كتاب السرائر - ج ١

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٧٦

١

٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله كما حمد نفسه ، والصلاة على محمد وآله كما ينبغي لهم ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

لا يخفى على ذوي البصائر أنّ للشموس الأحمدية والأقمار العلوية والكواكب الفاطمية إشراقات نورانيّة وإضاءات روحانيّة وسطوعات ربّانيّة أحاطت بالعالم فعمّته بالخير والبركة ، فشقّت للناس سبل الهداية وأوضحت لهم طرق الغواية ، فسعد من اهتدى بهداهم وشقي من تنكّب عن سبلهم ، ومن تلك النعم التي فاضت بها شفاههم الشريفة صلوات الله عليهم روايات الأحكام الشرعية ، والتي لها القدح المعلّى في تراث أهل البيت عليهم‌السلام.

وتفاعل المسلم مع هذه الروايات مرّ في مراحل مختلفة باختلاف الظروف والملابسات ، بحيث كان رجوع المسلم في عصر النصّ والتشريع أهون بكثير من رجوعه وهو يعيش زمن الغيبة ، وكذا الحال في زمن الغيبة فإنّ معرفة الأحكام الفقهية أخذت تمرّ بأدوار مختلفة عمقا وسعة نتيجة تعمّق المعارف الأصولية وانتقال الخبرات من فقيه سابق الى فقيه لاحق ، فظهرت الكتب الفقهية والمصنّفات الاستدلالية بعد أن كانت لا تتعدّى طريقة نقل الأخبار وسرد الأحاديث بعد تبويبها ومحاولة الجمع العرفي بين المتعارضات منها.

ومن جملة تلك الآثار « كتاب السرائر » لمصنّفه فخر الدين محمد بن إدريس الحلّي نوّر الله مضجعه ، وهو بحقّ كتاب جامع في كلّ أبواب الفقه شحنه من التحقيق

٣

والتأسيس في التفريع على الأصول واستنباط المسائل الفقهية عن أدلّتها الشرعية ، لم يتقدّمه في تحقيقاته في ذلك أحد بل هو الفاتح لهذا الباب لمن تأخّر عنه.

ويعتبر هذا الكتاب المدرك الواضح الذي يعكس طريقة المصنّف المشهورة ـ وهي عدم العمل بخبر الواحد ـ والتي صارت سببا للنقد والطعن من قبل الأصحاب قديما وحديثا ، ولكن هذا لا ينقص من قدر صاحبه ولا يقلّل من أهميّة كتابه ، فبقي مصنّفه طيلة القرون السابقة وإلى الآن محطّا لأنظار الفقهاء وأهل النظر والاجتهاد.

وحفظا لهذا التراث القيّم وتعميما للفائدة تصدّت مؤسّستنا لتحقيقه واستخراج منابعه بعد مقابلته مع عدّة نسخ مخطوطة ثمّ طبعه ونشره بهذه الصورة الأنيقة والحمد لله على توفيقاته.

ولا يسعنا أخيرا إلّا وأن نتقدّم بجزيل شكرنا لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمد المؤمن القميّ على ما بذله من سعي حثيث في الإشراف والمتابعة لكلّ مراحل التحقيق ، كما ونشكر الاخوة من أهل الفضل والتحقيق لا سيّما سماحة الحاج الشيخ محمد حسين الأشعري والحاج السيد حسن آل طه والشيخ أبو القاسم الأشعري على ما بذلوه من الجهد الوافر في شتى مجالات التحقيق ، وكذلك من البحّاثة الحاج الشيخ محمد هادي اليوسفيّ الغروي لما كتبه عن نبذة من حياة مصنّف هذا السفر ، سائلين الله عزّ اسمه أن يوفّقهم وإيّانا لإحياء ونشر التراث الإسلامي إنه خير ناصر ومعين.

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

٤

من حياة المؤلّف « قدس‌سره »

بسم الله الرّحمن الرّحيم

اسمه ولقبه ونسبه :

قال فيه المولى عبد الله الأصفهاني في تعاليقه على « أمل الآمل » : رأيت في بعض المواضع نسبه منقولا من خطه في آخر كتاب « المصباح » للشيخ الطوسي « قدس‌سره » هكذا : محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن الحسين بن القاسم بن عيسى العجليّ. وقال في لقبه : هو الشيخ « شمس الدين » العجليّ ، كما في بعض الإجازات. ثم عيّن هذه الإجازة فقال : قال الشيخ أحمد بن نعمة الله العاملي في إجازته للمولى عبد الله التستري في وصف ابن إدريس : الشيخ الأجل الأوحد ، المحقّق المنقّب « شمس الدين » محمد بن إدريس (١) وهي نسبة إلى الجدّ الأعلى.

ونقل الشيخ يوسف البحراني صاحب « الحدائق » في « لؤلؤة البحرين » عن الشهيد الأوّل في « إجازته » قال : وعن ابن نما والسيد فخار مصنّفات الإمام العلّامة ، شيخ العلماء ، رئيس المذهب وفخر الدين أبي عبد الله محمد بن إدريس ، « رضي‌الله‌عنه ».

