كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

ويكره تبييت العدوّ ليلا ، وانّما يلاقون بالنهار ، وهذا مع الاستظهار ، على ما قدّمناه.

ويستحب أن لا يؤخذ في القتال إلا بعد زوال الشمس ، فإن اقتضت المصلحة تقديمه قبل ذلك ، فلا بأس.

ولا يجوز التمثيل بالكفار ، ولا الغدر بهم ، ولا الغلول (١) منهم.

ولا ينبغي تغريق المساكن والزروع ، ولا قطع الأشجار المثمرة في أرض العدو ، والإضرار (٢) بهم ، إلا عند الحاجة الشديدة إلى ذلك ، على ما أسلفنا القول فيه وشرحناه.

وقال بعض أصحابنا (٣) إنّه ليس للأعراب من الغنيمة شي‌ء ، وإن قاتلوا مع المهاجرين ، وهذه رواية شاذّة ، مخالفة لأصول مذهب أصحابنا ، أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الزيادات (٤) ، وهذا يدلّ على وهنها عنده ، لأنّه لا خلاف بين المسلمين أن كل من قاتل من المسلمين ، فإنّه من جملة المقاتلة ، وانّ الغنيمة للمقاتلة ، وسهمه ثابت في ذلك ، فلا يخرج من هذا الإجماع ، إلا بإجماع مثله ، أو دليل مكاف له ، ولا يرجع فيه إلى أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ومن له إقامة الحدود والقضاء والحكم بين المختلفين ومن ليس له ذلك

الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان بلا خلاف بين الأمة ، وإنما الخلاف في أنّهما هل يجبان عقلا أو سمعا؟ فقال الجمهور من المتكلمين والمحصّلين من الفقهاء : إنّهما يجبان سمعا ، وأنّه ليس في العقل ما يدلّ على وجوبهما ، وانّما علمناه بدليل الإجماع من الأمة ، وبآي من القرآن (٥) والأخبار

__________________

(١) الغلول : الخيانة.

(٢) ج : للإضرار.

(٣) وهو الشيخ الطوسي قدس‌سره في النهاية ، باب قسمة الفي‌ء.

(٤) النهاية : كتاب الجهاد ، باب قتال أهل البغي والمحاربين.

(٥) آل عمران : ١٠٤ ، ١١٠ ، ١١٤ والأعراف : ١٥٧ والتوبة : ٧١ ، ١١٢ والحج : ٤١ وغيرها توجد في مظانها.

٢١

المتواترة (١).

فأمّا ما يقع منه على وجه المدافعة ، فإنّه يعلم وجوبه عقلا لما علمناه بالعقل ، من وجوب دفع المضار عن النفس ، وذلك لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف فيما عداه ، وهذا هو الذي (٢) يقوى في نفسي ، والذي يدلّ عليه ، هو أنّه لو وجبا عقلا ، لكان في العقل دليل على وجوبهما ، وقد سبرنا أدلة العقل ، فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما ، ولا يمكن العلم الضروري في ذلك ، لوجود الخلاف فيه ، وهذا القول خيرة السيد المرتضى.

وقال قوم : طريق وجوبهما العقل ، وإلى هذا المذهب يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في كتابه الاقتصاد (٣) بعد أن قوّى الأوّل ، واستدل على صحته بأدلة العقول ، ثم قال رحمه‌الله : ويقوى في نفسي أنّه يجب (٤) عقلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال : لما فيه من اللطف ، ولا يكفي فيه العلم باستحقاق الثواب والعقاب ، قال : لأنّا متى قلنا ذلك ، لزمنا أنّ الإمامة ليست واجبة ، بأن يقال يكفى العلم باستحقاق الثواب والعقاب ، وما زاد عليه في حكم الندب ، وليس بواجب ، قال رحمه‌الله : فالأليق بذلك أنّه واجب.

ثمّ قال رحمه‌الله : واختلفوا في كيفيّة وجوبهما ، فقال الأكثر : إنّهما من فروض الكفاية (٥) إذا قام به البعض ، سقط عن الباقين ، وقال قوم : هما من فروض الأعيان ، ثم قال رحمه‌الله : وهو الأقوى عندي ، لعموم أي القرآن والأخبار.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : والأظهر بين أصحابنا ، أنّهما من فروض الكفاية (٦) ، إذا قام به البعض ، سقط عن الباقين ، وهو اختيار السيد المرتضى.

والأمر بالمعروف على ضربين ، واجب وندب ، فالأمر بالواجب منه واجب ، والأمر بالمندوب مندوب ، لأنّ الأمر به ، لا يزيد على المأمور به نفسه ، والنهي عن

__________________

(١) الوسائل : كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب ١.

(٢) ج : وهذا الذي.

(٣) الاقتصاد : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٤) وفي المصدر : انهما يجبان.

(٥) ل : فروض الكفايات.

(٦) ل : فروض الكفايات.

٢٢

المنكر لا ينقسم ، بل كلّه قبيح ، فالنهي عنه كلّه واجب.

