كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

ولا شهادة الخصم والخائن ، وقال شيخنا في نهايته : والأجير (١) ، وهذا خبر واحد ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، بل شهادة الأجير مقبولة ، سواء كانت على من استأجره ، أوله ، وسواء فارقه ، أو لم يفارقه ، لأنّ أصول المذهب تقتضي قبول هذه الشهادة ، وهو قوله تعالى ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (٢) وقوله : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٣) ولا مانع يمنع من قبول شهادته ، وهذا عدل ، فينبغي أن تقبل شهادته ، فلأنه لا يجرّ بشهادته إليه نفعا ، ولا يدفع عنه ضررا ، ولا يعرف بشي‌ء من أسباب الفسق ، ولا دليل على ردّ شهادته من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع.

ولا تقبل شهادة الفساق ، إلا على أنفسهم ، وهذا إقرار لا شهادة ، وانّما أوردته على ما وجدته في مصنفات أصحابنا.

ولا تقبل شهادة ماجن ، المجون أن لا يبالي الإنسان بما صنع ، وقد مجن بالفتح يمجن مجونا ، ومجانة ، فهو ماجن ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح (٤).

ولا تقبل شهادة فحاش ، وترد شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج ، وغيرهما من أنواع القمار ، والأربعة عشر ، والشاهين ، بفتح الهاء ، لأنّ ذلك تثنية شاه ، لأنّه كذاب بقوله شاهك مات ، يعنى به أحد اقطاع الشطرنج ، ولغته بالفارسيّة الملك.

ولا بأس بشهادة أرباب الصنائع ، أيّ صنعة كانت ، إذا جمعوا الشرائط المقدّم ذكرها ، وكانت حلالا.

ولا يجوز شهادة من يبتغي على الأذان الأجر ، فأمّا أخذ الرزق عليه دون الإجارة فجائز ، ويكون ذلك من بيت المال ، وكذلك على القضاء. ولا يحل لأحد الأجرة عليهما بحال ، فأمّا الجهاد فيجوز عندنا أخذ الأجرة عليه ، لما رواه أصحابنا (٥) فأمّا الصلوات فلا يجوز أخذ الأجرة ، ولا الرزق عليها بحال ، وكذلك الصيام.

__________________

(١) النهاية ، كتاب الشهادات باب تعديل الشهود.

(٢) البقرة : ٢٨٢.

(٣) الطلاق : ٢.

(٤) الصحاح.

(٥) الوسائل : الباب ٨ من أبواب جهاد العدو.

١٢١

ولا يجوز شهادة من يرتشي في الأحكام.

وقد روي (١) أنّه لا يجوز شهادة السائلين على أبواب الدور ، وفي الأسواق ، وان كانت شرائط العدالة فيهم حاصلة ، إلا أنّ ذلك يختص بمن يكون ذلك عادته وصناعته ، ويتخذ ذلك حرفة ، وصناعة ، وبضاعة ، فأمّا من أحوجته ضرورة مجحفة في بعض الأحوال ، فلا ترد شهادته بحال ، لأنّه لا دليل على ذلك ، وقد أعطينا الرواية الواردة بذلك حقّها.

ويجوز شهادة ذوي الفقر والمسكنة ، المتجملين (٢) ، الساترين لأحوالهم ، إذا حصل فيهم شرائط العدالة.

ولا يجوز شهادة ولد الزنا ، لأنّه عند أصحابنا كافر ، بإجماعهم عليه ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن عرفت منه عدالة ، قبلت شهادته في الشي‌ء الدون (٣).

وهذا غير مستقيم ، لأنّه إن كان عدلا ، فتقبل شهادته في الدون وغير الدون ، وإن كان عنده كافرا ، فلا تقبل شهادته ، لا في الدون ولا غير الدون ، وانّما هذا خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا.

ولا يجوز شهادة الشريك لشريكه ، فيما هو شريك فيه ، ولا بأس بشهادته له فيما ليس بشريك له فيه.

ومن قطع به الطريق ، فأخذ المأخوذون اللصوص ، فشهد بعض المأخوذين لبعض على اللصوص ، لم يقبل شهادتهم ، لأنّهم خصوم ، وكذلك إن شهد بعض اللصوص على بعض ، لأنّهم فسقة إلا أن يشهد غيرهم عليهم ، أو يقرّ اللصوص ، فيحكم بالإقرار على من أقر.

ولا بأس بشهادة الوصي على من هو وصيّ له ، إلا أنّه يحلف الخصم ، إذا كان مع الوصي غيره من أهل الشهادة ، أو لم يكن معه سواه ، لأنّها شهادة على

__________________

(١) الوسائل : الباب ٣٥ من أبواب الشهادات.

(٢) ج : المتحملين.

(٣) النهاية : كتاب الشهادات باب تعديل الشهود.

١٢٢

ميّت ، وهو لا يعبر عن نفسه ، ولما رواه أصحابنا (١).

ولا بأس بشهادته فيما لا يكون له فيه (٢) ولاية ولا تصرّف ، على ما قدّمنا القول فيه.

وقال شيخنا في نهايته : ولا بأس بشهادة الوصيّ على من هو وصيّ له (٣). غير أن ما يشهد به عليه ، يحتاج أن يكون معه غيره ، من أهل العدالة ، ثم يحلف الخصم على ما يدعيه به ، وما يشهد للورثة مع غيره من أهل العدالة ، لم يجب مع ذلك يمين ، وأطلق ذلك إطلاقا ، وتحريره ما ذكرناه.

ولا بأس بشهادة ذوي الآفات والعاهات ، في الخلق ، بكسر الخاء وفتح اللام ، لأنّ ذلك جمع خلقه ، إذا كانوا من أهل العدالة.

ولا بأس بشهادة الأعمى ، إذا حقق ، ولم تكن شهادته فيما يعتبر الرؤية فيه ، إلا أن يكون قد شهد عليه في حال الصحة ، ثم عمى بعد ذلك ، فيجوز شهادته بذلك بعد العمى.

