كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

لا يهاب ، فربما خرق بمجلسه بالمشاتمة ويكون فيه شدة من غير عنف ، ولين من غير ضعف ، فإن ذلك أولى بالمقصود.

ومتى حدثت حادثة ، فأراد أن يحكم فيها ، فإن كان عليها دليل من نص كتاب ، أو سنة مقطوع بها ، أو إجماع ، عمل عليه ، قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : وعندنا ان جميع الحوادث هذا حكمها ، فلا يخرج عنها شي‌ء ، قال رحمه‌الله : فإن شذت ، كانت مبقاة على الأصل (١).

وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه مذهبنا ، الذي لا يجوز العدول عنه.

وقال شيخنا أبو جعفر في الجزء الثاني من الإستبصار ، في باب البيّنتين إذا تقابلتا ، أورد أخبارا تتضمن أنّ قوما اختصموا في بغلة أو دابة ، وأنهم أنتجوها على مذودهم (٢).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : المذود ، بالميم ، والذال المعجمة ، والواو ، والدال غير المعجمة : المعلف ، والمربط ، وهو مشتق من ذدت الشي‌ء ، إذا حمى عنه ، وطرد عنه ، فهو مفعل من ذاد يذود ، فكأنما البهيمة تحمى وتطرد عن مربطها. ومعلفها ، قال الجاحظ في كتاب الحيوان : أورد في معنى البراغيث ، ثلاثة أبيات وهي :

هنيئا لأهل الري طيب بلادهم

وأنّ أمير الري يحيى بن خالد

بلاد إذا جنّ الظلام تقاقرت (٣)

براغيثها من بين مثنى وواحد

ديازجة سود الجلود كأنّها

بغال بريد أرسلت من مذاود (٤)

وقال المفضل بن سلمة في كتاب البارع : المرود بالراء ، موضع الذال ، الحبل الذي يرود فيه ، أي يذهب ويجي‌ء وأنشد بيتا يصف نشاط فرس :

قاظ بذي الآرى فالمنحنا

يقتلع الارىّ بالمرود

__________________

(١) المبسوط : ج ٨ ، كتاب آداب القضاء ، ص ٩٧.

(٢) الاستبصار : كتاب القضايا والأحكام الباب ٢٢ البينتان إذا تقابلتا ، ص ٣٨.

(٣) ج : تقاتلت ، وفي المصدر تقافزت.

(٤) الحيوان : ج ٥ ، ص ٣٩٠.

١٨١

قال يعني بالمرود مع المرود ، يعني قاظ (١) بهذين الموضعين ، والآري محبس الدابة.

باب كيفية الاستحلاف

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : قد بينا في كتاب الأيمان والنذور ما يجوز أن يحلف الإنسان به ، وما لا يجوز ، وما إذا حلف به كان حالفا ، وما لا يكون كذلك (٢).

قال محمّد بن إدريس : كتاب الأيمان والنذور في الجزء الثاني من نهايته ، فكيف يقول قد بيّنا ، وبعد ما وصل إليه ، ولا صنّفه؟ ، ولقائل أن يعتذر ويقول : أشار إلى الجملة التي يريد أن يعملها ، ويصنّفها ، وذلك جائز ، وكثيرا ما قالت ذلك العلماء في تصانيفهم ، ولأبي العباس ثعلب في أول الفصيح مثل هذا ، على ما يعتذر له ويقال ، ويجوز أيضا أنّه كان قد صنّفه قبل هذا ، لأنّه لا يمنع من ذلك مانع.

وينبغي للحاكم إذا أراد أن يحلف الخصم ، أن يخوّفه بالله تعالى ، ويذكره العقاب الذي يستحقه على اليمين الكاذبة ، والوعيد عليها ، فإن أنجع (٣) ذلك ، وراجع الحق ، حكم بما يقتضيه الحال ، مما يوجبه الشرع ، وإن أقام على الإنكار واليمين ، استحلفه بالله تعالى ، أو بشي‌ء من أسمائه ، مما تنعقد اليمين به.

ولا تنعقد اليمين عند أهل البيت عليهم‌السلام بشي‌ء من المحدثات من الكتب المنزلة ، ولا المواضع المشرفة ، ولا الرسل المعظمة ولا الأئمة المنتجبة ، فإنّ اليمين بجميع ذلك بدعة في شريعة الإسلام.

ولا يحلف بالبراءة من الله ، ولا من رسله ، ولا من أئمته ، ولا من الكتب ، ولا بالكفر ، ولا بالعتق ، ولا بالطلاق ، فانّ ذلك كله غير جائز ، وإن اقتصر على أن يقول له : قل ، والله ماله قبلي حقّ ، كان كافيا ، فإن أراد الزيادة في الردع والإرهاب ، قال له : قل والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب ، الضار ، النافع ، المدرك ، المهلك ، الذي يعلم من السر ما يعلمه من

__________________

(١) ج : يعني بالمرود فاظ.

(٢) النهاية كتاب الشهادات ، باب كيفية الاستحلاف.

(٣) ج : نجع.

١٨٢

العلانية ، ما لهذا المدّعي على ما ادّعاه ، ولا له قبلي حقّ بدعواه ، فإذا حلف فقد برئت ذمته من ظاهر الحكم ، إن كان كاذبا ، وإن كان صادقا فقد برئت ذمته ظاهرا وباطنا ، وكان المعرّض له آثما.

واستحلاف أهل الكتاب يكون أيضا بالله ، أو بشي‌ء من أسمائه ، وقد روي جواز أن يحلفوا بما يرون هم الاستحلاف به ، ويكون الأمر في ذلك إلى الحاكم ، وما يراه أنّه أردع لهم ، وأعظم عليهم (١).

ويستحب أن يكون الاستحلاف في المواضع المعظمة ، كالقبلة ، وعند المنبر ، والمواضع التي يرهب من الجرأة على الله تعالى.

