كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

والفصح كلام عربي ، من ذلك : رجل فصيح ، وقد أفصح ، إذا بيّن ، وأفصح الصبح ، إذا تبيّن ، قال الشاعر ، وهو حسّان :

قد دنا الفصح فالولايد ينظمن

سراعا اكلّة المرجان

يقول ذلك لآل الحرث بن أبي شمر (١) الغسّاني وهم نصارى.

باب بيع الغرر والمجازفة وما يجوز بيعه وما لا يجوز

قد بيّنا أن ما يباع كيلا أو وزنا ، فلا يجوز بيعه جزافا ، فإن بيع كذلك ، كان البيع باطلا ، وكذلك ما يباع كيلا ، فلا يجوز بيع الجنس منه بعضه ببعض وزنا ، لأنّا أخذ علينا التساوي فيما يباع كيلا بالمكيال ، فإذا بيع بالوزن ، ربما ردّ إلى الكيل ، فيزيد أحدهما على الآخر ، فيؤدي إلى الربا ، فإن بيع بغير جنسه ، جاز بيعه وزنا ، فأمّا ما يباع وزنا ، فلا يجوز بيعه كيلا ، سواء بيع بجنسه ، أو بغير جنسه ، بغير خلاف ، فإنّ كان ما يباع وزنا ، يتعذر وزنه ، جاز أن يكال ، ثمّ يعتبر مكيال منه ، ويؤخذ الباقي على ذلك الحساب.

وكذلك ما يباع بالعدد ، لا يجوز بيعه جزافا ، فإن تعذر العدد فيه ، وزّن منه مكيال ، وعدّ ، وأخذ الباقي على حسابه.

ولا يجوز أن يباع اللبن في الضروع ، فمن أراد بيع ذلك ، حلب منه شيئا ، واشتراه مع ما بقي في الضروع في الحال ، أو مدة من الزمان ، على ما رواه أصحابنا (٢) ، وإن جعل معه عرضا آخر ، كان أحوط.

وقد روي (٣) أنّه لا بأس أن يعطي الإنسان الغنم ، والبقر ، بالضريبة ، مدّة من الزمان ، بشي‌ء من الدراهم ، والدنانير ، والسمن ، وإعطاء ذلك بالذهب والفضة ، أجود في الاحتياط ، ويمكن أن يعمل بهذه الرواية على بعض الوجوه ،

__________________

(١) ج : لأبي الحرث بن أبي شمس.

(٢) و (٣) الوسائل : الباب ٩ من أبواب عقد البيع وشروطه.

٣٢١

وهو أن يحلب بعض اللبن ويبيعه مع ما في الضروع ، مدة من الزمان ، على ما وردت بمثله الأخبار ، أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض ، ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان ، لأنّ الإجارة لا تصحّ هاهنا ، لأنّ الإجارة استحقاق منافع السلعة المستأجرة ، دون استحقاق أعيان منها.

والأقوى عندي المنع من ذلك كله ، لأنّه غرر ، وبيع مجهول ، والرسول عليه‌السلام ، نهى عن بيع الغرر ، فمن أثبت ذلك عقدا (١) يحتاج إلى دليل شرعي ، والذي ورد فيه ، أخبار آحاد شذاذ ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد عند أصحابنا ، لا توجب علما ولا عملا ، والواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى ، إلى الأدلة القاطعة.

ولا يجوز أن يبيع الإنسان أصواف الغنم ، وشعرها على ظهورها ، فإن أراد بيعها ، جعل معها شيئا آخر.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : يجوز ذلك ، إذا كان مشاهدا (٢).

والأوّل قول شيخنا أبي جعفر (٣) والأظهر عندي قول شيخنا المفيد رحمه‌الله ، لأنّه غير موزون ، ما دام على ظهور الغنم ، وانما يصير موزونا إذا فارقها ، فلو حرّمنا بيعه قبل مفارقتها ، لحرمنا عليه (٤) بيع ثمرة جميع الأشجار ، ما عدا النخل قبل مفارقتها للشجر.

وكذلك لا يجوز أن يبيع (٥) ما في بطون الأنعام ، والأغنام من الحيوان ، فإن أراد بيع ذلك ، جعل معه شيئا آخر ، ليسلم من الغرر ، فإن لم يكن ما في البطون حاصلا ، كان الثمن في الآخر ، على ما روي في الأخبار (٦) ، من طريق الآحاد.

والأولى عندي ترك العمل بذلك أجمع ، لأنّه غرر وجزاف ، منهي عنهما.

__________________

(١) ل. ق : عقدا شرعيا.

(٢) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب اشتراط البائع على المبتاع ، ص ٦٠٩.

(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

(٤) ل. ق : علينا.

(٥) ج : لا يجوز بيع.

(٦) الوسائل : الباب ١٠ من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح ١٠.

٣٢٢

وقد روي أنّ من اشترى أصواف الغنم ، مع ما في بطونها في عقد واحد ، كان البيع صحيحا ماضيا.

والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّها زيادة غرر إلى غرر.

ولا يجوز أن يبتاع الإنسان من الصياد ما يضرب بشبكته لأنّ ذلك مجهول.

ولا بأس أن يشتري الإنسان أو يتقبل بشي‌ء معلوم ، جزية رءوس أهل الذمّة ، وخراج الأرضين ، وثمرة الأشجار ، وما في الآجام من السموك ، إذا كان قد أدرك شي‌ء من هذه الأجناس ، وكان البيع في عقد واحد ، لأنّه يؤمن من الغرر ، على ما رواه بعض أصحابنا (١) ولا يجوز ذلك ما لم يدرك شي‌ء من هذه الأجناس ، أورد ذلك شيخنا في نهايته ، في باب الغرر (٢).

والأولى عندي ترك العمل بذلك ، لأنّ هذا بيع مجهول ، ولا يرجع في مثل هذا إلى أخبار آحاد.

وروي أنّه لا بأس أن يشتري الإنسان تبن البيدر ، لكلّ كر من الطعام تبنة ، يعني تبن الكر ، فالهاء ضمير الكر ـ بشي‌ء معلوم ، وإن لم يكل بعد الطعام (٣).

أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الغرر (٤).

