كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

وحصول المال ، حتى يثبت زواله.

وإن كان سبب ثبوته من غير مال حصل في يديه ، كالمهر ، وأرش الجناية ، وإتلاف مال الغير ، ونحو ذلك ، نظرت ، فإن عرف له مال غير هذا ، كالميراث ، والغنيمة ، ونحو ذلك ، لم يقبل قوله أيضا في الإعسار ، لأنّ الأصل المال ، فإن أقام البينة بهلاك المال ، وأنّه معسر ، فالقول قوله بغير يمين ، لأنّ الظاهر ما قامت به البينة.

وأمّا إن كان سببه غير مال حصل في يديه ، ولم يعرف له مال أصلا ، فالقول قوله ، لأنّ الأصل أن لا مال له مع يمينه ، لجواز أن يكون له مال ، وقد قلنا أنّه ليس للحاكم أن يشفع إليه في الانظار ، ولكن يبثّ الحكم فيما بينهما بما ذكرناه ، وتقتضيه شرعة الإسلام.

وإن ظهر للحاكم أن المقرّ عبد ، أو محجور عليه لسفه ، أبطل إقراره ، وإن كان تبيّنه لذلك بعد دفعه ما أقرّ به إلى خصمه ، الزم الآخذ له ردّه ، ويقدّم بحفظه على المحجور عليه ، ويردّ ذلك على مولى العبد.

وإذا أقرّ الإنسان لغيره بمال عند حاكم ، فسأل المقرّ له الحاكم أن يثبت إقراره عنده ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لم يجز له ذلك ، إلا أن يكون عارفا بالمقرّ ، بعينه واسمه ونسبه ، أو يأتي المقرّ له ببينة عادلة ، على أنّ الذي أقرّ ، هو فلان بن فلان بعينه واسمه ونسبه ، لأنّه لا يأمن أن يكون نفسان قد تواطئا على انتحال اسم إنسان غائب ، واسم أبيه ، والانتساب إلى آبائه ، ليقرّ أحدهما لصاحبه بمال ليس له أصل ، فإذا أثبت الحاكم ذلك على غير بصيرة ، كان مخطئا مغررا (١).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا حضر خصمان عند القاضي ، فادّعى أحدهما على الآخر مالا ، فأقرّ له بذلك ، فسأل المقرّ له القاضي ، أن يكتب له بذلك محضرا ، والقاضي لا يعرفهما ، ذكر بعض أصحابنا ، أنّه لا يجوز أن

__________________

(١) النهاية : كتاب القضايا والأحكام.

١٦١

يكتب ، لأنّه يجوز أن يكونا استعارا نسبا باطلا وتواطئا على ذلك ، وبه قال ابن جرير الطبري ، وقال جميع الفقهاء : إنّه يكتب ، ويحلّيهما بحلاهما التامة ، ويضبط ذلك ، قال رحمه‌الله : والذي عندي ، أنّه لا يمتنع ما قاله الفقهاء ، فإن الضبط بالحلية ، يمنع من استعارة النسب ، فإنّه لا يكاد يتفق (١) ذلك ، ثمّ قال رحمه‌الله : والذي قاله بعض أصحابنا ، يحمل على أنّه لا يجوز أن يكتب ، ويقتصر في ذكر نسبهما ، فانّ ذلك يمكن استعارته ، قال رحمه‌الله : وليس في ذلك نص مسند عن أصحابنا نرجع إليه ، هذا آخر كلام شيخنا في مسألة من مسائل الخلاف (٢).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الذي ذكره وذهب إليه شيخنا في مسائل خلافه ، هو الذي أقول به ، وأعمل عليه ، ويقوى في نفسي ، وهو (٣) يبيّن لك أيّها المسترشد ، أنّه يذكر (٤) في نهايته شيئا لا يعمل عليه ، ولا يرجع فيه إلى خبر مسند ، فيعتمد عليه ، ويرجع إليه.

وأيضا هذا مصير ، إلى أنّ للإنسان ، أن يعمل ويشهد بما يجد به خطه مكتوبا ، من غير ذكر الشهادة ، وقطع على من شهد عليه ، وهذا عندنا لا يجوز ، أو رجوع إلى العمل بكتاب قاض إلى قاض ، وجميع ذلك باطل عندنا.

