كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

ثلاثا في ثلاثة أطهار ، أنّه يسمّى مطلّقا ثلاثا.

فإن قيل : لا فائدة على هذا الوجه في قوله عليه‌السلام : إذن عصيت ربّك ، وبانت منك امرأتك.

قلنا : يحتمل ذكر المعصية أمرين ، أحدهما أن يكون النبي عليه‌السلام كان يعلم من زوجة ابن عمر خيرا وبرا يقتضيان المعصية بفراقها ، والأمر الآخر أنّه مكروه للزوج أن يخرج نفسه من التمكين من مراجعة المرأة ، لأنّه لا يدري كيف ينقلب قلبه ، فربما دعته الدواعي القوية إلى مراجعتها ، فإذا أخرج أمرها من يده ، ربما هم بالمعصية.

فإن احتجوا أيضا بما رووه من أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق طلّق امرأته تماضر ـ بضم التاء وكسر الضاد ـ ثلاثا (١).

قلنا : يجوز أن يكون طلقها في أطهار ثلاثة مع مراجعة تخللت ، وليس في ظاهر الخبر أنّه طلقها ثلاثة لفظ واحد في حالة واحدة.

وهذه الطريقة التي سلكناها ، يمكن أن تطرد في جميع أخبارهم التي يتعلقون بها ، بما يتضمن وقوع طلاق ثلاث ، فقد فتحنا طريق الكلام على ذلك كلّه ، ونهجناه ، فلا معنى للتطويل بذكر جميع الأخبار.

على أنّ أخبارهم معارضة بأخبار موجودة في رواياتهم وكتبهم ، يقتضي أنّ الطلاق الثلاث لا يقع.

منها ما رواه ابن سيرين أنّه قال : حدثني من لا أتهم ، أنّ ابن عمر طلّق امرأته ثلاثا وهي حائض ، فأمره النبيّ عليه‌السلام أن يراجعها (٢).

__________________

(١) .. لم نعثر عليه إلا أنّ في سنن البيهقي ( كتاب الطلاق ، باب من جعل الثلاث واحدة .. ج ٧ ، ص ٣٣٦ ) أنّ أبا الصهبان قال لابن عباس : ألم يكن الطلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر واحدة؟ قال : « قد كان ذلك ، فلمّا كان في عهد عمر نتابع الناس في الطلاق ، فأمضاه عليهم »

(٢) التاج : ج ٢ ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، ص ٣٤١. صحيح مسلم : كتاب الطلاق ، ح ٩.

٦٨١

وبما رواه الحسن قال : أتى عمر برجل قد طلّق امرأته ثلاثا بفم واحد ، فردّها عليه ، ثمّ أتى بعد ذلك برجل آخر قد طلّق امرأته ثلاثا بفم واحد ، فأبانها منه ، فقيل له : إنّك بالأمس رددتها عليه ، فقال : خشيت أن يتتايع ـ بالياء المنقطة من تحت بنقطتين يقال تتايع الناس في الشر ، وتتابع الناس في الخير ، بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، التي قبل العين ، وفي الشر تتايع بنقطتين قبل العين ـ فيه السكران والغيران (١).

وروي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، أنّه كان يقول انّ الطلاق كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعهد أبي بكر وصدر من امارة عمر طلاق الثلاث واحدة ، ثمّ جعلها عمر بعد ذلك ثلاثا (٢).

وروى عكرمة عن ابن عباس ، قال : طلّق ركانة ـ بالراء المضمومة ، والنون ـ ابن عبد ربه ، امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف طلقتها؟ قال : طلقتها ثلاثا فقال : في مجلس واحد قال : نعم ، قال عليه‌السلام : انّما تلك واحدة ، فراجعها إن شئت ، قال : فراجعتها (٣).

والأخبار المعارضة لأخبارهم أكثر من أن تحصى ، أو تستقصى.

ودليل آخر على أصل المسألة ، وهو أن يقال الطلاق الثلاث بلفظ واحد في حالة واحدة من غير أن يتخلله مراجعة ، لا يقع منه إلا واحدة ، والدليل على ذلك من كتاب الله تعالى ، ومن سنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن إجماع المسلمين ، ومن قول أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومن قول ابن عباس رحمه‌الله ،

__________________

وأشار إليه أبو داود في سننه في كتاب الطلاق ، الباب ٤ ( الرقم ٢١٨٥ ).

(١) لم نعثر عليه.

(٢) التاج : ج ٢ ، كتاب النكاح والطلاق والعدّة ص ٣٤٠. سنن أبي داود : الباب ١٠ من كتاب الطلاق ، ح ٥ و ٦ ( الرقم ٢١٩٩ و ٢٢٠٠ ).

(٣) أورده في هامش التاج ، ج ٢ ، ص ٣٤٠ : الفتح الرباني : كتاب الطلاق ، الباب ٣ ، ح ١ ، قالوا :

وسند الحديث صحيح عند احمد بن حنبل وغيره.

٦٨٢

ومن قول عمر بن الخطاب.

أمّا كتاب الله فقد تقرر أنّه نزل بلسان العرب ، وعلى مذاهبها في الكلام ، قال الله جلّت عظمته ( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) (١) وقال تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (٢) ثمّ قال سبحانه في آية الطلاق : ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (٣) فكانت الثالثة في قوله عزوجل ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) على قول ابن عباس ، أو في قوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (٤) فوجدنا المطلّق إذا قال لامرأته : أنت طالق ، أتى بلفظ واحد يتضمن تطليقة واحدة ، وإذا قال لها عقيب هذا اللفظ : ثلاثا ، لم يخل من أن تكون أشار به إلى طلاق وقع فيما سلف ثلاث مرات ، أو إلى طلاق يكون في المستقبل ثلاثا ، أو إلى الحال ، فإن كان أخبر عن الماضي ، فلم يقع الطلاق إذن باللفظ الذي أورده في الحال ، وانّما أخبر عن أمر كان ، وإن كان أخبر عن المستقبل فيجب أن لا يقع بها طلاق حتى يأتي الوقت ، ثمّ يطلّقها ثلاثا على مفهوم اللفظ والكلام ، وليس هذان القسمان ممّا جرى الحكم عليهما ، ولا تضمنهما المقال ، فلم يبق إلا أنّه أخبر عن الحال وذلك كذب ولغو بلا إشكال ، لأنّ الواحدة لا تكون أبدا ثلاثا ، فلأجل ذلك حكمنا عليه بتطليقة واحدة ، من حيث تضمّنه اللفظ الذي أورده ، وأسقطنا ما لغا فيه ، واطرحناه إذا كان على مفهوم اللغة التي نطق بها القرآن فاسدا وكان مضادا لأحكام الكتاب وأمّا السنّة فانّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كلّ ما لم يكن على أمرنا هذا فهو ردّ » (٥) وقال عليه‌السلام : « ما وافق الكتاب فخذوه وما خالفه فاطرحوه » (٦) وقد بيّنا أنّ المرّة لا تكون مرتين ، وأن الواحدة لا تكون ثلاثا ،