ولا بأس بشهادة الأصم ، وقد روي أنّه يؤخذ بأوّل قوله ، ولا يؤخذ بثانيه (٤).

ولا بأس بشهادة الضيف ، إذا كان من أهلها.

وإقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، فيما يوجب حكما في شريعة الإسلام ، سواء كان مليا أو كافرا ، أو مطيعا كان أو عاصيا ، وعلى كلّ حال إلا أن يكون عبدا ، فإنّه لا يقبل إقراره على نفسه ، لا في مال ، ولا على بدن ، لأنّ إقراره على نفسه إقرار على الغير ، لأنّه لا يملك من نفسه شيئا ، ولا يقبل إقرار الغير على الغير ، فإن لحقه العتاق بعد الإقرار ، ألزم بما أقر ، لأنّ في الأوّل منع ، لأنّه إقرار على سيده ، والآن لا مانع منه ، لأنّ حق سيّده قد زال عنه.

والفاسق إذا شهد على غيره في أمر من الأمور ، ما خلا الطلاق ، ثم أقام الشهادة ، وهو عدل ، قبلت شهادته ، وكذلك الكافر ، واستثنينا الطلاق ، لأنّ

__________________

(١) الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب ٢٨ ح ١.

(٢) ج : له عليه.

(٣) ج : له وله.

(٤) الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب ٤٢ ح ٣.

١٢٣

جميع ما يشهد به الشاهد المراعى في العدالة ، والقبول للشهادة ، وقت الأداء ، دون وقت التحمل ، إلا الطلاق فإنّه يحتاج إلى العدالة وقت التحمّل ، ووقت الأداء.

ويقبل شهادة المتخذ للحمام ، غير اللاعب بها ، والمسابق ، والمراهن عليها ، إذا لم يعرف منه فسق.

وقول شيخنا في نهايته : وتقبل شهادة من يلعب بالحمام (١) غير وضح ، لأنّه سمّاه لاعبا ، واللعب بجميع الأشياء قبيح ، فقد صار فاسقا بلعبه ، فكيف تقبل شهادته؟ وانّما أورد لفظ الحديث إيرادا ، لا اعتقادا ، وإن كان المقصود باللعب ما ذكرناه ، وهو اتخاذها للأنس ، وحمل الكتب ، دون اللعب.

ولا بأس بشهادة المراهن في الخف ، لأنّ المسابقة عليه جائزة ، ويدخل في الخف الفيل أيضا.

ولا بأس بشهادة المراهن في الحافر ، لأنّه مأمور بذلك ، ومحلل ، ويدخل فيه الفرس والبغل والحمار ، وكذلك المراهن في الريش ، يعني النشاب ، لأنّه من النصال ، وكذلك النصل.

وقد يتوهم بعض من لا بصيرة له بهذا الشأن ، أنّ المراد بذلك الطيور ، في قوله : « المراهن في الريش لا بأس بقبول شهادته » وهذا خطأ فاحش ، لأنّ الرمي والمسابقة لم ترد ، إلا في الحافر ، والخف ، والنصل ، فالنصل يدخل فيه النشابة ، التي هي للعجم ، والسهم الذي هو للعرب ، والحراب ، والمزاريق ، وما عدا ذلك ، فهو قمار يفسق فاعله به.

فأمّا إنشاد الشعر فهو مباح ، لا ترد شهادة فاعله ، ما لم يكن فيه هجر ، ولا فحش ، ولا تشبيب بامرأة ، ولا هجاء من لا يستحق الهجاء.

روى جابر بن سمرة قال : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر من مائة مرة ، فكان أصحابه ينشدون الأشعار ويذكرون أخبار الجاهليّة قديما (٢).

__________________

(١) النهاية : كتاب الشهادات باب تعديل الشهود.

(٢) المبسوط : ج ٨ ، فصل فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

١٢٤

وروى عمرو بن الشريد ، عن أبيه ، قال : أردفني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : هل معك من شعر أميّة بن أبي الصلت شي‌ء؟ قلت : نعم ، قال : هيه ، فأنشدته بيتا ، فقال : هيه ، فأنشدته ، حتّى بلغت مائة بيت (١).

هيه ، معناه الحث والاستزادة ، وأصله أية وإذا زجرت ، قلت ايها ، وإذا أغريت (٢) قلت ويها ، وإذا تعجبت قلت واها.

وروي أنّه عليه‌السلام كان في وليمة ، فسمع عجوزا تنشد :

أهدى لها (٣) اكبشا تبجبج في المريد

زوجك ذا في الندى يعلم ما في غد

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : أورد هذا جميعه شيخنا في مبسوطة (٤) ، وتبجبج ، بالباء المنقطة ، من تحتها نقطة واحدة ، بالجيمين ، وبالباء بين الجيمين ، ومعناه تتفتق بالسمن ، يقال بجّها الكلاء ، إذا فتقها بالسمن ، فأوسع خواصرها ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح (٥) فضبطت ذلك لئلا يجرى فيه تصحيف ، وقال صاحب كتاب البارع : تبحبح بحائين غير معجمتين ، أي تتسع من السمن.

باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها وما في ذلك من الأحكام

لا يجوز أن يمتنع الإنسان من الشهادة ، إذا دعي إليها ليشهد ، إذا كان من أهلها ، إلا أن يكون حضوره مضرّا بشي‌ء من أمر الدين ، أو بأحد من المسلمين.

وأمّا الأداء فإنّه في الجملة أيضا من الفرائض ، لقوله تعالى ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (٦) وقال ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (٧).

وقد يستشهد بعض أصحابنا بهذه الآية الأخيرة على وجوب التحمل ، وعلى

__________________

(١) و (٤) المبسوط : ج ٨ ، فصل فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٢) ل : اغربت.

