قاهر.

والجد له مزية في هذه الحال ، بأن يختار هو رجلا ، ويختار أبوها رجلا ، فالأولى أن يقدّم من اختاره الجد ، فان بادر الأب في هذه الحال ، وعقد على من اختاره ، فعقده ماض ، فأمّا إن عقدا معا لرجلين في حالة واحدة ، فإنّ العقد عقد الجد ، ويبطل عقد الأب بغير خلاف في ذلك أجمع.

فأمّا عقدهما عليها بعد بلوغها التسع سنين ، وهي رشيدة مالكة لأمرها وهي بكر غير ثيب ، فإنّ أصحابنا مختلفون في ذلك على قولين.

منهم من يقول عقدهما ماض ، وولايتهما باقية ثابتة لم تزل ، ويسوى بين الحالين ، إلا أنّ هاهنا ولاية الجد مرتبطة بحياة الأب ، فإذا مات الأب عند هذه الحال بطلت ولاية الجد ، وصار كالأجانب ، فليلحظ ذلك ويتأمّل ، ففيه غموض ، وهو قول شيخنا أبي جعفر في نهايته (٢) ومعظم كتبه (٣).

ومنهم من يفرّق بين الحالين ، ويزيل ولايتهما في هذه الحال ، وهم الأكثرون المحصلون من أصحابنا ، ويجعلون أمرها بيدها ، ولا يمضون عقدهما عليها ، والحال ما ذكرناه إلا برضاها ، فإن لم ترض وأظهرت الكراهة ، بطل العقد وانفسخ ، وهو قول شيخنا المفيد في كتابه أحكام النساء (٤) ، وقول السيّد المرتضى.

وإلى هذا القول أذهب وعليه أعتمد ، وبه أفتى ، لوضوحه عندي ، ويقويه النظر والاعتبار ، والمحقق من الأخبار ، وقوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ

__________________

(١) و (٢) النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

(٣) الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة ١٧.

(٤) لم نعثر عليه.

٥٦١

بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (١) فجعل النكاح في الولاية بيدها ، وأضافه إليها ، فالظاهر أنّها تتولاه ، وقوله تعالى ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (٢) فأباح فعلها في نفسها ، من غير اشتراط أحد من الأب والجدّ ، وقوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا ) (٣) فأضاف التراجع إليهما ، وهو عقد ، لأنّه لو أراد الرجعة من الزوج وحده ، لما أضافه إليهما معا.

وأيضا فلا خلاف بين أصحابنا المخالف في المسألة والمؤالف ، أنّ الأب بعد البلوغ والرشد تخرج الولاية منه عن المال ، ويجب تسليمه إليها ، والاتفاق على أنّ العاقل لا يحجر عليه في ماله ونفسه إلا ما خرج بالدليل من المفلس ، ولا خلاف بينهم أنّ بالبلوغ يكمل عقلها ، ويجب تسليم مالها إليها ، ويصح عقود بيوعها ونذرها وإيمانها ، لقوله تعالى ( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (٤) ومن جملة فعلها بنفسها ، عقدها عليها عقدة النكاح ، وقد أباح لها الله تعالى ذلك بصريح لفظ الآية ، ما تفعله في نفسها ، وذلك عام في جميع الأفعال ، فمن ادّعى التخصيص يحتاج إلى دليل.

فعلى هذا التقرير والتحرير ، إذا لم ترض بعقد أبيها وأظهرت كراهية عقده ، فإنّه يكون باطلا مفسوخا ، وإن رضيت به وامضته ، فإنّه يكون صحيحا ، ويجري مجرى غيره من الأجانب ، لأنّ العقد عندنا في النكاح يقف على الإجازة بغير خلاف بيننا ، إلا ممن شذ وعرف اسمه ونسبه ، وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وأيضا فلا خلاف بين المخالف والمؤالف من أصحابنا في المسألة ، أنّ ولاية الأب تزول عن البكر البالغ في عقد النكاح المؤجل ، فبالإجماع قد زالت ولايته هاهنا في النكاح المؤجل ، فلو كانت ولايته ثابتة في النكاح بعد البلوغ ، لم تزل في أحد قسميه ، وتثبت في الآخر ، فمن ادّعى ثبوت ولايته في القسم الآخر الذي

__________________

(١) و (٣) البقرة : ٢٣٠.

(٢) و (٤) البقرة : ٢٣٤.

٥٦٢

هو الدائم ، فعليه الدليل ، لأنّه موافق في خروج الولاية من يده في العقود كلّها ، من البيع وغيره ، وفي أحد قسمي النكاح.

وأيضا فشيخنا أبو جعفر قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا كان أولى الأولياء مفقودا أو غائبا غيبة منقطعة ، أو على مسافة قريبة أو بعيدة ، وكلت وزوّجت نفسها ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا ما قدّمناه في المسألة الأولى سواء ، من أنّه لا ولاية لغير الأب والجدّ ، ومتى كان أحدهما غائبا كان للآخر تزويجها ، وإن غابا جميعا وكانت بالغا كان لها أن تعقد على نفسها ، وتوكل من شاءت من باقي الأولياء (١) هذا آخر كلام شيخنا في المسألة.