وعن الشهيد الثاني في « إجازته » قال : ومرويات الشيخ الإمام العلامة المحقّق « فخر الدين » أبي عبد الله محمد بن إدريس العجلي (٢).

__________________

(١) رياض العلماء ٥ : ٣١ ، ٣٢

(٢) لؤلؤة البحرين : ٢٧٩.

٥

وفي إجازة المحقّق الثاني « رحمه‌الله » : « ومنها جميع مصنّفات ومرويّات الشيخ الإمام السعيد المحقّق ، خير العلماء والفقهاء ، فخر الملة والحق والدين ، أبي عبد الله محمد بن إدريس الحلّي الربعيّ ، برّد الله مضجعه وشكر له سعيه » (١).

وترجم له القاضي نور الله الشهيد في « مجالس المؤمنين » فقال : الشيخ العالم المحقّق « فخر الدين » أبو عبد الله محمد بن إدريس العجليّ الربعيّ الحلّي « قدس‌سره » (٢).

ومن قبل ذكره ابن داود في رجاله فقال بشأنه : كان شيخ الفقهاء بالحلّة ، متقنا للعلوم ، كثير التصانيف (٣).

ونقله عنه التفرشي في « نقد الرجال » (٤) وان كان الحرّ العامليّ « قدس‌سره » لم يجده في نسخته من رجال ابن داود فنقله عن التفرشي وزاد عليه : « وقد اثنى عليه علماؤنا المتأخّرون واعتمدوا على كتابه وعلى ما رواه في آخره من كتب المتقدمين وأصولهم. وقد ذكر أقواله العلّامة وغيره في كتب الاستدلال وقبلوا أكثرها ».

وعن نسبه وروايته قال المحدّث الحرّ العاملي « رحمه‌الله » : يروي عن خاله أبي علي الطوسي بواسطة وغير واسطة ، وعن جدّه لأمه أبي جعفر الطوسي ، وأمّ أمّه بنت المسعود ورّام ، وكانت فاضلة صالحة (٥).

وصاحب « الحدائق » في « اللؤلؤة » في ترجمته لابني طاوس الحليّين قال : هما أخوان من أب وأم ، وأمهما ـ على ما ذكره بعض علمائنا ـ بنت الشيخ مسعود الورّام

__________________

(١) منتهى المقال : ٢٦٠ ، والربعيّ نسبة الى بني ربيعة كما في الهامش التالي.

(٢) مجالس المؤمنين بالفارسيّة ١ : ٥٦٩ ط الإسلامية. والعجليّ نسبة الى عجل بن لجيم حيّ من بكر بن وائل من ربيعة ، كما نصّ عليه المامقاني في تنقيح المقال ١ : ٩٥ ولذلك أضاف القاضي الشهيد في نسبة المترجم له بعد العجلي : الربعي ، نسبة إلى بني ربيعة.

(٣) رجال ابن داود : ٤٩٨ ط طهران و ٢٦٩ ط النجف الأشرف ، والنص كما مرّ ، وليس « مفتيا في العلوم » كما عنه في تنقيح المقال ٢ : ٧٧.

(٤) نقد الرجال : ٢٩١.

(٥) أمل الآمل ٢ : ٢٤٣ ، ٢٤٤.

٦

ابن أبي فراس بن فراس بن حمدان ، وأم أمهما بنت الشيخ الطوسي « رحمه‌الله » وقد أجاز لها ولأختها أم الشيخ محمد بن إدريس جميع مصنفاته ومصنفات الأصحاب (١).

ولكن صاحب « الروضات » شكّك في صحّة ذلك بل ردّه ، فهو بعد نقله لكلام صاحب « اللؤلؤة » قال ما معناه : ما تقدمت إليه الإشارة من كلام صاحب « اللؤلؤة » بكون بنت الشيخ الطوسي زوجة الورّام ابن أبي فراس ، مدفوع بالكلّيّة ، ذلك لأنّ الورّام المذكور كان من تلامذة الشيخ محمود الحمصي المعاصر لابن إدريس بل المتأخر عنه قليلا! وعليه فلتحمل هذه النسبة في نسب هؤلاء على خلط في بعض ما ذكر فيها ، أو خبط فيما فيها من أسماء الآباء والأجداد (٢).

والميرزا النوري في خاتمة « مستدرك الوسائل » بعد نقله لكلام صاحب « اللؤلؤة » قال : أمّا ما ذكروه من أنّ زوجة ورّام بنت الشيخ الطوسي فباطل من وجوه :

أمّا أولا : فلأن وفاة ورّام سنة ٦٠٦ ووفاة الشيخ سنة ٤٦٠ فبين الوفاتين مائة وخمسة وأربعون سنة ، فكيف يتصور كونه صهرا للشيخ على بنته ، حتى وان فرضت ولادة هذه البنت بعد وفاة الشيخ ، مع أنهم ذكروا أنّ الشيخ أجازها.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو كان كذلك لأشار السيد ( ابن طاوس ) إلى ذلك في مؤلفاته لشدّة حرصه على ضبط هذه الأمور. والذي يظهر من مؤلفات السيد هو أنّ أمه بنت الشيخ ورّام الزاهد ، وأنّه ينتهي نسبه من طرف أم الأب إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي ، ولذا يعبّر عنه أيضا بالجدّ. وأمّا كيفيّة الانتساب إليه : فقد قال السيد في « الإقبال » : « فمن ذلك ما رويته عن والدي. بروايته عن حسين بن

__________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٢٣٦ وقال صاحب الرياض : وقد أجازهما بعض العلماء ولعل المجيز أخوهما الشيخ أبو علي ابن الشيخ الطوسي ، أو والدهما الشيخ الطوسي فلاحظ ـ رياض العلماء ٥ : ٤٠٩.