(٣) ج : لنا.

(٥) الصحاح :

(٦) البقرة : ٢٨٣.

(٧) البقرة : ٢٨٢.

١٢٥

وجوب الأداء ، والذي يقوى في نفسي ، أنّه لا يجب التحمل ، وللإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعي إليها ليتحملها ، إذ لا دليل على وجوب ذلك عليه ، وما ورد في ذلك (١) فهو أخبار آحاد ، فأمّا الاستشهاد بالآية ، والاستدلال بها على وجوب التحمل ، فهو ضعيف جدا ، لأنّه تعالى سمّاهم شهداء ، ونهاهم عن الإباء إذا دعوا إليها ، وانما يسمّى شاهدا بعد تحملها ، فالآية بالأداء أشبه.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (٢).

فإن قيل : سمّاهم شهداء لما يؤولون إليه من الشهادة ، كما يقولون لمن يريد الحج : حاجي ، وإن لم يحج ، وكما قال تعالى ( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) (٣) أي انّك ستموت.

قلنا : هذا مجاز ، والكلام في الحقيقة غير الكلام في المجاز ، فلا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز ، من غير ضرورة ، ولا دليل ، والكلمة إذا كانت مشتقة من الفعل ، فلا تسمّى به إلا بعد حصول ذلك الفعل ، لأنّ الضارب والقاتل ، لا يسمّيان بذلك ، إلا بعد حصول الحدث المخصوص منهما.

إذا كان هناك خلق قد تحملوا الشهادة ، فالأداء واجب عليهم. فكلّ من دعي منهم لإقامتها ، وجب عليه ذلك لقوله تعالى ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (٤).

فإذا حضر الشاهد ، فلا يجوز له أن يشهد إلا على من يعرفه ، فإن أراد أن يشهد على من لا يعرفه ، فليشهد بتعريف من يثق الى ديانته ، من رجلين عدلين عند أصحابنا ، فأمّا الواحد والنساء ، فلا يشهد بتعريفه ، ولا تعريفهن ، لأنّه لا دليل على ذلك ، فإذا أقام الشهادة ، أقامها كذلك ، وإذا اشهد على امرأة ، وكان يعرفها بعينها ، جاز له أن يشهد عليها ، وإن لم ير وجهها ، فإن شك في حالها ، لم يجز له أن يشهد عليها إلا بعد أن تسفر عن وجهها ، ويثبتها معرفة ، فإن عرفها من يثق

__________________

(١) الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب ١.

(٢) المبسوط : ج ٨ فصل فيما يجب على المؤمن من القيام بالشهادة ، ص ١٨٦.

(٣) الزمر : ٣٠.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

١٢٦

بديانته من العدلين ، جاز له الشهادة عليها ، وإن لم تسفر عن وجهها.

ويجوز أن يشهد الإنسان على الأخرس ، إذا كانت له كناية معقولة ، واشارة مفهومة ، فعرف من إشارته الإقرار ، ويقيم شهادته كذلك ، ولا يقيمها بمجرّد الإقرار بالكلام ، لأنّ ذلك كذب.

ويجوز أن يشهد على شهادة رجل آخر ، غير أنّه ينبغي أن يشهد رجلان عدلان ، على شهادة رجل واحد ، ليقوما مقامه ، فأمّا واحد ، فلا يقوم مقام واحد ، وذلك لا يكون أيضا إلا في حقوق الآدميّين ، من الديون ، والأملاك ، والعقود ، فأمّا الحدود ، فلا يجوز أن تقبل فيها شهادة على شهادة.

ولا يجوز شهادة على شهادة على شهادة ، في شي‌ء من الأشياء.

ومن شهد على شهادة آخر ، وأنكر الشهادة الشاهد الأول الأصلي ، روي أنّه تقبل شهادة أعدلهما (١) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (٢) فإن كانت عدالتهما سواء ، طرحت شهادة الشاهد الثاني.

وقال ابن بابويه من أصحابنا ، في رسالته : تقبل في هذه الحال شهادة الثاني ، وتطرح شهادة الأوّل.

وهذا غير مستقيم ولا واضح ، بل الخلاف والنظر في أنّه تقبل شهادة أعدلهما ، فكيف تقبل في الثاني ، وهو فرع الأوّل الأصلي ، فإذا رجع عن شهادته ، فالأولى أن تبطل شهادة الفرع ، ولأنّ الفرع يشهد على شي‌ء لا يحققه ، أعني نفس الحق المشهود به ، فكيف ينتزع الحاكم المال بهذه الشهادة ، وهو ما شهد عنده على نفس الحقّ من علمه ، ولا قطع عليه يقينا ، أعني الشاهد الذي هو الفرع ، ولا خلاف أنّ الفرع يثبت بشهادة الأصل بلا شبهة ، وهكذا إذا فسق الأصل ، بطلت شهادة الفرع.

__________________

(١) الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب ٤٦ من أبواب الشهادات.

(٢) النهاية : باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها.

١٢٧

وذكر شيخنا في مبسوطة ، قال : فإن سمع الحاكم من الفرع ، في الموضع الذي يسوغ له أن يسمع ويحكم بشهادته ، ثمّ تغيرت حال الأصل ، كان الحكم فيه كما لو سمع من الأصل نفسه ، تغيرت حاله ، فإن عمى الأصل ، أو خرس ، حكم بشهادة الفزع ، لأنّ الأصل لو شهد ، ثم عمى ، أو خرس ، حكم بشهادته ، وإن فسق الأصل ، لم يحكم بشهادة الفرع ، لأنّه لو سمع من الأصل ، ثم فسق ، لم يحكم بشهادته ، لأنّ الفرع يثبت بشهادة الأصل ، فإذا فسق الأصل ، لم يبق هناك ما يثبته ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (١).

