كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

كما أنّ مدّة خيار الثلاث ، أو ما زاد عليها في البيع موروثة ، بلا خلاف بيننا ، لأنّه حقّ للميّت ، فيجب أن يورث مثل سائر الحقوق ، ولعموم آيات المواريث ، فمن أخرج شيئا منها ، فعليه الدلالة ، وبهذا استدل شيخنا أبو جعفر (١) على أنّ مدّة خيار الثلاث في البيع موروثة ، فليلحظ.

وإجارة المشاع جائزة مثل إجارة المقسوم ، سواء.

وإذا قال : آجرتك هذه الدار كلّ شهر بكذا ، صحّ على قول بعض أصحابنا ، فإن سكن أكثر من شهر ، لزمه المسمّى ، لشهر واحد ، وفيما زاد على الشهر اجرة المثل.

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّ ذلك لا يجوز ، ولا يلزم المسمّى بل الجميع يستحق اجرة المثل ، لأنّه ما عيّن آخر المدّة ، والعقار يحتاج في صحّة العقد عليه أن يذكر أوّل المدّة وآخرها ، فمن شرط صحتها ذلك ، وإنّما روي في بعض الأخبار ما ذكرناه (٢).

فأمّا إن قال : آجرتك هذه الدار من هذا الوقت شهرا بكذا وما زاد فبحسابه ، فإنّه يلزمه المسمّى للشهر ، وما زاد فاجرة المثل ، فأمّا إذا قال : آجرتك هذه الدار شهرا بدينار ، ولم يعيّن الشهر ، فإنّه لا يجوز ، والإجارة باطلة ، فأمّا إذا قال : آجرتك هذه الدار من هذا الوقت سنة ، كلّ شهر بكذا ، صحّ لأنّه عيّن المدّة.

ومن أصحابنا من قال : لا يجوز أن يؤجر مدّة قبل دخول ابتدائها ، لافتقار صحّة الإجارة إلى التسليم ، واتّصال المنفعة بالعقد ، ومنهم وهم الأكثرون المحصّلون اختاروا القول بجواز ذلك ، وهو الصحيح الذي اخترناه فيما مضى ، ويعضده قوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وقوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » وأمّا التسليم فهو مقدور عليه حين استحقاق المستأجر له ، وتعذره قبل

__________________

(١) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٣٦.

(٢) ولعل المراد منه هو صحيح أبي حمزة ، الحديث ١ من الباب ٨ من أحكام الإجارة من الوسائل.

٤٦١

ذلك لا ينافي عقد الإجارة.

وقال بعض أصحابنا : لا يجوز أن يؤجر ما استأجره بأكثر ممّا استاجره به من جنسه ، سواء كان المستأجر هو المؤجر ، أو غيره ، إلا أن يحدث فيما استأجره حدثا يصلحه به ، ومنهم من قال : ذلك (١) على الكراهة ، دون الحظر ، وهو الذي اخترناه ، وقد قلنا ما عندنا فيه قبل هذا المكان ، فليلحظ هناك ، فلا فائدة في إعادته ، ولأنّ الأصل في العقل والشرع جواز التصرّف فيما يملك الإنسان ، فإذا ملك المستأجر التصرّف بالعقد ، جاز أن يملكه لغيره ، على حسب ما يتفقان عليه ، من زيادة ونقصان ، اللهم إلا أن يكون استأجر الدار على أن يكون هو الساكن ، والدابة على أن يكون هو الراكب ، فإنّه لا يجوز والحال هذه ، إجارة ذلك لغيره على حال.

وقد قلنا أنّ المستأجر يملك الفسخ بانهدام الدار أو بعضها ، أو غرق الأرض على وجه يمنع استيفاء المنفعة ، وتسقط عنه الأجرة إلى أن يعيد المالك المسكن إلى الحالة الأولى ، لأنّ المعقود عليه قد فات ، اللهم إلا أن يكون ذلك بتعدي المستأجر ، فيلزمه الأجرة والضمان لإعادته إلى حالته الاولى.

ولا يملك المستأجر فسخ الإجارة بالسفر ، وإن كان ذلك بحكم حاكم ، ولا بغير ذلك من الأعذار المخالفة ، لما قدّمنا ذكره ، مثل أن يستأجر جملا للحج ، فيمرض ، أو يبدو له من الحج ، أو حانوتا لبيع البز فيه ، فيحترق أو يسرق بزه.

ولا تنفسخ الإجارة بالبيع ، وعلى المشتري إن كان عالما بالإجارة ، الإمساك عن التصرّف ، حتى تنقضي مدّتها ، وإن لم يكن عالما بذلك ، فله الخيار في الرد.

ومتى تعدّى المستأجر ما اتفقا عليه ، من المدّة أو المسافة ، أو الطريق ، أو مقدار المحمول ، أو عينه ، إلى ما هو أشق في الحمل ، أو المعهود في السير ، أو في

__________________

(١) ج : لا يجوز ذلك.

٤٦٢

وقته ، أو في ضرب الدابة ، ضمن الهلاك أو النقص ، ويلزمه أجرة الزائد على الشرط ، بدليل الإجماع من أهل البيت عليهم‌السلام على ذلك ، ولأنّه لا خلاف في براءة ذمّته ، إذا أدّى ذلك ، وليس على براءتها إذا لم يؤدّه دليل ، ولو ردّ الدابة إلى المكان الذي اتفقا عليه بعد التعدّي بتجاوزه ، لم يزل الضمان ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، وأيضا فقد ثبت الضمان بلا خلاف ، فمن ادّعى زواله بالرد إلى ذلك المكان ، فعليه الدلالة.

والأجير ضامن لتلف ما استؤجر فيه أو نقصانه ، إذا كان ذلك بتفريطه أو نقصان من صنعته.

وكلّ من أعطى شيئا واستؤجر على إصلاحه ، فأفسده ، كان ضامنا ، سواء كان ختانا ، أو حجّاما ، أو بيطارا ، أو نجّارا ، أو غير ذلك ، وسواء كان مشتركا ، وهو المستأجر على عمل في الذمة ، أو منفردا ، وهو المستأجر للعمل مدّة معلومة ، لأنه يختص عمله فيها لمن استأجره ، لقوله عليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتّى تؤديه » (١) لأنّه يقتضي ضمان الصنّاع على كلّ حال ، إلا ما خصّه الدليل ممّا ثبت أنّهم غلبوا عليه ، ولم يكن بخيانتهم.