والأولى ترك العمل بها ، لأنّه شراء مجهول ، ومبيع غير معلوم وقت العقد ، والبيع يحتاج في صحّته إلى أن يكون معلوم المقدار ، وقت العقد عليه ، وهذا غير معلوم ولا محصّل ، فالبيع باطل ، لأنّه لا فرق بين ذلك ، وبين من قال بعتك هذه الصبرة الطعام ، كل قفيز بدينار ، ولم يخبركم فيها وقت البيع والعقد ، ولا كالها ذلك الوقت ، ويكون العقد والصحة موقوفا على كيلها ، فإذا كالها ، صح البيع المتقدّم ، وهذا باطل بالإجماع.

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح ٣ ـ ٤.

(٢) و (٤) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

(٣) الوسائل : الباب ١٣ من أبواب عقد البيع وشروطه.

٣٢٣

وقال شيخنا في نهايته : وإذا اشترى إنسان من غيره شيئا من القصب أطنانا معروفة ، ولم يتسلمها ، غير أنّه شاهدها ، فهلك القصب قبل أن يقبض ، كان من مال البائع ، دون المبتاع ، قال شيخنا : لأنّ الذي اشتري منه في ذمته (١).

قال محمّد بن إدريس : هذا البيع ما هو في الذمة ، بل بيع عين مرئية مشاهدة ، فكيف يكون في الذمة ، وأيضا لو كان في الذمة ، طالبه بعوضه وببدله ، فأمّا قوله رحمه‌الله : « كان من مال البائع دون المبتاع » فصحيح ، إذا لم يمكن البائع المبتاع من قبضه ، فامّا إذا مكّنه من قبضه ، ولم يقبضه ، وتركه عند بايعه ، بعد ان مكنه من قبضه ، فإنّه يهلك من مال المبتاع ، دون البائع ، فليلحظ ذلك ، فهذا تحرير الفتيا.

ولا يجوز بيع ما في الآجام من السمك ، لأنّ ذلك مجهول فإن كان فيها شي‌ء من القصب ، فاشتراه ، واشترى معه ما فيها من السموك ، لم يكن به بأس ، وكذلك إن أخذ شيئا من السمك ، وباعه إيّاه مع ما في الأجمة ، كان البيع ماضيا ، لأنّه يؤمن مع ذلك الغرر ، على ما روي (٢).

والاحتياط عندي ، ترك العمل بهذه الرواية لأنّها من شواذ الأخبار ، لأنّ المعلوم ، إذا أضيف إلى المجهول ، والمجهول إذا أضيف إلى المعلوم ، صيّر ذلك المعلوم مجهولا ، وهذه كلها أخبار آحاد ، يوردونها في أبواب الغرر ، وبيع المجازفة ، فلا تترك الأصول ، ويرجع إليها ، بل لا يعرج عليها.

وروي (٣) أنّه لا بأس أن يندر لظروف السمن والزيت وغيرهما ، شي‌ء معلوم ، إذا كان ذلك معتادا بين التجار ، ويكون ممّا يزيد تارة ، وينقص اخرى ، ولا يكون ممّا يزيد ، ولا ينقص ، فإن كان مما يزيد ، ولا ينقص ، لم يجز

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

(٢) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح ٢ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٦.

(٣) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب عقد البيع وشروطه.

٣٢٤

ذلك على حال.

ومن وجد عنده سرقة ، كان غارما لها ، إن هلكت ، ويرجع على من باعه إيّاها ، إذا أتى ببينة أنّه اشتراها منه ، ومتى اشتراها مع العلم بأنّها سرقة ، كان لصاحب السرقة أخذها ، ولم يكن للمشتري الرجوع على البائع بالثمن ، لأنّه ما غره ، بل أعطاه الثمن بلا عوض ، لأنّه يعلم أنّ السرقة لا يملكها السارق ، فقد ضيّع الثمن بدفعه اليه ، وإن لم يعلم أنّها سرقة ، كان له الرجوع على بائعها ، إذا كان موجودا ، بالثمن ، وبما غرمه عليها وأنفقه ، إذا لم يحصل له في مقابلة ذلك نفع ، فإن كان قد مات رجع على ورثته بذلك ، إن كان قد خلف في أيديهم بقدر ذلك ، فإن لم يترك شيئا ، فلا سبيل له على الورثة بحال.

ولا يجوز أن يشتري من الظالم شيئا يعلم أنّه ظلم بعينه وانفراده ، ولم يكن مأخوذا على جهة الخراج والزكوات ، ولا بأس أن يشتري منه إذا لم يعلم الشي‌ء بعينه وانفراده ، ظلما وغصبا ، وإن علم أنّ بايعه ظالم ، وترك ذلك أفضل.

ولا بأس بشراء ما يأخذه السلطان الظالم ، من الغلات ، والثمرات ، والأنعام ، على جهة الخراج ، والزكاة ، على ما قدّمناه ، وان كان الآخذ له غير مستحق لذلك.

ومن غصب غيره متاعا ، وباعه من غيره ، ثم وجده صاحب المتاع عند المشتري ، كان له انتزاعه من يده ، فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع ، كان المغصوب منه مخيّرا ، في الرجوع على من شاء منهما ، فإن رجع على الغاصب ، رجع عليه بأكثر القيم إلى يوم الهلاك ، وإن رجع على المشتري ، رجع عليه بأكثر القيمة من وقت شرائه إلى وقت هلاكه ، ويرجع المشتري على الغاصب ، بما غرمه من المنافع ، التي لم يحصل له في مقابلتها نفع ، إلا أن يكون المشتري علم أنّه مغصوب ، واشتراه ، فيلزمه القيمة وغيرها لصاحبه ، ولا درك له على الغاصب ، من رجوع بالثمن ، ولا غيره ، لأنّه ما غرّه ، بل دخل مع العلم.

٣٢٥

فإن اختلف في قيمة المتاع ، كان القول قول الغارم ، لأنّه الجاحد لزيادة القيمة المدّعاة ، وصاحب السلعة هو المدّعي.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع ، رجع على الغاصب بقيمته يوم غصبه إيّاه (١). وهذا القول غير واضح ، والمعتمد على ما قلناه.

وقال أيضا رحمه‌الله : فإن اختلف في قيمة المتاع ، كان القول قول صاحبه. وقد قلنا ما عندنا في ذلك.