__________________

(١) الزمر : ٢٨.

(٢) إبراهيم : ٤.

(٣) البقرة : ٢٢٩.

(٤) البقرة : ٢٣٠.

(٥) لم نعثر عليه.

(٦) الوسائل : الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٠ ـ ١٩ ـ ٢٩. وفي جميعها فردوه ، أو

٦٨٣

فأوجبت السنّة إبطال طلاق الثلاث.

وأمّا إجماع الأمّة فإنّهم مطبقون على أنّ كلّ ما خالف القرآن والسنّة فهو باطل ، وقد تقدّم وصف خلاف الطلاق الثلاث للقرآن والسنّة ، فحصل الإجماع على إبطاله.

وأمّا قول أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّه قد تظاهر عنه الخبر المستفيض أنّه قال : « إيّاكم والمطلّقات ثلاثا في مجلس واحد ، فإنّهنّ ذوات الأزواج » (١).

وأمّا قول ابن عباس رحمه‌الله ، فإنّه كان يقول : الا تعجبون من قوم يحلون المرأة لرجل واحد وهي تحرم عليه ، ويحرّمونها على آخر وهي حلال له ، فقالوا : يا ابن عباس ومن هؤلاء القوم؟ فقال : هم الذين يقولون للمطلّق ثلاثا في مجلس واحد ، قد حرمت عليك امرأتك.

وأمّا قول عمر بن الخطاب ، فلا خلاف أنّه رفع إليه رجل قد طلّق امرأته ثلاثا ، فأوجع ظهره وردّها عليه ، وبعد ذلك رفع إليه رجل قد طلّق كالأول ، فأبانها منه ، فقيل له في اختلاف حكمه في الرجلين ، فقال : قد أردت أن أحمله على كتاب الله عزوجل ، فخشيت أن يتتايع فيه السكران والغيران ، فاعترف بأنّ المطلقة ثلاثا تردّ إلى واحدة على حكم الكتاب ، وأنّه انّما أبانها منه بالرأي والاستحسان ، فعملنا من قوله على ما وافق القرآن ، ورغبنا عمّا ذهب إليه من جهد الرأي والاستحسان.

على أنّه لا خلاف بين أهل اللسان العربي وأهل الإسلام ، أنّ المصلّي لو قال في ركوعه : سبحان ربي العظيم فقط ، ثمّ قال في عقيبه : ثلاثا ، لم يكن مسبحا ثلاثا ، ولو قرأ الحمد مرّة ، ثمّ قال في آخرها بلفظه : عشرا لم يكن قارئا لها عشرا.

__________________

(١) مستدرك الوسائل : الباب ٢٢ من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ح ٩ ، وفيه : فإنهن ذوات بعول.

٦٨٤

وقد أجمعت الأمة على أنّ الملاعن لو قال في شهادته أشهد بالله أربعا : أني لمن الصادقين ، لم يكن شاهدا أربع مرّات على الحقيقة ، حتى يفصّلها.

ولو أنّ حاجا رمى بسبع حصيات في دفعة واحدة ، لم يجزئه ذلك عن سبع متفرقات ، فهذا بيّن واضح لمن تدبره ، وأعطى النظر حقّه ، وحرّره ، وأنصف عن نفسه ، ووزن الحقّ بميزان عقله ، وترك التقليد جانبا ، وحب المذهب والنشو والعادة وراء ظهره ، واعتقد المعاد والحساب وسؤال منكر ونكير في رمسه ، واستدرك في يومه ما فرط في أمسه.

وأيضا فقد قال الله تعالى ( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) (١) فأمر بإحصاء العدّة ، ثبت أنّه أراد في كل قرء طلقة ، لأنّه لو أمكن الجمع بين الثلاث ، لما احتاج إلى إحصاء العدّة في غير المدخول بها وذلك خلاف الظاهر.

فإن قيل : العدد إذا ذكر عقيب الاسم ، لم يقتض التفريق ، مثاله إذا قال له على مائة درهم مرتان ، وإذا ذكر عقيب الفعل اقتضى التفريق ، مثاله ادخل الدار مرتين ، أو ضربته مرتين ، والعدد في آية الطلاق وهو قوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) عقيب الاسم لا الفعل.

قلنا : قوله « الطَّلاقُ مَرَّتانِ » ، يعني طلّقوا مرّتين ، لأنّه لو كان خبرا لكان كذبا ، فالعدد مذكور عقيب فعل ، لا اسم فهذا آخر الجواب ، أحببت إيراده هاهنا لئلا يشذ.

وقد روى أصحابنا روايات متظاهرة بينهم ، متناصرة ، وأجمعوا عليها قولا وعملا ، أنّه إن كان المطلّق مخالفا ، وكان ممن يعتقد وقوع الطلاق الثلاث ، لزمه ذلك ، ووقعت الفرقة به ، وانّما لا يقع الفرقة إذا كان الرجل معتقدا للحقّ.

فأمّا الشرائط الخاصّة ، فهو الحيض ، لأنّ الحائض لا يقع طلاقها إذا كان

__________________

(١) الطلاق : ١.