فانظر أرشدك الله إلى كلامه رحمه‌الله فهل ترى للخلاف معنى؟ لأنّ من جعل له الولاية ، لا يقول أنّ مع الغيبة تسقط ، لأنّ ولي الصغيرة من الأب والجد ، إذا غابا لا تسقط ولايتهما عنها بحال ، ولا يجوز تزويجها إلا بإذنهما ، لأنّ لهما عليها الولاية بغير خلاف ، وكذلك حالها عند البلوغ ، لا تزول ولايتهما عند من ذهب إلى ذلك من أصحابنا إذ لا فرق بين الموضعين ، وأيضا فشيخنا أبو جعفر الطوسي ، قد رجع وسلم المذهب بالكلية في كتابه كتاب التبيان ، ورجع عمّا ذكره في نهايته ، وسائر كتبه ، لأنّ كتاب التبيان صنّفه بعد كتبه جميعها ، واستحكام علمه ، وسبرة للأشياء ، ووقوفه عليها ، وتحقيقه لها ، فقال في تفسير قوله تعالى ( إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (٢) فإنّه قال : لا ولاية لأحد عندنا ، إلا للأب والجد ، على البكر غير البالغ ، فأمّا من عداهما فلا ولاية له (٣) فهذا قوله في كتاب التبيان المشتمل على تفسير القرآن ، وإذا كان لا إجماع في المسألة من أصحابنا ، والأصول من الأدلة شاهدة لما ذهبنا إليه واخترناه ، فلا معدل عنه ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي محجوج بقوله هذا الذي

__________________

(١) الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة ٣٧.

(٢) البقرة : ٢٣٧.

(٣) التبيان : ج ٢ ، ص ٢٧٣.

٥٦٣

حكيناه عنه في التبيان.

وقال السيد المرتضى في كتابه الانتصار : مسألة ، ومما يظن قبل الاختبار ، أنّ الإمامية تنفرد به القول ، بأنّه ليس للأب أن يزوّج بنته البكر البالغة إلا بإذنها ، وأبو حنيفة يوافق في ذلك ، وقال مالك والشافعي : للأب أن يزوّجها بغير إذنها ، ثمّ قال رحمه‌الله في استدلاله : دليلنا الإجماع المتردد (١).

وشيخنا المفيد ، قال في كتابه كتاب أحكام النساء ، قال في باب أحكام النساء في النكاح : والمرأة إذا كانت كاملة العقل ، سديدة الرأي ، كانت أولى بنفسها في العقد عليها للأزواج من غيرها ، كما أنّها أولى بالعقد على نفسها في البيع والابتياع ، والتمليك ، والهبات ، والوقوف ، والصدقات ، وغير ذلك ، من وجوه التصرفات ، غير أنّها إذا كانت بكرا ولها أب أوجد لأب ، فمن السنّة أن يتولى العقد عليها أبوها ، أو جدها لأبيها ، إن لم يكن لها أب ، بعد أن يستأذنها في ذلك ، فتأذن فيه ، وترضى به ، ولو عقدت على نفسها بغير إذن أبيها ، لكان العقد ماضيا (٢) ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه‌الله.

وأيضا فقد قال شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله في مبسوطة ، في فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك : إذا بلغت الحرة رشيدة ، ملكت كلّ عقد من النكاح ، والبيع ، وغير ذلك ، وفي أصحابنا من قال : إذا كانت بكرا لا يجوز لها العقد على نفسها ، إلا بإذن أبيها ، وفي المخالفين من قال : لا يجوز نكاح إلا بولي ، وفيه خلاف ، ثمّ قال رحمه‌الله : وإذا تزوّج من ذكرنا بغير وليّ ، كان العقد صحيحا (٣).

فقد وافق هاهنا أيضا ، ولا يرجع إلى أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، في هذه المسألة.

النكاح عندنا يقف على الإجازة ، مثل أن يزوّج رجل امرأة من غير أمر وليها

__________________

(١) الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة ١٧.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) المبسوط : ج ٤ ، كتاب النكاح ، ص ١٦٢.

٥٦٤

لرجل ، ولم يأذن له في ذلك ، يقف العقد على إجازة الزوج والولي ، ولو زوّج رجل بنت غيره ـ وهي غير بالغ ـ من رجل ، فقبل الزوج ، وقف العقد على إجازة الولي ، وكذلك لو زوّج الرجل بنته الثيب الكبيرة الرشيدة ، أو أخته الكبيرة الرشيدة ، أو غير الكبيرة ، وقف على إجازتها ، وكذلك لو تزوّج العبد بغير إذن سيده ، والأمة بغير إذن سيدها وقف العقد على إجازتهما بغير خلاف في ذلك كلّه عند أصحابنا ، ما خلا العبد والأمة ، فإنّ بعضهم يوقف العقد على إجازة الموليين ، وبعضهم يبطله ويفسده ، ويحتج بأنّه عقد منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، وما عداهما لا خلاف بينهم فيه.

إلا ما ذهب شيخنا أبو جعفر إليه في مسائل خلافه (١) فإنّه خالف أصحابه ، في ذلك ، واختار مذهب الشافعي ، وإن كان موافقا لباقي أصحابنا في نهايته (٢) ، واستبصاره (٣) وتهذيبه (٤).

دليلنا : إجماع أصحابنا المنعقد على ما اخترناه ، فانّ من ذكرناه معروف الاسم والنسب ، وإن كان محجوجا بقوله في غير مسائل الخلاف.

والأخبار متواترة عن الأئمة الأطهار بوقوف عقود النكاح على الإجازة.

وقال السيّد المرتضى في الناصريات ، في المسألة الرابعة والخمسين والمائة : ويقف النكاح على الفسخ والإجازة في أحد القولين ، ولا يقف في القول الآخر ، هذا صحيح ، ويجوز أن يقف النكاح عندنا على الإجازة ، ووافقنا على ذلك أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا يصح النكاح الموقوف على الإجازة ، سواء كان

__________________

(١) الخلاف : كتاب النكاح ، مسألة ١١.

(٢) النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

(٣) الاستبصار : ج ٣ ، كتاب النكاح ، باب أنه لا يزوج البكر إلا بإذن أبيها ، وباب أنّ الأب إذا عقد على ابنته الصغيرة .. ، ص ٢٣٥ و ٢٣٦.

(٤) التهذيب : ج ٧ ، كتاب النكاح ، باب عقد المرأة على نفسها النكاح ، ص ٢٧٩ و ٢٨٠.