وقال أيضا رحمه‌الله : ومتى أمضى المغصوب منه البيع ، لم يكن له بعد ذلك ، درك على المبتاع ، وكان له الرجوع على الغاصب ، بما قبضه من الثمن فيه (٢).

وهذا على مذهب من يقول من باع ملك غيره بغير إذنه يكون العقد موقوفا على اجازة صاحبه ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وسطرنا ، أنّ شيخنا أبا جعفر ، رجع عمّا ذهب إليه في نهايته ، في مسائل خلافه (٣).

ومتى ابتاع بيعا فاسدا ، فهلك المبيع في يده ، أو حدث فيه فساد ، كان ضامنا لقيمته ، أكثر ما كانت إلى يوم التلف والهلاك ، ولأرش ما نقص من قيمته بفساده ، لأنّه باق على ملك صاحبه ، ما انتقل عنه ، فهو عند أصحابنا بمنزلة الشي‌ء المغصوب ، إلا في ارتفاع الإثم بإمساكه.

ولا بأس أن يشترط الإنسان على البائع ، فيما يشتريه منه شيئا من أفعاله ، إذا كان مقدورا له ، فأمّا إذا لم تكن مقدورا له ، فلا يجوز اشتراطه فما هو في مقدوره ، مثل أن يشتري ثوبا على أن يقصره أو يخيطه ، وما أشبه ذلك ، وكان البيع ماضيا ، ويلزمه ما شرط له ، بغير خلاف في ذلك عند أصحابنا ، وإجماعهم الحجة على صحّة ذلك ، وأمّا ما ليس في مقدوره ، مثل أن يبيع الزرع على أن يجعله سنبلا ، والرطب على أن يجعله تمرا ، فإن باع ذلك ، بشرط أن يدعه في

__________________

(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة باب بيع الغرر والمجازفة.

(٣) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٢٧٥.

٣٢٦

الأرض ، أو الشجر إلى وقت بلوغه ، وإدراكه ، أو ما يريد المبتاع ، كان البيع صحيحا ، والشرط لازما ، وإن باع ذلك مطلقا من الاشتراط يجب على البائع تبقيته إلى أوان الحصاد والصرام.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ثوبا منشورا ، ويستثني منه نصفه ، أو ثلثه ، أو ما أراد منه من الأذرع ، لأنّ ذلك استثناء معلوم من معلوم ، ولا بدّ من نشر الثوب عند البيع ، بحيث ينظر المشتري طوله وعرضه ، ولا يحتاج مع نشره إلى ذرعه ، فإن لم ينشره ، فلا بدّ من الاخبار بذرعه ، وذكر صفته ، لأنّه غير مرئي ، فيكون بيع خيار الرؤية. وقد قلنا فيما مضى ، أنّه لا يجوز أن يبيع متاعا بدينار غير درهم ، لأنّه مجهول ، وبيّنا أنّه من أين كان مجهولا ، فلا وجه لإعادته.

ولا بأس ببيع الجوارح التي تصلح للصيد ، من الطير ، والسباع من الوحش ، وكذلك لا بأس ببيع ما يحل بيع جلده ، من سائر السباع ، وقد قدّمنا ذلك فيما مضى ، من كتابنا هذا.

ولا بأس ببيع عظام الفيل ، واتخاذ الأمشاط منها ، وغيرها من الآلات ، ولا بأس باستعمال ما يعمل منها.

ولا يشتري الإنسان الجلود ، إلا ممّن يثق من جهته ، أنّه لا يبيع إلا ذكيا ، فإن اشتراها ممّن لا يثق به ، فلا بأس بذلك ، ما لم يعلم أنّها غير ذكية ، وكذلك لا بأس بابتياعها من أسواق بلدان المسلمين.

ولا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه ملاهي ، وكذلك بيع العنب ممن يجعله خمرا ، فإنّه مكروه وليس بحرام ، ويكون الإثم على من يجعله كذلك ، لا على بايعه ، واجتناب ذلك أفضل ، فأمّا إن اشتراط البائع على المبتاع بأن يجعله خمرا ، وعقدا (١) على ذلك ، مشترطا ومقرونا بالعقد ، فهذا حرام (٢).

__________________

(١) ج : أو عقدا.

(٢) ل. ق : وكذلك الحكم فيمن يبيع شيئا بعضي الله به ، من قتل مؤمن أو قطع طريق وما أشبه ذلك.

٣٢٧

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : بيع العصير ممّن يجعله خمرا ، مطلقا مكروه ، وليس بفاسد ، وبيعه ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام ، ولا يبطل البيع ، لما روي عن النبي عليه‌السلام أنّه لعن الخمر وبائعها (١). وكذلك الحكم فيمن يبيع شيئا يعص الله به ، من قتل مؤمن ، أو قطع طريق ، وما أشبه ذلك ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (٢).

وهذا الذي يقوى عندي ، لأنّ العقد لا دليل على بطلانه ، لقوله عزوجل : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وليس انضمام هذا الشرط الفاسد الباطل إليه ، مما يفسده ، بل يبطل الشرط ، ويصح العقد.

ومن اشترى من إنسان ماله ، فإن كان ماله حلالا ، فالبيع حلال طلق ـ بكسر الطاء ـ وإن كان ماله حراما ، فالبيع باطل ، لأنّه يشتري مالا يملكه ، وإن كان مختلطا لا يتميز له ، فالبيع صحيح ، إلا أنّه مكروه.

ويكره استعمال الصور ، والتماثيل التي هي على صور الحيوان ، فأمّا صور الأشجار وغيرها ، ممّا لا يكون على صور الحيوان ، فلا بأس ، وقد روي أنّه لا كراهة في ذلك إذا استعمله مستعملة في الفرش ، وما يوطأ بالأرجل (٣).

ولا بأس ببيع الحرير والديباج ، وأنواع الإبريسم ، والفرق بين الديباج ، والحرير ، هو أنّ الديباج ما كان من الحرير مدبجا ، منقوشا ، موشوا (٤) ، والحرير بخلاف ذلك ، ولا يجوز لبسه إذا كان محضا منهما ، غير مختلط بالنسبة في شي‌ء ، يجوز الصلاة فيه للرجال خاصة ، ولا يجوز أيضا الصلاة فيه لهم ، إلا ما كان مختلطا حسب ما قدّمناه ، فيما مضى من كتاب الصلاة.