وإذا أراد الحاكم أن يحلف الأخرس ، حلّفه بالإشارة والإيماء ، إلى أسماء الله سبحانه ، وتوضع يده على اسمه (٢) سبحانه في المصحف ، ويعرف يمينه على الإنكار ، كما يعرف إقراره وإنكاره ، كما قدّمنا القول في ذلك وشرحناه ، وإن لم يحضر مصحف ، وكتب اسم الله تعالى ، ووضعت يده عليه أيضا جاز.

وينبغي أن يحضر يمينه ، من له عادة بفهم أغراضه وإيمائه وإشارته ، وقد روي أنّه يكتب نسخة اليمين في لوح ، ثمّ يغسل ذلك اللوح ، ويجمع ذلك الماء ، ويؤمر بشربه ، فإن شرب ، كان حالفا ، وان امتنع من شربه ، ألزم الحق بعد ردّ اليمين على خصمه (٣) ، على ما قررناه في النكول.

ويمكن حمل هذه الرواية ، والعمل بها على أخرس ، لا يكون له كناية معقولة ، ولا إشارة مفهومة ، والأول على من يكون له ذلك ، على ما أسلفنا القول فيه.

وينبغي للحاكم أن لا يحلف أحدا إلا في مجلس الحكم ، فإن كان هناك من توجهت عليه اليمين ، ومنعه من حضور المجلس مانع ، من مرض ، أو عجز ، أو غير ذلك ، جاز للحاكم أن يستحلف من ينوب عنه ، في المضي إليه ، واستحلافه

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٢ من أبواب الأيمان ، ح ٤ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١٢.

(٢) ج : على اسم الله.

(٣) الوسائل : الباب ٣٣ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.

١٨٣

على ما تقتضيه شريعة الإسلام.

والمرأة إذا وجبت عليها اليمين ، استحلفها الحاكم في مجلس الحكم ، وعظّم عليها الأيمان ، فإن كانت المرآة لم تجر لها عادة بالخروج من منزلها ، إلى مجمع الرجال ، أو كانت مريضة ، أو بها علّة تمنعها من الخروج إلى مجلس القضاء ، أنفذ الحاكم إليها من ينظر بينها وبين خصمها ، من ثقاته وعدوله ، وأهل العلم والفقه عنده ، فإن توجهت عليها اليمين ، استحلفها في منزلها ، ولم يكلّفها الخروج إلى مجمع الرجال ، وإن توجّه عليها الحق ، ألزمها الخروج منه على ما يقتضيه شرع الإسلام ، وعدله ، فإن امتنعت من ذلك ، كان حكمها حكم الرجال ، وجاز له حبسها في الموضع الذي يجوز له حبس الرجال.

باب النوادر في القضاء والأحكام

روى أبو شعيب المحاملي ، عن الرفاعي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل قبل رجلا يحفر له بئرا عشر قامات ، بعشرة دراهم ، فحفر له قامة ، ثم عجز ، قال : يقسم عشرة ، على خمسة وخمسين جزءا ، فما أصاب واحدا ، فهو للقامة الأولة ، والاثنين للثانية ، والثلاثة للثالثة ، وعلى هذا الحساب إلى عشرة (١).

قال محمد بن إدريس : أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢) ، وقال في مبسوطة ، في الجزء الثالث في كتاب الإجارات ، قال : يجوز الاستيجار لحفر البئر ، غير أنّه لا يجوز حتى يكون المعقود عليه معلوما ، ويصير معلوما بأحد أمرين ، بتقدير المدة ، أو تقدير نفس العمل ، فأمّا المدة فيكفي أن يقول : اكتريتك لتحفر لي بئرا ، يوما أو عشرة ، وما يقدره ، لأنّ المعقود عليه ، يصير معلوما محددا (٣) بذلك المقدار ، وإن قدر العمل ، فلا بدّ من مشاهدة الأرض التي يريد

__________________

(١) الوسائل : كتاب الإجارة ، الباب ٣٥ ، ح ٢ ، لكن في المصدر : عن أبي شعيب المحاملي الرفاعي.

(٢) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.

(٣) ج : المحاملي.

١٨٤

أن يحفر فيها ، لأنّها تختلف في الرخاوة والصلابة ، ولا بدّ من تقدير العرض والعمق ، فيقول قدر عرضه كذا ذراعا ، وقدر عمقه كذا وكذا ذراعا ، وتقدير ذلك بالذراع الذي هو معتاد بين الناس ، كما يقول في المكيال ، فإذا استأجره على ذلك ، وأخذ يحفرها ، فانهار عليه الجرف ، فحصل تراب الجرف في البئر ، فانطم بعضها ، كان على المستأجر إخراجه ، ولا يجب على الأجير ، لأنّه ملك المستأجر ، حصل في تلك الحفرة ، فهو بمنزلة ما لو وقع فيها طعام له ، أو دابة له ، أو تراب من موضع آخر ، فإن وقع من تراب البئر فيها ، لزم الحفار إخراجه ، لأنّ ذلك ممّا تضمنه العقد ، لأنه استؤجر ليحفر ، ويخرج التراب ، فإن استقبله حجر نظرت ، فإن أمكن حفره ونقبه ، لزمه ، وإن كان عليه مشقة فيه ، لأنّه التزم الحفر بالعقد ، فيلزمه على اختلاف حاله ، وإن لم يمكن حفره ، ولا نقبه ، انفسخ العقد فيما بقي ، ولا ينفسخ فيما حفر ، على الصحيح من الأقوال ، قال رحمه‌الله : ويقسّط (١) على أجرة المثل ، لأنّ الحفر يختلف ، فحفر ما قرب من الأرض ، أسهل ، لأنّه يخرج التراب من قرب ، وحفر ما هو أبعد ، أصعب ، قال رحمه‌الله : نظر ، فإن كان اجرة المثل على ما بقي ، عشرة ، وفيما حفر خمسة ، أخذ ثلث المسمّى ، قال رحمه‌الله وقد روى (٢) أصحابنا في مثل هذا ، مقدار (٣) ذكرناه في النهاية (٤) قال رحمه‌الله : وعلى هذا إن نبع الماء قبل انتهاء الحد ، ولم يمكن الزيادة على الحفر ، فالحكم على ما ذكرناه ، في الحجر إذا استقبله ، ولم يمكن حفره ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (٥) ، أوردناه حرفا فحرفا.