وأجر الكيّال ، ووزّان الأمتعة ، على البائع ، لأنّ عليه تسليم ما باعه معلوم المقدار ، واجرة وزان الأثمان ، وناقدها ، على المشتري ، لأنّه عليه تسليم الثمن معلوم الوزن والجودة ، على ما قدّمناه فيما مضى وحررناه.

وأجر رد الضالة على حسب ما يبذله ، مالكها ، فإن لم يعيّن شيئا ، بل قال : من ردّ ضالتي فله جعالتها ، كان أجر ردّ العبد أو الأمة أو البعير في المصر ، عشرة دراهم فضة ، وخارج المصر أربعين درهما ، وما عدا ذلك يرجع فيه إلى عادة القوم وعرفهم ، على ما أسلفنا القول فيه.

__________________

(١) مستدرك الوسائل : الباب ١ من أبواب العصب ، ح ٤ و ٥.

٤٦٣

ومن آجر غيره أرضا ليزرع فيها شيئا مخصوصا لم يجز له أن يزرع فيها غيره ، لقوله عليه‌السلام. « المؤمنون عند شروطهم » وإذا آجرها للزراعة من غير تعيين لما يزرع ، كان له أن يزرع ما شاء ، وإذا آجرها على أن يزرع ويغرس ، ولم يعيّن مقدار كلّ واحد منهما ، لم تصحّ الإجارة ، لأنّ ذلك مجهول ، والضرر فيه مختلف.

وإذا اختلف المؤجر والمستأجر في قدر الأجرة ، فالقول قول المستأجر ، لأنّه المدّعى عليه ، زيادة غير متفق عليها ، والمؤجر المدّعي ، فعليه البيّنة ، لأنّ الرسول عليه‌السلام قال : « على المدّعي البيّنة وعلى المدّعى عليه اليمين ».

وقال شيخنا في مسائل الخلاف ، في كتاب المزارعة : إذا اختلف المكري والمكتري في قدر المنفعة ، أو قدر الأجرة ، فالذي يليق بمذهبنا ، أن يستعمل فيه القرعة ، فمن خرج اسمه حلف ، وحكم له به ، لإجماع الفرقة على أنّ كلّ مشتبه يردّ إلى القرعة (١).

قال محمّد بن إدريس : وأي اشتباه في هذا ، انّما هو مدّعي ومدّعى عليه ، وهذا فقه سهل ، وليس هو من القرعة بسبيل.

والملك إذا كان بين اثنين مشتركا وما زاد عليهما ، لم يكن لأحدهما ان ينفرد بالأجرة والإجارة ، دون صاحبه ، بل يتفقان على الإجارة ، فإن تشاحا تناوبا بمقدار من الزمان.

وإذا استأجر ملكا وسكن بعضه ، جاز أن يسكن الباقي غيره بأكثر مال الإجارة ، ولا يؤجر بمثل ما قد استأجر ، اللهم إلا أن يكون أحدث فيه ، حدثا ، فإن فعل ذلك جاز له أن يؤجرها بما شاء هكذا ذكره شيخنا في نهايته (٢).

والذي تقتضيه الأدلة ، وأصول المذهب ، أنّه لا بأس أن يسكن البعض ويكري البعض بما شاء ، سواء أكراه بمثل ما استأجره ، أو أقل ، أو أكثر ، مع اختلاف الجنس ، أو مع اتفاقه ، أحدث فيها ، أو لم يحدث ، لأنّ المنافع مستحقة ، ومال من أمواله ، فله أن يستوفيها بنفسه وبغيره ، لأنّ الإنسان مسلّط على

__________________

(١) الخلاف : كتاب المزارعة : المسألة ١٠ ، إلا أنّ العبارة متقطعة.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.

٤٦٤

التصرّف في ملكه ، بسائر أنواع التصرّفات ، عقلا وسمعا ، إذ لا مانع يمنع منه من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فلا يرجع ويترك الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، على ما كرّرنا القول فيه.

وقد ذكرنا أنّ من اكترى دابة على أن يسلك بها في طريق مخصوص ، أو يحملها قدرا معلوما ، فخالف في شي‌ء ممّا قلناه ، كان ضامنا لها ، ولكلّ ما يحدث فيها ، ولزمه إن سار عليها أكثر ممّا شرط ، أو حملها أكثر ممّا ذكر ، أجرة الزيادة من غير نقصان.

ومتى هلكت الدابة والحال ما وصفناه ، كان ضامنا لها ، ولزمه قيمتها يوم تعدّي فيها ، فإن اختلفا في الثمن ، كان على صاحبها البيّنة ، فإن لم تكن له بيّنة ، كان القول قول الغارم الذي هو الضامن ، لأنّه المدّعى عليه الزيادة فيما اتّفقا عليه ، وهذا حكم سائر فيما سوى الدابة ، ممّا يقع الخلف فيه بين المستأجر والمستأجر منه ، كانت البيّنة على المدّعى ، واليمين على المدّعى عليه.

وقال شيخنا في نهايته : فإن اختلفا في شي‌ء ، كان على صاحبها البيّنة ، فإن لم يكن له بيّنة ، كان القول قوله مع يمينه ، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المستأجر منه ، لزمه اليمين ، أو يصطلحا على شي‌ء ، والحكم فيما سوى الدابة ، ممّا يقع الخلف فيه بين المستأجر والمستأجر منه ، إن كانت البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه (١).

والصحيح أنّه لا فرق بين الدابة وغيرها في ذلك ، فالمفرّق يحتاج إلى دليل.

ومتى استأجر دابة ففرط في حفظها ، أو علفها ، أو سقيها ، فهلكت ، أو عابت ، كان ضامنا لها ، ولما يحدث فيها من العيب.

والصانع إذا تقبّل عملا بشي‌ء معلوم ، جاز له أن يقبله لغيره بأكثر من ذلك ، إذا كان قد أحدث فيه حدثا ، وإن لم يكن أحدث فيه حدثا لم يجز له ذلك ، وإن قبل غيره بإذن صاحب العمل ، ثمّ هلك ، لم يكن عليه شي‌ء ، فإن

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات ، وفيه : فان اختلفا في الثمن إلخ.