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ٢ ، الباب ٤٧ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٢ ، ولفظه هكذا : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخمر ، وغارسها ، وعاصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليها ، وبائعها ..

(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في ان الخراج بالضمان ، ص ١٣٨.

(٣) الوسائل : الباب ٩٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

(٤) ل : موشيا.

٣٢٨

وقال شيخنا في نهايته : ولا يجوز بيع شي‌ء من الكلاب ، إلا كلب الصيد خاصة ، فإنّه لا بأس ببيعه ، والانتفاع بثمنه (١).

وقد قلنا فيما تقدّم من كتابنا هذا ، أنّ بيع كلب الزرع ، وكلب الحائط ، وكلب الماشية أيضا جائز ، ودليلنا على موافقة شيخنا في غير كتاب النهاية ، وإنّما أورد في النهاية ألفاظ الأحاديث ، إيرادا ، آحادا ومتواترة ، ولم يحرر فيها شيئا ، كما اعتذر به لنفسه ، في خطبة مبسوطة.

وأهل الذمّة سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مجوسا ، إذا باعوا ما لا يجوز للمسلم بيعه ، من الخمر ، والخنزير ، وغير ذلك ، ثمّ أسلم كان له المطالبة بالثمن ، وكان حلالا له ، وإذا أسلم وفي ملكه شي‌ء من ذلك ، لم يجز له بيعه على حال.

وقد روي (٢) أنّه إذا كان عليه دين ، جاز أن يتولّى بيع ذلك غيره ، ممن ليس بمسلم ، ويقضي بذلك دينه ، ولا يجوز له أن يتولاه بنفسه ، ولا أن يتولّى عنه غيره من المسلمين.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ترك العمل بهذه الرواية الضعيفة ، لأنّها مخالفة للأدلّة القاهرة ، وهو أنّ ثمن الخمر حرام على المسلمين ، ولأنّها عندنا غير مملوكة ، ولا يجوز قضاء الدين بمال حرام ، وأيضا فيد الوكيل يد موكله.

ومن غصب من غيره مالا ، ويشتري به جارية ، كان الفرج له حلالا ، وعليه وزر المال ، ولا يجوز له أن يحجّ به ، فإن حجّ به ، لم يجزه عن حجة الإسلام ، هكذا روي في بعض الأخبار (٣) ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٤).

والذي أقوله في ذلك ، أنّه إن كان اشترى الجارية بعين المال المغصوب ، فالشراء باطل ، ولا يجوز له وطء هذه الجارية ، ولا يصحّ له التصرّف فيها بحال ،

__________________

(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

(٢) الوسائل : الباب ٥٧ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٢.

(٣) الوسائل : الباب ٣ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٢.

٣٢٩

وإن كان الشراء وقع بمال في ذمّته ، كان ذلك صحيحا ، وحل له وطء الجارية ، لأنّ الشراء وقع في الذمة ، لا بالعين المغصوبة.

وشيخنا أبو جعفر ، رجع عمّا ذهب إليه في نهايته ، وأورده ، لأنّ ذلك خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، رواية السكوني وهو مخالف ، عامي المذهب ، فقال شيخنا في جواب مسألة سئل عنها ، من جملة المسائل الحائريات ، المنسوبة إلى أبي الفرج بن الرملي ، فقال السائل : وعن رجل اشترى ضيعة ، أو خادما بمال ، أخذه من قطع الطريق ، أو من سرقة ، هل يحل له ما يدخل عليه من ثمرة هذه الضيعة ، أو يحل له أن يطأ هذا الفرج الذي قد اشتراه بمال من سرقة ، أو قطع الطريق ، وهل يجوز لأحد أن يشتري من هذه الضيعة ، وهذا الخادم ، وقد علم أنّه اشتراه بمال حرام ، وهل يطيب لمشتري هذه الضيعة ، أو هذا الخادم ، أو هو حرام ، فعرّفنا ذلك.

فقال : الجواب : إن كان الشراء وقع بعين ذلك المال ، كان باطلا ، ولم يصح جميع ذلك ، وإن كان الشراء وقع بمال في ذمّته ، كان الشراء صحيحا ، وقبضه ذلك المال فاسدا ، وحل وطء الجارية ، وغلة الأرض ، والشجر ، لأنّ ثمن الأصل في ذمّته ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله ، وآخر جوابه للسائل (١) وهو الحق الواضح.

فأمّا الحج بهذا المال ، فإن كانت حجة الإسلام ، لم يجب عليه قبل ذلك ، ولا استقرت في ذمته ، ثم حج بهذا المال الحرام ، ووجد بعد ذلك ، القدرة على الحج بالمال الحلال ، وحصلت له شرائط وجوب الحج ، فإنّ حجّته الاولى بالمال الحرام ، لم تجزه ، والواجب عليه الحج ثانيا ، فأمّا إن كان الحج وجب عليه ، واستقر في ذمّته ، قبل غصب المال ، ثم حج بذلك المال ، فالحجة مجزية

__________________

(١) لا يوجد في النسخة التي بأيدينا.

٣٣٠

عنه ، لأنّه قد حصل بالمواضع ، وفعل أفعال الحج بنفسه ، إلا الهدي ، إن كان اشتراه بعين المال المغصوب ، فلا يجزيه عن هديه الواجب عليه ، ووجب عليه شراء هدي ، أو الصوم بدلا عنه ، عند تعذر القدرة عليه ، إلا أنّه لا يفسد عليه حجّه ، لأن الهدي ليس بركن.

وكلّ شي‌ء من المطعوم والمشروب ، يمكن للإنسان اختباره من غير إفساد له ، كالأدهان الطيبة المستخبرة بالشم ، وصنوف الطيب ، والحلاوات ، والحموضات ، فقد روي أنّه لا يجوز بيعه بغير اختباره (١) ، فإن بيع من غير اختبار له ، كان البيع غير صحيح ، والمتبايعان فيه بالخيار ، فإن تراضيا بذلك ، لم يكن به بأس.