(٢) روضات الجنات ٦ : ٢٧٨ ونقلناه بالمعنى ابتعادا عن تعقيده بالتسجيع المتكلّف.

٧

رطبة عن خال والدي أبي علي الحسن عن والده محمد بن الحسن الطوسي : جدّ والدي من قبل أمه » فانتساب السيد الى الشيخ من طرف والده السيد موسى بن جعفر بن طاوس إذ أمه بنت الشيخ ( أي أنّ صهر الشيخ هو السيد جعفر بن طاوس ) لا من طرف امه بنت الشيخ ورّام.

وأمّا ثالثا : فلعدم تعرض أحد من أرباب الإجازات وأصحاب التراجم لذلك ، مع أن صهرية الشيخ الطوسي من المفاخر التي يشار إليها ، كما أشاروا إلى ذلك في ترجمة ابن شهريار الخازن.

ويتلو ما ذكروه هنا في القرابة ما في « اللؤلؤة » وغيرها : أنّ أمّ ابن إدريس هي بنت الشيخ ، فإنّه في القرابة بمكان يكاد يلحق بالمحال في العادة ، فإنّ وفاه الشيخ في سنة ستين بعد الأربعمائة (٤٦٠) وولادة ابن إدريس ـ كما ذكروه ـ في سنة ثلاث وأربعين بعد الخمسمائة (٥٤٣) فبين وفاة الشيخ وولادة ابن إدريس ثلاثة وثمانون سنة ، ولو كانت أم ابن إدريس في وقت إجازة والدها لها في حدود سبعة عشر سنة مثلا ، لكانت قد ولدت ابن إدريس في سن المائة تقريبا! وهذه من الخوارق التي لا بدّ أن تكون في الاشتهار كالشمس في رابعة النهار.

والعجب من هؤلاء الأعلام كيف يدرجون في مؤلفاتهم أمثال هذه الأكاذيب بمجرد أن رأوها مكتوبة في موضع من غير تأمل ونظر.

ثم إنّ تعبيره عن الشيخ ورّام بالمسعود الورّام ، أو مسعود بن ورّام ، اشتباه آخر. فان المسعود الورّام أو مسعود بن ورّام غير الشيخ ورّام الزاهد صاحب « تنبيه الخواطر » (١).

بينما كل هذا الترديد والردّ مبني على عدم الالتفات الى أنّ المدّعي في عبارة صاحب « اللؤلؤة » هو أنّ أم أم ابن إدريس بنت الشيخ الطوسي ، لا أمّه مباشرة

__________________

(١) خاتمة مستدرك الوسائل ٣ : ٤٨٢ ط قديم.

٨

وإذا ضممنا الى ذلك الترديد في المجيز لها أنّه كان الشيخ الطوسي أو ابنه أخوها الشيخ أبو علي ابن الشيخ الطوسي بل بعض العلماء ، كما في « رياض العلماء » (١) ارتفع الاستبعاد.

روايته عن الشيخ وولده :

وقبل الميرزا النوري بسط المرحوم المجلسي القول في إنكار رواية ابن إدريس عن خاله أبي علي الطوسي « الصحيفة السجادية » بغير واسطة ، وذلك في أول شرحه لها ، ذكر ذلك تلميذه المولى عبد الله الأصفهاني في تعاليقه على « أمل الآمل » وقال : أنكر الأستاذ « أيده الله تعالى » رواية ابن إدريس بغير واسطة ، كما سمعته من لفظه ، كما في هامش « رياض العلماء » (٢).

فالصحيح من أسانيد الصحيفة ما يرويها الحلي عن الشيخ العماد محمد بن أبي القاسم الطبري ، عن أبي علي الطوسي المذكور ، عن والده الشيخ الطوسي. وإن كان في البعض الآخر من أسانيدها : أنّه يرويها عن أبي علي ولد الشيخ الطوسي وهو عن والده ، بلا واسطة. وقال الأفندي بعد ذكر ذلك : ولا منافاة بينهما (٣) بل الأولى قول المولى المجلسي « قدس‌سره ».

سائر مشايخه :

مرّ عن الحرّ العاملي في « أمل الآمل » أن ابن إدريس يروي عن خاله أبي علي الطوسي بواسطة. وأم امه بنت ( الشيخ ) ورّام ، وكانت فاضلة صالحة (٤).

__________________

(١) رياض العلماء ٥ : ٤٠٩

(٢) رياض العلماء ٥ : ٣١.