والنهي عن المنكر له شروط ستة ، أحدها أن يعلمه منكرا ، وثانيها أن يكون هناك أمارة الاستمرار عليه ، وثالثها أن يظن أن إنكاره يؤثر أو يجوّزه ، ورابعها أن لا يخاف على نفسه ، وخامسها أن لا يخاف على ماله ، وسادسها أن لا يكون فيه مفسدة ، وإن اقتصرت على أربعة شروط كان كافيا ، لأنّك إذا قلت : لا يكون فيه مفسدة ، دخل فيه الخوف على النفس والمال ، لأنّ ذلك كلّه مفسدة.

والغرص بإنكار المنكر ، أن لا يقع ، فإذا أثّر القول والوعظ في ارتفاعه ، اقتصر عليه ، ولا يجوز حينئذ باليد ، وإن لم يؤثر وجب باليد ، بأن يمتنع (١) منه ، ويدفع عنه ، وإن أدّى ذلك إلى إيلام المنكر عليه ، والإضرار به ، وإتلاف نفسه بعد أن يكون القصد ارتفاع المنكر ، وأن لا يقع من فاعله ، ولا (٢) يقصد إيقاع الضرر به.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتابه الاقتصاد : غير أنّ ظاهر مذهب شيوخنا الإماميّة ، أنّ هذا الجنس من الإنكار ، لا يكون إلا للإمام ، أو لمن يأذن له الإمام فيه. ثم قال رحمه‌الله : وكان المرتضى رحمه‌الله يخالف في ذلك ، ويقول : يجوز فعل ذلك بغير إذنه ، لأنّ ما يفعل بإذنهم يكون مقصودا ، وهذا بخلاف ذلك ، لأنّه غير مقصود ، وإنّما قصده المدافعة والممانعة ، فإن وقع ضرر فهو غير مقصود (٣) ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي في الاقتصاد.

وما ذهب السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه إليه ، هو الأقوى ، وبه أفتي ، وقد رجع شيخنا أبو جعفر الطوسي ، إلى قول المرتضى في كتاب التبيان (٤) ، وقوّاه ،

__________________

(١) ج : ل : يمنع.

(٢) ل : وان لا.

(٣) الاقتصاد : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٤) التبيان : ج ٢ في ذيل الآية ١٠٤ ـ ١١٤ من سورة آل عمران.

٢٣

ونصره ، وضعّف ما عداه ، وإلى ما ذهب في الاقتصاد ذهب في النهاية : فقال في نهايته : وقد يجب إنكار المنكر بضرب من الفعل ، وهو أن يهجر فاعله ، ويعرض عنه ، وعن تعظيمه ، ويفعل معه من الاستخفاف ما يرتدع معه من المناكير ، فإن خاف الفاعل للإنكار باللسان ضررا ، اقتصر على الإنكار بالقلب ، حسب ما قدّمناه في المعروف سواء (١).

وأمّا إقامة الحدود ، فليس يجوز لأحد إقامتها إلا لسلطان الزمان ، المنصوب من قبل الله تعالى ، أو من نصبه الإمام لإقامتها ، ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال ، وقد رخّص في حال قصور أيدي أئمة الحق ، وتغلب الظالمين ، أن يقيم الإنسان الحد على ولده ، وأهله ، ومماليكه ، إذا لم يخف في ذلك ضررا من الظالمين ، وأمن بوائقهم.

قال محمّد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : والأقوى عندي ، أنّه لا يجوز له (٢) أن يقيم الحدود إلا على عبده فحسب ، دون ما عداه من الأهل ، والقرابات ، لما قد ورد في العبد من الأخبار (٣) واستفاض به النقل بين الخاص والعام.

وقد روي أنّ من استخلفه سلطان ظالم على قوم ، وجعل إليه إقامة الحدود ، جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال (٤) ويعتقد أنه انّما (٥) يفعل ذلك بإذن سلطان الحق لا بإذن سلطان الجور ، ويجب على المؤمنين معونته ، وتمكينه من ذلك ، ما لم يتعدّ الحقّ في ذلك ، وما هو مشروع في شريعة الإسلام ، فإن تعدّى ما جعل إليه الحقّ ، لم يجز له القيام به ، ولا لأحد معاونته على ذلك.

__________________

(١) النهاية : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٢) ج : لا يجوز.

(٣) الوسائل : كتاب الحدود والتعزيرات الباب ٣٠ من أبواب مقدمات الحدود.

(٤) لا توجد في غير النهاية وأوردها فيها في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٥) ج : ويعتقد أنما.

٢٤

والأولى في الديانة ترك العمل بهذه الرواية ، بل الواجب ذلك.

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله مصنف هذا الكتاب : والرواية أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (١) ، وقد اعتذرنا له فيما يورده في هذا الكتاب ، أعني النهاية ، في عدّة مواضع ، وقلنا أنّه يورده إيرادا ، من طريق الخبر ، لا اعتقادا من جهة الفتيا والنظر ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد من أصحابنا ، ومن المسلمين جميعا ، أنّه لا يجوز إقامة الحدود ، ولا المخاطب بها إلا الأئمة ، والحكّام القائمون بإذنهم في ذلك ، فأمّا غيرهم فلا يجوز له التعرض بها على حال ، ولا يرجع عن هذا الإجماع ، بأخبار الآحاد ، بل بإجماع مثله ، أو كتاب الله تعالى ، أو سنة متواترة مقطوع بها.