٥٦٥

موقوفا على إجازة الزوج ، أو الولي ، أو المنكوحة ، وقال في استدلاله : دليلنا على صحة مذهبنا ، الإجماع المتردد ، وما رواه ابن عباس ، من أنّ جارية بكرا أتت النبيّ عليه‌السلام ، فذكرت أنّ أباها زوّجها ، وهي كارهة ، فخيرها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، وهذا يدلّ على أنّ النكاح يقف على الإجازة والفسخ ، وأيضا ما روي في خبر آخر أنّ رجلا زوّج ابنته وهي كارهة ، فجاءت النبيّ عليه‌السلام وقالت : زوجني أبي ، « ونعم الأب » من ابن أخيه ، يريد أن يرفع بي خسيسته ، فجعل النبيّ عليه‌السلام أمرها إليها ، فقالت : أجزت ما صنع بي أبي ، وانّما أردت أن اعلم النساء أنّه ليس إلى الآباء من أمر النساء شي‌ء (٢) ، وروي في بعض الأخبار أنّه عليه‌السلام قال لها : أجيزى ما صنع أبوك ، وأبوها ما صنع إلا العقد ، فدلّ على أنّه كان موقوفا على الإجازة (٣) هذا آخر كلام السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه وأرضاه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى عقد الأبوان على ولديهما قبل أن يبلغا ، ثمّ ماتا ، فإنّهما يتوارثان ، ترث الجارية الصبيّ ، والصبيّ الجارية (٤).

قال محمّد بن إدريس : هذا صحيح بغير خلاف بين أصحابنا.

ثمّ قال : ومتى عقد عليهما غير أبويهما ، ثمّ مات واحد منهما ، فإن كان الذي مات ، الجارية ، فلا يرث الصبيّ ، سواء بلغ أو لم يبلغ ، لأنّ لها الاختيار عند البلوغ ، فإن كان الذي مات ، الزوج قبل أن يبلغ ، فلا ميراث لها أيضا ، لأنّ له

__________________

(١) سنن ابن ماجة : الباب ١٢ من كتاب النكاح ، ح ٣ ( الرقم ١٨٧٥ ) عن ابن عباس. ورواه أبو داود في سننه عنه أيضا في كتاب النكاح الباب ٢٥ ( الرقم ٢٠٩٦ ). وأورده في التاج : ج ٢ ، في الباب الرابع في الاستئذان وأركان النكاح ص ٢٩٣ من غير طريق ابن عباس.

(٢) ابن ماجة : الباب ١٢ من كتاب النكاح ، ح ٢ ( الرقم ١٨٧٤ ) باختلاف يسير.

(٣) الناصريات : كتاب النكاح ، مسألة ١٥٤.

(٤) النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

٥٦٦

الخيار عند البلوغ ، وإن كان موته عند بلوغه ورضاه بالعقد قبل أن تبلغ الجارية ، فإنّه يعزل ما ترثه ، إلى أن تبلغ ، فإذا بلغت ، عرض عليها العقد ، فإن رضيت به ، حلفت بالله تعالى أنّها ما دعاها إلى الرضا الطمع في الميراث ، فإذا حلفت ، أعطيت الميراث ، وإن أبت لم يكن لها شي‌ء (١).

قال محمّد بن إدريس : وهذا تسليم منه رحمه‌الله ، أنّ العقد يقف على الإجازة والفسخ.

ثمّ قال رحمه‌الله : ومتى عقد على صبية لم تبلغ غير الأب أو الجد مع وجود الأب ، كان لها الخيار إذا بلغت ، سواء كان ذلك العاقد جدا مع عدم الأب ، أو الأخ أو العم ، أو الأم (٢).

وهذا أيضا تسليم للمسألة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا لم يكن لها جد وكان لها أخ ، يستحب لها أن تجعل الأمر إلى أخيها الكبير ، وإن كان لها اخوان فجعلت الأمر إليهما ، ثمّ عقد كلّ واحد منهما عليها لرجل ، كان الذي عقد له عليها أخوها الأكبر أولى بها من الآخر (٣).

قال محمّد بن إدريس : إن أراد بذلك أنّهما عقدا في حالة واحدة معا ، الإيجابان والقبولان في دفعة واحدة ، فالعقدان باطلان ، لأنّ ذلك منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه ، وحمل ذلك على الأب والجد قياس ، ونحن لا نقول به ، وان أراد أنّه تقدّم عقد الأخ الصغير عليها ، فكيف يكون الذي عقد له عليها أخوها الأكبر أولى ، وإن أراد أنّ الأكبر كان عقده متقدّما ، فالعقد صحيح ، ولا معنى للأولوية هاهنا.

ثمّ قال رحمه‌الله : فإن دخل بها الذي عقد عليها أخوها الصغير ، كان العقد

__________________

(١) و (٢) و (٣) النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

٥٦٧

ماضيا ، ولم يكن للأخ الكبير أمر مع الدخول بها (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : إذا كان الصغير قد سبق بالعقد ، فسواء دخل بها المعقود له عليها أو لم يدخل ، لا أمر للكبير ، فإن كان الأخ الكبير قد سبق بالعقد ودخل الذي عقد له الأخ الصغير بها ، فإنّها تردّ إلى الأول ، وكان لها الصداق بما استحلّ من فرجها ، وعليها العدة ، ولا نفقة لها على من دخل بها ، لأنّها تعتد لغيره ، بل النفقة على زوجها ، لأنّها في حباله ، وانّما منعه الشرع من وطئها ، فإن جاءت بولد كان لا حقا بأبيه.

وذهب شيخنا في نهايته إلى أنّه إن كان قد دخل بها الذي عقد له عليها أخوها الأصغر ، وإن كان عقده بعد عقد أخيها الأكبر عليها ، فهي زوجته مع الدخول (٢).

إلا أنّه رجع في مسائل خلافه (٣) ، وفي مبسوطة (٤) عن ذلك وقال : وروي في بعض أخبارنا ذلك (٥).

ورجوعه هو الصحيح.