وهذه الرواية ، يمكن العمل بها على بعض الوجوه ، وهو أنّ البائع لم يصفه ، فإذا لم يصفه يكون البيع غير صحيح ، لأنّه ما يعرف بمشاهدته إذا طعمه (٢) ، فلا بدّ من وصفه ، فأمّا إذا وصفه ، وضبطه بالوصف ، فالبيع صحيح ، ويعتبر فيه ما اعتبرناه في بيع خيار الرؤية ، في المرئيات ، لأنّه لا يمكن معرفته بالرؤية ، بل بالطعم ، فإن وجد طعمه أو ريحه كما وصف البائع له ، فلا خيار له ، وإن وجده بخلاف وصف بايعه ، كان بالخيار ، ولا دليل على بطلان هذا العقد ، لأنّ الله تعالى ، قال « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وقال تعالى « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع.

ويمكن أن يقال أنّ بيع العين ، المشاهدة المرئية لا يجوز أن تكون موصوفا ، لأنّه غير غائب ، فيباع بيع خيار الرؤية بالوصف ، فإذن لا بد من شمّه ، وذوقه ، لأنّه حاضر ، مشاهد ، غير غائب ، فيحتاج إلى الوصف ، فهذا وجه قويّ.

وما لا يمكن اختباره إلا بإفساده وإهلاكه ، كالبيض ، والبطيخ ، والقثاء ، والرمان ، وأشباه ذلك ، فابتياعه جائز مطلقا ، وبشرط الصحة ، أو البراءة من العيوب ، فإن اشتراه مطلقا ، أو بشرط الصحة ، ثمّ كسره المبتاع ، فإن وجد فيه

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٥ من أبواب عقد البيع وشروطه ، وفي النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

(٢) ل. ق : بمشاهدته طعمه.

٣٣١

فاسدا ، كان للمبتاع ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وليس له رد الجميع ، واسترجاع الثمن ، فيما قد تصرّف فيه ، ولا له ردّ المعيب ، دون ما سواه ، وله ردّ الجميع ، إذا لم يتصرف في جميع المبيع ، وقامت له بذلك بيّنة ، فأمّا إذا تصرّف في ذلك ، فليس له رده ، وإجماع أصحابنا أنّ المشتري ، متى تصرّف في المبيع ، ثمّ وجد العيب ، فليس له الرد ، وله الأرش ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وكيفية ذلك ، هو أن يقوّم ما بين قيمته صحيحا ، وقشره صحيح ، وبين كونه فاسدا وقشره صحيح ، فما يثبت ، يرجع بمقداره من الثمن ، ولا يقوّم مكسورا ، لأنّ الكسر نقص حدث في يد المشتري ، فلا يرجع بجنايته وحدثه على غيره.

هذا فيما كان لفاسده ومكسوره ، بعد كسره قيمة فأمّا إذا لم يكن لفاسده ومكسوره قيمة بعد كسره ، مثل بيض الدجاج ، إذا كان فاسدا ، فإن كان هكذا فالبيع باطل ، لأنّه لا يجوز بيع ما لا قيمة له.

وعلى هذا لا يجوز بيع الحشرات ، مثل الخنافس ، والجعلان ، وبنات وردان ، والذباب ، وغير ذلك ، ومتى أتلفه متلف ، فلا ضمان عليه ، لأنّه لا قيمة له.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : فإن وجد فيه فاسدا ، كان للمبتاع ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وإن شاء ردّ الجميع ، واسترجع الثمن ، وليس له ردّ المعيب دون ما سواه (١).

وأطلق الكلام في ذلك إطلاقا على لفظ الخبر الذي أورده.

والتحرير والفتيا على ما حررناه ، فإنّه رحمه‌الله ، رجع وحرّر ذلك في مبسوطة (٢).

ولا بأس بابتياع الأعمى ، وشرائه ، وحكمه فيما ذكرناه ، حكم البصراء سواء ولا بأس أن يبتاع الإنسان من غيره شيئا ، متاعا ، أو حيوانا ، أو غير ذلك ، بالنقد والنسيئة ويشترط ان يسلفه البائع شيئا في مبيع ، أو يستسلف منه في

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

(٢) المبسوط : كتاب البيوع ، حكم المبيع إذا وجد به عيب ، ص ١٣٥.

٣٣٢

شي‌ء ، أو يقرضه شيئا معلوما إلى أجل ، أو يستقرض منه ، وإذا ابتاع على ذلك ، كان البيع صحيحا ، ووجب عليهما الوفاء بما اشترطا فيه ، لأنّه شرط لا يخالف الكتاب والسنة ، فلا مانع يمنع من ذلك ، لقوله عليه‌السلام : المؤمنون عند شروطهم (١) وقوله : الشرط جائز بين المسلمين (٢).

وقد أبي ذلك ، كثير من مخالفي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، بغير حجّة ولا برهان.

وإذا ابتاع الإنسان أرضا ، فبنى فيها ، أو غرس ، وأنفق عليها ، فاستحقها عليه إنسان آخر ، كان للمستحق قلع البناء ، والغرس ، وأجرتها مدة ما كانت في يده ، ويرجع المبتاع على البائع ، إن كان غره بقيمة ما ذهب منه ، وغرّمه ، وأنفق عليها ، فإن كان ما غرسه قد أثمر ، وأينع ، فالثمرة والزرع ، لصاحب الغرس والبذر ، ولصاحب الأرض قلعه ، لقوله عليه‌السلام : الزرع لمن زرعه وإن كان غاصبا (٣) المراد به ، نماؤه ، وقوله عليه‌السلام في قلعه : ليس لعرق ظالم حق (٤).

وقد روي في بعض الأخبار ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته ، أنّه إن كان ما غرسه ، قد أثمر ، كان ذلك لرب الأرض ، وعليه للغارس ما أنفقه ، واجرة مثله في عمله (٥).

وهذا غير واضح ولا مستقيم ، لأنّه مناف لأصول المذهب ، ولما عليه كافة

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ح ٤.

(٢) عوالي اللئالى : ج ٣ ، ص ٢٢٥ ، ح ١٠٣.

(٣) لم نجد العبارة في الكتب الروائية إلا أن في الوسائل : الباب ٣٣ من أبواب الإجارة ، الحديث ٢ عن عقبة بن خالد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير إذنه حتى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال : زرعت بغير اذني فزرعك لي وعليّ ما أنفقت أله ذلك أم لا؟ فقال : للزارع زرعه ولصاحب الأرض كراء أرضه ، وأورده في الباب ٢ من كتاب الغصب أيضا.