فإذا أتاه بكتابه ، ولم يعلم بالمقر بعينه ، ويتحققه (٥) ويتقنه فلا يجوز له أن يقضي عليه ، فيأمن الغرر من هذا الوجه.

وكذلك ان أخذ كتابه الذي فيه تثبيت إقراره إلى غيره من الحكام ، لا يحلّ للحاكم الثاني ، أن يعمل به بغير خلاف بيننا.

وكذلك إن شهد عند الحاكم الأول الذي يثبت الإقرار ، شاهدان ، بأنّه حكم بينهما ، لا يجوز له أن يرجع إلى قولهما ، إذا لم يكن ذاكرا لهذه الحكومة ،

__________________

(١) ج : ينقض.

(٢) الخلاف : كتاب آداب القضاء ، مسألة ١٦.

(٣) ل. ق : وهذا.

(٤) في نسخة ج وق : انّه يترك. والظاهر أنّه اشتباه.

(٥) ل : ولا يتحققه.

١٦٢

متيقنا لها ، عارفا بالمقرّ ، قاطعا عليه.

وإذا ادّعى إنسان على أخرس شيئا ، وكانت له إشارة معقولة ، وكناية مفهومة ، توصل الحاكم إلى إفهامه الدعوى ، ومعرفة ما عنده فيها من إقرار أو إنكار ، فإن أقرّ بالإشارة ، أو أنكر بالكناية ، حكم عليه بذلك.

وإن لم يكن له إشارة معقولة ولا كناية مفهومة ، فقد روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه كتب نسخة اليمين في لوح ، ثم غسله وأمره أن يشربه ، فامتنع ، فألزمه الحق (١).

وإن كان يتساكت عن خصمه ، وهو صحيح قادر على الكلام ، وإنما يعاند بالسكوت ، قال شيخنا في نهايته : أمر بحبسه حتى يقرّ أو ينكر ، إلا أن يعفو الخصم عن حقه عليه. وكذلك إن أقرّ بشي‌ء ، ولم يبيّنه ، كأنّه يقول له عليّ شي‌ء ، ولا يذكر ما هو ، ألزمه الحاكم بيان ما أقرّ به ، فإن لم يفعل ، حبسه حتى يبين (٢).

قال محمّد بن إدريس : والصحيح من مذهبنا ، وأقوال أصحابنا ، وما يقضيه المذهب ، أنّ في المسألتين معا يجعله الحاكم ناكلا ، ويرد اليمين على خصمه.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، في فصل فيما على القاضي في الخصوم والشهود.

قال : فأمّا القسم الثالث ، وهو إذا سكت أو قال لا أقرّ ، ولا أنكر ، قال له الحاكم ثلاثا : إما أجبت عن الدعوى ، وإلّا جعلناك ناكلا ، ورددنا اليمين على خصمك.

وقال قوم : يحبسه ، حتى يجيبه بإقرار أو إنكار ، ولا يجعله ناكلا فيقضي بالنكول والسكوت ، وقوله : لا أقرّ ولا أنكر ، ليس بنكول.

قال شيخنا رحمه‌الله : والأول يقتضيه مذهبنا (٣) ، والى هذا يذهب ابن البراج من أصحابنا في كتابه المهذب ، ويختاره (٤).

وقال شيخنا أبو جعفر أيضا في مبسوطة في الجزء الثاني في كتاب الإقرار :

__________________

(١) الوسائل : الباب ٣٣ من أبواب كيفية الحكم ، ح ١.

(٢) النهاية : كتاب القضاء والاحكام ..

(٣) المبسوط : ج ٨ ، في آداب القضاء ، ص ١٦٠.

(٤) المهذب لابن البراج : ج ٢ ، ص ٥٨٦.

١٦٣

إذا ادّعى عليه مالا بين يدي الحاكم ، وقال : لا أقرّ ولا أنكر ، قال له الحاكم : هذا ليس بجواب ، فأجب بجواب صحيح ، فإن أجبت ، وإلّا جعلتك ناكلا ، ورددت اليمين على صاحبك ، وإن لم يجب بجواب صحيح ، فالمستحب أن يكرر عليه ذلك ثلاث مرات ، فإن لم يجب بجواب صحيح ، جعله ناكلا ، ورد اليمين على صاحبه ، فإن ردّ اليمين بعد المرة الأولى جاز ، لأنّه هو القدر الواجب ، وانّما جعلناه ناكلا بذلك ، لأنّه لو أجاب بجواب صحيح ، ثم امتنع عن اليمين ، جعل ناكلا فإذا امتنع عن الجواب واليمين ، فأولى أن يكون ناكلا ، وهكذا إذا قال : لا أدري ما تقول ، لأنّ ذلك ليس بجواب صحيح مع علمه بما يقول ، هذا آخر كلام شيخنا في الموضع المشار إليه أولا حرفا فحرفا (١).