٦٨٥

الرجل حاضرا ، وبكون قد دخل بها ، فإن طلّقها وهي حائض ، كان طلاقه باطلا ، وكذلك إن طلّقها في طهر قد قربها فيه ، لم يقع الطلاق.

ومتى لم يكن دخل بالمرأة وطلّقها وقع الطلاق وإن كانت حائضا.

وكذلك إن كان عنها غائبا بمقدار ما يعرف من حالها وعادتها ، وقع طلاقه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : شهرا فصاعدا ، وقع طلاقه إذا طلّقها وإن كانت حائضا (١).

وليس الاعتبار بالشهر الذي اعتبره رحمه‌الله ، بل الاعتبار بما يعرفه من حال امرأته ، إمّا شهرا أو شهرين ، أو ثلاثة ، على قدر عادتها.

وقد حقّق هذا في استبصاره (٢) ، ورجع عن إطلاق ما في نهايته ، في المكان الذي أشرنا إليه.

ومتى عاد من غيبته ، وصادف امرأته حائضا ، وإن لم يكن واقعها لم يجز له طلاقها حتى تطهر ، لأنّه صار حاضرا ، ولا يجوز للحاضر أن يطلّق امرأته وهي حائض بغير خلاف بيننا ، فهذا فقه المسألة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى كان للرجل زوجة معه في البلد ، غير أنّه لا يصل إليها ، فهو بمنزلة الغائب عن زوجته ، فإذا أراد طلاقها ، فليصبر إلى أن يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ، ثمّ يطلّقها إن شاء (٣).

قال محمّد بن إدريس : الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وإجماعنا منعقد عليه ، أنّه لا يجوز للحاضر أن يطلّق زوجته المدخول بها وهي حائض ، بغير خلاف بيننا على ما قدّمناه ، إذا كانت مستقيمة الحيض ، غير مسترابة ، ولو بقي لا يقربها ولا يطؤها سنة ، أو أكثر من ذلك ، وانّما الاستبراء لمن لا تحيض ، وفي سنّها من

__________________

(١) النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.

(٢) الإستبصار : ج ٣ ، باب طلاق الغائب ، ص ٢٩٥ ـ ٢٩٤.

(٣) النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

٦٨٦

تحيض ، على ما بيّناه ، وحمل الحاضر والحاضرة في البلد على تلك قياس ، وهو باطل عندنا ، والأصل الزوجية ، فمن أوقع الطلاق ، يحتاج إلى دليل قاهر ، وما ذكره شيخنا خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، كما أورده أمثاله ممّا لا يعمل عليه ولا يعرج عليه ولو لا إجماعنا على طلاق الغائب ، وإن كانت زوجته حائضا لما صحّ ، فلا نتعدّاه ونتخطاه.

وقد قلنا : إنّه يستحب الإشهاد على المراجعة ، فإن لم يفعل كان جائزا.

وأدنى ما يكون به المراجعة أن ينكر طلاقها ، أو يقول ما نويت الطلاق ، فيقبل قوله في الحكم ما لم تخرج من العدّة ، فإن خرجت من العدّة لم يقبل منه في الحكم.

أو يقبّلها ، أو يلمسها ، فإن بذلك أجمع ترجع إليه ، وتنقطع العدّة.

وانّما يستحب الإشهاد ، لأنّه متى لم يشهد على المراجعة ، وأنكرت المرأة ذلك ، وشهد لها بالطلاق شاهدان ، فإنّ الحاكم يبينها منه ، ولم يكن له عليها سبيل ، فإن لم يشهد في حال المراجعة ، ثمّ أشهد بعد ذلك ، كان أيضا جائزا.

ومتى أنكر الطلاق ، وكان ذلك قبل انقضاء العدة ، كان ذلك أيضا رجعة على ما قدّمناه ، فإن كان ذلك بعد انقضاء العدّة ، فلا سبيل له عليها ، ولا يقبل قوله على ما ذكرناه.

ومتى راجعها لم يجز له أن يطلّقها تطليقة أخرى طلاق العدّة ، إلا بعد أن يواقعها ، ويستبرئها بحيضة ، فإن لم يواقعها ، أو عجز عن وطئها ، وأراد طلاقها ، طلّقها طلاق السنّة ، على ما حرّرناه فيما مضى وشرحناه.

ومتى واقعها وارتفع حيضها ، وهي في سنّ من تحيض ، وأراد طلاقها ، استبرأها بثلاثة أشهر ، ثمّ يطلّقها بعد ذلك.

وإذا أراد أن يطلّق امرأة قد دخل بها ، ولم تكن قد بلغت مبلغ النساء ، ولا مثلها في السن قد بلغ ، وحدّ ذلك دون تسع سنين ، فليطلّقها أي وقت شاء ، فإذا طلّقها فقد بانت منه في الحال ، على الصحيح من المذهب.

٦٨٧

وقال بعض أصحابنا : يجب عليها العدّة ثلاثة أشهر ، وهو اختيار السيد المرتضى.

والأول أظهر بين الطائفة ، وعملهم عليه ، وفتاويهم به ، وصائرة إليه ، وقد تكلّمنا في باب النكاح (١) في هذه المسألة وبلغنا فيها أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، وقلنا : إن قيل إنّ عندكم إذا دخل بالمرأة زوجها ، ولم تبلغ تسع سنين ، فقد حرمت عليه أبدا ، فكيف يطلّقها؟ وأزلنا الشبهة المعترضة في ذلك بما لا معنى لا عادته (٢).

ومتى كان لها تسع سنين فصاعدا ، ولم يكن حاضت بعد ، وأراد طلاقها ، فليصبر عليها ثلاثة أشهر ، ثمّ يطلّقها بعد ذلك.

وحكم الآئسة من المحيض ، ومثلها لا تحيض ، حكم التي لم تبلغ مبلغ النساء سواء ، في أنّه يطلّقها أيّ وقت شاء ، وحدّ ذلك خمسون سنة على ما قدّمناه.