والذي يقوى في نفسي ، ما أورده في مبسوطة ، واختاره ، لأنّ الأدلة تقتضيه ، والأخبار ، والاعتبار والنظر السليم ، يقويه ، ولا يرجع في مثل هذا

__________________

(١) ج : ويسقط.

(٢) الوسائل : الباب ٣٥ من أبواب أحكام الإجارة.

(٣) ج : مقدارا.

(٤) النهاية : في آخر كتاب القضاء باب جامع في القضايا والأحكام.

(٥) المبسوط : ج ٣ كتاب الإجارات ، ص ٢٣٧.

١٨٥

الموضع ، إلى أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، وقد ضعّفه شيخنا ، ولم يلتفت إليه ، وجعله رواية ، ولذلك أورده في أبواب النوادر في نهايته ، ولم يورده غيره من أصحابنا المتقدمين عليه ، لا شيخنا المفيد ، ولا السيد المرتضى ، ولا أمثالهما رحمهم‌الله جميعا.

وروى حماد بن عيسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أتى بعبد لذمي قد أسلم ، فقال : اذهبوا ، فبيعوه من المسلمين ، وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ، ولا تقرّوه عنده (١).

قال محمد بن إدريس : هذه رواية صحيحة ، تعضدها الأدلة ، وهو قوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (٢).

وروى حريز ( بالحاء غير المعجمة والراء والزاء ) عن أبي عبيدة زياد بن عيسى الحذاء ، قال : قلت لأبي جعفر ، وأبي عبد الله عليهما‌السلام : رجل دفع إلى رجل الف درهم ، يخلطها بماله ، ويتّجر بها ، قال : فلمّا طلبها منه ، قال : ذهب المال ، وكان لغيره معه مثلها ، ومال كثير لغير واحد ، فقال : كيف صنع أولئك؟ قال : أخذوا أموالهم ، فقال أبو جعفر ، وأبو عبد الله عليهما‌السلام جميعا : يرجع عليه بماله ، ويرجع هو على أولئك بما أخذوا (٣).

قال محمد بن إدريس : هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٤) ، ووجه الفقه والفتيا عندي على تسليم الخبر ، أنّ الأول دفع المال إليه ، فخلطه بغيره ، فلمّا خلطه يغيره ، فرّط فيه بالخلط ، فضمنه ، وأصحاب الأموال الباقية ، خلط أموالهم بإذنهم ، والأول خلط ماله في أموالهم بغير إذنه ، فيجب عليه الضمان ، للأول جميع ماله ، فلمّا أخذ أصحاب الأموال الذين أذنوا في الخلط ، ورضوا به ،

__________________

(١) الوسائل : الباب ٧٣ من أبواب العتق ، ح ١.

(٢) النساء : ١٤١.

(٣) الكافي : كتاب القضاء ، باب النوادر ، الحديث ١٦ ، ج ٧ ، ص ٤٣١. التهذيب : ج ٦ ، باب الزيادات في القضاء الحديث ٦ / ٧٩٩ ، ص ٢٨٨. الوسائل : الباب ٦ من أبواب الحجر ، ح ٢.

(٤) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.

١٨٦

أموالهم على التمام والكمال ، فقد أخذوا ما لم يكن لهم ، بل الواجب تسليم مال من لم يأذن بالخلط على الكمال ، ويدخل النقصان والخسران على الباقين ، فلمّا أخذوا المال ، رجع صاحب المال الذي لم يأذن بالخلط ، على المضارب المفرّط بالخلط ، بجميع ماله ورجع المضارب على من أخذ المال بقدر ما غرم.

وقوله في الخبر : يخلطها بماله ويتجربها ، المعنى فيه خلطها بماله ، واتجر بها ، وإن كان أتى به بلفظ الاستقبال ، فقد يأتي المستقبل بمعنى الماضيّ والماضي بمعنى المستقبل (١) وهذا كثير في كلام العرب والقرآن ، قال الله تعالى « وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ » (٢) معناه وينادي ، وقال الشاعر :

وانضخ جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون اخادم وذبائح

معناه فلقد كان ، بغير شك ، هذا فقه الحديث.

محمد بن إسماعيل ، عن جعفر بن عيسى ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام ، جعلت فداك ، المرأة تموت ، فيدّعي أبوها ، أنّه أعارها بعض ما كان عندها من متاع ، وخدم ، أيقبل دعواه بلا بيّنة ، أم لا تقبل دعواه إلا ببيّنة؟ فكتب إليه يجوز بلا بينة (٣).

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : أول ما أقول في هذا الحديث ، أنّه خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وفيه ما يضعفه ، وهو أنّ الكاتب الراوي للحديث ، ما سمع الإمام يقول هذا ، ولا شهد عنده شهود ، أنّه قاله ، وافتى به ، ولا يجوز أن يرجع إلى ما يوجد في الكتب ، فقد يزوّر على الخطوط ، ولا يجوز للمستفتي أن يرجع إلا إلى قول المفتي ، دون ما يجده بخطه ، بغير خلاف ، من محصل ضابط لأصول الفقه.

ولقد شاهدت جميعة من متفقهة أصحابنا ، المقلدين لسواد الكتب ،

__________________

(١) ج : المستقبل بمعنى الماضي

(٢) الأعراف : ٤٨.

(٣) الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.

١٨٧

يطلقون القول بذلك ، وأنّ أبا الميتة ، لو ادّعى كلّ المتاع ، وجميع المال ، كان قوله مقبولا بغير بينة ، وهذا خطأ عظيم ، في هذا الأمر الجسيم ، لأنّه إن كانوا عاملين بهذا الحديث ، فقد أخطأوا من وجوه ، أحدها أنه لا يجوز العمل عند محصّلي أصحابنا بأخبار الآحاد ، على ما كررنا القول فيه ، واطلناه (١).

والثاني ، من يعمل بأخبار الآحاد ، لا يقول بذلك ، ولا يعمل به ، إلا إذا سمعه الراوي من الشارع.