قال محمّد بن إدريس : يمكن أن يفرّق بين الحكم والقضاء ، بأن يقال : الحكم إظهار ما يفصل به بين الخصمين قولا ، والقضاء إيقاع ما يوجبه الحكم فعلا ، فهذا الفرق بينهما عند أهل اللغة ، فأمّا من حيث عرف الشريعة فلا فرق بينهما.

باب سماع البيّنات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة

إذا شهد عند الحاكم شاهدان ، وكانا عدلين ، وشهدا في مكان واحد ، على وجه واحد ، ووافقت شهادتهما دعوى المدّعي ، وجب على الحاكم الحكم بشهادتهما بعد سؤال صاحب الحق.

وإذا شهد عنده من لا يعرفهما بعدالة ولا خرج سمع شهادتهما ، وأثبتها عنده ، ثم استكشف أحوالهما ، وسأل عنهما أهل الخبرة الباطنة ، ودون أهل المعرفة الظاهرة ، فإن وجدهما مرضيين جائزي الشهادة ، حكم بشهادتهما ، وإن وجدهما على غير ذلك وبخلافه ، طرح شهادتهما ، فإن حكم بعد البحث عنهما ، فلا يحكم إلا بعد سؤال صاحب الحق.

__________________

(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإقرار ، ص ٣١.

١٦٤

والحكم أن يقول له : ألزمتك ذلك ، أو قضيت عليك به ، أو يقول : اخرج إليه منه ، فمتى قال إحدى الثلاث ، كان حكما بالحق.

وأمّا إن أنكر ، فقال : لا حقّ لك قبلي ، فهذا موضع البينة ، فإن كان المدعي لا يعرف انه موضع البيّنة ، كان للحاكم أن يقول له ألك بينة؟ فإن كان عارفا بأنّه وقت البينة ، فالحاكم بالخيار بين أن (١) يسكت ، أو يقول ألك بينة؟

فإذا قال له : ألك بيّنة؟ لم يخل من أحد أمرين ، إما أن لا يكون له بينة ، أو له بينة ، فإن لم يكن له بينة ، عرّفه الحاكم أنّ لك يمينه ، فإذا عرف ذلك ، لم يكن للحاكم ، أن يستحلفه بغير مسألة المدّعي ، لأنّ اليمين حقّ له ، فليس له أن يستوفيه إلا بمطالبته ، كنفس الحق فإن لم يسأله ، واستحلفه من غير مسألة ، لم يعتد باليمين ، لأنّه أتى بها في غير وقتها ، فإذا لم يعتد بها ، أعادها عليه بمسألة المدّعي ، فإذا عرض اليمين عليه ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يحلف ، أو ينكل ، فإن حلف أسقط الدعوى ، وليس للمدّعي أن يستحلفه مرة أخرى ، في هذا المجلس ، أو في غيره ، فإن لم يحلف ونكل عن اليمين ، قال له الحاكم : إن حلفت ، وإلا جعلتك ناكلا ، ورددت اليمين على خصمك ، فيحلف ، ويستحق عليك.

ولا يجوز أن يحكم عليه بالحقّ بمجرد النكول ، بل لا بدّ من يمين المدعي ، ليقوم النكول واليمين مقام البينة ، وقد يشتبه هذا الموضع على كثير من أصحابنا ، فيظن أن بمجرّد النكول يثبت الحق ، وهذا خطأ محض.

فإن كانت له بينة ، امّا أن تكون حاضرة ، أو غائبة ، فإن كانت غائبة ، لم يقل له الحاكم أحضرها ، لأنّه لا حق له ، فله أن يفعل ما يرى ، فإذا حضرا لم يسألهما الحاكم عمّا عندهما ، حتى يسأله المدّعي ذلك ، لأنّه حقّ له ، فلا فإذا ثبت أنّه لا بدّ من سؤال المدّعي الاستماع منهما ، فإن الحاكم لا يقول يتصرف فيه بغير أمره.