(٣) رياض العلماء : ٥ : ٣٢

(٤) أمل الآمل ٢ : ٢٤٣.

٩

ونقل ذلك عنه المولى عبد الله الأصفهاني في « رياض العلماء » ونصّ على الواسطة بينه وبين خاله الشيخ حسن بن الشيخ الطوسي ، بأنه هو : الشيخ العماد محمد بن أبي القاسم الطبري. وأضاف : ويروي هو عن جماعة منهم : عربيّ بن مسافر العبادي (١).

ونقل ذلك صاحب « روضات الجنات » وأضاف عن صاحب « صحيفة الصفا في ذكر أهل الاجتباء والاصطفاء » : الحسن بن رطبة السوراوي ، وأبا المكارم حمزة الحسينيّ (٢) وطبيعي أنّ مشايخه وأساتذته أكثر من هؤلاء الأربعة ولا ريب أنّ الباحث يجد له مشايخ أكثر منهم.

تلامذته والراوون عنه :

يروي عنه جماعة من الأفاضل ـ كما في « رياض العلماء : ـ منهم :

الشيخ نجيب الدين بن نما الحلّي. والسيد شمس الدين فخار بن معد الموسويّ. والسيد محمد بن عبد الله بن زهرة الحسينيّ الحلبيّ ، كما يظهر من بعض أسانيد « الصحيفة الكاملة ».

ويروي « السرائر » عنه : علي بن يحيى الخيّاط ، وأجاز روايته عنه ليوسف بن علوان وهو لتلميذه محمد بن الزنجي في جمادى الآخرة سنة ٦٢٨ ه‍ (٣).

ونجيب الدين هو محمد بن جعفر بن محمد بن نما الحلّي ، شيخ المحقّق الحلّي والشيخ سديد الدين والد العلّامة الحلّي ، والسيد رضي الدين والسيد أحمد ابن

__________________

(١) رياض العلماء ٥ : ٣٢.

(٢) روضات الجنات ٦ : ٢٧٧ ط جديد. وتجد رواية ابن إدريس عن أبي المكارم في الأمل ٢ : ١٠٦. وروايته عن ابن رطبة في الأمل أيضا ٢ : ٨٠.

(٣) رياض العلماء ٥ : ٣٢ ، ٣٣ وتجد ترجمة الخيّاط وروايته عن ابن إدريس في أمل الآمل ٢ : ٢١٠. ورواية السيد فخار الموسوي عنه في ٢ : ٢١٤. ورواية ابن نما في ٢ : ٣١٠.

١٠

طاوس. وهو والد الشيخ جعفر بن محمد صاحب « مثير الأحزان ».

ونقل المحدث القمّي في « هدية الأحباب » عن المحقّق الكركي في ذكر المحقّق الحلّي ما هذا لفظه :

وأعلم مشايخه بفقه أهل البيت : الشيخ الفقيه السعيد الأوحد محمد بن نما الحلّي.

وأجل أشياخه : الإمام المحقّق قدوة المتأخرين : فخر الدين محمد بن إدريس (١).

ولكن صاحب « روضات الجنات » نقل عن صاحب « صحيفة الصفا في ذكر أهل الاجتباء والاصطفاء » فيمن يروي عنه : الشيخ جعفر بن نما ، وابن ابنه محمد بن جعفر بن نما (٢). ولا يسعني التحقيق الآن.

وقد مرّ عن « لؤلؤة البحرين » عن اجازة الشهيد الأول أنّه يروي عن السيد فخار وابن نما (٣).

وذكر الحرّ في « أمل الآمل » من تلامذة ابن إدريس : الشيخ طومان بن أحمد العاملي (٤).

هل كان ابن إدريس مخلّطا؟

فهرس الشيخ الطوسي « قدس‌سره » لكتب الشيعة بأمر أستاذه الشيخ المفيد ( ت ٤١٣ ) كما أشار إلى ذلك في أوّل « الفهرست » وهذا يعني أنّه قد فهرس لكتب الشيعة حتى نهاية القرن الرابع الهجري أو بداية القرن الخامس ، وبعد قرنين من الزمان كان ذلك بحاجة الى مستدرك ، قام به الشيخان : محمد بن علي

__________________

(١) هدية الأحباب : ٢٧٢ ط طهران

(٢) روضات الجنات ٦ : ٢٧٧ ط قم المقدسة.

(٣) لؤلؤة البحرين : ٢٧٩ ط النجف الأشرف

(٤) أمل الآمل ١ : ١٠٣ ط بغداد.

١١

بن شهر آشوب المازندراني ( ت ٥٨٨ ) ومنتجب الدين علي بن عبيد الله ابن بابويه الرازي ( ت بعد ٦٠٠ ) (١) وهما معاصران لابن إدريس.

وكان منتجب الدين قد دخل الحلّة وشاهد ابن إدريس ، ولكنّه لم يدخل في زمرة تلامذته أو حتى رواته ، وذلك لأنّه كان قد سمع من شيخه سديد الدين محمود الحمصي أنّ ابن إدريس « مخلّط لا يعتمد على تصنيفه » كما ذكره في كتابه (٢).