والثالث أنّ الحديث ما فيه أنّه ادّعى أبوها جميع متاعها وخدمها ، وانما قال بعض ما كان عندها ، ولم يقل جميع ما كان عندها.

ثم إنّه مخالف لأصول المذهب ، ولما عليه إجماع المسلمين ، انّ المدّعي لا يعطى بمجرّد دعواه ، والأصل براءة الذمة ، وخروج المال من مستحقه ، يحتاج إلى دليل ، والزوج يستحق سهمه ، بعد موتها بنص القرآن ، فكيف يرجع عن ظاهر التنزيل ، بأخبار الآحاد ، وهذا من أضعفها ، ولا يعضده كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، فإذا خلا من هذه الوجوه ، بقي في أيدينا من الأدلة ، أنّ الأصل براءة الذمة ، والعمل بكتاب الله ، وإجماع الأمة ، على أنّ المدّعي لا يعطى بمجرّد دعواه.

ثمّ لم يورد هذا الحديث إلا القليل من أصحابنا ، ومن أورده في كتابه ، لا يورده إلا في باب النوادر ، وشيخنا المفيد ، والسيد المرتضى ، لم يتعرضا له ، ولا أورداه في كتبهما ، وكذلك غيرهما من محقّقي أصحابنا ، وشيخنا أبو جعفر رحمه‌الله ما أورده في جميع كتبه ، بل في كتابين منها فحسب ، إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله من غير اعتقاد لصحته ، على ما بيّناه ، وأوضحناه ، في كثير مما تقدّم ، في كتابنا هذا.

ثم شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله رجع عنه وضعفه ، في جوابات المسائل الحائريات (٢) المشهورة عنه ، المعروفة.

__________________

(١) ج : وأطلقناه.

(٢) المسائل الحائريات : ص ٢٨٧ ، الطبع الحديث ، وفي ذيل الصفحة نقلا عن النسختين زيادة

١٨٨

وقد ذكر شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان ، رحمه‌الله في الرد على أصحاب العدد ، الذاهبين إلى أنّ شهر رمضان لا ينقض ، قال : فأمّا ما تعلّق به أصحاب العدد ، في أنّ شهر رمضان لا يكون أقل من ثلاثين يوما ، فهي أحاديث شاذة ، قد طعن نقاد الآثار من الشيعة الإمامية في سندها ، وهي مثبتة في كتب الصيام ، في أبواب النوادر ، والنوادر هي التي لا عمل عليها ، هذا آخر كلام المفيد رحمه‌الله. وهذا الحديث من أورده في كتابه ، ما يثبته إلا في أبواب النوادر.

ثم يحتمل بعد تسليمه وجها صحيحا ، وهو يجوز بلا بينة ، المراد به الاستفهام ، وأسقط حرفه ، كما قال عمرو بن أبي ربيعة المخزومي :

ثم قالوا تحبها قلت بهرا

عدد القطر والحصى والتراب

ويحتمل أيضا أنّه أراد بذلك ، التهجين والذم ، لمن يرى عطية ذلك بغير بيّنة ، بل بمجرد دعوى الأب ، كما قال تعالى ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) (١) عند قومك وأهلك ، فهذان وجهان صحيحان ، يحتملهما الكلام ، إذا سلّم تسليم جدل.

قال : وكتبت إليه ، إن ادّعى زوج المرأة الميتة ، وأبو زوجها ، أو أم زوجها ، من متاعها ، أو خدمها ، مثل الذي ادّعى أبوها ، من عارية بعض المتاع ، أو الخدم أيكونون بمنزلة الأب في الدعوى ، فكتب : لا.

وروى محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن يزيد (٢) بن إسحاق ، عن هارون بن حمزة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل استأجر أجيرا ، فلم يأمن أحدهما صاحبه ، فوضع الأجر على يد رجل ، فهلك ذلك الرجل ، ولم يدع وفاء ، فاستهلك الأجر فقال : المستأجر ضامن لأجرة الأجير حتى يقضي ، إلا أن يكون الأجير دعاه إلى ذلك ، فرضي بالرجل ، فان فعل ، فحقّه حيث وضعه ورضى به (٣)

__________________

« يتم الاستدلال معها ».

(١) الدخان : ٤٩.

(٢) ج : زيد.

(٣) الوسائل : الباب ٦ من كتاب الإجارة ، ح ١.

١٨٩

قال محمّد بن إدريس : فقه ذلك : انّ المستأجر إذا لم يقبض الأجير الأجرة ، ولا وكيل الأجير ، فهو ضامن لها ، إلى أن يقبضها الأجير ، أو وكيله ، ومن وضعها على يده فهو وكيل للمستأجر ، دون الأجير ، فلأجل هذا كان ضامنا لها ، لأنّ الأجير لو طلبها ممّن سلّمت إليه ، لم يسلمها فأمّا إذا (١) تسلّمها الأجير ، أو أمر المستأجر أن يسلّمها إلى شخص ، رضيه ، وهلكت ، فإنّها تكون من مال الأجير تهلك ، دون مال المستأجر ، لأنّه لو طلبها ، لم يجز لمن هي عنده أن يسلّمها إليه.

وروى محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، برد الحبيس ، وإنفاذ المواريث (٢).

قال محمّد بن إدريس : سألني شيخنا محمود بن علي بن الحسين الحمصي (٣) المتكلّم الرازي ، رحمه‌الله ، عن معنى هذا الحديث ، وكيف القول فيه؟ فقلت : الحبيس معناه ، الملك المحبوس على بنى آدم ، من بعضنا على بعض ، مدة حياة الحابس ، دون حياة المحبوس عليه ، فإذا مات الحابس ، فإنّ الملك المحبوس ، يكون ميراثا لورثة الحابس ، وينحل حبسه على المحبوس عليه ، فقضى عليه‌السلام ، بردّه إلى ملك الورثة ، لأنّه ملك مورثهم ، وانّما جعل منافعه مدة حياته للمحبوس عليه ، دون رقبته ، فلمّا مات بطل ما كان جعله له ، وزال الحبس عنه ، فهو ملك من أملاكه ، فترثه ورثته عنه ، بعد موته ، كما ترث سائر أملاكه ، فأنفذ المواريث عليه‌السلام فيه ، على ما تقتضيه شريعة الإسلام.