وأيضا فإذا رجع الأصل ، وأنكر ، صار فاسقا ، كذابا ، عند الفرع ، فكيف يشهد على شهادة فاسق ، وكيف له ، ان يصدّقه ، ويشهد على شهادته ، وهو لا يأمن أن يكون في الأول كاذبا ، كما كان عند إنكاره لشهادة الفرع كاذبا.

وأيضا الحاكم إذا رجع الشاهد ، قبل الحكم بشهادته ، لم يحكم بها بغير خلاف.

وأيضا الأصل أن لا حكم ولا شهادة ، وبقاء الأموال على أربابها ، وهذا حكم شرعيّ ، فمن ادّعى إثباته ، يحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل على ذلك من كتاب الله تعالى ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل معنا ، وهو نفي الأحكام الغير المعلومة بأدلة العقول ، إلى أن يقوم دليل سمعي على إثباتها.

وأيضا قوله ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٢) يشيّد ذلك ، ويعضده.

وأيضا فالصحيح من أقوال أصحابنا المحصّلين ، أن شهادة الفرع ما يجوز ، إلا بعد تعذر حضور شاهد الأصل ، وفي هذه المواضع شاهد الأصل حاضر ، فلا يجوز قبول شهادة الفرع ، فليلحظ ذلك.

لا مدخل للنساء في الشهادة على الشهادة ، سواء كان الحق ممّا يشهد فيه

__________________

(١) المبسوط : ج ٨ ، فصل في الشهادة على الشهادة ، ص ٢٣٣.

(٢) الاسراء : ٣٥.

١٢٨

النساء ، أو لا يشهدن فيه.

إذا شهد شاهد الفرع على شهادة الأصل ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إما أن يسميا الأصل ويعدلاه ، أو يعدلاه ولا يسمياه ، أو يسمّياه ولا يعدّلاه.

فإن سمياه وعدّلاه ، ثبتت عدالته وشهادته ، لأنّهما عدلان.

وإن عدّلاه ولم يسمّياه ، لم يحكم بقولهما.

وإن سمّياه ولم يعدّلاه ، سمع الحاكم هذه الشهادة ، وبحث عن عدالة الأصل ، فإن ثبتت عدالته ، حكم ، وإلا وقف.

ويصير شاهد الفرع متحملا لشهادة شاهد الأصل بأحد أسباب ثلاثة :

أحدها : الاسترعاء ، وهو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع : أشهد أن لفلان بن فلان ، على فلان بن فلان درهما ، فاشهد على شهادتي ، فهذا هو الاسترعاء.

الثاني : أن يسمع شاهد الفرع شاهد الأصل ، يشهد بالحق عند الحاكم ، فإذا سمعه يشهد به عند الحاكم ، صار متحملا لشهادته.

الثالث : أن يشهد الأصل بالحقّ ويعزيه (١) إلى سبب وجوبه ، فيقول : أشهد أنّ لفلان بن فلان ، على فلان بن فلان ، ألف درهم ، من ثمن ثوب ، أو عبد ، أو دار ، أو ضمان ، ونحو هذا ، فإذا عزاه إلى سبب وجوبه ، صار متحملا للشهادة.

فأمّا إن لم يكن هناك استرعاء ، ولا سمعه يشهد عند حاكم (٢) ، ولا عزاه إلى سبب وجوبه ، مثل أن سمعه يقول : أشهد أنّ لفلان بن فلان ، على فلان بن فلان ، درهما ، فإنّه لا يصير بهذا متحملا للشهادة على شهادته ، لأنّ قوله : اشهد بذلك ، ينقسم إلى الشهادة بالحق ، ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به ، وهو أن يسمع الناس ، يقولون لفلان على فلان كذا وكذا ، وقف التحمل لهذا

__________________

(١) ج : يعزوه.

(٢) ل : عند الحاكم به ج : عند الحاكم.

١٢٩

الاحتمال ، فإذا حقق ما قلنا زال الإشكال.

وهذا جميعه أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (١) فأوردناه على ما أورده ، ولم يرد في أخبارنا من هذا شي‌ء.

ولا بأس بالشهادة على الشهادة ، وإن كان الشاهد الأوّل حاضرا غير غائب ، إذا منعه من إقامة الشهادة مانع ، من مرض ، وغيره.

ومن رأى في يد غيره شيئا ورآه يتصرف فيه تصرف الملاك. جاز له أن يشهد بأنّه ملكه ، كما أنّه يجوز له أن يشتريه على أنّه ملكه ، وفقه ذلك ، أنّه كما يجوز أن يشتريه ، ثمّ يدّعيه بعد الشراء ملكا له ، فلو لا أنّه كان يجوز له أن يشهد له بالملك المطلق ، لما جاز له أن يدّعيه ملكا له ، بعد شرائه منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فأمّا الشهادة باليد فلا شبهة في جوازها ، وقال بعضهم : يشهد له بالملك ، وقال : لأنّه لمّا صحّ أن يشهد على بيعه ما في يديه ، صح أن يشهد له بالملك ، قال رحمه‌الله : وروى أصحابنا أنه يجوز له أن يشهد بالملك ، كما يجوز أن يشتريه ثمّ يدّعيه ملكا له ، هذا أخر كلامه رحمه‌الله (٢).

ولا بأس أن يشهد الإنسان على مبيع ، وإن لم يعرفه ولا عرف حدوده ولا موضعه ، إذا عرف البائع والمشتري ذلك ، ويكون شاهدا على إقرارهما بوصف المبيع.

وقد روي أنّه يكره للمؤمن أن يشهد لمخالف له في الاعتقاد ، لئلا تلزمه إقامتها ، فربما ردت شهادته ، فيكون قد أذلّ نفسه (٣) وفقه هذا الرواية ، أنّه انّما يكره له أن يحتمل له شهادة ابتداء ، فأمّا إن تحملها ، فالواجب عليه أداؤها وإقامتها ، إذا دعي إلى ذلك ، عند من دعا إلى إقامتها عنده ، سواء ردّها أو لم يردّها ، قبلها أو لم يقبلها ، بغير خلاف ، لقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (٤).