ومتى كانت آيسة من المحيض ، ومثلها تحيض ، استبرأها بثلاثة أشهر ، ثم يطلّقها بعد ذلك ، وحدّ ذلك إذا نقص سنّها عن خمسين سنة.

وإذا أراد أن يطلّق امرأته ، وهي حبلى مستبين حملها ، فليطلقها ، أي وقت شاء ، بغير خلاف بين أصحابنا ، على خلاف بينهم ، هل الحبلى المستبين حملها تحيض أم لا؟ وأدلّ دليل ، وأوضح قيل ، على أنّها لا تحيض ، إجماعهم على صحّة طلاقها ، سواء كان ذلك في حال رؤية دم ، أو حال نقاء ، فلو كانت تحيض ، ما صحّ طلاقها في حال رؤية الدم ، لأنّ إجماعهم منعقد على أنّ طلاق الحائض لا يقع ، ولا يصحّ ، فيحقق به ما قلناه.

فإذا طلّقها واحدة ، كان أملك برجعتها ما لم تضع ما في بطنها.

فإذا راجعها وأراد طلاقها للسنّة ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لم يجز له

__________________

(١) راجع ص ٥٣٠ من الكتاب.

(٢) من قوله « فكيف » الى هنا لم يكن في النسخة الأصل وأثبتناه من النسخ الأخر.

٦٨٨

ذلك حتى تضع ما في بطنها (١).

قال محمّد بن إدريس : لا أرى لمنعه وجها ، ولا مانعا يمنع منه ، من كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا إجماع منعقد ، والأصل الصحّة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، مع قوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها ) و ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) وغير ذلك من عمومات آيات الطلاق ، وانّما هو خبر واحد ، أورده في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، وقد بيّنا ما في أخبار الآحاد.

فإن أراد طلاقها للعدة واقعها ، ثمّ يطلّقها بعد المواقعة ، فإذا فعل ذلك ، فقد بانت منه بتطليقتين ، وهو أملك برجعتها ، فإن راجعها وأراد طلاقها ثالثة ، واقعها ثمّ يطلّقها ، فإذا طلّقها الثالثة ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

ولا يجوز لها أن تتزوج حتى تضع ما في بطنها ، فإن كانت حاملا باثنين ، فإنّها لا تبين من الرجل إلا بعد وضع الأخير منهما ، لقوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (٢) فإذا وضعت الأول ، ما وضعت حملها جميعه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن كانت حاملا باثنين ، فإنّها تبين من الرجل عند وضعها الأوّل ، ولا تحل للأزواج حتى تضع جميع ما في بطنها (٣).

وهذا قول عجيب ، لأنّه لو كانت قد بانت من الرجل بوضعها الأول ، وانقضت العدّة ، لحلّت للأزواج ، فلو لم تكن بعد في العدّة ، لما كان التزويج محظورا ، ولا انتظار وضع جميع ما في بطنها معتبرا في تحليل العقد عليها لغيره.

إلا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عمّا ذكره في نهايته ، في الجزء الثالث من مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا طلّقها وهي حامل ، فولدت توأمين بينهما أقلّ من ستة أشهر ، فإنّ عدّتها لا تنقضي حتى تضع الثاني منهما ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك ، والشافعي ، وعامة أهل العلم ، وقال عكرمة : ينقضي عدّتها بوضع الأول ، وقد روى أصحابنا أنّها تبين بوضع الأول ، غير أنّها لا تحلّ

__________________

(١) و (٣) النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.

(٢) الطلاق : ٤.

٦٨٩

للأزواج حتى تضع الثاني (١) ، والمعتمد الأول ، دليلنا : قوله ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) وهذه ما وضعت حملها (٢) ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ الحامل عدّتها أقرب الأجلين ، من جملتهم ابن بابويه (٣).

ومعنى ذلك ، أنّها إن مرّت بها ثلاثة أشهر فقد انقضت عدّتها ، ولا تحلّ للأزواج حتى تضع ما في بطنها ، وإن وضعت الحمل بعد طلاقه بلا فصل ، بانت منه ، وحلّت للأزواج ، وهذا لمذهب في العجب كالأول.

والصحيح من الأقوال ، والأظهر بين الطائفة ، أنّ عدّتها بوضع الحمل ، يعضد ذلك قوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ).

وإذا أراد الرجل طلاق زوجته وهو غائب عنها ، فإن خرج إلى السفر وقد كانت طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع ، جاز له أن يطلّقها أيّ وقت شاء ، ومتى كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه بجماع ، فلا يطلّقها حتى يمضى زمان يعرف من حالها أنّها حاضت وطهرت فيه ، وذلك بحسب ما يعرف من عادتها في حيضها ، إمّا شهرا ، أو شهرين ، أو ثلاثة أشهر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فلا يطلّقها حتى يمضى ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ، أو أربعة أشهر ، ثمّ : يطلّقها بعد ذلك أيّ وقت شاء (٤).

إلا أنّه رحمه‌الله ، حرّر مَا أجمله في كتابه الإستبصار ، في الجزء الثالث ، فقال في باب طلاق الغائب ، لمّا أورد الأخبار ، واختلفت في التحديد ، فقال :

الوجه في الجمع بين هذين الخبرين ، والخبر الأوّل ، أنّ نقول : الحكم يختلف باختلاف عادة النساء في الحيض ، فمن علم من حال امرأته أنّها تحيض في كلّ

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٠ من أبواب العدد.

(٢) الخلاف : كتاب العدة ، المسألة ٨.

(٣) المقنع المطبوع ضمن الجوامع الفقهية ص ٢٩.

(٤) النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

٦٩٠

شهر حيضة ، يجوز له أن يطلّق بعد انقضاء الشهر ، ومن يعلم أنّها لا تحيض إلا كلّ ثلاثة أشهر ، أو خمسة أشهر ، لم يجز له أن يطلّقها إلا بعد مضي هذه المدّة ، فكان المراعى في جواز ذلك ، مضي حيضة ، وانتقالها إلى طهر لم يقربها فيه بجماع ، وذلك يختلف على ما قلناه (١).