ومن غريب خبطاته ومستطرفاتها نسبته في مستطرفاته الى أبان بن تغلب عدّة أخبار لا ربط لها به. فهو مخلّط في الحديث في أسانيدها ومتونها ، وفي اللغة والأدب والتاريخ والفقه.

ومن خبطه في الفقه : أنّه ينتقد أتباع الشيخ الطوسي بأنّهم يقلّدونه ، بينما هو يقلّده أيضا ، وذلك فيما إذا اتفقت فتاواه ، فإنّه يتبعه حتى ولو كان مستندا الى آحاد ، أمّا إذا اختلفت فتاواه في كتبه فإنّه ( يرجّح الفتوى غير الخبرية ) ويعترض على فتواه الخبرية بكونه تمسكا بالآحاد ، حتى ولو كان مستندا في ذلك الى أخبار ملحقة بالتواتر (٣).

أما ما ذكره الشيخ محمود الحمصي من أنّ ابن إدريس « مخلّط لا يعتمد على تصنيفه » فهو صحيح من جهة وباطل من جهة :

أمّا أنّه مخلّط في الجملة فممّا لا شك فيه ، ويظهر ذلك بوضوح من الروايات التي ذكرها فيما استطرفه من كتاب أبان بن تغلب ، فقد ذكر فيها عدّة روايات ممّن لم يدرك الصادق « عليه‌السلام » ، وكيف يمكن أن يروي أبان المتوفّى في حياة الصادق « عليه‌السلام » عمّن هو متأخر عنه بطبقة أو طبقتين؟!.

__________________

(١) فهرست منتجب الدين : ٥ ط قم المقدسة.

(٢) فهرست منتجب الدين : ٥ ط قم المقدسة.

(٣) فهرست منتجب الدين : ٥ ط قم المقدسة.

١٢

ومن جملة تخليطه : أنّه ذكر روايات استطرفها من كتاب السيّاريّ وقال « واسمه أبو عبد الله صاحب موسى والرضا « عليهما‌السلام » وهذا فيه خلط واضح ، فإنّ السيّاريّ هو أحمد بن محمد بن السيار أبو عبد الله ، وهو من أصحاب الهادي والعسكري « عليهما‌السلام » ولا يمكن روايته عن الكاظم والرضا « عليهما‌السلام ».

وأمّا قوله « لا يعتمد على تصنيفه » فهو غير صحيح ، وذلك أنّ الرجل من أكابر العلماء ومحقّقيهم ، فلا مانع من الاعتماد على تصنيفه في غير ما ثبت فيه خلافه (١).

وهل كان معرضا عن الأخبار؟

ذكره ابن داود الحلّي ( ت بعد ٧٠٧ أي بعد قرن من منتجب الدين وابن إدريس ) في الباب الثاني من رجاله ( الضعفاء ) وكأنّه علّل ذلك بقوله : لكنّه أعرض عن أخبار أهل البيت « عليهم‌السلام ». وفي بعض النسخ زيادة : بالكليّة (٢) ومنها نسخة التفرشي التي نقل عنها في كتابه « نقد الرجال » وعلّق عليه فقال : ولعلّ ذكره في باب الموثّقين كان أولى ، لأنّ المشهور أنّه لم يكن يعمل بخبر الواحد ، وهذا لا يستلزم الإعراض بالكليّة ، وإلّا لانتقض بغيره ، مثل السيد المرتضى وغيره (٣).

ولعلّه لهذا أعرض بعض النسّاخ عن هذه الزيادة بل كلّ الجملة ، كما في نسخة الحر العاملي ، كما مرّ عنه في « أمل الآمل » قوله : ولم أجده في كتاب ابن

__________________

(١) معجم رجال الحديث ١٥ : ٧٠ ، ٧١ ط النجف الأشرف ـ الأولى.

(٢) رجال ابن داود : ٤٩٨ ط طهران و ٢٦٩ ط النجف الأشرف.

(٣) نقد الرجال : ٢٩١.

١٣

داود في الممدوحين ولا المذمومين ، في النسخة التي عندي (١) وكذلك قال الميرزا أبو علي الطبري الحائري في « منتهى المقال » : لم أجده في نسختي من رجال ابن داود ، وهو المنقول عن كثير من نسخه أيضا ، وما وجد فيه ففي القسم الثاني في الضعفاء (٢) وكذلك لم ينقل عنه هذه الجملة الأخيرة الأردبيلي في « جامع الرواة » (٣).

ونقله البحراني في « لؤلؤة البحرين » عن الحرّ في « أمل الآمل » وعلّق عليه يقول :

( ثمّ إنّ ما نقله في كتاب « أمل الآمل » عن السيد مصطفى من أنّه : ذكره ابن داود في قسم الضعفاء ، مع نقله عنه أوّلا أنّه قال في كتابه : « أنّه كان شيخ الفقهاء في الحلّة متقنا للعلوم كثير التصانيف ) لا يخلو من تدافع ، فإنّ وصفه بما ذكر يوجب دخوله في قسم الممدوحين لا الضعفاء. وأغرب من ذلك قوله « الحرّ العاملي ) بعد : « ولم أجده في كتاب ابن داود لا في الممدوحين ولا في المذمومين » مع أنّ الميرزا محمد صاحب الرجال ( منهج المقال ) قد نقل عن ابن داود عبارة المدح المذكورة ، وهي قوله : « كان شيخ الفقهاء. » (٤).