__________________

(١) المبسوط : ج ٨ ، فصل في الشهادة على الشهادة ، ص ٢٣١.

(٢) المبسوط : ج ٨ ، كتاب الشهادات ، فصل في التحفظ في الشهادة ، ص ١٨٢.

(٣) الوسائل : الباب ٥٣ من كتاب الشهادات.

(٤) البقرة : ٢٨٣.

١٣٠

ومتى دعي الإنسان لإقامة شهادة ، لم يجز له الامتناع منها على حال ، إلا أن يعلم أنّه إن أقامها أضرّ ذلك بمؤمن ضررا غير مستحق بأن يكون عليه دين ، وهو معسر ، ويعلم (١) إن شهد عليه حبسه الحاكم ، فاستضر به هو وعياله ، لم يجز له إقامتها.

وإذا أراد إقامة شهادة ، لم يجز له أن يقيم (٢) إلا على ما يعلمه ويتيقنه ، ويقطع عليه ، ولا يعول على ما يجد خطه به مكتوبا ، أو خاتمه مختوما ، لما قدّمناه من قوله تعالى ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٣) وقول الرسول عليه‌السلام ، لما سئل عن الشهادة ، فقال للسائل : فهل ترى الشمس ، على مثلها فاشهد أودع (٤) ، وما روي عن الأئمة الأطهار ، في مثل هذا المعنى أكثر من أن تحصى ، قد أورد بعضه شيخنا أبو جعفر في استبصاره (٥).

وقال شيخنا في نهايته : وإذا أراد إقامة الشهادة ، لم يجز له أن يقيم إلا على ما يعلم ، ولا يعوّل على ما يجد خطه به مكتوبا ، فإن وجد خطه مكتوبا ، ولم يذكر الشهادة ، لم يجز له إقامتها ، فإن لم يذكر ، وشهد معه آخر ثقة ، جاز له حينئذ إقامة الشهادة (٦).

وهذا غير صحيح ولا مستقيم ، لما قدّمناه من القران والأخبار والإجماع ، ولا يلتفت الى خبر ضعيف قد أورده إيرادا لا اعتقادا ، فإنّه رحمه‌الله رجع عن قوله في نهايته في استبصاره (٧) ، وأورد الأخبار المتواترة ، في أنّ الإنسان لا يجوز له أن يقيم ، إلا بعد الذكر الشهادة ، ولا يجوز له أن يعوّل على خطه وخاتمه ، ثم أورد بعد ذلك في آخر الباب خبرا خبيئا ، ضعيفا شاذا مخالفا لأصول مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، موافقا لمذاهب أهل الغلو والإلحاد ، وهو عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يشهدني على الشهادة (٨) ، فأعرف

__________________

(١) ل : يعلم انه.

(٢) ل : يقيمها.

(٣) الاسراء : ٣٦.

(٤) الوسائل : الباب ٢٠ من كتاب الشهادات ، ح ٣.

(٥) الاستبصار : الباب ١٦ من الشهادات.

(٦) النهاية : باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها.

(٧) الاستبصار : الباب ١٦ من الشهادات.

(٨) ج : على الشي‌ء.

١٣١

خطي وخاتمي ، ولا أذكر من الباقي قليلا ولا كثيرا ، قال : فقال لي إذا كان صاحبك ثقة ، ومعه رجل ثقة ، فاشهد له ، قال شيخنا أبو جعفر في استبصاره : فهذا الخبر ضعيف مخالف للأصول كلّها ، قال : لأنّا قد بيّنا أن الشهادة لا يجوز إقامتها ، إلا مع العلم ، ثم قال : وقد قدّمنا أيضا الأخبار التي تقدّمت ، من أنّه لا يجوز إقامة الشهادة مع وجود الخط والختم ، إذا لم يذكرها ثم تأوّله تأويلا نربأ به (١) عن مثله ، ثم قال بعد تأويله واعتذاره الذي يحتاج إلى اعتذار ، وإن كان الأحوط ما تضمنه الأخبار الأوّلة.

قال محمّد بن إدريس : ثم هذا يؤدّى إلى أن يشهد الإنسان ، لأخيه الثقة بقوله ، فيكون مصيرا إلى مذهب ابن أبي العزاقر الغالي ، الذي أودعه كتابه كتاب التكليف ، وهو معروف ، وقد ذكره شيخنا أبو جعفر في فهرست المصنفين (٢) وقال : أروي الكتاب ، وذكر من رواه عنه ، واستثنى هذا الحديث ، فإنّه قال : أرويه إلا حديثا واحدا ، وهو أنّه يجوز أن يشهد الإنسان لأخيه بقوله ، نعوذ بالله من سوء التوفيق ومن هذا القول ، ثم وأي علم يحصل له إذا شهد معه آخر ثقة ، ولم يذكر هو الشهادة ، فهذا يكون شاهدا على شهادته ، وهو حاضر ولا يجوز الشهادة على الشهادة ، إلا إذا تعذر على شاهد الأصل الحضور ، وهاهنا شاهد الأصل حاضر ، وأيضا فلا بد من أن يكونا اثنين ، حتى يقوما مقامه ، وهاهنا شاهد الفرع واحد ، فهذا القول فاسد ، بحمد الله تعالى من كلّ الأحوال ، وعلى سائر الأقوال.

ومن علم شيئا من الأشياء ، ولم يكن قد أشهد عليه ، ثم دعي إلى أن يشهد ، فالواجب عليه الأداء ، لقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (٣) ولا يكون بالخيار في إقامتها.

__________________

(١) ل : بريئا به ج : يربى به.

(٢) الفهرست : ص ١٤٦ ، الرقم ٦١٦.

(٣) البقرة : ٢٨٣.