هذا آخر كلامه رحمه‌الله في باب طلاق الغائب في الاستبصار ، ونعم ما قال وحرّر ، وأوضح المسألة تغمده الله برحمته ، وحشره مع أئمته.

فإن قيل : إذا مضى ثلاثة أشهر بيض فلا حاجة في الاستبراء إلى أكثر منها ، لأنّ بها تخرج من العدّة ، وإن كانت من ذوات الأقراء المستقيمة الحيض.

قلنا : الاستبراء غير العدّة ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ من وطأ زوجته في طهرها ، فلا يجوز له أن يطلّقها فيه حتى تحيض وتطهر ، ثمّ يطلّقها في الطهر الذي لم يقربها فيه بجماع ، فإذن تحقق ما قلناه ، وإن كان أكثر من ثلاثة أشهر.

ومتى أراد الغائب أن يطلّق امرأته ، وراعى ما قلناه ، فليطلّقها تطليقة واحدة ، ويكون هو أملك برجعتها ما لم تخرج من عدّتها ، إمّا بالأقراء إن كانت مستقيمة الحيض ، أو بالشهور ، إن كانت مسترابة ، وفي سنّها من تحيض ، وهي ثلاثة أشهر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويكون هو أملك برجعتها ما لم يمض لها ثلاثة أشهر ، وهي عدّتها إذا كانت من ذوات الحيض (٢).

ولا أرى لقوله هذا وجها يستند إليه ، ولا دليلا يعوّل عليه ، وكيف صارت هذه على كلّ حال تعتد بالأشهر الثلاثة ، مع قوله تعالى ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (٣) ولا خلاف بيننا أنّها إذا شهد لها شهود بالطلاق وتاريخه ، وكان قد مضى لها من يوم طلّقها ثلاثة قروء ، فإنّها تحل للأزواج.

فإذا أراد الغائب الذي طلّق زوجته مراجعتها قبل خروجها من عدّتها ،

__________________

(١) الاستبصار : ج ٣ ، ص ٢٩٥ ، ذيل الحديث ٦ ، من باب طلاق الغائب.

(٢) النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

(٣) البقرة : ٢٢٨.

٦٩١

أشهد على المراجعة ، كما أشهد على الطلاق ، فإن لم يشهد على المراجعة ، وبلغ الزوجة الطلاق ، فاعتدت وتزوّجت ، لم يكن له عليها سبيل ، وكذلك إن انقضت عدّتها ولم تتزوج ، لم يكن له عليها سبيل إلا بعقد مستأنف.

ومتى طلّقها وأشهد على طلاقها ، ثمّ قدم أهله وأقام معها ، ودخل بها ، وأتت المرأة بولد ، ثمّ ادّعى أنّه كان طلّقها ، لم يقبل قوله ، ولا بينته ، وكان الولد لاحقا به.

وفقه ذلك ، أنّ ظاهر حاله ودخوله عليها ووطأه لها والمقام عندها بعد رجوعه ، أنّه راجعها ، وانّها زوجته ، فلا يلتفت إلى دعواه ولا بيّنته بالطلاق ، لأنّ له مراجعتها بعد طلاقه ، وقد رأيناه مراجعا لها ، وفاعلا جميع ما يفعله الزوج فحكمنا عليه بالظاهر.

ومتى كان عند الرجل أربع نساء ، وهو غائب عنهنّ ، وطلّق واحدة منهنّ ، لم يجز له أن يعقد على أخرى إلا بعد أن يمضي تسعة أشهر ، لأنّ في ذلك مدّة الأجلين ، فساد الحيض ووضع الحمل.

هذا إذا كان طلاق المطلّقة أول طلاقها ، أو ثاني طلاقها ، فأمّا إن كان طلاقا ثالثا ، فلا بأس أن يعقد على اخرى بعد طلاقها الثالث بلا فصل ، لأنّها قد بانت منه في الحال ، ولا يكون جامعا بين خمس نساء.

وليس كذلك إذا كان الرجل مسافرا وتحته امرأة واحدة ، وطلّقها طلاقا شرعيا ، وأراد أن يعقد على أختها في حال سفره ، فإذا انقضت عدّتها على ما يعلمه من عادتها ، فله العقد على أختها ، ولا يلزمه أن يصبر تسعة أشهر ، لأنّ القياس عندنا باطل ، وكذلك التعليل ، فليلحظ الفرق بين المسألتين ويتأمّل.

وكذلك إذا كانت المطلّقة التي هي الرابعة غير مدخول بها ، أو مدخولا بها ، وهي لم تبلغ تسع سنين ، أولها من السنين أكثر من خمسين سنة ، أو خمسون وقد تغيّرت عادتها ، فإنّ هاتين المرأتين لا يجب عليهما العدّة على الأظهر من الأقوال ، فليلحظ ذلك.

٦٩٢

ومتى كان للرجل زوجة معه في البلد ، غير أنّه لا يصل إليها ، فهو بمنزلة الغائب عن زوجته إذا أراد طلاقها ، وقد قدّمنا حكمه ، فلا وجه لا عادته ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (١).

والصحيح أنّ من كان حاضرا في البلد ، لا يجوز له أن يطلّق زوجته وهي حائض ، بلا خلاف بين أصحابنا.

وإذا أراد الرجل أن يطلّق المسترابة التي لا تحيض وفي سنّها من تحيض ، بعد دخوله بها ، صبر عليها مستبرئا لها بثلاثة ، أشهر ، ثمّ يطلّقها بعد ذلك أي وقت شاء.

وقد روي أنّ الغلام إذا طلّق وكان ممّن يحسن الطلاق ، وقد أتى عليه عشر سنين فصاعدا ، جاز طلاقه ، وكذلك عتقه ، وصدقته ، ووصيته ، ومتى كان سنّه أقل من ذلك ، أو لا يكون ممن يحسن الطلاق ، فإنّه لا يجوز طلاقه ، ولا يجوز لوليه أن يطلّق عنه (٢).