ومتى عقد الرجل لابنه على جارية وهو غير بالغ ، كان له الخيار إذا بلغ ، وليس كذلك إذا عقد على بنته غير البالغ ، لأنّها إذا بلغت لا خيار لها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا أراد الأخ العقد على أخته البكر ، استأمرها ، فإن سكتت كان ذلك رضى منها (٦).

قال محمّد بن إدريس : المراد بذلك ، أنّها تكون قد وكلته في العقد.

__________________

(١) و (٦) النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

(٢) النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء ، والعبارة هكذا ، فإن كان الأخ الكبير سبق بالعقد ودخل بها الذي عقد له الأخ الصغير فإنها تردّ إلى الأوّل.

(٣) الخلاف. كتاب النكاح ، المسألة ٤٢.

(٤) المبسوط : ج ٤ ، كتاب النكاح فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك ، ص ١٧٧ ، وقوله وروي في بعض أخبارنا لا يوجد في كتابيه.

(٥) الوسائل : الباب ٧ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح ٤.

٥٦٨

فإن قيل : إذا وكلته في العقد فلا حاجة به إلى استيمارها.

قلنا : بل يستحب أن يستأمرها عند العقد بعد ذلك ، وكذلك الأب إذا لم يكن وليا عليها ، ولا له إجبارها على النكاح ، وولت أمرها إليه ، فإنّه يستحب له أن يستأمرها إذا أراد العقد عليها ، وهذا معنى ما روي أنّ إذنها صماتها (١) وإلا السكوت لا يدل في موضع من المواضع على الرضا ، إلا إذا لم يكن له وجه إلا الرضا ، فإنّه يدلّ حينئذ على الرضا.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، في فصل في ذكر أولياء المرأة ، إلى ما ذكرناه ، وحقّق ما حررناه ، فقال : وأمّا الأبكار فلا يخلو أن تكون صغيرة أو كبيرة ، فإن كانت صغيرة كان لأبيها وجدها أبي أبيها وإن علا أن يزوجها لا غير ، وإن كانت كبيرة فالظاهر في الروايات (٢) أنّ للأب والجد أن يجبراها على النكاح ، ويستحب له أن يستأذنها ، وإذنها صماتها ، وإن لم يفعل فلا حاجة به إليها (٣) هذا آخر قول شيخنا في مبسوطة.

وإذا ولت المرأة غيرها العقد عليها ، وسمّت له رجلا بعينه ، لم يجز له العقد لغيره عليها ، فإن عقد لغيره كان العقد باطلا.

وإذا عقد الرجل على ابنه وهو صغير ، وسمّى مهرا ثمّ مات الأب ، كان المهر من أصل تركته قبل القسمة ، سواء رضي الابن بالعقد بعد بلوغه ، أو لم يرض ، لأنّه لمّا عقد عليه ولا مال للابن ، فقد ضمن الأب المهر ، فانتقاله إلى الابن بعد بلوغه ورضاه يحتاج إلى دليل ، إلا أن يكون للصبيّ مال في حال العقد ، فيكون المهر من مال الابن دون الأب ، لأنّه الناظر في مصالحه ، والوالي

__________________

(١) الوسائل : الباب ٥ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح ١ وفيه : قال أبو الحسن عليه‌السلام في المرأة البكر : إذنها صماتها.

(٢) الوسائل : الباب ٩ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح ٨ ، وكذلك الباب ٦ من تلك الأبواب.

(٣) المبسوط : ج ٤ ، كتاب النكاح ، ص ١٦٢.

٥٦٩

عليه في تلك الحال ، فأمّا الموضع الذي أوجبنا المهر في مال الأب ، فدليله إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا فإنّه لما قبل النكاح لولده مع علمه بإعساره ، وعلمه بلزوم الصداق بعقد النكاح ، علمنا من حيث العرف والعادة أنّه دخل على أن يضمن ، فقام العرف في هذا مقام نطقه.

وحدّ الجارية التي يجوز لها العقد على نفسها ، أو يجوز لها أن تولّي من يعقد عليها ، تسع سنين فصاعدا ، مع الرشد والسلامة من زوال العقل ، فإن بلغت إلى ذلك الحدّ وهي مجنونة أو زائلة العقل ، فإنّ ولاية الأب غير زائلة.

ومتى عقدت الام لابن لها على امرأة ، كان مخيرا في قبول العقد والامتناع منه ، فإن قبل لزمه المهر ، وإن أبي ذلك لزمها هي المهر ، على ما روي في بعض الأخبار (١) أورده شيخنا في نهايته (٢).

قال محمّد بن إدريس : حمل ذلك على الأب قياس ، فإن الام غير والية على الابن ، وإنّما هذا النكاح موقوف على الإجازة والفسخ ، فإن بلغ الابن ورضي لزمه المهر ، وإن أبى انفسخ النكاح ، ولا يلزم الامّ من المهر شي‌ء بحال ، إذ هي والأجانب سواء ، ولو عقد عليه أجنبي كان الحكم ما ذكرناه بغير خلاف ، فلا دليل على لزوم المهر ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، فبقينا على حكم الأصل.

وقد روي (٣) أنّ المرأة إذا عقدت على نفسها عقدة النكاح ، وهي سكرى ، كان العقد باطلا ، فإن أفاقت ورضيت بفعلها ، كان العقد ماضيا ، وإن دخل بها الزوج في حال السكر ، ثم أفاقت الجارية ، فاقرّته على ذلك ، كان ذلك أيضا

__________________

(١) الوسائل : الباب ٧ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح ٣.

(٢) النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء ، باختلاف يسير.

(٣) الوسائل : الباب ١٤ من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

٥٧٠

ماضيا ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (١).