١٣٢

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومن علم شيئا من الأشياء ، ولم يكن قد أشهد عليه ، ثم دعي إلى أن يشهد ، كان بالخيار في إقامتها ، وفي الامتناع منها ، اللهم إلا أن يعلم أنّه إن لم يقمها بطل حقّ مؤمن ، فحينئذ يجب عليه إقامة الشهادة (١) ، ولا يجوز للشاهد ، أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة ، كما لا يجوز له كتمانها ، وقد دعي إلى إقامتها ، إلا أن يكون إقامتها تودي إلى ضرر على المشهود عليه لا يستحقه ، على ما قدّمناه ، فإنّه لا يجوز له حينئذ إقامة الشهادة ، وإن دعي إليها ، أو يكون فيما قلنا أنّه لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة ، ترك شهادته يبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين الله تعالى ، فيجوز له ، بل يجب عليه أن يشهد به ، قبل أن يسأل عن الشهادة.

وشيخنا في النهاية قد أورد المسألتين ، واستثنى استثناءين عقيبهما ، فيهما التباس وإيهام ، لأنّ استثناء المسألة الأولة عقيب المسألة الثانية ، واستثناء المسألة الثانية عقيب (٢) المسألة الأوّلة ، فلا يفهم بأوّل خاطر ، بل يحتاج إلى تأمل ، ورد الاستثناء الأوّل إلى المسألة الأولة ، ورد الاستثناء الأخير إلى المسألة الثانية ، وقد زال الالتباس والإبهام ، فكم من معنى ضاع ، لقصور العبارة ، ولسوء الإشارة ، فاني شاهدت جماعة من أصحابنا يلتبس هذا عليهم كثيرا ، وهذا سهل على المتأمّل المحصل لمعاني الخطاب ، وكلام العرب فإنّهم يلقون الجملتين المختلفتين ، ثم يرمون بتفسيرهما جملة ، ثقة بأن يردّ السامع إلى كلّ جملة خبرها ، كقوله تعالى ( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) (٣) والسكون باللّيل ، وهو عقيب النهار.

__________________

(١) النهاية : كتاب الشهادة ، باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها.

(٢) ج : عقيب استثناء.

(٣) القصص : ٧٣.

١٣٣

باب شهادة الولد لوالده وعليه والوالد لولده وعليه

والمرأة لزوجها وعليه ، والزوج لزوجته وعليها

لا بأس بشهادة الوالد لولده وعليه ، مع غيره من أهل الشهادة ، ولا بأس بشهادة الولد لوالده ، ولا يجوز شهادته عليه.

وقال السيد المرتضى في انتصاره يجوز أيضا شهادته عليه (١) والأول هو المذهب ، وعليه العمل ، والإجماع منعقد عليه ، ولا اعتبار بخلاف من يعرف باسمه ونسبه.

ولا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه ، إذا كان معه غيره من أهل الشهادات.

ولا بأس بشهادة الرجل لامرأته وعليها ، إذا كان معه غيره من أهل العدالة.

ولا بأس بشهادتها له وعليه ، فيما يجوز قبول شهادة النساء فيه ، إذا كان معها غيرها من أهل العدالة ، وقولنا في جميع ذلك إذا كان معه غيره من أهل العدالة ، على ما أورده بعض أصحابنا ، وإلا إذا لم يكن معه غيره ، يجوز أيضا شهادته له ، مع يمين المدّعي فيما يجوز قبول شهادة الشاهد الواحد مع اليمين.

ويجوز شهادات ذوي الأرحام والقرابات ، بعضهم لبعض ، إذا كانوا عدولا إلا ما استثنيناه ، والسيد المرتضى رحمه‌الله قال من غير استثناء لأحد ، على ما حكيناه عنه قبل هذا.

فإن قيل : وما بالكم استثنيتم.

قلنا : قد دللنا على أن الإجماع منعقد على ذلك.

فإن قيل : فأين أنتم من قوله تعالى ( وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ ) (٢).

__________________

(١) الانتصار : مسائل القضاء والشهادات .. المسألة ٣.

(٢) النساء : ١٣٥.

١٣٤

قلنا : قد يخص العموم بالأدلة ، وإجماعنا من أعظم الأدلة ، وأقواها ، ويمكن أن يعطى الظاهر حقّه ، ونقول يجب على الولد أن يقيم الشهادة على والده ، ولا يجوز للحاكم أن يعمل بها ، كما أنّ الفاسق إذا دعي لإقامة شهادة يشهد بها ، فإنّه يجب عليه أن يقيمها ، ويجب على الحاكم أن لا يعمل بها.

باب شهادة العبيد والإماء والمكاتبن والصبيان وأحكامهم

لا بأس بشهادة العبيد إذا كانوا عدولا ، لساداتهم ، ولغير ساداتهم ، وعلى غير ساداتهم ، ولا يجوز شهادتهم على ساداتهم.

وذهب أبو عليّ بن الجنيد من أصحابنا إلى المنع من شهادة العبيد على كلّ حال.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في استبصاره إلى أن العبد لا تقبل شهادته لسيده ولا عليه (١) ، وإن كان قائلا بما اختبرناه في نهايته (٢) ، وهو الصحيح ، والإجماع منعقد من أصحابنا على ما قلناه أولا ، ولا اعتبار بخلاف ابن الجنيد لما قدّمناه.

وإذا شهد ، العبد على سيده بعد أن يعتق ، قبلت شهادته عليه.

وإذا أشهد رجل عبدين له على نفسه بالإقرار بوارث ، فردّت شهادتهما ، وحاز الميراث غير المقر له ، فأعتقهما ، أو لحقهما العتاق بعد ذلك ، ثم شهدا للمقر له ، قبلت شهادتهما له ، ورجع بالميراث على من كان أخذه وحازه ، ورجعا عبدين لمن شهدا له.

فإن قيل : أنتم قلتم لا يقبل شهادة العبيد على ساداتهم ، وهاهنا قد قبلتم شهادتهم على سيدهم.