فإن خاف الإنسان على نفسه من ترك إقامتها ، فإنّه يجوز له أن يفعل في حال التقيّة ما لم يبلغ (٢) قتل النفوس فلا يجوز (٣) فيه التقيّة ، عند أصحابنا بلا خلاف بينهم.

وأمّا الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين ، فلا يجوز أيضا إلا لمن أذن له سلطان الحقّ في ذلك ، وقد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم ، المأمونين المحصّلين الباحثين عن مآخذ الشريعة ، الديانين القيمين بذلك ، في حال لا يتمكنون فيه من توليته (٤) بنفوسهم ، فمن تمكن من إنفاذ حكم وهو من أهله ، أو إصلاح بين الناس ، أو فصل بين المختلفين ، فليفعل ذلك ، وله به الأجر والثواب ، ما لم يخف في ذلك على نفسه ، ولا على أحد من أهل الإيمان ، ويأمن الضرر فيه ، فإن خاف شيئا من ذلك ، لم يجز له التعرّض له على حال.

ومن دعا غيره إلى فقيه من فقهاء أهل الحقّ ، ليفصل بينهما ، فلم يجبه ، وآثر المضي إلى المتولّي من قبل الظالمين ، كان في ذلك متعديا للحقّ ، مرتكبا للآثام ،

__________________

(١) النهاية : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..

(٢) ل : لم يبلغ فيه.

(٣) ج : فإنه لا يجوز.

(٤) ل : توليتهم.

٢٥

مخالفا للإمام ، مرتكبا للسيئات العظام.

ولا يجوز لمن يتولّى الفصل بين المختلفين ، والقضاء بينهم ، أن يحكم إلا بموجب الحق ، ولا يجوز له (١) أن يحكم بمذهب أهل الخلاف ، فإن كان قد تولى الحكم من قبل الظالمين بغير اختياره ، فليجتهد أيضا في تنفيذ الأحكام ، على ما يقتضيه شريعة الإسلام ، فإن اضطر إلى تنفيذ حكم على مذهب أهل الخلاف ، بالخوف على النفس ، أو الأهل ، أو المؤمنين ، أو على أموالهم ، جاز له تنفيذ الحكم ، ما لم يبلغ ذلك قتل النفوس ، فإنّه لا تقيّة له في قتل النفوس ، حسب ما أسلفنا القول في معناه.

ويجوز لأهل الحق ، أن يجمعوا بالناس ، الصلوات كلّها ، وقد روي (٢) صلاة الجمعة والعيدين ، ويخطبوا الخطبتين ، ويصلّوا بهم صلاة الكسوف ، ما لم يخافوا في ذلك ضررا ، فان خافوا في ذلك الضرر ، لم يجز لهم التعرض (٣) على حال ، وقد قلنا ما عندنا في صلاة الجمعة جمعة ، وانّ ذلك لا يجوز في حال استتار الإمام ، لأنّ الجمعة لا تنعقد ، ولا تصح إلا بالإمام ، أو بإذن من جهته ، وتوليته لذلك ، فإذا فقدنا ذلك ، صليناها ظهرا أربع ركعات ، وأشبعنا القول فيه في كتاب الصلاة ، وحررناه.

وقد ذكر سلار في رسالته ، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال :

ولفقهاء الطائفة ، أن يصلوا بالناس في الأعياد ، والاستسقاء ، فأمّا الجمع فلا (٤) هذا آخر كلامه وهو الأظهر.

ومن لا يحسن القضايا والأحكام في إقامة الحدود وغيرها ، لا يجوز له

__________________

(١) ج : لا يجوز ان يحكم.

(٢) النهاية : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٣) ل. ق : التعرض له.

(٤) المراسم : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٦

التعرض لذلك على حال ، فإن تعرض له كان مأثوما معاقبا ، فإن أكره على تولّي ذلك ، واضطرته تقية ، لم يكن عليه في ذلك شي‌ء ، ويجتهد لنفسه من الأباطيل (١) بكلّ ما يقدر عليه.

ولا يجوز لأحد أن يختار النظر من قبل الظالمين ، إلا في حال يقطع ويعلم أنه لا يتعدى الواجب ، ويتمكن من وضع الأشياء مواضعها ، ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فإن علم أنّه يخل بواجب ، أو يركب قبيحا ، أو غلب على ظنّه ذلك ، فلا يجوز له التعرض له بحال من الأحوال مع الاختيار ، فإن أكره على الدخول فيه ، واضطرته التقية ، جاز له حينئذ ذلك ، وليجتهد ويتحرز لنفسه حسب ما قدمناه.

__________________

(١) ل : التحرز من الأباطيل.

٢٧
٢٨

كتاب الديون والكفالات

والحوالات والوكالات

٢٩

باب كراهية الدين وكراهية النزول على الغريم

يكره للإنسان الدين مع الاختيار ، وفقد الاضطرار إليه ، فإن فعل مختارا لا اضطرارا ، فالأولى له أن لا يفعل ، إلا إذا كان له ما يرجع إليه ، فيقضي به دينه ، فإن لم يكن له ما يرجع إليه ، فقد روي (١) أنّه إن كان له ولي يعلم أنّه إن مات قضى عنه ، قام ذلك مقام ما يملك.

وهذا غير واضح ، لأنّ الولي لا يجب عليه قضاء دين من هو ولي له ، بغير خلاف ، وقد أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢) إيرادا لا اعتقادا من طريق خبر الآحاد.