٤٦٥

قبله من غير إذن ثمّ هلك كان المتقبّل الأوّل ضامنا له ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته بهذه العبارة ، وهي قوله : والصانع إذا تقبّل عملا بشي‌ء معلوم ، جاز له أن يقبله لغيره بأكثر من ذلك ، إذا كان قد أحدث فيه حدثا (١).

قال محمّد بن إدريس : الذي يتبادر إلى الخاطر ، أنّ قوله رحمه‌الله : « بأكثر من ذلك » غلط لا وجه له ، لأنّ الإنسان إذا تقبل خياطة ثوب مثلا بدينار ، ثمّ قبله لغيره بأكثر من الدينار ، فيحتاج أن يغرم من عنده شيئا آخر على الأجرة ، ومقصوده أن يستفضل من الأجرة المتقبل بها ، فهذا الذي يسبق إلى الأوهام ، من عبارته رحمه‌الله في هذا الموضع ، ومقصوده رحمه‌الله خلاف هذا ، وهو أنّ الصانع الأول يستفضل من الأجرة الأولة لنفسه ، ويعطي الصانع الثاني بعضها.

والدليل على ذلك ، ما أورده رحمه‌الله من الأخبار ، في كتاب تهذيب الأحكام ، عنه عن عليّ بن الحكم ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يتقبّل العمل ، فلا يعمل فيه ، ويدفعه إلى آخر يربح فيه ، قال : لا بأس (٢).

الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن الرجل الخياط ، يتقبّل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ، ويستفضل ، فقال : لا بأس ، قد عمل فيه (٣).

عنه عن صفوان ، عن الحكم الخياط قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، أتقبّل الثوب بدرهم ، وأسلّمه بأقلّ من ذلك ، لا أزيد على أن أشقّه ، قال : لا بأس بذلك ، ثمّ قال : لا بأس فيما تقبّلت من عمل ، ثمّ استفضلت (٤).

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.

(٢) و (٣) و (٤) التهذيب : ج ٧ ص ٢١٠ باب الإجارات ح ٥ و ٦ و ٧ ولكن الموجود في ح ٥ « لا » راجع الوسائل الباب ٢٣ من أبواب الإجارات.

٤٦٦

عنه عن صفوان ، عن أبي محمّد الخيّاط ، عن مجمع ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، أتقبّل الثياب ، أخيطها ، ثمّ أعطيها الغلمان بالثلثين ، فقال : أليس تعمل فيها؟ قلت : أقطعها ، وأشتري لها الخيوط ، قال : لا بأس (١).

عنه عن عليّ بن النعمان ، عن ابن مسكان ، عن علي الصائغ قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، أتقبّل العمل ، ثمّ أقبله من غلمان يعملون معى بالثلثين ، فقال : لا يصلح ذلك ، إلا أن تعالج معهم فيه ، قلت : فإنّي أذيبه لهم ، قال : فقال : ذاك عمل ، فلا بأس (٢).

فهذا يوضح ما قلناه ، ويؤيد ما حرّرناه ، والاعتذار لشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله فيما أورده من عبارته في قوله : « بأكثر من ذلك » أن يجعل « من » زائدة ، أو نجعلها لا زائدة ، بل المراد بأكثر من بعض ذلك ونجعلها للتبعيض ، ولا يحتاج إلى الحذف ، فيحمل الكلام على حقيقته ، فإذا قلنا أنّها زائدة ، كان الكلام مجازا ، والكلام في الحقائق ، دون المجاز ، لأنّه لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز ، إلا لضرورة ، أو دليل يضطر إليه ، فإذا جعلناها مبعضة ، كانت حقيقة في معناها ، ولو استعمل شيخنا رحمه‌الله غير هذه العبارة ، وأتى بالعبارة التي في الأخبار ، من قول السائل للإمام عليه‌السلام : « وأسلّمه بأقل من ذلك » استراح وأراح من يعتذر له من الاعتذار.

والذي ينبغي تحصيله وتحريره في هذا جميعه ، أنّه لا يخلو الإجارة امّا أن تكون معيّنة بعمله ، أو في ذمته ، فإن كانت معيّنة بعمله ، فلا يجوز له أن يعطيه لغيره يعمله ، وإن كانت الإجارة على تحصيل العمل لا بنفسه ، فله أن يحصل العمل له بنفسه أو بغيره ، إلا أنّه في المسألتين معا يكون ضامنا إذا سلّمه لغيره وهلك ، لأنّ صاحبه لم يرض بأمانة غيره.

__________________

(١) و (٢) التهذيب : ج ٧ ص ٢١١ باب الإجارات ح ٨ و ٩ ، راجع الوسائل الباب ٢٣ من أبواب الإجارات.

٤٦٧

والملّاح ضامن لما يحمله إذا غرق بتفريط من جهته ، فإن غرقت السفينة بالريح أو غير ذلك من غير تفريط منه ، لم يكن عليه شي‌ء.

والمكاري مثل الملّاح ، يضمن ما يفرّط فيه ، وما لا تفريط فيه ، لم يكن عليه شي‌ء في هلاكه.

ومتى اختلف المكتري والمكاري في هلاك شي‌ء ، وهل وقع فيه تفريط أم لا؟ كانت البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه.

وإذا اختلف صاحب المتاع والصانع في التفريط ، كان على صاحب المتاع البيّنة ، فإن لم يكن له بيّنة ، فعلى الصانع اليمين.

وروي أنّ من استأجر أجيرا لينفذه في حوائجه ، كان ما يلزم الأجير من النفقة على المستأجر دون الأجير ، فإن شرط عليه أن تكون نفقته عليه ، كان ذلك جائزا (١) ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢) على ما روي.

والذي يقوى في نفسي ، أنّ النفقة لا تلزم إلا الأجير ، دون المستأجر على كلّ حال ، لأنّه إنّما يستحقّ الأجرة ، وعليه العمل ، والأصل براءة ذمّة المستأجر ، فمن أوجب النفقة له ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك من كتاب ولا سنّة ، ولا إجماع ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد على ما بيّناه.

وينبغي أن لا يستعمل الإنسان أحدا إلا بعد أن يقاطعه على أجرته ، فإن لم يفعل ترك الاحتياط ، ووجبت اجرة المثل.

وإذا فرغ الأجير من عمله وطالب بأجرته ، فلا يجوز تأخيرها ، بل يجب أن يوفّي في حال مطالبته بها ، وإن كان مستحقا لها حال العقد قبل العمل والفراغ : لأنّه بنفس العقد يستحقها على ما قدّمناه ، إلا أن يشترط ذلك على ما بيّناه.