فأمّا إذا كان الحبيس ، على مواضع قرب العبادات ، مثل الكعبة والمشاهد ، والمساجد ، فلا يعاد إلى الأملاك ، ولا ينفذ فيه المواريث ، لأنّه بحبسه على هذه المواضع ، خرج عن ملكه ، عند أصحابنا ، بغير خلاف بينهم فيه ، فلأجل هذا قلنا :

__________________

(١) ج : فإذا.

(٢) الوسائل : الباب ٥ من أبواب أحكام السكنى والحبيس ، ح ١.

(٣) قال الأردبيلي « رحمه‌الله » في جامع الرواة : علامة زمانه في الأصولين ، ورع ثقة ، له تصانيف إلخ.

١٩٠

« على بني آدم بعضنا على بعض » ، احترازا من الحبيس الذي على مواضع العبادات.

فأعجبه ذلك ، وقال : كنت أتطلّع (١) على المقصود فيه ، وحقيقة معرفته ، وكان منصفا ، غير مدع لما لم يكن عنده معرفة حقيقته ، ولا من صنعته ، وحقا ما أقول : لقد شاهدته على خلق قل ما يوجد في أمثاله ، من عوده إلى الحق ، وانقياده الى ربقته ، وترك المراء ونصرته ، كائنا من كان صاحب مقالته ، وفقه الله وإيّانا لمرضاته وطاعته.

وروى يونس بن عبد الرحمن عن منصور بن حازم ( بالحاء غير المعجمة ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت عشرة كانوا جلوسا ، ووسطهم كيس ، فيه عشرة ألف (٢) درهم ، فسأل بعضهم بعضا ، ألكم هذا الكيس ، فقالوا كلهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو ، قال للذي ادّعاه (٣).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : فقه هذا الحديث صحيح ، وليس هذا ممّا أخذه لمجرد دعواه ، وانّما لم يثبت له صاحب سواه ، واليد على ضربين ، يد مشاهدة ، ويد حكمية ، فهذا يده عليه يد حكمية ، لأنّ كلّ واحد منهم نفى (٤) يده عنه ، وبقي يد من ادّعاه عليه يد حكمية ، ولو قال كل واحد من الجماعة في دفعة واحدة ، أو متفرقا هو لي ، لكان الحكم فيه غير ذلك ، وكذلك لو قبضه واحد من الجماعة ، ثم ادّعاه غيره ، لم يقبل دعواه بغير بيّنة ، لأنّ اليد المشاهدة عليه ، لغير من ادّعاه ، والخبر الوارد في الجماعة ، أنّهم نفوه عن أنفسهم ، ولم يثبتوا لهم عليه يدا لا من طريق الحكم ، ولا من طريق المشاهدة ، ومن ادّعاه له عليه يد من طريق الحكم ، فقبلنا دعواه فيه ، من غير بيّنة ، ففقهه ما حرّرناه ، وأيضا إنّما قال ادّعاه ، من حيث اللغة ، لأنّ الدعوى الشرعية ، من ادّعى في يد غيره ، عينا أو دينا.

وروى محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب ، عن الحسن بن مسكين ، عن رفاعة النخاس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا طلّق الرجل امرأته ، وفي بيتها

__________________

(١) ج : لم أطّلع.

(٢) ج : فيه ألف.

(٣) الوسائل : الباب ١٧ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.

(٤) ج : كلّ واحد نفى.

١٩١

متاع ، فلها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء ، قسم (١) بينهما ، وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أن المتاع لها ، وادّعى أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء (٢).

قال محمّد بن إدريس : هكذا أورده شيخنا في نهايته (٣) ، وليس بين المسألتين تناف ، ولا تضاد ، أمّا القول في صدر الخبر : وفي بيتها متاع : فلها ما يكون للنساء ، أي ما يصلح للنساء ولا يصلح للرجال ، فهو عند أصحابنا للمرأة ، من غير مشاركة الرجال فيه ، بل تعطاه بمجرد دعواها ، مع يمينها.

وقوله بعد ذلك : وما يكون للرجال وللنساء ، المراد به ما يصلح للرجال والنساء ، يكون بينهما نصفين ، لأنّ (٤) يديهما عليه.

ولم يذكر فيه ما يصلح للرجال ، ويكون للرجال دون النساء ، بل ذكر قسمين فحسب : أحدهما (٥) ما يكون للنساء ، لا يشركهن الرجال فيه ، والآخر ما يكون للرجال والنساء ، قسم بينهما.

ثم قال في آخر الكلام : وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أنّ المتاع لها ، وادّعى أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء ، لا يشرك كل واحد منهما الآخر ، فيما لا يصلح إلا له ، فذكر قسمين فحسب ، ولم يذكر الثالث ، وهو الذي يصلح للرجال والنساء معا ، بل ذكره في صدر الكلام ، فالثالث يكون بينهما نصفين ، على ما قدّمناه (٦) وذكره أولا ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي ، يذهب في كتاب الاستبصار (٧) ، ويعمل بان المتاع جميعه للمرأة ، وأورد اخبارا في ذلك في صدر الباب ، ثم قال في آخر الباب : فأمّا ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى ،

__________________

(١) ج : فيقسم.

(٢) الوسائل : كتاب الفرائض والمواريث ، الباب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ، ح ٤.

(٣) النهاية : باب جامع في القضايا والأحكام ، لكن في المصدر : الحسين بن مسكين.

(٤) ج : بينهما ، لأنّ.

(٥) ج : قسمين : أحدهما.

(٦) ل : ما قدمنا ذكره.

(٧) الاستبصار : كتاب القضايا والأحكام ، باب اختلاف الرجل والمرأة في متاع البيت. وفي الوسائل أورد الخبر في الباب ٩ من أبواب ميراث الأزواج ، ح ٤.