وفي سنن أبي داود ، كتاب البيوع ، الباب ٣٢ ( الرقم ٣٤٠٣ ) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شي‌ء وله نفقته ». ورواه أيضا ابن ماجة في سننه في الباب ١٣ من كتاب الرهون ( الرقم ٢٤٦٦ ) فراجع

(٤) الوسائل : الباب ٣ من أبواب الغصب ، ح ١.

(٥) النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

٣٣٣

المسلمين ، لأنّ نفس الغراس ، ملك للغارس ، فكيف يستحقها رب الأرض ، ومن أي وجه صارت له ، وأيّ دليل دلّ على ذلك ، ولا يرجع في ذلك إلى سواد مسطور ، أو خبر واحد من أضعف أخبار الآحاد ، إن كان قد ورد ، ويترك الأدلة القاهرة ، والأصول الممهّدة ، من أدلة العقل ، وأدلة السمع ، ولقد شاهدت جماعة من أصحابنا الذين عاصرتهم ، يخبطون في ذلك ، خبط عشواء ، وكلّ منهم يقول قولا غير محصّل ، ليصححوا ما ليس بصحيح ، كأنهم وجدوه مسطورا في كتاب الله ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، فالحمد لله على التوفيق لإصابة الحق.

فإن فسدت الأرض بالغرس ، كان لربها عليه أرش ما فسد ، ويرجع هو على البائع له بذلك.

ومن كان له على غيره مال ، أو متاع إلى أجل ، فدفعه إليه قبل حلول الأجل ، كان بالخيار بين قبضه ، وتركه إلى وقت حلول الأجل ، وكان ذلك في ضمان المديون عليه ، وليس لأحد أن يجبره على قبضه قبل أجله.

وإذا كان له على غيره مال بأجل ، فسأله تأخيره عنه إلى أجل ثان ، فأجابه إلى ذلك ، كان بالخيار ، إن شاء أمضى الأجل الثاني ، وإن شاء لم يمضه ، بغير خلاف بين أصحابنا فيه : لأنّه بمنزلة الهبة الغير مقبوضة ، فللإنسان أن يرجع فيها.

ومتى تقايل المتبايعان البيع ، انفسخ العقد ، فإن عقداه بعد الإقالة بأجل ، لم يكن للبائع الرجوع فيه ، ووجب عليه الوفاء به ، بخلاف تلك المسألة المتقدّمة.

والفرق بينهما ، أنّ تلك كانت بأجل ، وحلّ الأجل ، ثم سأل التأخير في الأجل ، بعد حلوله ، واستحقاقه ، فأجيب إلى ذلك ، فللمجيب الرجوع في هبته ، والمسألة الأخيرة بعد فسخ البيع ، وعقده ثانيا إلى أجل ثان ، لا يجوز الرجوع فيه لأنّه ما حلّ ، ثم أجّله بعد ذلك ، لأنّ هذا الأجل ، أجل أول مستحق على البائع ، بالشرط المقابل للعوض الذي هو المبيع ، فلا يجوز له الرجوع فيه ، لأنّه غير متبرّع به ، فافترق الأمران.

٣٣٤

ولا يصح بيع بإكراه ، ولا يثبت إلا باختيار صاحبه وإيثاره.

وإذا باع الإنسان ملكا لغيره ، والمالك حاضر ، فسكت ، ولم يطالب ، ولا أنكر ذلك ، لم يكن ذلك دلالة على إجازته البيع ، ووكالته فيه ، ولا دليلا على أنّه ليس المبيع ملكا له ، وكذلك إن صالح عليه مصالح ، وهو ساكت ، لم يمض الصلح عليه ، وكان له المطالبة به وانتزاعه.

وبيع الأب على الابن ، إذا كان كبيرا مكلفا غير مولى عليه ، غير ماض ، ولا جائز ، بل باطل ، فإن كان صغيرا أو كبيرا غير مكلّف ، جاز بيعه عليه ، وصح ، لأنّه وليّه ، والناظر في أموره ، بخلاف العاقل المكلّف ، لأنّه ولي نفسه.

إذا باع مجهولا ومعلوما ، بطل البيع فيهما معا ، لأنّه لا يمكن التوصّل إلى الحصة في ثمن المعلوم بجهالة الآخر ، فلا يمكن التوصل إلى ما تسقط في مقابلته ، وقد بيّنا فيما مضى ، أنّه إذا باع ما يملك وما لا يملك ، في عقد واحد ، أو شاة وخنزيرا في عقد واحد ، صح البيع في أحدهما ، وبطل في الآخر ، لأنّه يسقط الثمن عليهما ، ويمكن التوصّل إلى الحصّة في ثمن المملوك منهما ، لأنّ الثمن يتقسط على القيمة ، كالعبدين ، والثوبين ، قسط عليهما ، وما يتقسط على الأجزاء ، كالحبوب ، والأدهان ، فإنّه يمسكه بحصّة من غير تقويم ، ولا تقسيط ، لأنّ ذلك متساوي الأجزاء ، فهو متساوي القيم.

وإذا قال : بعتك هذه الدار ، وآجرتك هذه الدار الأخرى ، بألف ، كان صحيحا ، لأنّه لا مانع منه ، فإذا قلنا البيع والإجارة صحيحان ، فإنّه يأخذ كل واحد حصّته ، من الثمن الذي هو العوض في مقابلتهما ، بقيمة المبيع ، واجرة مثل الدار ، وهكذا اعتبار التقسيط في جميع ما قدّمناه ، من بيع السلعتين ، فليلحظ ذلك.

إذا باع الإنسان بهيمة ، أو جارية حاملا ، واستثنى حملها لنفسه ، كان جائزا ، فإن استثنى يدها ، أو رجلها ، أو عضوا منها ، كان استثناؤه باطلا.

٣٣٥

وقال شيخنا في مبسوطة في باب الغرر ، وإن باع بهيمة أو جارية حاملا ، واستثنى حملها لنفسه ، لم يجز ، لأنّ الحمل يجري مجرى عضو من أعضائها (١).