فإن كان قد أعطاه طعاما أو متاعا ، لم يعين (٣) سعره ، كان عليه بسعر وقت

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٠ في أحكام الإجارة ج ١٣ ص ٢٥٠.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.

(٣) ج : ثمّ تغيّر.

٤٦٨

إعطاء المال الذي هو المتاع دون وقت المحاسبة.

ومن استأجر مملوك غيره من مولاه ، كان ذلك جائزا ، وتكون الأجرة للمولى دون العبد ، فإن شرط المستأجر للعبد أن يعطيه شيئا من غير علم مولاه ، لم يلزمه الوفاء به ، ولا يحل للمملوك أيضا أخذه ، فإن أخذه وجب عليه ردّه على مولاه ، على ما ذكره شيخنا في نهايته (١).

والأولى عندي أنّه إن أخذه هبة ، فإن كان ذلك القبول منه بإذن مولاه (٢) ، كان للمولى ، وإن كان قبوله للهبة بغير إذن مولاه ، كانت الهبة باطلة ، والملك باق على الواهب ، فهذا الذي تقتضيه أصول المذهب والأدلة.

ومن استأجر غيره مدّة معلومة ، وأوقاتا معيّنة ، إجارة معينة ، ليتصرف له في حوائجه ، لم يجز له أن يتصرّف لغيره في شي‌ء ، إلا بإذن من استأجره ، فإن أذن له في ذلك ، كان جائزا ، لأنّه صارت منافعه في جميع المدّة مستحقّة للمستأجر ، دون نفسه ، ودون غيره.

ومن استأجر مملوك غيره من مولاه ، فأفسد المملوك شيئا ، أو أبق قبل أن يفرغ من عمله ، كان مولاه ضامنا لبقية الأجرة ، دون أرش ما أفسده.

ومن اكترى من غيره دابة على أن تحمل له متاعا إلى موضع بعينه في مدّة من الزمان ، فإن لم يفعل ذلك ، نقص من أجرته ، كان ذلك جائزا ما لم يحط بجميع الأجرة ، فإن أحاط الشرط بجميع الأجرة ، كان الشرط باطلا ، ولزمه اجرة المثل ، هذا على ما روي في بعض الأخبار (٣) ، ذكره شيخنا في نهايته (٤).

والأولى عندي أنّ العقد صحيح ، والشرط باطل ، لأنّ الله تعالى قال : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد ، فيحتاج في فسخه إلى دليل ، وإلا فالشرط إذا انضمّ

__________________

(١) و (٤) النهاية : كتاب التجارة باب الإجارات ، والعبارة في ٤ منقولة بالمعنى.

(٢) ج : أنه أخذه هبة فإن كان القبول من مولاه.

(٣) الوسائل : الباب ١٣ من أحكام الإجارة.

٤٦٩

إلى عقد شرعي ، صحّ العقد ، وبطل الشرط ، إذا كان غير شرعي ، وأيضا فلا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا إجماع منعقد ، ولم يورد أحد من أصحابنا هذه المسألة ، إلا هاهنا أعني في النهاية ، لكونه رحمه‌الله جمع فيها ألفاظ الأحاديث المتواترة وغير المتواترة.

واختلف أصحابنا في تضمين الصناع والملاحين والمكارين بتخفيف الياء.

فقال بعضهم : هم ضامنون لجميع الأمتعة ، وعليهم البيّنة ، إلا أن يظهر هلاكه ، ويشتهر بما لا يمكن دفاعه ، مثل الحريق العام ، والغرق والنهب كذلك ، فأمّا ما تجنيه أيديهم على السلع ، فلا خلاف بين أصحابنا انّهم ضامنون له.

وقال الفريق الآخر من أصحابنا وهم الأكثرون المحصّلون : أنّ الصناع لا يضمنون إلا ما جنته أيديهم على الأمتعة ، أو فرّطوا في حفاظه ، وكذلك الملاحون والمكارون والرعاة ، وهو الأظهر من المذهب ، والعمل عليه ، لأنّهم أمناء ، سواء كان الصانع منفردا ، أو مشتركا.

فالأجير المنفرد هو الذي يستأجر مدّة معلومة ، لخياطة أو بناء أو غيرهما من الأعمال ، ويسمّى أيضا الأجير الخاص ، من حيث المعنى ، وهو إذا آجر نفسه رجلا مدّة مقدّرة ، استحق المستأجر منافعه ، وعمله في المدّة المضروبة ، فيلزمه له العمل فيها ، ولا يجوز له أن يعمل فيها لغيره ، ولا أن يعقد على منافعه وعمله في مقدارها.

والمشترك هو الذي يكري نفسه في عمل مقدّر في نفسه ، لا بالزمان ، مثل أن يستأجره ليخيط ثوبا بعينه ، أو يصبغ له ثوبا بعينه ، وما أشبه ذلك ، ولقب مشتركا ، لأنّ له أن يتقبّل الأعمال ، لكلّ أحد في كلّ مدة ، ولا يستحق عليه أحد من المستأجرين منفعة زمان بعينه.

وصاحب الحمّام إذا ضاع من عنده شي‌ء من الثياب وغيرها ، لم يكن عليه ضمان ، إلا أن يستحفظه صاحبها ، أو يستأجره على حفاظها ، وعلى دخول حمامه ، فيلزمه حفاظها ، ويجب عليه ضمانها إذا فرط في الحفاظ ، فأمّا إذا لم

٤٧٠

يستحفظه إيّاها ، ولم يستأجره على ذلك ، وضاعت ، فلا شي‌ء عليه ، سواء فرّط أو لم يفرّط ، راعاها أو لم يراعها.

ومن حمل متاعا على رأسه فصدم إنسانا ، فقتله أو كسر المتاع ، كان ضامنا لدية المقتول ، ولما انكسر من المتاع.

وإذا استقل البعير أو الدابة بحملهما ، فصاحبهما ضامن لما عليهما من المتاع ، إذا فرّط في مراعاتهما ، وفي حفاظهما ، فأمّا إذا راعاهما ، ولم يفرّط في المراعاة لهما ، فلا شي‌ء عليه من الضمان.