فإذا خلا من الوجهين ، فإنّه يكره له الاستدانة ، وليس ذلك بمحظور ، إذا كان عازما على قضائه ، منفقا له في الطاعات أو المباحات ، وأمّا في حال الاضطرار ، فإنّه غير مكروه ، وفي هذه الحال لا يستدين إلا مقدار حاجته وكفايته ، على الاقتصاد من نفقته ، ونفقة عياله ، ممن تجب عليه نفقته.

ولا يجوز للإنسان أن يستدين ما يصرفه في نفقة الحج ، إلا بعد أن يكون الحجّ قد وجب عليه بوجود شرائطه ، ويكون له ما إذا رجع إليه قضى منه دينه.

__________________

(١) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ٢ من أبواب الدين والقرض ، ح ٥.

(٢) النهاية : كتاب الديون والكفالات ..

٣٠

وما ورد من الأخبار (١) في جواز الاستدانة للنفقة في الحج ، فمحمول على ما ذكرناه ، وحرّرناه ، لا على من لا يكون الحجّ قد وجب عليه ، ولا يكون له ما إذا رجع إليه قضى منه دينه ، لأنّ هذا لا يجب عليه الحج ، وهو على هذه الصفة ، وإذا كان ذلك لا يجب عليه ، فلا يجوز أن يستدين ليفعل ما لا يجب عليه.

ومن كان عليه دين ، وجب عليه العزم على قضائه ، فإن ترك العزم على ذلك ، كان مأثوما ، وهو بمنزلة السارق ، على ما روي (٢) في الآثار عن الأئمة الأطهار.

ومن كان له غريم ، فلا ينبغي له أن ينزل عليه ، فإن نزل فلا يقيم عنده ، أكثر من ثلاثة أيّام.

ومن اضطر إلى الدين ، ولا يملك شيئا ، يرجع إليه ، وكان ممن يجد الصدقة ، فالأولى له ، والأفضل في ديانته ، أن يقبل الصدقة ، ولا يتعرض للدين ، لأنّ الصدقة حق جعلها الله له في الأموال.

ومن كان له غريم له عليه دين ، فأهدى المدين ، بفتح الميم ، الذي هو الغريم ، له شيئا لم تكن قد جرت به عادته ، وانّما فعله لمكان الدين ، استحب له أن يحتسبه من دينه ، وليس ذلك بواجب.

وقد روي (٣) أنّه إذا رأى صاحب الدين المدين ، ( قد قلنا إنّ المدين بفتح الميم ، الذي عليه الدين ، ويقال مديون أيضا ، ودائن ، ومديان ، أربع لغات ، ويقال أيضا لغة خامسة مدان ، فأمّا الفاعل الذي له الدين ، فهو مدين بضمّ الميم ، وكسر الدال ، يقال : أدان زيد عمروا ، إذا أعطاه ، فزيد مدين ، وعمرو مدان ، ومدين بفتح الميم ) في الحرم لم يجز له مطالبته فيه ، ولا ملازمته ، بل ينبغي أن يتركه حتى يخرج من الحرم ، ثم يطالبه كيف شاء ، ذكر ذلك ، وأورده شيخنا أبو جعفر

__________________

(١) الوسائل : كتاب الحج الباب ٥٠ من أبواب وجوب الحج وشرائطه.

(٢) الوسائل : كتاب التجارة الباب ٥ من أبواب الدين والقرض.

(٣) الوسائل : كتاب التجارة الباب ٢٢ من أبواب الدين والقرض.

٣١

في نهايته (١).

وقال ابن بابويه في رسالته : وإذا (٢) كان لك على رجل حقّ (٣) فوجدته بمكة ، أو في الحرم ، فلا تطالبه ، ولا تسلّم عليه ، فتفرعه ، إلا أن تكون أعطيته حقك في الحرم ، فلا بأس بأن تطالبه به في الحرم.

قال محمد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : الذي يقوى عندي ، في تحرير هذا القول ، وما ذكره وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، أن يحمل الخبر ، على أن صاحب الدين ، طالب المدين خارج الحرم ، ثمّ هرب منه والتجأ إلى الحرم ، فلا يجوز لصاحب الدين مطالبته ، ولا إفزاعه ، فأمّا إذا لم يهرب إلى الحرم ، ولا التجأ إليه خوفا من المطالبة ، بل وجده في الحرم ، وهو ملي بماله ، موسر بدينه ، فله مطالبته وملازمته ، وقول ابن بابويه : إلا أن يكون أعطيته حقك في الحرم ، فلك أن تطالبه في الحرم ، يلوح بما ذكرناه ، على ما حرّرناه ، ولو كان ما روي صحيحا ، لورد ورود أمثاله متواترا ، والصحابة ، والتابعون ، والمسلمون في جميع الأعصار ، يتحاكمون إلى الحكام في الحرم ، ويطالبون الغرماء بالديون ، ويحبس الحاكم على الامتناع من الأداء إلى عصرنا هذا ، من غير تناكر بينهم في ذلك ، وإجماع المسلمين على خلاف ذلك ، ووفاق ما اخترناه وحرّرناه ، وهذا معلوم ضرورة ، أو كالضرورة ، فلا نرجع عن الأمور المعلومة ، بأخبار ضعيفة أكثر ما (٤) تثمر الظن ، دون اليقين والعلم ، ولا يورد ذلك في كتابه (٥) إلا الآحاد من أصحابنا ، ولا إجماع عليه منهم ، والأصل الإباحة ، والحظر يحتاج إلى دليل ، والإنسان مسلّط على أخذ ماله ، والمطالبة به ، عقلا وشرعا.