وقال رضي‌الله‌عنه أيضا : وإن باع جارية حبلى بولد حرّ ، لم يجز ، لأنّ الحمل يكون مستثنى ، وهذا يمنع صحة البيع (٢).

وما قدّمناه من صحة استثناء الحمل للبائع ، هو الصحيح الذي لا خلاف فيه ، بين أصحابنا ، أنّ الحمل بمجرّد العقد من الحامل للبائع (٣) فكيف إذا اشترطه ، إلا أن يشترطه المشتري ، وهذا قول شيخنا في نهايته (٤) ، وجميع كتبه ، إلا فيما أشرنا إليه ، لكون هذا الكتاب مجمع مذهب المخالف له ، وقد ذكر فيه مذهبنا ، ومذهب غيرنا ، وما ذكره فيه مذهب الشافعي ، لأنّ في أحد قوليه ، أنّ الحمل لا يتقسط الثمن عليه ، ويجريه مجرى عضو من أعضاء الحامل ، ومذهبنا بغير خلاف بيننا ، يخالف مذهب الشافعي في هذه المسألة ، وابن البراج من أصحابنا ، نظر في هذه المسألة في المبسوط ، ظنها اعتقاد شيخنا أبي جعفر ، فنقلها إلى جواهر الفقه ، كتاب له ، وعمل بها ، واختارها ، تقليدا لما وجده من المسطور المذكور ، وما استجمل لهذا الشيخ الفقيه ، مع جلالة قدره ، مثل هذا الغلط والتقليد لما يجده في الكتب ، ويضمنه كتبه ، وهذا قلة تحصيل منه ، لما يقوله ويودعه تصانيفه ، وانّما ذكرت هذه المسألة عنه على غثاثتها ، لشهرتها عند من يقف على جواهر الفقه ، وأنّها عندهم كالصحيح من القول ، فذكرتها دالا على عوادها.

بذر دود القز ، يجوز بيعه ، ولا دليل على حظره ، وكذلك دوده ، لأنّه مرجوّ نفعه ، بخلاف غيره من الدود ، لأنّه لا نفع فيه ، فلا يجوز بيعه ، ويجوز أيضا بيع زنابير العسل ، وهو النحل ، إذا رآها ، وقد اجتمعت في بيتها ، وحبسها حتى لا

__________________

(١) و (٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ص ١٥٦.

(٣) ج : لأنّ الحمل يجرى مجرى العقد من الحامل.

(٤) النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

٣٣٦

يمكنها أن تطير ، جاز بيعها حينئذ ، ولا يجوز بيعها وهي تطير في الهواء ، وكذلك لا يجوز بيع السمك في الماء ، والطير في الهواء.

وإذا استأجر أرضا ليزرعها ، أو كانت له أرض مملوكة ، فدخل الماء فيها ، والسمك ، كان المالك والمستأجر أحقّ به ، لأنّ غيره لا يجوز أن يتخطى في الأرض المستأجرة ، فإن تخطى فيها أجنبي ، وأخذه ، ملكه بالأخذ ، لأنّ الصيد لمن اصطاده.

وكذلك إن عشش في دار إنسان ، أو في أرضه طائر ، وفرّخ فيها ، أو دخل ضبي في أرضه ، كان صاحب الأرض والدار ، أحقّ به ، فإن خالف أجنبي ، وتخطّى ، فأخذه ، كان أحق به ، لأنّه ملكه بالأخذ والاصطياد.

إذا طفرت سمكة ، فوقعت في زورق إنسان ، فأخذها بعض الركاب ، كانت له ، دون صاحب الزورق ، لما قدّمناه.

وإذا نصب شبكة ، فوقع فيها طائر ، كان للناصب ، وإن أخذه غيره ، وجب عليه ردّه عليه ، لأنّه في حكم الآخذ له ونهي النبي عليه‌السلام عن بيعتين في بيعة ، قيل أنّه يحتمل أمرين ، أحدهما أن يكون المراد به ، إذا قال : بعتك هذا الشي‌ء بألف درهم نقدا ، وبألفين نسيئة بأيّهما شئت خذه ، فإن هذا لا يجوز ، لأنّ الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع ، كما إذا قال : بعتك هذا العبد ، أو هذا العبد ، أيّهما شئت فخذه ، لم يجز ، والآخر أن يقول : بعتك عبدي هذا بألف ، على أن تبيعني دارك هذه بألف درهم ، فهذا أيضا لا يصحّ ، لأنّه لا يلزمه بيع داره ، ولا يجوز أن يثبت في ذمته ، لأنّ السلف في بيع الدار ، لا يصح على ما قدّمناه في باب السلم.

باب اجرة السّمسار والدلّال والناقد والمنادي

أجرة الكيّال ، ووزّان المتاع ، على البائع ، لأنّ عليه توفية المتاع ، وتسليمه إلى المشتري ، ولا يقدر إلا بالوزن في الموزون ، والكيل في المكيل ، فيجب عليه

٣٣٧

ذلك ، لأنّ كلّ ما لا يتمّ الواجب إلا به ، فهو واجب مثله ، وقد قلنا أنّ التسليم واجب على البائع ، ولا يتم التسليم ، إلا بالوزن والكيل ، وإفراده من جنسه بهما ، واجرة الناقد للثمن ، ووزانه على المبتاع ، لأنّ عليه توفية المال على الكمال لما قدّمناه من الدلالة في اجرة وزن المتاع ، وكيله ، فلا وجه لإعادة ذلك.

ومن نصب نفسه لبيع الأمتعة ، كان له اجرة البيع ، على البائع الذي هو موكّله ، دون المبتاع ، ومن كان منتصبا للشراء ، كان اجره على المبتاع الذي هو موكّله ، دون البائع ، فإن كان ممن يبيع ويشتري للناس ، كان له اجرة ما يبيع ، من جهة البائع ، إن كان وكيلا له ، واجرة على ما يشتري ، من جهة المبتاع ، لأنّه وكيله في عقد الشراء بالقبول.

ولا يجوز له أن يأخذ على سلعة واحدة أجرين ، من البائع والمشتري ، لأنّ العقد لا يكون إلا بين اثنين ، لأنّه يحتاج إلى إيجاب وقبول ، بل يأخذ الأجرة ممن يكون عاقدا له ، ووكيلا له ، إمّا في الإيجاب ، وإمّا في القبول ، فليلحظ ذلك.