قلنا : معاذ الله انّما شهدا في حال الحرية ، دون العبوديّة ، فوقت شهادتهما ، لم

__________________

(١) الاستبصار : الباب ١١ من الشهادات.

(٢) النهاية : باب شهادة العبيد والإماء ..

١٣٥

يكن لهما سيد يشهدان عليه ، وانّما تجدد الرق بعد شهادتهما ، بل إن قيل شهدا لسيدهما الحقيقي ، كان صحيحا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن ذكرا أنّ مولاهما كان أعتقهما في حال ما أشهدهما ، لم يجز للمقر له أن يردهما في الرق ، ويقبل شهادتهما في ذلك ، لأنّهما أحييا حقّه (١).

وهذا غير واضح ولا مستقيم ، لأنّ هذه الشهادة الأخيرة تكون شهادة (٢) على سيدهما ، وقد بيّنا أنّه لا يجوز شهادة العبيد على ساداتهم ، بغير خلاف بين أصحابنا ، وإن كان قد ذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره متأولا للأخبار ، إلى أنّ شهادة العبيد لا تقبل لساداتهم ، وهذا أيضا غير مستقيم ولا واضح ، بل الإجماع منعقد على جواز شهاداتهم لساداتهم ، وهو موافق لهذا القول في نهايته ، فلا يلتفت إلى قوله الذي يخالف فيه الإجماع.

ولا بأس بشهادة المكاتبين والمدبرين ، وتقبل شهادة المكاتبين المطلقين ، بمقدار ما عتقوا ، بفتح العين ، يقال عتق العبد في نفسه ، وأعتقه غيره على ساداتهم ، ولي فيه نظر.

فأمّا شهادة المدبرين ، فحكمهم حكم العبيد في الشهادات ، حرفا فحرفا.

وكل من ذكرنا من العبيد والمكاتبين والمدبرين ، تقبل شهاداتهم على أهل الإسلام ، إلا من استثنيناهم من ساداتهم ، ولأهل الإسلام ، ولمن خالف الإسلام ، من الأحرار والعبيد ، في سائر الحقوق والحدود ، وغير ذلك مما تراعى فيه الشهادة.

وتجوز شهادة الصبيان دون الصبايا ، إذا بلغوا عشر سنين فصاعدا ، إلى أن يبلغوا في شيئين فحسب ، الشجاج والقصاص ، ويؤخذ بأوّل كلامهم ، ولا يؤخذ بآخره ، ولا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من جميع الأحكام.

__________________

(١) النهاية : باب شهادة العبيد والإماء ..

(٢) ج : تكون شهادتهما.

١٣٦

وإذا أشهد الصبي على حق ثم بلغ وعدل ، وذكر ذلك ، جاز له أن يشهد بذلك ، وقبلت شهادته ، إذا كان من أهلها ، على ما قدّمناه.

باب شهادة النساء

شهادة النساء على ثلاثة أضرب : ضرب لا يجوز قبولها على وجه ، وضرب يجوز قبولها إذا انضم شهادة الرجال إليهن وضرب يجوز قبولها ، وإن لم ينضم شهادة الرجال إليهن.

فالأول رؤية الأهلّة ، والطلاق ، والرضاع ، على ما قدّمناه أولا ، وذكرناه ، فإنّه لا يجوز قبول شهادة النساء في ذلك ، وإن كثرن.

والثاني فكالرجم ، فإنّه إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان ، على رجل بالزنا ، قبلت شهادتهم ، ووجب على المشهود عليه الرجم ، إن كان محصنا.

وإن شهد رجلان وأربع نسوة بذلك ، قبلت أيضا ، إلا أنّه لا يرجم المشهود عليه ، إن كان محصنا بل يحد حدّ الزاني غير المحصن.

فإن شهد رجل وست نساء أو أكثر منهن ، لم يجز قبول شهادتهم ، وجلدوا كلهم حد الفرية.

وإذا شهد أربعة رجال على امرأة بالزنا ، وانّ الفعل كان في قبلها ، فادّعت انّها بكر ، أمر النساء بأن ينظرن إليها ، فإن كانت كما قالت ، درئ عنها الحد ، وجلد الأربعة حدّ الفرية ، وإن لم يكن كذلك ، رجمت ، أو حدّت على ما يوجبه حالها ، فأمّا أن يشهد الأربعة رجال ، بأنّ الفعل كان في دبرها ، فدعواها غير نافعة لها ، وإن شهد لها بما ادّعت.

وشيخنا أطلق ذلك في نهايته إطلاقا (١) والأولى تقييده على ما حررناه.

ويجوز شهادتهن منضمات إلى الرجال ، في القتل ، والقصاص ، إذا كان

__________________

(١) النهاية : كتاب الشهادات ، باب شهادة النساء.

١٣٧

معهن رجال ، فأمّا إن كان رجل واحد معهن ، بأن يشهد رجل وامرأتان ، على رجل بالقتل ، أو الجراح ، فقد ذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى قبولها (١).

والذي يقوى في نفسي خلاف ذلك ، وانّها غير مقبولة ، لأنّه لا دليل عليه من إجماع ، ولا كتاب ، ولا سنة مقطوع بها.

فأمّا شهادتهن على ذلك على الانفراد ، فإنّها لا تقبل على حال.

فأمّا قول شيخنا في نهايته ، على ما أوردناه عنه إذا كان معهن رجال ، فلا وجه لانضمامهن إليهم في ذلك ، لأنّ الرجال يكفون ، ولا حاجة في تصحيح الشهادة وإتمامها بهن.

وتقبل شهادتهن في الديون مع الرجال ، بغير خلاف ، على ما نطق به القران (٢) ، وعلى الانفراد عند بعض أصحابنا ، فإن شهد رجل وامرأتان بدين ، قبلت شهادتهم ، فإن شهد امرأتان ، قبلت شهادتهما ، ووجب على الذي يشهد ان له اليمين كما تجب اليمين ، إذا شهد له رجل واحد ، عند بعض أصحابنا على ما قدمناه.