ومن كان عليه دين ، وجب عليه السعي في قضائه ، والعزم على أدائه ، وترك

__________________

(١) النهاية : كتاب الديون والكفالات ..

(٢) ج : إذا.

(٣) ج : دين.

(٤) ج : أكثرها.

(٥) ج : كتاب.

٣٢

الإسراف في النفقة ، وينبغي له أن يتقنع (١) بالقصد ، ولا يجب عليه أن يضيّق على نفسه ، بل يكون بين ذلك قواما.

ويجب عليه عند مطالبة من له الحق ، دفع جميع ما يملكه إليه ، ما خلا داره التي يسكنها ، إذا كانت قدر كفاية سكناه ، وخادمه الذي يحتاج إلى خدمته ، وقوت يومه وليلته فحسب ، وما فضل عن ذلك ، فيجب دفعه الى من له عليه الدين (٢) ، عند المطالبة.

باب وجوب قضاء الدين إلى الحيّ والميت

كل من كان عليه دين ، وجب عليه قضاؤه حسب ما يجب عليه (٣) فإن كان حالا وجب عليه ، قضاؤه عند المطالبة في الحال ، إذا كان قادرا على أدائه ، لا يجوز له تأخيره بعد المطالبة له ، فإن كان في أوّل وقت الصلاة وصلّى بعد المطالبة ، فإن صلاته غير صحيحة ، لأنّ قضاء الدين بعد المطالبة واجب مضيّق ، وأداء الصلاة في أوّل وقتها واجب موسع ، وكلّ شي‌ء منع من الواجب المضيّق فهو قبيح ، بغير خلاف من محصّل ، وإن كان الدين مؤجلا وجب عليه قضاؤه عند حلول الأجل مع المطالبة.

ومن وجب عليه أداء الدين ، لا يجوز له مطله ودفعه مع قدرته على قضائه ، فقد قال الرسول عليه‌السلام : مطل الغني ظلم (٤) ، فإن مطل ودفع كان على الحاكم حبسه ، بعد إقامة البيّنة بالحقّ ، وسؤال الخصم ذلك ، وإلزامه الخروج ممّا وجب عليه ، فإن حبسه ثمّ ظهر له بعد ذلك إعساره ، وجب عليه تخليته ، سواء حضر خصمه أو لم يحضر ، لقوله تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (٥) وإن لم يكن معسرا غير أنّه يدفع به ، جاز للحاكم أن يبيع عليه متاعه

__________________

(١) ل : ان ينفق

(٢) ح. من له الدين.

(٣) ج : قضاؤه ، فإن كان آه.

(٤) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ٨ ، الحديث ٣.

(٥) البقرة : ٢٨٠.

٣٣

وعقاره ما عدا داره ، وكذلك للحاكم أن يبيع عليه ماله الظاهر قبل حبسه ، وإنّما له حبسه إذا لم يكن له مال ظاهر ، ولا قامت له بيّنة بالإعسار. فله حبسه حتى يستبين حاله ، فانّ الغرض في ذلك استخلاص الحقّ لصاحبه ، دون الحبس.

وإن كان من وجب عليه الدين ، وثبت عند الحاكم غائبا ، وجب على الحاكم بعد سؤال صاحب الحقّ ومطالبته أن يبيع على الغائب شيئا من أملاكه ، غير أنّه لا يسلمه إلى خصمه إلا بعد كفلاء ، فإن حضر الغائب ولم يكن له بيّنة ، تبطل بينة صاحب الدين ، برئت ذمته ، وذمّة الكفلاء من الكفالة ، وإن كانت له بيّنة تبطل بينة صاحب الحق ، رد الكفلاء عليه المال ، ويبطل البيع إن كان قد باع شيئا من أملاكه ، لأنّ الحاكم يفعل على ظاهر الأحوال ، فإن تبين له الحق ردّ (١) ما فعله إليه.

ومتى كان المدين معسرا ، لم يجز لصاحب الدين مطالبته ، والإلحاح عليه ، بل ينبغي له أن يرفق به ، ويجب عليه أن ينظره إلى أن يوسع الله عليه ، أو يبلغ خبره الإمام ، فيقضي دينه عنه ، من سهم الغارمين إذا كان قد استدانه وأنفقه في طاعة أو مباح ، وكذلك إذا لم يعلم في أي شي‌ء أنفقه ، فأمّا إذا علم أنّه أنفقه في المعاصي ، فلا يجوز له أن يقضي عنه من سهم الغارمين ، ويجوز أن يعطي هو من سهم الفقراء إذا كان عدلا مستحقا للزكاة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان لا يعلم في ما ذا أنفقه ، أو علم أنّه أنفقه في معصية لم يجب عليه القضاء عنه (٢).

وهذا غير واضح ، لأنّه رضي‌الله‌عنه ، جعل عدم العلم في ما ذا أنفقه مثل العلم بأنّه أنفقه في معصية ولا ينبغي أن يحمل الأمور إلا على الحلال والصحة ، دون الفساد ، وانّما تعبدنا

__________________

(١) ج : نقض.