قال : « والتحقيق : أنّ فضل الرجل المذكور وعلوّ منزلته في هذه الطائفة ممّا لا ينكر ، وغلطه ـ في مسألة من مسائل الفنّ ـ لا يستلزم الطعن عليه بما ذكره المحقّق المتقدم ذكره ( ابن داود ) وكم لمثله من الأغلاط الواضحة ولا سيما في هذه المسألة ، وهي : مسألة العمل بخبر الواحد. وجملة من تأخر عنه من الفضلاء ، حتى مثل

__________________

(١) أمل الآمل ٢ : ٢٤٣.

(٢) منتهى المقال : ٢٦٠ فلا يتجه ما في تنقيح المقال ٢ : ٧٧ : « والميرزا لم ينقل قوله ( ابن داود ) : لكنّه أعرض. ولعلّه كان ساقطا من نسخته أو زائدا في نسختنا ، ولم يشير أيضا الى عدّه إيّاه في الباب الثاني ، فلاحظ » بل أشار وصرّح فانظر وقل : أعوذ بالله من زيغ البصر.

(٣) جامع الرواة ٢ : ٦٥

(٤) لؤلؤة البحرين : ٢٨٠.

١٤

المحقّق والعلّامة ـ الذين هما أصل الطعن عليه ـ قد اختار العمل بكثير من أقواله » (١).

وعاد فقال أيضا : « وبالجملة : ففضل الرجل المذكور ونبله في هذه الطائفة أظهر من أن ينكر ، وإن تفرّد ببعض الأقوال الظاهرة البطلان لذوي الأفهام والأذهان ، ومثله في ذلك غير عزيز ، كما لا يخفى على الناظر المنصف » (٢).

وبعد ما نقل الميرزا أبو علي الطبري الحائري في « منتهى المقال » مقالة ابن داود قال :

« ولا يخفى ما فيه من الجزاف ، وعدم سلوك سبيل الإنصاف ، فإنّ الطعن في هذا الفاضل الجليل ، سيّما والاعتذار بهذا التعليل ، فيه ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ عمله بأكثر الكثير من الأخبار ممّا لا يقبل الاستتار ، سيّما ما استطرفه في أواخر « السرائر » من أصول القدماء « رضي‌الله‌عنهم ».

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم العمل بأخبار الآحاد ليس من متفرداته ، بل ذهب إليه جملة من أجلّة الأصحاب : كعلم الهدى ، وابن زهرة ، ( شيخه ) وابن قبة ، وغيرهم. فلو كان ذلك موجبا للتضعيف لوجب تضعيفهم أجمع ، وفيه ما فيه (٣).

وعلّق عليه المامقاني في « تنقيح المقال » فقال : ومن غريب ما وجدته في المقام ما صدر من ابن داود ، حيث أنّه مع مدحه له أورده في الباب الثاني فقال : محمد بن إدريس العجليّ الحلّي ، كان شيخ الفقهاء ، بالحلّة. فإنّ هذا المدح لا يناسب عدّه إيّاه في الباب الثاني ، مع أنّه من عادته عدّ الإماميّ في الباب الأوّل وإن لم يوثق بل وإن لم يمدح ، وكون الحلّي إماميّا ممّا لا تأمّل فيه لأحد. وما نسبه إليه من تركه لأخبار أهل البيت ( عليهم‌السلام ) بالكلّيّة ، بهتان صرف ، فإنّه إنّما ترك أخبار الآحاد كعلم الهدى ، لا مطلق الأخبار حتى المتواتر

__________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٢٧٩

(٢) لؤلؤة البحرين : ٢٨٠

(٣) منتهى المقال : ٢٦٠.

١٥

والمحفوف بالقرائن القطعيّة ، ويومئذ ، أكثر الأخبار التي هي اليوم من الواحد كان عندهم من المحفوفة بالقرائن ، كما لا يخفى على الخبير (١).

وقال الفقيه التستري في « قاموس الرجال » أقول : نسبة الاعراض إليه بالكلّيّة غلط ، كيف وسرائره كلّه من طهارته إلى دياته مبتن على أخبارهم ( عليهم‌السلام ) ، والرجل من علماء الإماميّة ولا يعقل إعراض إمامي عن أخبارهم ( عليهم‌السلام ). وانما هو كالمفيد والمرتضى لا يعمل بأخبار الآحاد ، الّا أنه كان لا يعرف الآحاد من غير الآحاد (٢).

وقال المحقّق الخوئي في معجمة : أمّا قول ابن داود : أنّه أعرض عن أخبار أهل البيت ( عليهم‌السلام ) بالكلّيّة. فهو باطل جزما ، فإنّه اعتمد على الروايات في تصنيفاته ، وكتبه مملوءة من الأخبار. غاية الأمر أنّه لم يكن يعمل بالأخبار الآحاد ، فيكون حاله كالسيّد المرتضى وغيره ممّن لم يكونوا يعملون بالخبر الواحد غير المحفوف بالقرائن (٣).