إذا استأجر مرضعة مدّة من الزمان ، بنفقتها وكسوتها ، ولم يعيّن المقدار ، لم يصح العقد.

إذا استأجر امرأة لترضع ولده ، فمات واحد من الثلاثة ، بطلت الإجارة على المذهبين والقولين اللذين لأصحابنا معا ، لأنّ الصبي إذا مات ، بطلت الإجارة ، وكذلك الامرأة المرضعة ، إذا كانت الإجارة معيّنة بنفسها ، وكذلك موت الأب ، لأنّه المستأجر ، ولا خلاف أنّ موت المستأجر يبطل الإجارة ، هذا إذا كان الصبي معسرا لا مال له.

إذا آجرت المرأة نفسها للرضاع أو لغيره بإذن زوجها ، صحّت الإجارة بلا خلاف ، وإن كان ذلك بغير إذن الزوج ، لم تصحّ الإجارة ، وكانت باطلة ، لأنّ المرأة معقود على منافعها لزوجها بعقد النكاح ، فلا يجوز لها أن تعقد لغيره على منافعها ، فيخل ذلك بحقوق زوجها ، لأنّ له وطؤها في كلّ وقت ، فإذا ثبت أنّ الاستيجار في الرضاع صحيح ، فإن كان المرضع موسرا ، كانت الأجرة من ماله ، لأنّ ذلك من نفقته ، ونفقة الموسر من ماله ، وإن كان معسرا ، كانت من مال أبيه ، لأنّ نفقة المعسر على أبيه.

إذا رزق الرجل من امرأته ولدا ، لم يكن له أن يجبرها على إرضاعه ، لأنّ ذلك من نفقه الابن ، ونفقته على الأب ، وله أن يجبر الأمة ، وأم الولد ، والمدبّرة ، بلا خلاف في ذلك.

٤٧١

فإذا تطوعت الزوجة بإرضاع الولد ، لم يجبر الزوج على ذلك ، وكان له أن يمنعها منه ، لأنّ الاستمتاع الذي هو حقّ له ، يخلّ باشتغالها بالرضاع ، فكان له منعها من ذلك.

وإن تعاقدا عقد الإجارة على رضاع الولد ، لم يصحّ ، لأنّها أخذت منه عوضا في مقابلة الاستمتاع ، وعوضا آخر في مقابلة التمكين من الاستمتاع ، فأمّا إذا بانت منه ، صحّ أن يستأجرها للرضاع ، لأنّها قد خرجت عن حبسه ، وصارت أجنبية.

والأقوى عندي أنّه يصحّ استيجارها على الرضاع ، سواء كانت بائنا ، أو في حباله ، وما ذكرناه ، أوّلا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، في مبسوطة (١) ، ولا مانع يمنع من العقد عليها على كلّ حال ، وهذا رأي السيد المرتضى ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

فإذا بذلت الرضاع متطوّعة بذلك ، كانت أحقّ بالولد من غيرها ، وإن طلبت أكثر من اجرة المثل في الرضاع ، والأب يجد من يتطوع له ، أو من يرضى بأجرة المثل ، لم تكن الأم أولى بالولد من الأب ، وللأب أن يسلّم الولد إلى غيرها ، فإن رضيت بأجرة المثل ، وهو لا يجد إلا بأجرة المثل ، كانت هي أولى ، فإن كان يجد غيرها بدون اجرة المثل ، أو متطوّعة ، كان له أن ينزعه من يدها.

إذا آجر عبده مدّة معلومة ، ثمّ إنّه أعتقه ، نفذ عتقه فيه ، لأنّه مالك الرقبة ، كما لو أعتقه قبل الإجارة ، فإذا ثبت ذلك ، فالإجارة بحالها ، وهي لازمة للعبد ، وهل له أن يرجع على السيد بأجرة المثل لما يلزمه بعد الحرية؟ قيل : فيه قولان ، أحدهما يرجع بأجرة المثل في تلك المدّة ، والآخر لا يلزمه (٢) ، وهو الصحيح ، لأنّه لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمّة.

إذا آجر الأب أو الوصيّ أو الوليّ الصبي أو شيئا من أمواله ، صحّ ذلك ، كما يصحّ بيع ماله (٣) ، فإذا بلغ وقد بقي من مدّة الإجارة بعضها ، لم يكن له فسخها فيما بقي.

__________________

(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإجارات ، ص ٢٣٩.

(٢) ج : يلزمه.

(٣) ج : أمواله.

٤٧٢

إذا آجر عبده سنة معلومة ، فمات العبد بعد استيفاء منافعه ستة أشهر ، فلا خلاف أنّ العقد فيما بقي بطل ، وفيما مضى لا يبطل عندنا ، وفي المخالفين من قال يبطل ، مبنيا على تفريق الصفقة.

فإذا ثبت ما قلناه ، من أنّ الإجارة صحيحة فيما مضى ، وباطلة فيما بقي ، فهو بالخيار بين أن يطالب بأجرة المثل ، وبين ترك المطالبة ، فإن طالب ، فإن كان اجرة ما بقي مثل اجرة ما مضى ، فإنّه يأخذه ، وإن كان فيما بقي من المدة أجرته أكثر ممّا مضى ، فإنّه يستحق تلك الزيادة ، وذلك مثل أن تكون أجرة المدّة التي مضت ، مائة درهم ، ومدّة ما بقي (١) مائتين ، فإنّه يستحق عليه مائتين ، وبعكس هذا إن كان اجرة المدّة التي مضت مائتين ، ومدّة الباقي (٢) مائة ، فإنّه يستحقّ مائة. وهكذا في اجرة الدار ، إذا آجر دارا ثمّ انهدمت حرفا فحرفا.

الإجارة على ضربين ، معيّنة وفي الذّمة ، فالمعيّنة أن يستأجر دارا ، أو عبدا ، شهرا أو سنة ، وفي الذمة أن يستأجر من يبني له حائطا ، أو يخيط له ثوبا ، وكلاهما لا يمنع من دخول خيار الشرط مانع ، لقوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم ».

إذا اكترى دابة ، نظرت ، فإن كان اكتراها ليحمل عليها الأمتعة ، فالسوق على المكاري ، وإن كان ليركب عليها ، فالسوق عليه ، دون المكاري ، فإن اختلفا في النزول ، فقال المكاري : ينزل في طرف البلد موضعا يكون قريبا إلى الماء والكلاء ، وقال المكتري : لا ، بل ننزل في وسط البلد ، حتى يكون متاعي محفوظا ، فإنّه لا يلتفت إلى قول واحد منهما ، ويرجع فيه إلى العادة والعرف.