(٢) النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت.

٣٤

بالظاهر ، فأمّا تقييده في نهايته إذا كان قد استدانه وأنفقه في طاعة ، فما منع من إنفاقه على المباح (١) ، لأنّ ذلك دليل الخطاب ، ودليل الخطاب عند المحقّقين لأصول الفقه من أصحابنا غير معمول عليه.

ولا يجوز أن تباع دار الإنسان التي يسكنها ، ولا خادمه الذي يخدمه في الدين ، إذا كان مقدار ما فيها كفايته ، فإن كانت دار غلة ، وكذلك إن كانت كبيرة واسعة ، وله في دونها كفاية ، الزم بيعها ، والاقتصار على كفايته منها ، على ما قدمناه.

والمنع من بيع الدار والخادم في الدين ، على ما روي في بعض الأخبار (٢) فإن تحقق إجماع من أصحابنا نرجع إليه ، لا دليل عليه سوى الإجماع منهم.

ومتى ألحّ صاحب الدين على المدين ، وأراد حبسه ولم يكن له بيّنة بالدين ، وخاف المدين إن أقر عند الحاكم بالدين من الحبس ، فيضر ذلك به وبعياله ، ولم يكن الحاكم عالما بإعساره وحاله ، جاز له أن ينكر ويحلف بالله ما له قبلي شي‌ء ، ويورّى في نفسه ما يخرجه من الكذب ، ينوي عند قوله شي‌ء ، يستحقه الآن ، يخفى ذلك ، ويظهر ما عداه ، ممّا ذكرناه ، فإنّه إذا فعل ذلك صادق (٣) بارّ ، لأنّه لا يستحق عليه في هذه الحال شيئا من المطالبة والخروج إليه من حقه عند إعساره ، لأنّ الله تعالى قال « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » وينطوي على أنّه إذا تمكن من قضائه ، قضاه ، ويجب عليه العزم على ذلك ، ولا شي‌ء عليه من الآثام ، فإذا تمكن من قضائه ، وجب عليه القضاء.

ومتى كان للإنسان على غيره دين فحلّفه على ذلك ، لم يجز له مطالبته بعد ذلك بشي‌ء منه ظاهرا ، فإن جاء الحالف تائبا ، وردّ عليه ماله ، جاز له أخذه ، فإن أعطاه مع رأس المال ربحا أخذ رأس ماله ، ونصف الربح ، هكذا أورده

__________________

(١) ل : من إنفاقه في المباح. ق : في إنفاقه في المباح.

(٢) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ١١ من أبواب الدين والقرض.

(٣) ل : ذلك كان صادقا.

٣٥

شيخنا أبو جعفر في نهايته (١).

وتحرير الفتيا بذلك ، انّ المال المحلّف عليه إن كان قرضا ، أو دينا ، أو غصبا ، فالربح للحالف ، لا يستحق صاحب الدين منه ، قليلا ولا كثيرا في الدين والقرض ، لأنّ هذا ربح مال الحالف ، لأنّ القرض والدين في ذمته ، والربح له ، دون القارض وصاحب الدين ، بغير خلاف.

فأمّا إن كان المال غصبا ، واشترى الغاصب المتاع بثمن في ذمّته ، ونقد الشي‌ء المغصوب عوضا عمّا لزمه في ذمّته ، فالربح أيضا للغاصب ، لأنّه نماء ملكه وأرباحه.

وإن كان الشراء لا في الذمّة ، بل بعين المال المغصوب ، فالصحيح من أقوال أصحابنا ، وعند المحصلين منهم ، أنّ البيع غير منعقد ، ولا صحيح ، والأمتعة لأصحابها ، والأرباح والأثمان لأصحابها.

فأمّا إن كان المال مضاربة ، شرط له من الربح نصفه ، فيصح القول بذلك ، وتحمل وتخص ما ورد من الأخبار بذلك ، لأنّ العموم قد يخص بالأدلة ، فهذا تحرير القول في هذه الفتيا ، فليتأمّل ، وليفهم عنّا ما قلناه ، فإنّ فيه غموضا والتباسا على غير المحصّل لهذا الشأن.

وإن لم يحلفه غير أنّه لم يتمكن من أخذه منه ، ووقع له عنده مال ، جاز له أن يأخذ حقه منه (٢) من غير زيادة عليه ، إن كان من جنس ماله ، ومثلا له ، وإن كان من غير جنسه ، فله أن يقوّمه على نفسه ، بالقيمة العدل ، ويأخذه.

وإن كان ما وقع عنده على سبيل الوديعة ، جاز له أيضا أخذه منها ، وقال

__________________

(١) النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحيّ والميّت ، والعبارة في المصدر هكذا : « ومتى كان للإنسان على غيره دين فحلّفه على ذلك لم يجز له أخذه فإن أعطاه من رأس المال ربحا أخذ رأس ماله ونصف الربح.

(٢) ج : حقه ، من.

٣٦

شيخنا أبو جعفر في نهايته : لم يجز له ذلك ، ولا يخون فيها (١) إلا أنّه رجع عن هذا القول ، في كتابه الاستبصار (٢). وقال بما اخترناه ، وقال : أحمل الخبر على الكراهة دون الحظر. ونعم ما قال ، لأنّه إذا أخذ ماله ، فما تعدّى ، ولا ظلم ، ولا خان ، والشارع نهى عن إضاعة المال ، وقال الله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (٣) وهذا محسن ، لا مسي‌ء.