والأولى ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّها مخالفة لأصول المذهب ، والأدلة المتظاهرة ، ولقول الرسول عليه‌السلام : « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم » (٣) ، ورفع القلم عنه يدلّ على أنّه لا حكم لأفعاله.

وأيضا فقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا يعمل عليها ، ولا يلتفت إليها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وإن كان قد أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (٤) ، فعلى جهة الإيراد دون الاعتقاد ، كما أورد أمثالها ممّا لا يعمل هو عليه.

ثمّ قال شيخنا في نهايته : ومتى كان سنّه أقل من ذلك ، أو لا يكون ممّن يحسن الطلاق ، فإنّه لا يجوز طلاقه ، ولا يجوز لوليه أن يطلّق عنه ، اللهم إلا أن

__________________

(١) النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

(٢) الوسائل : الباب ٢٢ من أبواب مقدمات الطلاق ، ح ٢ و ٥ و ٦ و ٧.

(٣) الوسائل : الباب ٤ من أبواب مقدمات العبادات ح ١١ ولفظه هكذا : اما علمت ان القلم يرفع عن ثلاثة ، عن الصبيّ حتى يحتلم.

(٤) النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

٦٩٣

يكون قد بلغ ، وكان فاسد العقل ، فإنّه والحال ما ذكرناه جاز طلاق الولي عنه (١).

قال محمد بن إدريس : إذا كان يعقل أوقات الصلوات ، فإنّه يطلّق بنفسه ، ولا خيار لزوجته ، وإن لم يعقل ذلك كان لزوجته الخيار ، فإن اختارت الفسخ ، فلا حاجة إلى طلاق الولي ، وإن لم تفسخ فلا يجوز للولي أن يطلّق عنه ، لقول النبيّ عليه‌السلام : « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (٢).

والحر إذا كان تحته أمة ، فطلاقها تطليقتان ، لأنّ المعتبر في الطلاق بالزوجة إن كانت حرة ، فطلاقها ثلاث ، سواء كانت تحت حر ، أو عبد ، وإن كانت أمة فطلاقها اثنتان ، سواء كانت تحت حر ، أو عبد.

فإذا طلّقها طلقتين ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

فإن وطأها مولاها ، لم يكن ذلك محللا للزوج من وطئها ، حتى يدخل في مثل ما خرجت منه من نكاح.

فإن اشتراها الذي كان زوجها ، لم يجز وطؤها حتى يزوّجها رجلا ، ويدخل بها ، ويكون التزويج دائما ، ويطأها في قبلها ، ثمّ يطلّقها ، أو يموت عنها ، وتنقضي العدّة ، فإذا حصل ذلك جاز له حينئذ وطؤها بالملك.

ومتى طلّقها واحدة ، ثم اعتقت ، بقيت معه على تطليقة واحدة ، فإن تزوجها بعد ذلك ، وطلّقها الثانية ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

والعبد إذا كانت تحته حرة ، فطلاقها ثلاث تطليقات ، على ما بيّناه ، فإن كان تحته أمة ، فطلاقها تطليقتان حسب ما قدّمناه ، فإن طلّقها واحدة ثم أعتقا (٣) بقيت معه على تطليقة واحدة ، على ما رواه أصحابنا في الأخبار (٤).

__________________

(١) النهاية كتاب الطلاق باب كيفية أقسام الطلاق.

(٢) كنز العمال : كتاب الطلاق ، الفرع الأوّل ، ح ٢٧٧٨١ ، ج ٩ ، ص ٦٤٠. راجع ما قدّمناه ذيل ص ٦٠٠.

(٣) ج : أعتق.

(٤) الوسائل : الباب ٢٨ من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ح ٥ ـ ٤ ـ ٣ ـ ٢.

٦٩٤

وتحقيق الفتوى بذلك ، لي فيه نظر ، فان كان على الرواية إجماع ، عملنا بها ، وإلا طلبنا دليلا غيره ليعمل به.

فإن أعتقا جميعا قبل أن يطلّقها شيئا ، كان حكمها حكم الحرة من كونها على ثلاث تطليقات.

وقد قلنا أنّ طلاق المكره لا يقع ، وكذلك سائر عقوده بغير خلاف بين أصحابنا ، وروي عن الرسول عليه‌السلام أنّه قال : لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (١) بكسر الالف وسكون الغين المعجمة ، قال أبو عبيد القسم بن سلام الإغلاق : الإكراه.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل خلافه ، في الجزء الثالث في كتاب الطلاق : مسألة ، الاستثناء بمشية الله تعالى يدخل في الطلاق والعتاق ، سواء كانا مباشرين ، أو معلقين بصفة ، وفي اليمين بهما ، وفي الإقرار ، وفي اليمين بالله ، فيوقف الكلام ، ومن خالفه لم يلزمه حكم ذلك ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، وطاوس ، والحكم ، وقال مالك ، والليث بن سعد : لا يدخل في غير اليمين بالله ، وهو ما تنحل بالكفارة ، وهو اليمين بالله فقط ، ثمّ استدلّ على ما اختاره ، فقال : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، وثبوت العقد ، وإذا عقّب كلامه بلفظ إن شاء الله في هذه المواضع ، فلا دليل على زوال العقد في النكاح ، أو العتق ، ولا على تعلّق حكم بذمته ، فمن ادّعى خلافه فعليه الدلالة ، وروى ابن عمر ، أنّ النبي عليه‌السلام ، قال : من حلف على يمين ، وقال في أثرها إن شاء الله ، لم يحنث فيما حلف عليه (٢) ، وهو على العموم في كلّ الأيمان بالله وبغيره (٣).

قال محمّد بن إدريس : لا يدخل الاستثناء بمشية الله تعالى عندنا بغير خلاف بين أصحابنا معشر الشيعة الإمامية ، إلا في اليمين بالله حسب ، لأنّه لا أحد من

__________________

(١) التاج : ج ٢ ، كتاب النكاح ، والطلاق والعدة ص ٣٣٩. سنن ابن ماجة : الباب ١٦ من كتاب الطلاق ح ٢٠٤٧ ).

(٢) التاج : ج ٢ كتاب الايمان والنذور ص ٧٩ ، باختلاف يسير.