١٩٢

عن محمد بن الحسين ، عن الحسن بن مسكين ، عن رفاعة النخاس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إذا طلّق الرجل امرأته ، وفي بيتها متاع ، فلها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء قسم بينهما ، قال : وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أنّ المتاع لها ، وادّعى الرجل أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء (١) قال رحمه‌الله : فهذا الخبر يحتمل شيئين ، أحدهما أن يكون محمولا على التقية ، لأنّ ما أفتى به عليه‌السلام ، في الأخبار الأوّلة ، يعني رحمه‌الله في الأخبار التي أوردها بأنّ المال جميعه للمرأة ، لا يوافق عليه أحد من العامة ، وما هذا حكمه ، يجوز أن يتقى فيه ، قال رحمه‌الله : والوجه الآخر أن نحمله على أن يكون ذلك على جهة الصلح ، والوساطة بينهما ، دون مرّ الحكم (٢).

قال محمد بن إدريس : وخبر رفاعة هو مذهب شيخنا في نهايته (٣) ، وفي مسائل خلافه ، في الجزء الثالث ، فإنّه قال : مسألة ، إذا اختلف الزوجان في متاع البيت ، فقال كل واحد منهما كله لي ، ولم يكن مع واحد منهما بينة ، نظر فيه ، فما يصلح للرجال ، القول قوله ، مع يمينه ، وما يصلح للنساء ، فالقول قولها مع يمينها ، وما يصلح لهما ، كان بينهما ، وقد روي ، أنّ القول في جميع ذلك ، قول المرأة مع يمينها ، والأول أحوط ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقد أوردناها في الكتابين المقدّم ذكرهما (٤).

فجعل رحمه‌الله : ما أورده في الإستبصار ، في الأخبار الكثيرة ، وجعله مذهبا له ، واختاره رواية في مسائل خلافه ، وما اختاره في مسائل خلافه ، رواية في استبصاره ، ثم دلّ على صحّته بإجماع الفرقة ، وكذلك يذهب في مبسوطة ، إلى ما يذهب إليه في مسائل خلافه ، من مقالة أصحابنا ورواياتهم ، ويحكى الرواية الشاذة التي اختارها ، مذهبا في استبصاره.

__________________

(١) راجع المصدر السابق.

(٢) ج : مرّ الحق.

(٣) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.

(٤) الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسألة ٢٧.

١٩٣

والذي يقوى عندي ، ما ذهب إليه في مسائل خلافه ، لأنّ عليه الإجماع ، وتعضده الأدلة ، لأنّ ما يصلح للنساء ، الظاهر أنّه لهن ، وكذلك ما يصلح للرجال ، فأمّا ما يصلح للجميع ، فيداهما معا عليه ، فيقسم بينهما ، لأنّه ليس أحدهما أولى به من الآخر ، ولا يترجح أحدهما على الآخر ، ولا يقرع هاهنا ، لأنه ليس بخارج عن أيديهما ، وانّما لو كان في يد ثالث ، وأقام كل واحد منهما البينة ، وتساوت البينتان في جميع الوجوه ، كان الحكم فيه القرعة ، لأنّه ليس هو في (١) أيديهما.

وروى علي بن محمد القاساني ، عن القسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، بكسر الميم ، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، منسوب إلى دارابجرد.

قال محمّد بن إدريس : هكذا ذكره ابن قتيبة ، والزجاج ، قالا : إنّهم (٢) إذا نسبوا إلى دارابجرد ، قالوا : دراوردي ، وقال غيرهما : هو منسوب إلى دراورد ، قرية بخراسان ، وهو مولى بلّى ، وبلّى قبيلة من العرب ، والنسب إليها بلوي ) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عمّن أخذ أرضا بغير حقها ، وبنى فيها ، قال : يرفع بناءه ، ويسلّم التربة إلى صاحبها ، ليس لعرق ظالم حق (٣).

قال محمّد بن إدريس : يقال العرق بكسر العين ، وتسكين الراء ، ولا يجوز بفتح العين والراء ، لأنّ ذلك تصحيف ، وأنما يقال مضافا إلى ظالم ، ومنفصلا عنه ، بالتنوين ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة.

وروى عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن علي عليهم‌السلام ، أنّه قضى في رجلين ، اختصما في خصّ ، فقال : إنّ الخص ، للذي إليه القمط (٤).

وقالوا : القمط ، هو الحبل ، والخص الطن ، الذي يكون في السواد ، بين

__________________

(١) ج : ليس في.

(٢) ج : لأنّهم.

(٣) الوسائل : الباب ٣ من أبواب الغصب ، ح ١.

(٤) الوسائل : الباب ١٤ من أبواب أحكام الصلح ، ح ٢.

١٩٤

الدور ، فكان من إليه الحبل ، هو أولى من صاحبه ، وهذا هو الصحيح ، لأنّ عليه إجماع أصحابنا.

وروى الحسن (١) بن عليّ بن يقطين ، عن أميّة بن عمرو ، عن الشعيري ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام ، عن سفينة انكسرت في البحر ، فاخرج بعضه بالغوص ، وأخرج البحر بعض ما غرق فيها ، فقال : أمّا ما أخرجه البحر ، فهو لأهله ، الله أخرجه ، وأمّا ما اخرج بالغوص ، فهو لهم ، وهم أحق به (٢).

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله : وجه الفقه في هذا الحديث ، أنّ ما أخرجه البحر ، فهو لأصحابه وما تركه أصحابه ، آيسين منه ، فهو لمن وجده ، وغاص عليه ، لأنّه صار بمنزلة المباح ، ومثله من ترك بعيره من جهد ، في غير كلاء ولا ماء ، فهو لمن أخذه ، لأنّه حلاه آيسا منه ورفع يده عنه ، فصار مباحا ، وليس هذا قياسا ، لأنّ مذهبنا ترك القياس ، وانّما هذا على جهة المثال ، والمرجع فيه إلى الإجماع ، وتواتر النصوص ، دون القياس والاجتهاد ، وعلى الخبرين إجماع أصحابنا منعقد.