والذي يقوى عندي أنّ هذا العقد باطل ، فإذا كان باطلا فلا يقف على الرضا والإجازة ، لأنّه لو كان موقوفا وقف على الفسخ والإجازة ، وشيخنا قال : كان العقد باطلا ، فإذا كان باطلا ، فكيف يكون في نفسه بعد الإفاقة والرضا ماضيا؟ وأيضا العقد حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا إجماع ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : والذي بيده عقدة النكاح ، الأب أو الجدّ مع وجود الأب ، أو الأخ إذا جعلت الأخت أمرها إليه ، أو من وكلته في أمرها ، فأي هؤلاء كان جاز له أن يعفو عن بعض المهر ، وليس له أن يعفو عن جميعه (٢).

وقال في مسائل خلافه : الذي بيده عقدة النكاح عندنا ، هو الولي الذي هو الأب ، أو الجد ، ثمّ قال : إلا أنّ عندنا له أن يعفو عن بعضه ، وليس له أن يعفو عن جميعه (٣).

وقال في كتاب التبيان في تفسير قوله تعالى ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (٤) قال رحمه‌الله : قوله « إِلّا أَنْ يَعْفُونَ » معناه من يصح عفوها من الحرائر البالغات غير المولى عليها لفساد عقلها ، فتترك ما يجب لها من نصف الصداق ، وهو قول ابن عباس ومجاهد ، وجميع أهل العلم ، وقوله ( أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » قال مجاهد ، والحسن ، وعلقمة ، أنّه الولي ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام غير أنّه لا ولاية لأحد عندنا إلا للأب والجدّ على البكر غير البالغ ، فأمّا من عداهما فلا ولاية له إلا بتولية منها ، وروي عن علىّ عليه‌السلام ، وسعيد بن المسيّب ، وشريح ، وحمّاد ، وإبراهيم ، وأبي

__________________

(١) و (٢) النهاية : كتاب النكاح باب من يتولى العقد على النساء.

(٣) الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة ٣٤.

(٤) البقرة : ٢٣٧.

٥٧١

حذيفة ، وابن شبرمة ، أنّه الزوج ، وروي ذلك أيضا في أخبارنا ، غير أنّ الأوّل أظهر ، وهو المذهب ، وفيه خلاف بين الفقهاء ، ومن جعل العفو للزوج ، قال : له أن يعفو عن جميع نصفه ، ومن جعله للوليّ قال أصحابنا : له أن يعفو عن بعضه ، وليس له أن يعفو عن جميعه ، وإن امتنعت المرأة من ذلك ، لم يكن لها ذلك ، إذا اقتضت المصلحة ذلك ، عن أبي عبد الله واختار الجبائي أن يكون المراد به الزوج ، قال : لأنّه ليس للوليّ أن يهب مال المرأة (١) هذا آخر كلامه في كتابه التبيان.

والذي يقوى في نفسي ويقتضيه أصول المذهب ، ويشهد بصحته النظر والاعتبار ، والأدلة القاهرة ، والآثار ، أنّ الأب أو الجد من قبله مع حياته أو موته ، إذا عقدا على غير البالغ ، فلهما أن يعفوا عما تستحقه من نصف المهر بعد الطلاق ، إذا رأيا ذلك مصلحة لها ، وتكون المرأة وقت عفوهما غير بالغ ، فأمّا من عداهما ، أو هما مع بلوغها ورشدها ، فلا يجوز لهما العفو عن النصف ، وصارا كالأجانب ، لأنّهما في هذه الحال لا ولاية لهما عليها ، وهي الوالية على نفسها ، ولا يجوز لأحد التصرف في مالها بالهبة والعفو وغير ذلك إلا عن إذنها ، لأنّ التصرف في مال الغير لا يجوز عقلا وسمعا ، إلا بإذنه ، وليس في الآية إن تعلّق بها متعلّق سوى ما ذكرناه ، لأنّه تعالى قال « إِلّا أَنْ يَعْفُونَ » فدلّ بهذا القول أنهن ممن لهن العفو ، وهن الحرائر البالغات الواليات على أنفسهن في العقد والعفو والبيع والشراء وغير ذلك ، ثمّ قال « أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » معناه إن لم يكنّ بالغات ولا واليات على أنفسهن ، فعند هذه الحال لا يلي عليهن عندنا سوى الأب والجد بغير خلاف بيننا ، وهما الواليان عليهن والناظران في عقد نكاحهن ، فلهما العفو بعد الطلاق عما تستحقه ، ولأنّ الإجماع حاصل منعقد على ما ذكرناه ، وفيما عداه خلاف ، فالاحتياط يقتضي ما ذكرناه ، ودليل

__________________

(١) التبيان : ج ٢ ، ص ٢٧٣ و ٢٧٤ في تفسير آية ٢٣٧ من سورة البقرة.

٥٧٢

العقل يعضد ما اخترناه ، إذ لا إجماع من أصحابنا على خلاف ما شرحناه ، ولا تواتر من الأخبار على ضد ما بيّناه. وقول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله مختلف على ما بيّناه في كتبه وحكيناه ، وأقوال المفسرين مختلفة على ما سطّرناه.

ولو لا الإجماع من أصحابنا على أنّ الذي بيده عقدة النكاح ، الأب والجدّ على غير البالغ ، لكان قول الجبائي قويا ، مع أنّه قد روي في بعض أخبارنا أنّه الزوج (١).

وروي أنّه إذا كان لرجل عدة بنات ، فعقد لرجل على واحدة منهن ، ولم يسمّها بعينها ، لا للزوج ولا للشهود ، فإن كان الزوج قد رآهن كلّهن ، كان القول قول الأب ، وعلى الأب أن يسلّم إليه التي نوى العقد عليها عند عقدة النكاح ، وإن كان الزوج لم يرهن كلّهن كان العقد باطلا ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢).

وعاد عنه في مبسوطة ، وضعفه ، وقال : النكاح باطل في الموضعين (٣).

وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّ العقد حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ومن شرط صحته تمييز المعقود عليها ، ولأنّه إذا ميزها من غيرها ، صحّ العقد بلا خلاف ، وإذا لم يميزها ليس على صحته دليل ، أو فيه خلاف ، فالاحتياط يقتضي ما قلناه واخترناه ، وإنّما أورد الخبر شيخنا في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله مما لا يعمل به ، رواها أبو عبيدة فحسب.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة في فصل فيما ينعقد به النكاح : لا يصح النكاح حتى تكون المنكوحة معروفة بعينها ، على صفة تكون متميزة عن غيرها ، وذلك بالإشارة إليها أو التسمية أو الصفة (٤).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : لا يصح نكاح الثيب إلا بإذنها ، وإذنها

__________________

(١) مستدرك الوسائل : الباب ٣٧ من أبواب المهور ، ح ٤.

(٢) النهاية : كتاب النكاح باب من يتولى العقد على النساء آخر الباب.

(٣) المبسوط : ج ٤ ، كتاب النكاح ، فصل فيما ينعقد به النكاح ، ص ١٩٢ ، والعبارة هكذا : وإن قال : إحدى ابنتي أو قال : بنتي فقط ، فالنكاح باطل.

(٤) المبسوط : ج ، كتاب النكاح ، ص ١٩٢.

٥٧٣

نطقها بلا خلاف ، وأمّا البكر ، فإن كان لها ولي ، له الإجبار ، مثل الأب والجدّ ، فلا يفتقر نكاحها إلى إذنها ، ولا إلى نطقها ، فإن لم يكن له الإجبار كالأخ وابن الأخ والعم ، فلا بدّ من إذنها ، والأحوط أن يراعى نطقها وهو الأقوى عند الجميع ، وقال قوم : يكفي سكوتها ، لعموم الخبر ، وهو قوي (١) هذا آخر كلامه رحمه‌الله.

والذي يقوى في نفسي أنّه لا بدّ من نطقها على ما قدّمناه ، لأنّا قد بيّنا أنّه لا ولاية لأحد بعد البلوغ عليها بحال.

لا ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح أو التزويج ، وهو أن يقع الإيجاب والقبول بلفظة واحدة ، أو الإيجاب بإحداهما والقبول بالأخرى ، فتقول : أنكحتك ، فيقول : قبلت النكاح ، أو تقول : زوجتك ، فيقول : قبلت التزويج ، أو تقول : أنكحتك فيقول : قبلت التزويج ، أو تقول : زوجتك ، فيقول : قبلت النكاح ، وما عدا هذا فلا ينعقد به النكاح الدائم بحال.

فأمّا النكاح المؤمل ينعقد بلفظة أخرى زائدة على هاتين اللفظتين ، وهي متعتك نفسي بكذا إلى أجل كذا ، إلا أنّ عقد النكاح الدائم ليس من شرط صحته ذكر المهر ، بل ينعقد من دونه بغير خلاف ، والمؤجل من شرط صحته ذكر المهر والأجل.

وإذا قال رجل في عقد الدوام : أنكحتك أو زوجتك بنتي ، فقال الزوج : قبلت ولم يزد على ذلك ، فعندنا يصحّ العقد ، لأنّ معنى قوله قبلت ، أي قبلت هذا الإيجاب ، أو هذا العقد.

وإذا قال : زوجتك حمل هذه المرأة ، كان باطلا.

ولا بأس أن يتقدّم القبول على الإيجاب في عقد النكاح عندنا ، ولا يجوز ذلك في عقد البيع.

ولا بدّ أن يأتي بلفظ الاخبار في الإيجاب ، ولا يجوز أن يأتي بلفظ الأمر أو

__________________

(١) المبسوط : ج ٤ ، كتاب النكاح ، فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك.

٥٧٤

الاستفهام ، لأنّه لا خلاف في صحّته أن يأتي به على ما قلناه ، وفيما عداه خلاف ، وأيضا ، فالعقد حكم شرعي يحتاج في ثبوته إلى دليل شرعي.

عقد النكاح لا يدخله خيار المجلس ، ولا خيار الشرط ، لأنّه عقد لازم من الطرفين ، فإن شرط ذلك فيه بطل الشرط ، وصح العقد.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (١) ومبسوطة (٢) : إذا شرط ذلك بطل العقد.

قال محمّد بن إدريس : لا دليل على بطلان العقد من كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، لأنّ العقود الشرعية إذا ضامّتها شروط غير شرعية ، بطلت الشروط وصحّت العقود ، وهذا شرط غير شرعي.

والذي يدلّ على صحّة العقد قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) وهذا عقد يجب الوفاء به ، والذي اختاره شيخنا تخريجات المخالفين وفروعهم ، وهو مذهب الشافعي ، وأحد من أصحابنا لم يذهب إلى ذلك ، ولا ذكر المسألة في مسطور له ، ولا وردت بها رواية من جهة أصحابنا ، لا آحادا ولا تواترا ، وشيخنا لما استدل على ما اختاره ، لم يتعرض للإجماع ، ولا للأخبار ، بل لشي‌ء أوهن من بيت العنكبوت ، ولم يتعرض لها في سائر تصنيفه ، إلا في هذين الكتابين ، لأنّهما فروع المخالفين وتخريجاتهم.

باب المهور وما ينعقد به النكاح وما لا ينعقد

الأصل في الصداق كتاب الله ، وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال الله تعالى ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) (٤).

فإن قيل : كيف سمّاه الله تعالى نحلة ، وهو عوض عن النكاح؟

أجيب عنه بثلاثة أجوبة ، أحدها : اشتقاقه من الانتحال الذي هو التدين ،

__________________

(١) الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة ٥٩.

(٢) المبسوط : ج ٤ ، كتاب النكاح ، فصل فيما ينعقد به النكاح ، ص ١٩٤.

(٣) المائدة : ١.

(٤) النساء : ٤.

٥٧٥

يقال : فلان ينتحل مذهب كذا ، فكان قوله نحلة ، معناه تدينا.