وإذا اكترى بهيمة وذكر أنّها تتعبه ، وتكدّه ، فإن كان ذلك من جهة أنّه لا بصر له بعادة الركوب ، لم يلزم المكاري شي‌ء ، وإن كان من جهة البهيمة ، نظر ، فإن كان اكتراها بعينها ، كان له ردّها ، وليس له أن يستبدل بها غيرها ،

__________________

(١) ل : واجرة ما بقي.

(٢) ل : واجرة الباقي.

٤٧٣

ويكون ذلك عيبا يردّها به ، وإن كان اكتراها في الذمة ، ردّها وأخذ بدلها.

وعلى الجمّال ان يبرك البعير لركوب المرأة ، لأنّها ضعيفة الخلقة ، فلا تتمكّن من الصعود للركوب ، ولا من النزول ، ولأنّها عورة ربما تكشفت ، والرجل إذا كان مريضا فكذلك ، وإن كان صحيحا لم يلزم الجمّال أن يبركه لركوبه ونزوله ، وأمّا صلاة الفريضة فإنّه يلزمه أن يبركه لفعلها ، لأنّها لا يجوز عليها إلا لضرورة شديدة ، فأمّا صلاة النافلة ، وأكل المكتري ، وشربه ، فلا يلزمه أن يبركه لأجله ، لأنّه يتمكّن من ذلك ، وهو راكب.

وليس للمصلّي الفريضة إذا نزل ، أن يطوّل صلاته ، بل يصلّي صلاة المسافر صلاة الوقت فحسب ، غير انه يتم الأفعال ، ويختصر الأذكار ، لأنّ حقّ الغير تعلّق به.

إذا اختلف الراكب والمكاري في قيد المحمل ، فقال الراكب : ضيّق القيد المقدّم ، ووسع المؤخر ، لأنه أخفّ على الراكب ، وأثقل على الجمل ، وقال المكاري : خلاف ذلك ، لا يقبل قول أحدهما ، ولكنه يجعل مستويا ، فلا يكون مكبوبا ولا مستلقيا.

وإن اختلفا في السير ، فقال الراكب : نسير نهارا ، فإنّه أصون للمتاع ، وقال المكاري : نسير ليلا ، لأنّه أخفّ للبهيمة ، فإن كانا شرطا السير في وقت معلوم ، إمّا ليلا أو نهارا ، حملا عليه ، وإن كانا أطلقا ذلك ، فإن كان للسير في تلك المسافة عادة ، حملا على العادة ، لأنّ الإطلاق يرجع إلى العادة.

إذا ضرب الراكب البهيمة في السوق ، فتلفت ، فإن كان ضرب العادة ، فلا شي‌ء عليه من الغرم ، وإن كان خارجا عن العادة ، ضمنها ، وكذلك الرائض.

الراعي مؤتمن ، فلا يضمن إلا ما يفرّط في حفاظة ، فأمّا ضربه للبهيمة فعلى ما قلناه في الراكب ، يحمل على العادة ، فإن كان الضرب خارجا عن العادة ، ضمن.

المعلّم إذا ضرب للتأديب ضربا معتادا ، فتلف الصبي ، وجبت الدية في ماله ، وكذلك الكفارة ، ولا قود عليه في ذلك ، فإن كان خارجا عن العادة ، وجب عليه القود.

إذا سلم رجل إلى الخياط ثوبا ، فقطعه الخياط قباء ثمّ اختلفا ، فقال

٤٧٤

صاحبه : أذنت لك في قطعه قميصا ، فقطعته قباء ، وقال الخياط : بل أذنت في قطعه قباء ، فالقول في ذلك قول ربّ الثوب ، دون الخياط ، لأنّ الثوب له ، والخياط مدّع للإذن في قطع القباء ، فعليه البيّنة.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف في كتاب الوكالة : القول قول الخياط (١) ، إلا أنّه رجع عن ذلك أيضا ، في مسائل الخلاف ، في كتاب الإجارات ، وقال : القول في ذلك ، قول صاحب الثوب (٢) ، وهذا هو الصحيح.

يجوز إجارة الدراهم والدنانير ، لأنّه لا مانع منه ، ولأنّه يصحّ الانتفاع بها ، من غير استهلاك عينها ، مثل الجمال ، والنظر ، والزينة ، وكذلك يجوز إجارة الحلي من الذهب والفضة ، لما قدّمناه ، فإذا ثبت ذلك ، فيحتاج أن يعيّن جهة الانتفاع بها ، فإن عيّن ، صحّ ، وإن أطلق ، لم تصحّ الإجارة ، ويكون قرضا ، هكذا قال شيخنا في مبسوطة (٣).

ولو قلنا إنّه تصح الإجارة ، سواء عيّن جهة الانتفاع أو لم يعيّن ، كان قويا ، إذ لا مانع منه ، ولا يكون قرضا ، لأنّه استأجرها منه ، ومن المعلوم أنّ العين المستأجرة ، لا يجوز التصرّف في ذهاب عينها ، بل في منافعها ، فيحمل الإطلاق على المعهود في الشرع والعرف.

والذي يقوى في نفسي بعد هذا جميعه ، أنّ الدنانير والدراهم لا يجوز إجارتها ، لأنّه في العرف المعهود لا منفعة لها إلا بإذهاب أعيانها ، وأيضا فلا خلاف أنّه لا يصحّ وفقهما ، فلو صحّ إجارتهما ، صحّ وقفهما ، فأمّا المصاغ منهما ، فإنّه يصحّ إجارته ، لأنّ له منفعة يصحّ استيفاؤها مع بقاء عينه ، وربما حققنا القول في ذلك ، وأشبعناه في آخر الباب ، إن شاء الله تعالى.

يجوز إجارة كلب الصيد والماشية ، والحائط ، والزرع ، لأنّه لا مانع منه ،

__________________

(١) الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة ١١.

(٢) الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة ٣٤.

(٣) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإجارات ، ص ٢٥٠.

٤٧٥

ولأنّ بيع هذه الكلاب عندنا يصحّ ، وما يصحّ بيعه يصحّ إجارته.

ويجوز إجارة السنّور ، لاصطياد الفار ، لأنّه لا مانع منه.