وروى ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن جماعة من أصحابنا ، عنهما عليهما‌السلام ، قال : الغائب يقضى عليه ، إذا قامت عليه البيّنة ، ويباع ماله ، ويقضى عنه دينه ، وهو غائب ، ويكون الغائب على حجته ، إذا قدم ، قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة ، إلا بكفلاء (٣).

وقد قدّمنا ذلك وشرحناه (٤).

وروى محمّد بن يحيى الخزاز ، عن غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، أن عليّا عليه‌السلام ، كان يفلس الرجل ، إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر به فيقسم (٥) ماله بينهم بالحصص ، فإن أبى ، باعه فقسّمه بينهم ، يعني ماله (٦).

__________________

(١) ج : الحسين.

(٢) الوسائل : الباب ١١ من أبواب اللقطة ، ح ٢.

(٣) الوسائل : الباب ٢٦ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.

(٤) كتاب الديون ، ص.

(٥) ج : التوى عن غرمائه : ثمّ يأمره فيقسم.

(٦) الوسائل : الباب ٦ من أبواب أحكام الحجر ، ح ١.

١٩٥

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : معنى التوى ، أي دافع ومطل ، قال الشاعر : « تديمين ليّاني وأنت ملية » أي تديمين مطلي.

عنه عن غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، أنّ عليا عليه‌السلام ، كان يحبس في الدين ، فإذا تبيّن إفلاس وحاجة ، خلّى سبيله ، حتى يستفيد مالا (١).

وروى السكوني ، بفتح السين ( قال محمّد بن إدريس ، منسوب إلى السكون ، قبيلة من اليمين ، واسمه إسماعيل بن أبي زياد ، وهو عامي المذهب ، إلا أنّه يروي عن الأئمة عليهم‌السلام ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن علي عليه‌السلام ، أنّ امرأة استعدت على زوجها ، أنّه لا ينفق عليها ، وكان زوجها معسرا ، فأبى أن يحبسه ، وقال : إنّ مع العسر يسرا (٢).

وعنه ، عن جعفر ، عن أبيه ، أنّ عليا عليه‌السلام ، كان يحبس في الدين ، ثم ينظر ، إن كان له مال ، أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مال ، دفعه إلى الغرماء ، فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم فآجروه ، وإن شئتم استعملوه ، وذكر الحديث (٣) ، قال محمد بن إدريس : هذا الخبر غير صحيح ، ولا مستقيم ، لأنّه مخالف لأصول مذهبنا ، ومضاد لتنزيل الكتاب ، قال تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (٤) ولم يذكر استعملوه ، ولا فاجروه وانّما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٥) إيرادا ، لا اعتقادا.

وقد رجع في مسائل الخلاف ، فقال : مسألة ، إذا أفلس من عليه الدين ، وكان ما في يده لا يفي بقضاء ديونه ، فإنّه لا يواجر ، ليكتسب ، ويدفع إلى الغرماء ، ثم قال : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، ولا دليل على وجوب إجارته ، وأيضا قوله تعالى « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » ولم يأمر بالتكسب ،

__________________

(١) و (٢) و (٣) الوسائل : الباب ٧ من أبواب أحكام الحجر ، ح ١ و ٢ و ٣.

(٤) البقرة : ٢٨٠.

(٥) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.

١٩٦

هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني (١).

وروى أبو بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة ، وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه ، إن شاء حاكم بينهم (٢) ، وإن شاء تركهم (٣).

هذا الخبر صحيح ، وعليه إجماع أصحابنا من عقد ، لأنّ الحاكم بالخيار في ذلك ، إن شاء حكم ، وإن شاء ترك ، ولا يجب عليه الحكم ، إلا أنّه إن حكم ، فلا يجوز له أن يحكم إلا بما تقتضيه شريعة الإسلام وعدله ، ولا يجوز له أن يحكم إلا بالحق ، لقوله تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (٤) وإن شاء أعرض عنهم لقوله تعالى ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (٥) فقد خيره في ذلك.

وروى طلحة بن زيد ، والسكوني جميعا ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي عليه‌السلام ، أنّه كان لا يجير كتاب قاض إلى قاض ، في حدّ ، ولا غيره ، حتى وليت بنو أمية ، فأجازوا بالبينات (٦).

قوله : فأجازوا بالبينات يريد بذلك ، أنّ هذا كتاب فلان القاضي ، لا أن (٧) المقصود أجازوا الأحكام بالبيّنات ، وقد بيّنا ، أنّه لا خلاف بين أصحابنا ، سلفهم وخلفهم ، بل إجماعهم منعقد ، على أنّه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض ، ولا يعمل به ، ولا يحكم ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وأيضا فلا يجوز للحاكم الثاني ، والقاضي الثاني ، أن يقلد القاضي الأول ، بل يجب عليه أن يحكم بالحق ، وإقامة البينة ، أو الإقرار ، وما ثبت من ذلك عنده ، دون ما ثبت عند غيره.

__________________

(١) الخلاف : كتاب التفليس مسألة ١٥.

(٢) ج : حكم بينهم.

(٣) الوسائل : الباب ٢٧ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.

(٤) المائدة : ٤٧.

(٥) المائدة : ٤٢.

(٦) الوسائل : الباب ٢٨ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.

(٧) ج : لأن.

١٩٧

فأمّا ما يدّعي من كتب الرسول عليه‌السلام ، إلى البلدان ، فجميع ذلك أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، وما عمل بالكتاب ، بل بالتواتر ، بما في الكتاب دونه ، إن كان عمل بشي‌ء من ذلك ، على ما بيّناه.

وروى هارون بن حمزة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قلت رجلان من أهل الكتاب نصرانيان ، أو يهوديان ، كان بينهما خصومة ، فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجوز ، فأبى الذي قضى عليه أن يقبل ، وسأل أن يرد إلى حكم المسلمين ، قال : يرد إلى حكم المسلمين (١).