« وأوّل من زعم أنّ أكثر أحاديث أصحابنا ـ المأخوذة من الأصول التي ألقوها بأمر أصحاب الأئمة ( عليهم‌السلام ) وكانت متداولة بينهم وكانوا مأمورين بحفظها ونشرها بين أصحابنا لتعمل بها الطائفة لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى ـ أخبار آحاد خالية عن القرائن الموجبة للقطع بورودها عن أصحاب العترة ( عليهم‌السلام ) ، هو : محمد بن إدريس الحلّيّ ، ولأجل ذلك تكلّم على أكثر فتاوى رئيس الطائفة ، المأخوذة من تلك الأصول. وقد وافق رئيس الطائفة وعلم الهدى ومن تقدم عليهما في أنّه لا يجوز العمل بخبر الواحد الخالي عن القرينة الموجبة للقطع ، وغفل عن أنّ أحاديث أصحابنا ليست من ذلك القبيل » (٤).

__________________

(١) تنقيح المقال ٣ : ٧٧

(٢) قاموس الرجال ٨ : ٤٥.

(٣) معجم رجال الحديث ١٥ : ٧١ ط النجف الأشرف ـ الأولى.

(٤) روضات الجنات ٦ : ٢٤٩ عن مقدمة شرح التهذيب.

١٦

ابن إدريس وابن زهرة :

مرّ علينا في مشايخه : أبو المكارم حمزة الحسيني ، وهو حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي ( ت ٥٨٥ ) عمّ تلميذه : محمد بن عبد الله بن زهرة ، وهو صاحب كتاب « غنية النزوع الى علمي الفروع والأصول » (١).

« ونحن إذا لاحظنا أصول ابن زهرة وجدنا فيه ظاهرة مشتركة بينه وبين فقه ( تلميذه ) ابن إدريس تميّزهما عن عصر التقليد المطلق للشيخ ، وهذه الظاهرة المشتركة هي : الخروج على آراء الشيخ والأخذ بوجهات نظر تتعارض مع موقفه الأصولي أو الفقهي ، وكما رأينا ابن إدريس يحاول في « السرائر » تفنيد ما جاء في فقه الشيخ من أدلّة ، كذلك نجد ابن زهرة يناقش في « الغنية » الأدلّة التي جاءت في كتاب « العدّة » ويستدلّ على وجهات نظر معارضه ، بل يثير أحيانا مشاكل أصولية جديدة لم تكن مثارة من قبل في كتاب « العدّة » بذلك النحو.

ولا بأس أن نذكر مثالين أو ثلاثة للمسائل التي اختلف فيها رأي ابن زهرة عن رأي الشيخ :

فمن ذلك : مسألة دلالة الأمر على الفور ، فقد كان الشيخ يقول بدلالته على الفور ، وأنكر ابن زهرة ذلك وقال : إنّ صيغة الأمر حيادية لا تدل على فور ولا تراخ.

ومن ذلك أيضا : مسألة اقتضاء النهي عن المعاملة لفسادها ، فقد كان الشيخ يقول بالاقتضاء ، وأنكر ابن زهرة ذلك ، مميّزا بين مفهومي : الحرمة والفساد ، ونافيا للتلازم بينهما.

__________________

(١) هدية الأحباب : ٧٠ ط طهران.

١٧

ومن ذلك : أن آثار ابن زهرة في بحوث العام والخاص مشكلة حجيّة العام المخصّص ، في غير مورد التخصيص. بينما لم تكن هذه المشكلة قد أثيرت في كتاب « العدّة ».

وقد جاء في كتاب المزارعة من « السرائر » ما يدلّ على أنّ ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه ويناقشهم ـ ومنهم أبو المكارم ابن زهرة ـ إذ كتب عن رأي فقهي يقول : « والقائل بهذا القول السيد العلوي أبو المكارم ابن زهرة الحلبي ، شاهدته ورأيته ، وكاتبته وكاتبني وعرّفته ما ذكره في تصنيفه ( الغنية ) من الخطأ ، فاعتذر ـ رحمه‌الله ـ بأعذار غير واضحة » (١) فنرى ابن إدريس قد أخذ المناقشة والتجديد الفقهي من شيخه ابن زهرة.

ابن إدريس والاجتهاد و « السرائر » :

يقول ابن إدريس في مقدّمة كتابه « السرائر » : فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : إمّا هي من الله سبحانه ، أو سنة رسوله المتواترة المتفق عليها ، أو الإجماع ، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسألة الشرعية ـ عند المحقّقين الباحثين عن مآخذ الشريعة ـ التمسّك بدليل العقل فيها ، فإنّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذه الطرق نتوصل الى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها ، فمن تنكّر عنها عسف وخبط خبط عشواء ، وفارق قوله المذهب.

فقد قال السيد المرتضى « رضي‌الله‌عنه » في جواب ( المسألة الثانية ) من المسائل الموصليات :

« اعلم أنّه لا بدّ في الأحكام الشرعية من طريق يوصل الى العلم بها ، لأنّا متى

__________________

(١) وراجع المعالم الجديدة في الأصول للشهيد الصدر : ٧٣ ، ٧٤ ط النجف الأشرف.