إذا استأجره ليطحن حنطة معلومة بمكوك دقيق منها ، كان صحيحا ، والأولى أن يكون المكوك مشاعا غير مقسوم ، فيكون جزء منها ، عشرا أو أكثر ، أو أقلّ ، فإذا عقد العقد استحقّ المكوك ، وصار شريكا قبل الطحن ، فأمّا إذا قال بمكوك دقيق منها بعد طحنها ، فهذا ليس بمضمون ، والأجرة ينبغي أن تكون مضمونة في الذمة ، أو معلومة مشاهدة مسلّمة مستحقّة.

إذا استأجر راعيا ليرعى له غنما بأعيانها ، جاز العقد ، ويتعيّن في تلك الغنم بأعيانها ، وليس له أن يسترعيه أكثر من ذلك ، وإن هلكت لم يبدلها ، وانفسخ العقد بينهما فيها ، وإن هلك بعضها ، لم يبدله ، وانفسخ العقد فيه ، وإن نتجت ، لم يلزمه أن يرعى نتاجها ، لأنّ العقد يتناول العين ، واختص بها ، دون غيرها ، فأمّا إذا أطلق ذلك ، واستأجره ليرعى له غنما مدة معلومة ، فإنّه يسترعيه القدر الذي يرعاه الواحد في العادة من العدد ، فإذا كانت العادة مائة ، استرعاه مائة ، ومتى هلك شي‌ء منها أو هلكت كلّها ، كان له إبدالها ، وإن ولدت كان عليه أن يرعى سخالها معها ، لأنّ العادة في السخال أن لا تنفصل عن الأمهات في الرعي.

إذا اكترى بهيمة ليقطع بها مسافة معلومة ، فأمسكها قدر قطع تلك المسافة ، ولم يسيّرها فيها ، استقرّت عليه الأجرة فإذا انقضت المدّة في الإجارة ، استوفى المكتري حقّه ، أو لم يستوف.

وهل يصير ضامنا بعد مضى المدة وقبل تسليمها إلى صاحبها من غير أن يطلبها صاحبها ، أم لا؟ قال قوم : يصير ضامنا ويجب عليه الرد ، وقال آخرون : لا يصير ضامنا ولا يجب عليه الرد ، إلا بعد مطالبة صاحبها بالرد ، لأنّ هذه أمانة ، فلا يجب ردّها إلا بعد المطالبة ، مثل الوديعة ، وهذا الذي يقوى عندي ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي‌ء ، يحتاج إلى دليل.

٤٧٦

واختار شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة ، القول الأوّل ، واحتج بأن قال : وإنّما قلنا ذلك ، لأنّ ما بعد المدّة غير مأذون له في إمساكها. ومن أمسك شيئا بغير إذن صاحبه ، وأمكنه الرد ، فلم يردّ ، ضمن ، ثمّ قال : وفي الناس من قال لا يضمن ، ولا يجب عليه الرد ، وأكثر ما يلزمه أن يرفع يده عن البهيمة ، إذا أراد صاحبها أن يسترجعها ، لأنّها أمانة في يده ، فلم يجب عليه ردّها مثل الوديعة (١).

وهذا الذي اخترناه ، وهو الصحيح ، فأمّا ما تمسك به شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله في نصرة ما ذهب إليه واختاره ، بما ذكره فبعيد ، ويعارض بالرهن ، إذا قضى الراهن الدين ، ولم يطالب بردّ الرهن ، وهلك ، فلا خلاف أنّ المرتهن لا يكون ضامنا ، وإن كان قال للمرتهن : أمسك هذا الرهن إلى أن أسلّم إليك حقّك ، فقد أذن له في إمساكه هذه المدة ، ولم يأذن فيما بعدها نطقا ، بل بقي على أمانته على ما كان أولا فكذلك في مسألتنا.

ولا يجوز إجارة الأرض للزراعة ببعض ما يخرج منها ، لأنّ ذلك غرر.

قد قلنا : إنّه إذا اختلف المكتري والمكري في قدر الأجرة ، فالقول قول المكتري مع يمينه ، فأمّا قدر الانتفاع والمدة فالقول قول المكري مع يمينه ، لأنّه المدّعي عليه ، بخلاف الأجرة ، لأن في الأجرة يكون مدعيا ، فيحتاج الى بيّنة ، والمكتري يكون مدّعى عليه ، فالقول قوله مع يمينه.

ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة فقال : إذا استأجره ليخيط له ثوبا بعينه ، فقال : إن خطته اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم ، صحّ العقد فيهما ، فإن خاطه في اليوم الأوّل ، كان له الدرهم ، وإن خاطه في الغد كان له نصف درهم (٢) ، وقال أيضا رحمه‌الله مسألة : إذا استأجره لخياطة ثوب ، وقال : إن خطته روميا ـ وهو الذي يكون بدر زين ـ فلك درهم ،

__________________

(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإجارات ، ص ٢٤٩.

(٢) الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة ٣٩ و ٤٠.

٤٧٧

وإن خطته فارسيا ـ وهو الذي يكون بدرز واحد ـ فلك نصف درهم ، صحّ العقد (١).

قال محمد بن إدريس : ما ذكره شيخنا في المسألتين غير واضح ، والذي تقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ الإجارة باطلة ، لأنّ الأجرة غير معيّنة ، ولا مقطوع عليها وقت العقد ، ولأنّ المؤجر لم يستحق على المستأجر في الحال (٢) عملا بعينه ، فهو بالخيار في ذلك ، ومن شرط صحة الإجارة استحقاق عمل مخصوص على المستأجر للمستأجر ، وعقد الإجارة على هذا التحرير باطل ، فإن عمل كان له اجرة المثل ، ولأنّ عقد الإجارة حكم شرعيّ ، يحتاج في ثبوته إلى دليل شرعي ، فمن أثبته يحتاج إلى دليل ، والأصل براءة الذمة ، وإن قلنا : هذه جعالة كان قويا ، فإذا فعل الفعل المجعول عليه ، استحق الجعل ، كرجل قال : من حج عنّي فله دينار ، فهذه جعالة بلا خلاف.