والثاني : أنّه في الحقيقة نحلة منه لها ، لأنّ حظ الاستمتاع من كل واحد منهما لصاحبه كحظ صاحبه.

والثالث : قيل : إنّ الصداق كان للأولياء في شرع من قبلنا ، بدلالة قول شعيب حين زوج موسى ابنته ( عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (١) ولم يقل تأجر بنتي ثماني حجج ، فكان معنى قوله « نِحْلَةً » أي انّ الله أعطاكن هذا في شرعنا نحلة.

فإذا ثبت هذا فالمستحب أن لا يعرى نكاح عن ذكر مهر.

ومتى تولى عن ذكر المهر ، وعقد النكاح بغير ذكره ، فالنكاح صحيح إجماعا على ما قدّمناه ، لقوله تعالى ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) (٢) معناه : ولم تفرضوا لهن فريضة ، بدلالة قوله ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) (٣) ولا متعة لمن طلّقها قبل الدخول ، إلا التي لم يسمّ لها مهر.

والصداق ما تراضى عليه الزوجان ، ممّا له قيمة في شرع الإسلام ، ويحلّ تملكه ، قليلا كان أو كثيرا ، بلا خلاف بين المسلمين ، إلا ما ذهب إليه السيد المرتضى في انتصاره ، فإنّه قال : إذا زاد على خمسين دينارا لا يلزم إلا الخمسون (٤) والصحيح ما قدّمناه ، لأنّ هذا خلاف لظاهر القرآن ، والمتواتر من الأخبار ، وإجماع أهل الأعصار ، لأنّه لا خلاف في أن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، والصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين تزوجوا بأكثر من خمسين دينارا.

ولا يجوز في المهر ما لا يحلّ تملكه للمسلم ، من خمر أو نبيذ أو خنزير ، وما أشبه ذلك ، فإن عقد على شي‌ء من هذه المحرمات ، قال شيخنا أبو جعفر الطوسي

__________________

(١) القصص : ٢٧.

(٢) البقرة : ٢٣٦.

(٣) البقرة : ٢٣٦.

(٤) الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة ٢٠.

٥٧٦

في نهايته : كان العقد باطلا (١). وكذلك يقول شيخنا المفيد في مقنعته (٢) ، إلا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، في كتاب الصداق فقال : مسألة ، إذا عقد على مهر فاسد مثل الخمر والخنزير والميتة وما أشبهه ، فسد المهر ولم يفسد النكاح. ووجب لها مهر المثل ، وبه قال جميع الفقهاء ، إلا مالكا ، فإنّ عنه روايتين ، إحداهما مثل ما قلناه ، والأخرى يفسد النكاح ، وبه قال قوم من أصحابنا ، ثمّ قال في استدلاله على صحّة ما اختاره رحمه‌الله : دليلنا انّ ذكر المهر ليس من شرط صحة العقد ، فإذا ذكر ما هو فاسد ، لم يكن أكثر من أن لم يذكره أصلا ، فلا يؤثر ذلك في فساد العقد (٣) ، هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : الذي يقوى في نفسي ، ما ذكره في مسائل خلافه ، والدليل عليه ما استدلّ به رحمه‌الله ، فإنّه استدلال مرضي ، ولا إجماع على فساد هذا العقد ، ولا كتاب الله تعالى ، ولا دليل عقل ، ولا سنّة متواترة ، بل قوله تعالى يعضد ما ذكره ، وهو قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (٤). والنكاح قد بيّنا أنّه العقد من الإيجاب والقبول ، وقد حصل ذلك ، وقد بيّنا أيضا أنّ ذكر المهر ليس من شرط صحة عقد الدوام.

ويجوز أن يكون منافع الحر مهرا ، مثل تعليم قرآن ، أو شعر مباح ، أو بناء ، أو خياطة ثوب ، وغير ذلك مما له أجرة ، لأنّ كلّ ذلك له أجر معيّن ، وقيمة مقدرة.

واستثنى بعض أصحابنا من جملة ذلك الإجارة إذا كانت معيّنة يعملها الزوج بنفسه ، قال : لأنّ ذلك كان مخصوصا بموسى عليه‌السلام ، والوجه في ذلك أنّ الإجارة إذا كانت معيّنة لا تكون مضمونة ، بل إذا مات المستأجر لا تؤخذ من تركته ، ويستأجر لتمام العمل ، وإذا كانت في الذمة تؤخذ من تركته ،

__________________

(١) النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح أول الباب.

(٢) المقنعة : أبواب النكاح ، باب المهور والأجور وما ينعقد به النكاح ص ٥٠٨.

(٣) الخلاف : كتاب الصداق : المسألة ١.

(٤) النساء : ٣.

٥٧٧

ويستأجر لتمام العمل.

والذي أعتمده وأعمل عليه وافتي به ، أنّ منافع الحر تنعقد بها عقود النكاح ، ويصح الإجارة والأجرة على ذلك ، سواء كانت الإجارة في الذمة أو معيّنة ، لأنّ الأخبار على عمومها ، وما ذكره بعض أصحابنا من استثنائه الإجارة ، وقوله : « كانت مخصوصة بموسى عليه‌السلام » فكلام في غير موضعه ، واعتماد على خبر شاذ نادر (١) ، فإذا تؤمّل حقّ التأمّل ، بان ووضح أنّ شعيبا عليه‌السلام استأجر موسى ليرعى له لا ليرعى لبنته ، وذلك كان في شرعه وملته ، أنّ المهر للأب دون البنت ، على ما قدّمناه في صدر الباب ، فإذا كان كذلك ، فإنّه لا يجوز في شرعنا ما جاز في شرع شعيب عليه‌السلام ، فأمّا إذا عقد على إجارة ليعمل لها ، فالعقد صحيح ، سواء كانت الإجارة معينة أو في الذمة.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام ، خبرا وهو محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : لا يحلّ النكاح اليوم في الإسلام بإجارة ، بأن يقول : أعمل عندك كذا وكذا سنة ، على أن تزوجني أختك أو ابنتك ، قال : حرام ، لأنّه ثمن رقبتها ، وهي أحقّ بمهرها (٢).