(٣) الخلاف : كتاب الطلاق ، المسألة ٥٣.

٦٩٥

أصحابنا قديما وحديثا يتجاسر ، ويقدم على أنّ رجلا أقرّ عند الحاكم بمال لرجل آخر ، وقال بعد إقراره إن شاء الله ، لا يلزمه ما أقرّ به.

فأمّا شيخنا أبو جعفر ، فهو محجوج بقوله ، فإنّه رجع عمّا حكيناه عنه في الجزء الثالث أيضا في كتاب الأيمان ، فقال : مسألة ، لا يدخل الاستثناء بمشية الله تعالى إلا في اليمين فحسب ، وبه قال مالك ، وقال أبو حنيفة : يدخل في اليمين بالله ، وبالطلاق وبالعتاق ، وفي الطلاق والعتاق ، وفي النذور والإقرارات ، دليلنا أنّ ما ذكرناه مجمع على دخوله فيه ، وما قالوه ليس عليه دليل (١) ، هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : اختار رضي‌الله‌عنه في المسألة الأولى مذهب أبي حنيفة ، واختار في المسألة الثانية مذهب مالك ، ثم استدلّ على صحّة المسألتين.

ولعمري إنّ الأدلة لا تتناقض ، وانّما حداه على ذلك الدخول مع القوم في فروعهم وكلامهم ، ولو لزم طريقة أصحابه من التمسّك بأصول مذهبهم وترك فروع مخالفيه ، كان أولى وأحوط وأسلم له ، ولمن يقف على كتبه وتصنيفه ممن يقلّده ويتبع أقواله نسأل الله التوفيق.

باب اللعان والارتداد

اللعان مشتق من اللعن ، وهو الإبعاد ، والطرد ، يقال : لعن الله فلانا ، يعني أبعده وطرده ، فسمّي المتلاعنان بهذا الاسم ، لما يتعقب اللعن من المأثم والأبعاد والطرد ، فإنّ أحدهما لا بدّ أن يكون كاذبا فيلحقه المأثم ، ويتعلّق عليه الإبعاد والطرد من رحمة الله تعالى ورضاه.

فإذا ثبت هذا فثبوت حكمه في الشرع بالكتاب والسنّة والإجماع ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ

__________________

(١) الخلاف : كتاب الايمان ، المسألة ٢٦.

٦٩٦

فَشَهادَةُ ) (١) إلى آخر الآيات ، فذكر تعالى اللعان وكيفيته وترتيبه ، فموجب القذف عندنا في حقّ الزوج الحدّ ، وله إسقاطه باللعان ، وموجب القذف في حقّ المرأة الحدّ ، ولها إسقاطه باللعان.

ويقف صحّة اللعان بين الزوجين على أمور ، منها أن يكونا مكلّفين ، سواء كانا أو واحد منهما من أهل الشهادة والحرّية (٢) أم لا ، إذا كان اللعان بنفي الولد ، فأمّا إذا كان اللعان بزنا ، أضافه الزوج القاذف إلى مشاهدة ومعاينة ، فلا يثبت إلا بين الحرّ والحرّة ، والمسلم والمسلمة ، لأنّ بين أصحابنا في ذلك خلافا ، فذهب شيخنا المفيد في مقنعته إلى أنّ اللعان لا يثبت بين الحرّ والمملوكة ، ولا بين المسلم والكافرة (٣).

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كان الزوج مملوكا والمرأة حرّة ، أو يكون الرجل حرا والمرأة مملوكة ، أو يهودية ، أو نصرانية ، ثبت بينهما اللعان (٤).

وأطلق كلّ واحد منهما ما ذهب إليه ، ويمكن العمل بقول كلّ واحد منهما على ما حرّرناه ، فنقول لا يثبت بينهما اللعان إذا كان بالقذف ، وادّعى المشاهدة للزنا. ويثبت إذا كان بنفي الولد على ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر ، وما اخترناه وذهبنا إليه ، اختاره شيخنا أبو جعفر في استبصاره لما اختلفت الأخبار عليه ، فحرّره على ما حرّرناه.

فقال في الجزء الثالث من الإستبصار ، في باب أنّ اللعان ، يثبت بين الحرّ والمملوكة ، والحرّة والمملوك ، فأورد الأخبار في ذلك ، ثمّ جاء خبر أورده في آخر الأخبار مخالف لتلك الأخبار ، فقال رحمه‌الله : فالوجه في هذا الخبر أحد شيئين ، أحدهما أن يكون محمولا على التقية ، لأنّ ذلك مذهب بعض العامّة على ما قدّمنا القول فيه ، والآخران نقول بمجرد القذف لا يثبت اللعان بين اليهودية

__________________

(١) النور : ٦.

(٢) ل : أو الجزية.

(٣) المقنعة : أبواب النكاح باب اللعان ، ص ٥٤٢.

(٤) النهاية : كتاب الطلاق ، باب اللعان والارتداد.

٦٩٧

والمسلم ، ولا بينه وبين الأمة ، وانّما يثبت بمجرد القذف اللعان في الموضع الذي إن لم يلاعن وجب عليه حدّ الفرية ، وذلك غير موجود في المسلم مع اليهودية ، ولا مع الأمة ، لأنّه لا يضرب حدّ القاذف إذا قذفها ، ولكن يعزّر على ما نبيّنه في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى ، فكان اللعان يثبت بين هؤلاء بنفي الولد لا غير (١) هذا آخر كلامه رحمه‌الله.

وبهذا القول أعمل وافتي ، لأنّ اللعان حكم شرعي يحتاج مثبتة إلى دليل شرعي ، والأصل براءة الذمة في الموضع الذي نفيناه ، ولا معنا إجماع من طائفتنا على ذلك.

ومنها أن يكون النكاح دواما.

ومنها أن تكون الزوجة مدخولا بها عند بعض أصحابنا.