قال محمّد بن إدريس : إن كان قد قضى عليه بما هو صحيح في مذهبهم ، فقد أمرنا أن نقرهم على أحكامهم ، فلا يجوز لنا أن نفسخ حكمهم عليهم ، ولا نردّه عليهم ، ولا نجيبه إلى دفعه عن نفسه ، وإن كان قد قضى عليه بجوز على مذهبهم ، فنردّه ، ويسلّم ظاهر الحديث ، لأنّا ما أمرنا أن نقرهم ، إلا على أحكامهم ، وما يجوز عندهم ، دون ما لا يجوز ، ويعضد ما قلناه ، قوله في الحديث : قضى بينهما حاكم من حكامهما بجور ، وما يكون حقا عندهم ، ما يكون جورا على المحكوم عليه ، بل هو عنده حقّ وصواب.

وروى حريز ( بالحاء غير المعجمة ، وآخر الاسم زاي ) عن محمد بن مسلم ، وزرارة ، عنهما جميعا قال : لا يحلف أحد عند قبر النبيّ عليه‌السلام على أقل ممّا يجب فيه القطع (٢).

قال محمّد بن إدريس : هذا على جهة التغليظ ، فانّ الحاكم ، لا يلزمه أن يحلف هناك ، إلا إذا كانت الدعوى مقدار ربع دينار ، فإن كان أقل من ذلك ، فلا يلزمه أن يحلف هناك.

وروى عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ،

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٧ من أبواب كيفية الحكم ، ح ٢ ثمّ ان جواب الإمام لم يذكر في نسخة الأصل.

(٢) الوسائل : الباب ٢٩ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.

١٩٨

قال : قلت له جعلت فداك ، في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال : في ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة ، قلت : فإنّه لم يحتلم ، فيها ، قال : وإن لم يحتلم ، فإنّ الأحكام تجري عليه (١).

قال محمّد بن إدريس : قد ورد هذا الحديث ، وهو من أخبار الآحاد ، والاعتماد عند أصحابنا على البلوغ في الرجال ، وهو إما الاحتلام ، أو الإنبات في العانة ، أو خمس عشرة سنة ، وفي النساء الحيض ، أو الحمل ، أو تسع سنين ، فانّ شيخنا أبا جعفر رحمه‌الله ، أورد هذا الحديث في نهايته (٢) إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّه أورده في باب النوادر ، ورجع عنه في سائر كتبه ، وذهب إلى أنّ حد بلوغ النساء المحيض ، أو الحمل ، أو تسع سنين.

وروى أبو بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل ، دبّر غلامه ، وعليه دين ، فرارا من الدين ، قال : لا تدبير له ، وإن كان دبّره في صحّة منه وسلامة ، فلا سبيل للديان عليه (٣).

قال محمّد بن إدريس : قد أورد هذا الحديث شيخنا أبو جعفر في نهايته (٤). والذي عندي أنّ التدبير الذي لا عن نذر ، عند أصحابنا بمنزلة الوصية ، لا خلاف بينهم في ذلك (٥) ، فعلى هذا التقرير والتحرير ، سواء دبّره في حال صحة منه وسلامة ، أو غير ذلك ، فإنّه يباع في الدين ، ويبطل التدبير ، وهذا خبر واحد ، أورده شيخنا ، إيرادا ، لا اعتقادا.

وقال بعض أصحابنا ، وهو صاحب كتاب الفاخر قال : ومن دبّر عبدا لا مال

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤٥ من أبواب أحكام الوصايا ، ح ٣.

(٢) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.

(٣) الوسائل : الباب ٩ من أبواب التدبير ، ح ٢.

(٤) النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.

(٥) ج : في ذلك ، وإجماعهم منعقد على ذلك.

١٩٩

له غيره ، وعليه دين ، فدبره في صحة منه ، ومات ، فلا سبيل للديان عليه ، فإن كان دبّره في مرضه ، بيع العبد في الدين ، فإن لم يحط الدين بثمن العبد ، استسعى في قضاء دين مواليه ، وهو حرّ إذا تممه ، هذا آخر كلامه ، وقد قلنا ما ما عندنا في ذلك ، وهو أنّه لا تدبير إلا بعد قضاء الدين ، سواء دبّره وعليه دين ، أو لم يكن عليه دين ، وسواء دبّره في حال مرضه ، أو صحّته.

وروى غياث بن كلوب ، عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه أن عليا عليه‌السلام ، كان يقول : لا ضمان على صاحب الحمام ، فيما ذهب (١) من الثياب ، لأنّه إنّما أخذ الجعل (٢) على الحمام ، ولم يأخذ على الثياب (٣).

قال محمّد بن إدريس : هذا خبر صحيح ، لأنّ الإجماع منعقد من أصحابنا عليه ، هذا إذا لم يستحفظه الثياب ، فأمّا إن استحفظه ، وفرّط في الحفاظ ، فعليا الضمان ، لأنّه صار مودعا ، وكذلك إذا استأجره على حفظ الثياب ، ودخول الحمام ، فإنّه يجب عليه حفاظها ، فإذا فرط في ذلك ، فإنّه يجب عليه الضمان ، فأمّا إذا لم يستحفظه ، ولا استأجره على حفظها ، فلا ضمان عليه ، كما ورد في الحديث.

وروى عبد الرحمن بن سيابة ( بالسين غير المعجمة والياء بنقطتين من تحت ، والباء بنقطة واحدة من تحت ، مفتوحة السين ، والياء خفيفة ، وهي الخلالة ، فسمى الرجل باسمها ) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنّه قال : على الإمام ، إن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ، ويوم العيد إلى العيد ، فيرسل معهم ، فإذا قضوا الصلاة والعيد ، ردّهم إلى السجن (٤).

وروي هذا الحديث غير متواتر ، فإن كان عليه إجماع منعقد ، رجع اليه ، أو دليل سوى الإجماع ، عوّل عليه ، ولا يرجع إلى أخبار الآحاد في مثل هذا.

__________________

(١) ل : يذهب.

(٢) ج : يأخذ الجعل.

(٣) الوسائل : الباب ٣٠ من أبواب كيفية الحكم ، ح ٢.

(٤) الوسائل : الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم ، ح ٢.

٢٠٠