ومن وجب عليه دين ، وغاب عنه صاحبه ، غيبة لم يقدر عليه معها ، وجب عليه أن ينوي قضاءه ، على ما قدّمناه ، فإن حضرته الوفاة ، سلّمه إلى من يثق بديانته ، وجعله وصيّه في تسليمه إلى صاحبه ، فإن مات من له الدين ، سلّمه إلى ورثته ، فإن لم يعلم له وارثا ، اجتهد في طلبه ، فإن لم يجده ، سلّمه إلى الحاكم ، فإن قطع على أنّه لا وارث له ، كان لإمام المسلمين ، وقد روي (٤) أنّه إذا لم يظفر بوارث له ، تصدّق به عنه ، وليس عليه شي‌ء ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (٥) من طريق الخبر إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّ الصدقة لا دليل عليها ، من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، بل الإجماع والأصول المقررة لمذهبنا ، تشهد بأنّ الإمام يستحق ميراث من لا وارث له.

وقال شيخنا أيضا في نهايته ، في صدر السؤال : ومن وجب عليه دين ، وغاب عنه صاحبه ، غيبة لم يقدر عليه معها ، وجب عليه أن ينوي قضاءه ، ويعزل ماله من ملكه (٦).

وهذا غير واجب ، أعني عزل المال ، بغير خلاف بين المسلمين ، فضلا عن طائفتنا.

وإذا استدانت المرأة على زوجها ، وهو غائب عنها ، فأنفقته بالمعروف ، وجب عليه القضاء عنها ، فإن كان زائدا على المعروف ، لم يكن عليه قضاؤه ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (٧).

__________________

(١) النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.

(٢) الاستبصار : كتاب المكاسب ، الباب ٢٧. ذيل الحديث ٦ ، (١٧٢) أورد الخبر في الوسائل : الباب ٨٣ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٣.

(٣) التوبة : ٩١.

(٤) الوسائل : كتاب الفرائض والمواريث ، الباب ٤ من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة.

(٥) و (٦) و (٧) النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.

٣٧

وتحرير الفتيا بذلك ، أنّ الزوج يجب عليه تسليم النفقة بالمعروف إلى المرأة ، ثم تقضي ما استدانت وان قضاء الدين واجب عليها ، دون الزوج ، والغريم هي ، دونه ، وهي المطالبة بالدين ، دون الزوج.

ومن له على غيره مال ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلا بعد أن يقبضه ، ثم يدفعه إليه ، إن شاء للمضاربة والمضاربة (١) لا تكون إلا بالأموال المعينة ، ولا تكون بما في الذمّم ، لأنّ ما في الذمّة غير معيّن ولا يتعين إلا بعد قبضه وتعيينه ، لأنّ الإنسان مخيّر في جهات القضاء من سائر أمواله ، وهذا إجماع منعقد من أصحابنا.

فعلى هذا التحرير الذي لا خلاف فيه ، بيع الدين على غير من هو عليه ، لا يصح ، لأنّ البيوع على ضربين ، بيوع الأعيان ، وبيوع ما في الذمم ، وبيوع الأعيان على ضربين ، بيع عين مرئية مشاهدة ، فلا يحتاج إلى وصفها ، وبيع عين غير مشاهدة ، يحتاج إلى وصفها ، وذكر جنسها ، وهذا البيع يسميه الفقهاء بيع خيار الرؤية ، ولا بد أن يكون ملك جنسها في ملك البائع في حال عقد البيع ، إلا أنّها غير مشاهدة ، فيصفها ليقوم وصفها مقام مشاهدتها ، وهي غير مضمونة ، إن هلكت قبل التسليم على البائع.

فبيع الدين بيع عين غير مشاهدة (٢) مرئية بغير خلاف ، ولا بيع عن معينة موصوفة في ملك البائع ، فإنّه لا يصلح له وصفها ، لأنّا قد قدّمنا أنّ الدين عينه غير معيّن في ملك صاحبه ، بل لا يتعيّن إلا بقبضه له ، وقلنا إنّ من عليه الدين ، مخيّر في (٣) جهات القضاء من سائر أمواله ، فلا يتقدّر أن تكون عين شي‌ء له وهي بعينها لمن له عليه (٤) الحق ، وإن كان على الجملة لصاحب الدين على المدين حق من جنس من أجناس من الأموال ، وليس له عليه (٥) عين معينة من الأعيان ، والشي‌ء

__________________

(١) ل : لأنّ مال المضاربة. ق : لأنّ مال المضاربة والمضاربة.

(٢) ج : فبيع الدين لا بيع عين مشاهدة.

(٣) ج : من جهات.

(٤) ج : لمن عليه.

(٥) ج : وليس عليه.

٣٨

المبيع بيع خيار الرؤية ، يحتاج إلى أن يكون ملك جنسه معيّنا في ملك بائعه ، ويذكر جنسه ، ويصفه : لأنّه من جملة بيوع الأعيان.