فأمّا ما يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد ، فكل ما لا تستطيع الرجال النظر اليه ، مثل العذرة والأمور الباطنة بالنساء.

وتقبل شهادة القابلة وحدها ، إذا كانت بشرائط العدالة ، في استهلال الصبي ، في ربع ميراثه بغير يمين.

وتقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية ، وشهادة امرأتين ، في نصف ميراث المستهل ، ونصف الوصية ، ثم على هذا الحساب ، وذلك لا يجوز إلا عند عدم الرجال ، وعلى المسألتين إجماع أصحابنا ، فلأجله قلنا بذلك.

ولا يجوز شهادة النساء في شي‌ء من الحدود ، إلا ما قلناه ، من حدّ الزنا ، والدم خاصّة ، لئلا يبطل دم امرء مسلم ، غير أنّه لا يثبت بشهادتهن القود ،

__________________

(١) النهاية : كتاب الشهادات ، باب شهادة النساء.

(٢) البقرة : ٢٨٢.

١٣٨

ويجب بها الدّية على الكمال ، عند من ذهب إليه على ما حكيناه.

ولا تقبل شهادة النساء في عقد النكاح ، واليه ذهب شيخنا المفيد في مقنعته (١).

وذهب شيخنا أبو جعفر في الاستبصار إلى قبول شهادتهن في عقود النكاح (٢) ، والذي قلناه ، واخترناه ، هو الذي تقتضيه أصول مذهبنا ، لأنّه أمر شرعيّ يحتاج إلى أدلّة شرعية على ثبوته.

باب شهادة من خالف الإسلام

لا يجوز قبول شهادة من خالف الإسلام ، على المسلمين ، لا في حال الاختيار ، ولا حال الاضطرار ، إلا في الوصيّة بالمال ، في حال الاضطرار خاصّة ، دون سائر الأحكام ، لقوله تعالى ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (٣).

ويجوز شهادة المسلمين عليهم ولهم ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويجوز شهادة بعضهم على بعض ، ولهم ، وكل ملة على أهل ملته خاصّة ، ولهم ، ولا يقبل شهادة أهل ملة منهم لغيرهم ، ولا عليهم ، إلا المسلمين خاصة حسب ما قدّمناه ، فإنه يقبل شهادتهم لهم وعلى غيرهم ، من أصناف الكفار ، وتقبل لهم إذا كانوا أهل كتاب ، في أحكام المسلمين في الوصيّة بالمال خاصة ، حسب ما قدّمناه (٤).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة خلاف ما ذهب إليه في نهايته ، وهو أن قال : لا خلاف أنّ شهادة أهل الذمة لا تقبل على المسلمين ، إلا ما ينفرد به أصحابنا في الوصيّة خاصّة ، في حال السفر عند عدم المسلم ، قال : فأمّا قبول شهادة بعضهم على بعض ، فقال قوم : لا تقبل بحال ، لا على مسلم ولا على مشرك ، اتفقت ملّتهم ، أو اختلفت ، وفيه خلاف ، قال رحمه‌الله : ويقوى في

__________________

(١) المقنعة : باب البيّنات ص ٧٢٧.

(٢) الاستبصار : كتاب الشهادات ، الباب ١٧ ، باب ما يجوز شهادة النساء فيه وما لا يجوز.

(٣) المائدة : ١٠٦.

(٤) النهاية : كتاب الشهادات ، باب شهادة من خالف الإسلام.

١٣٩

نفسي أنّه لا تقبل بحال ، لأنّهم كفار فساق. ومن شرط الشاهد أن يكون عدلا (١) قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا الذي يقوى أيضا في نفسي ، واعتقده مذهبا ، أدين الله تعالى به ، واعمل عليه ، وأفتي به ، لأنّ الإجماع من المسلمين منعقد عليه ، وهو قبول شهادة العدول ، وقد بيّنا أن العدل من لا يخلّ بواجب ، ولا يرتكب قبيحا ، وقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٢) وفيما عدا هذا خلاف ، ودليل الاحتياط يقتضيه ، فلو اقتصرنا عليه لكفى ، وأيضا فليس على خلاف ما اخترناه دليل من إجماع ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا كتاب ، وعلى ما اخترناه الإجماع ، والكتاب ، والسنّة ، فلا يرجع عن المعلوم الى المظنون ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد ، فإنّها لا توجب علما ولا عملا على ما ذكرنا القول في ذلك.

والذمي إذا اشهد على أمر من الأمور ، ثم أسلم ، جاز قبول شهادته ، على المسلمين والكافرين ، إذا كان بشرائط العدالة ، وكذلك جميع الكفار.

باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين وحكم القسامة

يقبل (٣) الشاهد الواحد ، مع يمين المدّعي في كل ما كان مالا ، أو المقصود منه المال ، وقال شيخنا في نهايته : إذا شهد لصاحب الدين شاهد واحد ، قبلت شهادته ، وحلف مع ذلك ، وقضي له به ، وذلك في الدين خاصة (٤).

ورجع عن هذا القول في استبصاره (٥) ، ومسائل خلافه (٦) ، ومبسوطة (٧) وهو الصحيح الحق اليقين ، لأنّه مذهب جميع أصحابنا.

__________________

(١) المبسوط : كتاب الشهادات ، فصل فيما يجب على المؤمن من القيام بالشهادة.

(٢) الطلاق : ٢.

(٣) ل : تقبل شهادة الشاهد.

(٤) النهاية : باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين والقسامة.

(٥) الاستبصار : الباب ١٨ فيما تجوز فيه شهادة الواحد مع يمين المدعي.

(٦) الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة ٧.

(٧) المبسوط : ج ٨ فصل في الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين ، ص ١٨٩.

١٤٠