والأظهر الأصح أنّ اللعان يقع بالمدخول بها وغير المدخول بها لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ ) (٢) الآية هذا إذا كان بقذف يدّعي فيها المشاهدة ، فأمّا إذا كان بنفي الولد والحمل ، فلا يقع اللعان بينهما بذلك قبل الدخول ، القول قول الزوج مع يمينه ، ولا يلحق الولد به بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، ولا يحتاج في نفيه إلى لعان ، فعلى هذا التحرير من قال من أصحابنا لا يصح اللعان إلا بعد الدخول ، يريد بنفي الولد ، ومن قال يصح اللعان قبل الدخول ، يريد بالقذف وادّعاء المشاهدة له ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وحكم المطلّقة طلاقا رجعيا إذا كانت في العدّة كذلك.

ومنها أن لا تكون صمّاء ولا خرساء.

ومنها أن يقذفها الزوج بزنا ، يضيفه إلى مشاهدة ، بأن يقول : رأيتك تزنين ، ولو قال : يا زانية لم يثبت بينهما لعان ، أو ينكر حملها أو يجحد ولدها.

ولا يقيم أربعة من الشهود بما قذفها به.

__________________

(١) الاستبصار : أبواب اللعان ، باب ان اللعان يثبت بين الحر والمملوكة ، ج ٣ ، ص ٣٧٣.

(٢) النور : ٦.

٦٩٨

وان تكون منكرة لذلك.

وصفة اللعان أن يجلس الحاكم بينهما ، مستدبر القبلة ، ويوقفهما بين يديه المرأة عن يمين زوجها ، موجهين إلى القبلة ، ويقول الرجل ، أشهد بالله انّي فيما ذكرته عن هذه المرأة من الفجور لمن الصادقين ، فإذا قال ذلك أمره أن يعيد تمام أربع مرات ، فإذا شهد الرابعة قال له الحاكم : اتق الله عزوجل ، واعلم أنّ لعنة الله شديدة ، وعذابه أليم ، فإن كان حملك على ما قلت غيرة ، ـ بفتح الغين ـ أو سبب من الأسباب ، فراجع التوبة ، فإنّ عقاب الدنيا أهون من عقاب الآخرة.

والبدأة بالرجل واجبة مراعاة.

والترتيب في الشهادة ولفظها أيضا مراعى.

فإن بدأ بلعان المرأة أولا لا يعتد بذلك.

فإن رجع عن قوله في قذفه جلده حدّ المفتري.

وإن أصرّ على ما ادّعاه قال له قل ، ان لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين.

فإذا قالها أقبل على المرأة ، وأقامها ، لأنّها تكون قاعدة عند لعان زوجها ، وقال بعض أصحابنا تكون قائمة عند لعان الزوج.

والأول الأظهر ، وهو الذي اختاره شيخنا في مبسوطة (١).

وقال لها ما تقولين فيما رماك به. فإن اعترفت ، رجمها ، لأنّها بتصديقها له في أربع شهاداته ، كأنّها قد أقرّت أربع مرّات بالزنا ، وإجماع أصحابنا أيضا عليه.

وإن أقامت على الإنكار ، قال لها : قولي أشهد بالله أنّه فيما رماني به لمن الكاذبين. فإذا قالت ذلك طالبها بإتمام أربع شهادات كذلك. فإذا شهدت الرابعة ، وعظها كما وعظ الرجل ، فإن اعترفت رجمها ، وإن أصرّت على الإنكار ، قال لها : قولي إن غضب الله عليّ إن كان من الصادقين. فإذا قالت

__________________

(١) المبسوط : ج ٥ ، كتاب اللعان ، ص ١٩٨.

٦٩٩

ذلك فرّق بينهما الحاكم ، ولم تحل له أبدا ، على ما قدّمناه (١).

ولفظ الشهادة وعدد الشهادات ، والترتيب واجب في اللعان وشرط فيه ، على ما قدّمناه ، فلو قال أحلف بالله أو أقسم بالله ، أو نقّص شيئا من العدد ، أو بدأ الحاكم بالمرأة أوّلا ، لم يعتدّ باللعان ، ولم يحصل الفرقة به ، وإن حكم الحاكم بذلك ، لأن ما قلناه مجمع على صحّته ، وليس على صحّة ما خالفه دليل ، ولأنّ ما عدا ما ذكرناه مخالف لظاهر القرآن ، لأنّه تعالى ذكر لفظ الشهادة والعدد والترتيب ، من حيث أخبر أنّها تدرأ عن نفسها العذاب بلعانها ، والمراد بالعذاب عندنا الحدّ ، وعند أبي حنيفة الحبس ، ولا يثبت واحد منهما إلا بعد لعان الزوج ، فصحّ ما قلناه.

فإذا استوفى اللعان ، الحاكم بينهما فرّق بينهما ، ولم تحلّ له أبدا ، وكان عليها العدّة من وقت لعانها.

ومتى نكل الرجل عن اللعان قبل استكمال الشهادات ، كان عليه الحدّ إذا كان قذفا ، فإن أكذب نفسه بعد مضى اللعان ، لم يكن عليه شي‌ء ، ولا ترجع إليه امرأته.

وإن اعترف بالولد ، إن كان اللعان بنفيه بعد انقضاء اللعان ، لم يكن عليه شي‌ء ، ولا ترجع إليه امرأته ، وإن اعترف بالولد قبل انقضاء اللعان ، الحق به وورثه أبوه ، وهو يرثه ، وليس عليه الحدّ.

وإن اعترف به بعد مضى اللعان الحق به ، ويرثه ولده ، وهو لا يرث ولده ، ويكون ميراث الولد لأمه ، أو لمن يتقرب إليه من جهتها ، دون الأب ومن يتقرب إليه به ، ولا يجب عليه الحدّ ، وروي أنّه يجب عليه الحدّ (٢) ، والأظهر ما ذكرناه ، لأنّ الأصل براءة الذمة.

ومتى اعترفت المرأة بالزنا قبل شروع الزوج في اللعان ، فلا ترجم ، إلا أن

__________________

(١) ق ول : فيما مضى من الكتاب.

(٢) الوسائل : الباب ٦ من أبواب اللعان.

٧٠٠