فأمّا تمسّك شيخنا أبي جعفر في صحّة المسألتين ، فإنّه قال : دليلنا أنّ الأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وقوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » وفي أخبارهم ما يجري مثل هذه المسألة بعينها منصوصة ، وهي أن يستأجر منه دابة على أن يوافي بها يوما بعينه ، فإن لم يواف بها ذلك اليوم ، كان أجرتها أقلّ من ذلك ، وإن هذا جائز ، وهذه مثلها بعينها سواء ، هذا آخر استدلال شيخنا (٣).

وما ذكره رحمه‌الله ليس فيه دليل يدفع به خصمه.

أمّا قوله : « الأصل جواز ذلك » بل الأصل براءة الذمم ، فمن شغلها بأمور شرعيّات وعقود لازمات ، والعقد حكم شرعيّ لا عقلي ، يحتاج مثبتة إلى دليل شرعيّ ، والأصل أن لا عقد.

فأمّا قوله : « المؤمنون عند شروطهم » فهو إذا كان الشرط شرعيا ، لا يمنع منه كتاب ولا سنة ، والسنة منعت من الشروط التي تفضي إلى الغرر.

__________________

(١) الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة ٣٩ و ٤٠.

(٢) ل : ولأنّ المستأجر لم يستحق على المؤجر في الحال.

(٣) الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة ٣٩.

٤٧٨

فأمّا قوله : « وفي أخبارهم ما يجري مثل هذه المسألة بعينها منصوصة » فمذهبنا ترك القياس ، هذا لو كانت المسألة المنصوصة مجمعا عليها ، فكيف وهذا خبر من أخبار الآحاد ، وقد قلنا ما عندنا فيه فيما مضى ، فلا وجه لا عادته.

إذا استؤجر على الكتابة والنسخ ، فانّ المداد والأقلام على الناسخ ، لأنّه استؤجر على تحصيل هذا العمل ، ولا يصحّ له هذا العمل إلا بالقلم والمداد ، وكذلك من استؤجر على خياطة ثوب ، فانّ الخيوط تجب على الخياط ، لأنّ هذا العمل لا يمكن تحصيله إلا بالخيوط والإبرة ، وكذلك من استؤجر على نساجة ثوب ، فانّ الحشو على الحائك ، لمثل ما قدّمناه ، وكذلك الغسال عليه الصابون والأشنان ، أو ما يزيل الوسخ ، ويبيض الثوب.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : يجوز إجارة الدراهم والدنانير (١).

قال محمّد بن إدريس : وهذا غير واضح ، لأنّه بلا خلاف بيننا لا يجوز وقف الدراهم والدنانير ، لأنّ الوقف لا يصح إلا في الأعيان التي يصحّ الانتفاع بها ، مع بقاء أعيانها ، على ما نبيّنه في كتاب الوقوف إن شاء الله ، فإذا جاز عنده رضي‌الله‌عنه إجارتها جاز وقفها ، وهو لا يجوّزه ، وأيضا كان يلزم من هذا أنّ من غصب رجلا مائة دينار ، وبقيت في يد الغاصب سنة ، ثمّ ردّها على المغصوب منه ، أن يلزمه الحاكم باجرتها مدّة السنة ، لأنّ المنافع عندنا تضمن بالغصب ، وهذا لا يقوله أحد منّا ، ولا من الأمة.

وقال رضي‌الله‌عنه في مسائل خلافه ، أيضا : لا يجوز إجارة حائط مزوّق ، أو محكم للنظر إليه ، والتفرّج به ، والتعلّم منه (٢).

قال محمّد بن إدريس : وينبغي أن يقال : إذا كان فيه غرض ، وهو التعلم من البناء المحكم ، تجوز الإجارة كما يجوز إجارة كتاب فيه خط جيد ، للتعلّم منه ، لأنّ فيه غرضا صحيحا ، ولأنّه لا مانع يمنع منه.

__________________

(١) الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة ٤١.

(٢) الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة ٢٤.

٤٧٩

باب الغصب

تحريم الغصب معلوم بأدلة العقل ، والكتاب ، والسنة ، والإجماع.

فإذا ثبت ذلك ، فالأموال على ضربين ، ماله مثل ، وما ليس له مثل ، فما له مثل ، هو الذي يتساوى قيمة أجزائه ، مثل الحبوب ، والأدهان ، والتمور ، وغير ذلك ، والذي لا مثل له ، معناه ما لا يتساوى أجزاؤه ، أي لا يتساوى قيمة أجزائه.

فمن غصب شيئا له مثل ، وجب عليه ردّه بعينه ، فإن تلف ، فعليه مثله ، بدليل قوله تعالى « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » (١) لأنّ المثل يعرف مشاهدة ، والقيمة يرجع فيها إلى الاجتهاد ، والمعلوم مقدّم على المجتهد فيه ، فإن أعوز المثل ، أخذت القيمة ، فإن لم يقبض القيمة بعد الإعواز حتى مضت مدة اختلفت القيمة فيها ، كان له المطالبة بالقيمة وقت الإقباض وحينه ، لا حين الإعواز ، وإن كان قد حكم بها الحاكم حين الإعواز ، لأنّ الذي ثبت في ذمّته المثل ، بدليل أنّه متى زال الإعواز قبل القبض طولب بالمثل ، وحكم الحاكم بالقيمة لا ينقل المثل إليها ، وإذا كان الواجب المثل ، اعتبر بدل مثله حين قبض المبدل ، ولم ينظر إلى اختلاف القيمة بعد الإعواز ولا قبله.

وإذا غصب مالا مثل له ، ومعناه ما قدّمناه ، كالثياب والرقيق ، والأخشاب ، والحديد ، والرصاص ، وغير ذلك ، وجب أيضا ردّه بعينه ، فإن تعذر ذلك بتلفه وهلاكه وجبت قيمته ، لأنّه لا يمكن الرجوع فيه إلى المثل ، لأنّه إن ساواه في القدر ، خالفه في الثقل ، وإن ساواه فيهما ، خالفه من وجه آخر ، فإذا تعذرت المثلية ، كان الاعتبار بالقيمة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه‌السلام : « من أعتق شقصا من عبد ، قوّم عليه » (٢) فأوجب عليه‌السلام القيمة دون المثل.

__________________

(١) البقرة : ١٩٤.

(٢) مستدرك الوسائل : الباب ٤٨ من كتاب العتق ، ح ٣. لكن لفظه هكذا : عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال : من أعتق شقصا من عبد عتق عليه كلّه.

٤٨٠