١٨

لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنّه مصلحة جوزنا كونه مفسدة ، فيقبح الاقدام منّا عليه ، لأنّ الإقدام على مالا نأمن من كونه فسادا أو قبيحا ، كالإقدام على ما نقطع على كونه فسادا ، ولهذه الجملة أبطلنا أن يكون القياس في الشريعة الذي يذهب مخالفونا إليه طريقا إلى الأحكام الشرعيّة ، من حيث كان القياس يوجب الظنّ ولا يفضي الى العلم ، ألا ترى تظن ـ بجمل الفرع في التحريم على أصل محرم بنسبة تجمع بينهما ـ أنّه محرّم مثل أصله ، ولا نعلم ـ من حيث ظننّا أنّه يشبه المحرم ـ أنّه محرم وكذلك أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم ، لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظنّ بصدقه ، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا وإن ظننت به الصدق ، فإنّ الظن لا يمنع من التجويز ، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنّه اقدام على ما لا نأمن من كونه فسادا وغير صلاح.

قال : وقد تجاوز قوم من شيوخنا « رحمهم‌الله » في إبطال القياس في الشريعة ، والعمل فيها بأخبار الآحاد ، الى أن قالوا : إنّه يستحيل من طريق العقول العبادة ( التعبّد ) بالقياس في الأحكام. وأحالوا أيضا من طريق العقول العبادة ( التعبّد ) بالعمل بأخبار الآحاد. وعوّلوا على أنّ العمل يجب أن يكون تابعا للعلم ، وإذا كان غير متيقن في القياس وأخبار الآحاد لم تجز العبادة ( التعبّد ) بهما.

والمذهب الصحيح هو غير هذا ، لأنّ العقل لا يمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد ، ولو تعبد الله تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحة ، لأنّ عبادته ( تعبّده ) تعالى بذلك يوجب العلم الذي لا بدّ أن يكون العمل تابعا له ، فإنّه لا فرق ـ بين أن يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد حرّم عليكم كذا وكذا فاجتنبوه ، وبين أن يقول : إذا أخبركم عني مخبر ـ له صفة العدالة ـ بتحريمه فحرّموه ـ في صحة الطريق الى العلم بتحريمه ، وكذلك إذا قال : لو غلب في ظنكم شبه لبعض الفروع ببعض الأصول في صفة يقتضي التحريم فحرّموه ، فقد حرّمته

١٩

عليكم ، ولكان هذا أيضا طريقا الى العلم بتحريمه وارتفاع الشك والتجويز.

فليس متناول العلم هنا متناول الظن على ما يعتقده قوم لا يتأمّلون ، لأنّ متناول الظنّ هنا هو صدق الراوي إذا كان واحدا ، ومتناول العلم هو تحريم الفعل المخصوص الذي تضمّنه الخبر ، وما علمناه غير ما ظننّاه. وكذلك في القياس متناول الظنّ شبه الفرع بالأصل في علة التحريم ، ومتناول العلم كون الفرع محرّما.

وإنّما منعنا من القياس في الشريعة وأخبار الآحاد ـ مع تجويز العبادة ( التعبّد ) بهما من طريق العقول ـ لأنّ الله تعالى ما تعبّد بهما ، ولا نصب دليلا عليهما ، ومن هذا الوجه طرحنا العمل بهما ونفينا كونهما طريقين الى التحريم والتحليل.

قال المرتضى « قدس‌سره » : « وإنّما أردنا بهذه الإشارة أنّ أصحابنا كلّهم سلفهم وخلفهم ، متقدّمهم ومتأخّرهم يمنعون من العمل بأخبار الآحاد ومن العمل بالقياس في الشريعة ، ويعيبون أشدّ عيب على الراغب إليهما والمتعلّق في الشريعة بهما ، حتى صار هذا المذهب ـ لظهوره وانتشاره ـ معلوما ضرورة منهم وغير مشكوك فيه من أقوالهم ».

وبعد نقل كلام السيد « قدس‌سره » قال ابن إدريس : « هذا آخر كلام المرتضى « رحمه‌الله » حرفا فحرفا. فعلى الأدلّة المتقدّمة أعمل وبها آخذ وافتي وأدين الله تعالى ، ولا ألتفت الى سواد مسطور وقول بعيد عن الحق مهجور ، ولا « اقلّد » إلّا الدليل الواضح والبرهان اللائح ، ولا أعرّج الى أخبار الآحاد ، فهل هدم الإسلام إلّا هي.

وهذه المقدّمة أيضا من جملة بواعثي على وضع كتابي هذا ، ليكون قائما بنفسه ومقدّما في جنسه ، وليغني الناظر فيه ـ إذا كان له أدنى طبع ـ عن أن يقرأه على من فوقه ، وإن كان لأفواه الرجال معنى لا يوصل إليه من أكثر الكتب في أكثر الأحوال » (١).

__________________

(١) انظر مقدمة المؤلّف ص ٥١.

٢٠