فأمّا الضرب الآخر من البيوع الذي هو في الذمّة ، هو المسمّى بالسّلم ، بفتح السين واللام ، والسلف ، فهذا مضمون على بايعه ، يحتاج إلى الأوصاف ، والآجال المحروسة من الزيادة والنقصان ، امّا بالسنين والأعوام ، أو بالشهور والأيّام ، ومن شرط صحته قبض رأس المال الذي هو الثمن ، قبل الافتراق من مجلس العقد ، وبيع الدين ليس كذلك بغير خلاف.

فإن قيل : هذا خلاف إجماع الإمامية ، وذلك أنّ إجماعهم منعقد بغير خلاف على صحّة بيع الدين وإمضائه ، وعموم أخبارهم على ذلك ، وكذلك أقوالهم ، وتصنيفاتهم ، ومسطوراتهم ، وفتاويهم.

قلنا : نحن ما دفعنا ذلك أجمع ، وأبطلناه ، بل نحن عاملون بمقتضاه ، ومخصصون لما ناقض الدليل ونفاه ، لأنّه لا خلاف بين المحصلين لأصول الفقه ، أنّ العموم قد يخص بالأدلة ، وقد قلنا انّ بيع الدين على من هو عليه جائز ، صحيح ، لا خلاف فيه ، فقد عملنا بالإجماع ، واتبعنا ظواهر الأقوال ، والأخبار ، والفتاوى ، وما في التصنيفات ، وأعطينا الظاهر حقه ، وخصصنا ما عدا بيع من عليه الدين ، بالأدلة المجمع عليها ، المقررة المحررة عند أصحابنا ، المقدم ذكرها ، وهذا تحقيق لا يبلغه إلا محصّل لأصول الفقه ، ضابط لفروع المذهب ، عالم بأحكامه محكم لمداره ، وتقريراته ، وتقسيماته ، ومما يشيد ما حررناه ، إجماع أصحابنا الذي لا خلاف فيه ، وانعقاده على أنّ من كان له على غيره مال دينا ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلا بعد أن يقبضه ، ويتعيّن في ملكه ، ثمّ يدفعه إليه إن شاء للمضاربة ، لأنّه قبل قبضه وتعيينه في ملكه ، ملك لمن هو عليه ما انتقلت عينه إليه ، فكيف يصح له أن يضاربه بعين ماله ، فإنّه قبل أن يقبضه ويتعين عينه في ملكه ، مال من هو عليه ، فكيف يضاربه بماله ، ولو فعل ذلك ، لكان الربح كلّه لمن عليه المال ، لأنّه

٣٩

ربح ماله ، ولا تصح المضاربة ، لأنّ حقيقتها وموضوعها في الشريعة ، أن من العامل العمل ، ومن رب المال المال ، ومن عليه الدين ، منه المال والعمل جميعا.

فإن قيل : أنتم قد جعلتم من جملة أدلتكم على صحة ما حرّرتموه واخترتموه ، مسألة من كان له على غيره دين ، فلا يجوز له أن يجعله معه مضاربة ، إلا بعد قبضه وتعيينه له في ملكه ، ولا يجوز له قبل ذلك جعله مضاربة ، فعلى سياق هذا الاستدلال ، والاعتبار ، يلزمكم أن لا تجوزوا بيع الدين على من هو عليه ، قبل قبضه وتعيينه في ملك بائعه.

قلنا : لا يلزمنا ذلك ، لأنّ بيع خيار الرؤية ، لا يحتاج إلا إلى ذكر الجنس ، وكونه في ملك البائع ، والوصف له ، دون تعيين عينه بالإشارة إليه ، والمشاهدة له ، والقطع عليه ، وليس كذلك حكم مال المضاربة ، لأنّه يجب أن يكون مذكور الجنس معينا ، ولا يكفي ذكر الجنس والصفة ، دون تعيينه في الملك ، كما كفى ذلك في بيع خيار الرؤية ، وإن كان كلّ واحد من المالين ، مملوك الجنس ، غير متعيّن ملك عينه ، ولا يتعيّن ملك عينه ، إلا بعد قبضه ، فيصح بيعه على من هو عليه ، بيع خيار الرؤية ، لأنّه مملوك الجنس للبائع ، ومن هو عليه عالم بصفته ، فقام علم من هو عليه به ، وبصفته ، مقام وصف البائع له ، فجمع هذا البيع الأمرين اللذين هما شرط في صحة بيع خيار الرؤية ، وهو ذكر الجنس ، وعلم من هو عليه الذي هو قائم مقام صفته ، لأنّ ذكر الصفة في بيع العين الغائبة ، يقوم مقام المشاهدة والرؤية لبيع العين الحاضرة المشاهدة ، لأنّا لا نحتاج أن نصف العين المرئية عند البيع ، ولا ذلك شرط في صحة العقد عليها ، وهو شرط في صحة بيع العين الغائبة مع ذكر جنسها ، فلأجل ذلك جوّزنا بيعها على من هي عليه ، دون من سواه ، لأنّ البيع عليه ، بيع خيار الرؤية ، لأنّ من شرطه ذكر الجنس والصفة ، فإذا بيع عليه ، فقد جمع الأمرين جميعا ، وليس كذلك بيعه على غير من هو عليه ، لأنّ أحد الأمرين لا يحصل له ، لأنّ صاحبه لا يعلم عينه ، حتى يصفها للمشتري ،

٤٠