فهذا يدلك على ما حررناه وبيّناه ، فمن استثنى من أصحابنا الإجارة التي فعلها شعيب مع موسى عليهما‌السلام ، فصحيح ، وإن أراد غير ذلك فباطل.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز العقد على إجارة ، وهو أن يعقد الرجل على امرأة على أن يعمل لها ، أو لوليها أياما معلومة ، أو سنين معينة (٣).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، يجوز أن يكون منافع الحر مهرا ، مثل تعليم

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٢ من أبواب المهور.

(٢) التهذيب : ج ٧ ، ص ٣٦٧ ، باب المهور والأجور وما ينعقد به النكاح ، ح ٥١ (١٤٨٨).

(٣) النهاية : كتاب النكاح ، باب المهدر وما ينعقد به النكاح ، أوائل الباب.

٥٧٨

قرآن ، أو شعر مباح ، أو بناء أو خياطة ثوب ، وغير ذلك ممّا له اجرة ، واستثنى أصحابنا من جملة ذلك الإجارة ، وقالوا : لا يجوز ، لأنّه كان يختص بموسى عليه‌السلام ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا روى سهل بن سعد الساعدي أنّ امرأة أتت النبي عليه‌السلام ، فقالت : يا رسول الله انّي قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك فيها حاجة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل عندك من شي‌ء تصدقها إيّاه؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال النبيّ عليه‌السلام : إن أعطيتها إيّاه جلست ولا إزار لك ، فالتمس شيئا ، فقال : ما أجد شيئا ، فقال له رسول الله : هل معك من القرآن شي‌ء؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا ، وسماهما ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد زوجتكها بما معك من القرآن (١) ، وظاهره أنّه جعل القرآن الذي معه صداقا ، وهذا لا يمكن ، فثبت أنّه إنّما جعل الصداق تعليمها إيّاه ، وروى عطاء ، عن أبي هريرة ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لرجل : ما تحفظ من القرآن؟ قال : سورة البقرة ، والتي تليها ، قال : قم ، فعلّمها عشرين آية ، وهي امرأتك (٢) هذا آخر كلامه في مسائل خلافه.

قال محمّد بن إدريس : ما بين قوله رحمه‌الله في نهايته ، وبين قوله في مسائل خلافه ، تضاد ولا تناف ، لأنّه قال في نهايته : ولا يجوز العقد على اجارة « وهو أن يعقد الرجل على امرأة ، على أن يعمل لها أو لوليّها أياما معلومة ، أو سنين معيّنة » فأضاف العمل إليه بعينه ، على ما قدّمناه وحرّرناه ، فامّا قوله في مسائل خلافه : « يجوز أن يكون منافع الحر مهرا مثل تعليم قرآن ، أو شعر مباح ، أو بناء ، أو خياطة ثوب ، وغير ذلك ممّا له اجرة » يريد بذلك أن لا تكون الإجارة معيّنة بنفس الرجل ، بل تكون في ذمّته يحصّلها إمّا بنفسه ، أو بغيره ، وذلك جائز على ما بيّناه ، فليلحظ ذلك.

__________________

(١) مستدرك الوسائل الباب ٢ من أبواب المهور ، ح ٢.

(٢) الخلاف : كتاب الصداق : المسألة ٣.

٥٧٩

ولا يجوز نكاح الشغار بالشين والغين المعجمتين ، وهو أن يزوّج الرجل بنته أو أخته بغيره ، ويتزوّج بنت المزوّج أو أخته ، ولا يكون بينهما سوى تزويج هذا من هذه ، وهذه من ذاك ، ويجعلان المهر التزويج فحسب ، ومتى عقد على هذا كان العقد باطلا ، بغير خلاف بيننا ، لأنّه عقد منهي عنه ، والنهي بمجرده يقتضي فساد المنهي عنه.

وقال بعض محققي اللغويين : معنى شغر رجليه ، رفعهما ، أصله في الكلب إذا رفع رجله للبول ، فأمّا نكاح الشغار بالفتح ، والكسر ، فهو أن يزوج الرجل من هو وليّها ، من بنت أو غيرها ، رجلا غيره على أن يزوجه بنته بغير مهر ، وكانت العرب في الجاهلية ، يقول أحدهم للآخر : شاغرني ، أي زوجني حتى أزوجك ، وهو من رفع الرجل ، لأنّ النكاح فيه معنى الشغر ، فسمّى هذا العقد شغارا ومشاغرة ، لإفضائه في كلّ واحد من الزوجين إلى معنى الشغر ، وصار اسما لهذا النكاح ، كما قيل في الزنا سفاح ، لأنّ الزانيين يتسافحان الماء ، أي يسكبانه ، والماء هو النطفة ، ومن الشغر الذي هو رفع الرجل ، قول زياد لبنت معاوية التي كانت عند ابنه ، فافتخرت يوما عليه ، وتطاولت ، فشكاها إلى أبيه زياد ، فدخل عليها بالدرة ، فضربها ، ويقول لها : أشغرا وفخرا.

ويستحب في النساء ، تقليل المهور ، لما روي في ذلك من الآثار (١).

ويستحب أن لا يتجاوز بالمهر السنة المحمدية ، وهو خمسمائة درهم جياد ، وهو اثنتا عشرة أوقية ونش ، بالنون المفتوحة والشين المعجمة المشددة ، وهو عشرون درهما ، وهو نصف الأوقية من الدراهم ، لأنّ الأوقية من الدراهم عند أهل اللغة أربعون درهما ، فإني سألت ابن العصار ببغداد ، وهو إمام اللغة في عصره ، فأخبرني بذلك ، وقال : النش نصف الأوقية ، والأوقية من الدراهم أربعون درهما.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٥ من أبواب المهور.

٥٨٠