ولا يظن ظانّ على شيخنا أبي جعفر ، فيما ذكره في نهايته ، في قوله : « فإن كان ممّن يبيع ويشتري للناس ، كان له اجرة على ما يبيع ، من جهة البائع ، واجرة على ما يشتري من جهة المبتاع » (١) انّ المراد بذلك في سلعة واحدة يستحق أجرين ، وإنما المراد بذلك ، أن من كان ذلك صنعته ، يبيع تارة للناس ، ويشتري لهم تارة ، فيكون له اجرة على من يبيع له ، في السلعة المبتاعة ، فإن اشترى للناس سلعة غيرها ، كان له اجرة على من اشترى له تلك السلعة ، لا أنّه يشتري سلعة واحدة ، ويبيعها في عقد واحد ، لأنّ المشتري غير البائع ، والبائع غير المشتري ، وانّما مقصود شيخنا ما نبهنا عليه ، فليتأمّل ذلك.

وإذا دفع الإنسان إلى السمسار متاعا ، ولم يأمره ببيعه ، فباعه ، كان البيع باطلا وقال شيخنا في نهايته : كان بالخيار بين إمضاء البيع ، وبين فسخه (٢).

__________________

(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال.

٣٣٨

وهذا على مذهب من قال : إنّ من باع ملك غيره بغير إذنه ، يكون البيع موقوفا على اختيار صاحبه ، وقد بيّنا فساد ذلك ، وحكينا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عن ذلك في مسائل خلافه (١) ، وهو الحق اليقين.

فإن أمره ببيعه ، ولم يذكر له لا نقدا ولا نسيئة كان (٢) البيع باطلا.

ومن قال بالأوّل قال كان صاحب السلعة بالخيار ، والصحيح ما اخترناه ، لأنّه بيع غير مأمور به ، بل منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه.

وكذلك إن قال : بعها نقدا ، فباعها نسيئة ، كان الحكم في ذلك ما ذكرناه ، والخلاف ما صورناه.

فإن قال له : بعضها نسيئة بدراهم معلومة ، فباعها نقدا بدون ذلك ، كان على ما ذكرناه ، والخلاف فيه ما حكيناه.

وإذا اختلف الواسطة وصاحب المتاع ، فقال الواسطة قلت لي : بعه بكذا وكذا ، وقال صاحب المتاع : بل قلت بعه بكذا ، أكثر من الذي قال ، ولم يكن لأحدهما بيّنة على دعواه ، كان القول في ذلك ، قول صاحب المتاع مع يمينه ، وله أن يأخذ المتاع إن وجده بعينه ، وإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه ، أو استهلك ، كان صاحبه مخيرا ، بين أن يرجع على أيّهما شاء ، بقيمته أكثر ما كانت إلى يوم الهلاك ، فإن رجع على الواسطة ، لم يكن للواسطة أن يرجع على المشتري ، لأنّه يقول : صاحب المتاع ظلمني ، فكيف يرجع بالظلم على غير الظالم؟ فأمّا إن رجع على المشتري ، فللمشتري أن يرجع على الواسطة ، بمنافعه التي ضمنها ، التي لم يحصل له في مقابلتها نفع ، فأمّا الثمن فلا يرجع عليه به ، لأنّ الإتلاف حصل في يده ، فإن اختلفا في القيمة ، كان القول قول الجاحد لزيادة ما اتفقا عليه ، وهو الواسطة ، أو المشتري ، وصاحبه يدّعي أكثر من ذلك ، فعليه

__________________

(١) الخلاف : كتاب البيع المسألة ٢٧٥.

(٢) ق : فباع نسيئة كان.

٣٣٩

البيّنة ، لقوله عليه‌السلام المتفق عليه « على الجاحد اليمين وعلى المدّعي البيّنة » (١).

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه ، أو استهلك ، ضمن الواسطة من الثمن (٢) ، ما حلف عليه صاحب المتاع (٣).

وهذا غير واضح ، لأنّ صاحب المتاع ، للزيادة والمدّعى عليه (٤) البيّنة ، ولا يكون القول قوله في ذلك مع يمينه ، على ما دللنا عليه.

وإذا اختلفا في النقد ، كان القول قول صاحبه ، لأنّ الواسطة هو المدّعي هاهنا ، وصاحبه ، الجاحد المنكر ، فالقول قوله في ذلك مع يمينه.

ومتى هلك المتاع من عند الواسطة ، من غير تفريط من جهته ، كان من مال صاحبه ، ولم يلزم الواسطة شي‌ء ، لأنّه أمين ، فإن كان هلاكه بتفريط من جهة الواسطة ، كان ضامنا لقيمته يوم تفريطه فيه.

فإن اختلفا في التفريط ، كان على صاحب المتاع ، البيّنة ، أنّ الواسطة فرّط فيه ، فإن عدمها ، فعليه اليمين بأنّه لم يفرط في ذلك ، ولم يلزمه شي‌ء.

وإذا قال الإنسان لغيره : بع لي هذا المتاع ، ولم يسمّ له ثمنا ، فباعه بفضل من قيمته ، كان البيع ماضيا ، لأنّه زاده خيرا ، والثمن على تمامه وكماله لصاحب المتاع ، وإن باعه بأقل من ثمنه ، كان البيع غير صحيح.

وقال شيخنا في نهايته : كان ضامنا لتمام القيمة ، حتى يسلّمها إلى صاحب المتاع على الكمال ، ولا ضمان على الواسطة فيما بغلبة عليه ظالم ، والدرك في جودة المال على المشتري ، وفي جودة المتاع على بايعه ، دون الواسطة في الابتياع (٥) ، لأنّه وكيل ، والوكيل لا درك عليه ، بل العهدة والدرك يرجع على

__________________

(١) الوسائل : الباب ٣ و ٢٥ من أبواب كيفية الحكم ، ولفظه : ( اليمين على المدعى عليه ) أو « اليمين على من أنكر »

(٢) ج : الواسطة الثمن.

(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..

(٤) ج : لأن صاحب المتاع المدعي للزيادة عليه.

(٥) إلى هنا ينتهي كلام الشيخ « قدس‌سره » في النهاية ، كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..

٣٤٠