__________________

(١) ج : بالخيار أن.

١٦٥

لهما اشهدا ، لأنّه أمر ، وهو لا يأمرهما ، لكنه يقول تكلما إن شئتما ، من (١) كان عنده كلام فليذكره إن شاء.

ومتى بدأ أحد الخصمين بإذن أو بغير إذن ، وجعل يدّعي على صاحبه ، منع الحاكم صاحبه من مداخلته ، لأنّه يفسد (٢) عليه نظام الدعوى.

وأقل ما على الحاكم ، أن يمنع كل واحد منهما أن ينال من عرض صاحبه ، لأنّه جلس للفصل بين الناس والانصاف ، وأقلّ ما عليه ، أن لا يمكن أحدهما (٣) من الظلم والحيف.

ولا يجوز له أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه ، إمّا أن يضيفهما معا ، أو يدغهما معا ، لما روي أنّ رجلا نزل بعلي عليه‌السلام ، فأدلى بخصومة ، فقال له علي عليه‌السلام ، ألك خصم ، قال : نعم ، قال : تحوّل عنا ، فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا تضيفوا أحد الخصمين ، إلا ومعه خصمه (٤).

والقاضي بين المسلمين ، والحاكم والعامل عليهم ، يحرم على كل واحد منهم الرشوة ، لما روي ، أنّ النبيّ عليه‌السلام قال : لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم (٥).

وهو حرام على المرتشي بكل حال ، وأمّا الراشي ، فإن كان قد رشاه على تغيّر حكم (٦) ، أو إيقافه ، فهو حرام وإن كان على إجرائه على واجبه ، لم يحرم عليه أن يرشوه لذلك ، لأنّه يستنقذ ماله ، فيحل ذلك له ، ويحرم على الحاكم أخذه (٧).

والذي يقتضيه مذهبنا ، أنّ الحاكم يجب أن يكون عالما بالكتابة ، والنبيّ عليه‌السلام عندنا ، كان يحسن الكتابة بعد النبوة ، وإنّما لم يحسنها قبل البعثة.

وأمّا كيفية البحث فيقدّم أولا من الذي يبحث عنه ، ومتى يبحث عنه ، وجملته أنّ الشهود ضربان ، من له شدة عقول يعني وفور عقل ، وضبط ، وحزم ،

__________________

(١) ل : أو من.

(٢) ج : لئلا يفسد.

(٣) ج : أحدا.

(٤) الوسائل : الباب ٣ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢

(٥) المبسوط : ج ٨ ، كتاب آداب القضاء. ص ١٥١.

(٦) ل : على تغيير الحكم ج : على تعيين حكم.

(٧) ج : على آخذه.

١٦٦

وجودة تحصيل ، ومن ليس لهم ذلك ، من شدة عقول ، يعني هو عاقل ، إلا أنّه ليس بكامل العقل ، جميع هذا ذكره شيخنا في مبسوطة (١) ، ولا أرى به بأسا.

وإذا شهد عنده من يتعتع في شهادته ، أو يتلعثم ، يعني يتعتع ، قال الجوهري صاحب كتاب الصحاح : التعتعة في الكلام : التردد فيه ، من حصر أو عيّ ، وقال أيضا قال أبو زيد (٢) تلعثم الرجل في الأمر : إذا تمكّث فيه ، وتأنّى فلا يسدده (٣). أولا يترك أحدا يلقنه ، بل يتمهل عليه ، حتى يفرغ من شهادته فإذا فرغ ، فإن كانت شهادته موافقة للدعوى ، قبلها ، وحكم بها ، وإلا طرحها.

ومتى أراد الاحتياط والأخذ بالحزم (٤) في قبول الشهادة ، ينبغي له أن يفرّق بين الشهود ، ويستدعي واحدا واحدا ، ويسمع شهادته ، ويثبتها عنده ، ويقيمه ، ويحضر الآخر ، فيسمع شهادته ، ويثبتها ، ثم يقابل بين الشهادات فإن اتفقت ، قابلها مع دعوى المدّعي ، فإن وافقتها ، حكم بها بعد سؤال صاحب الحق ، على ما قدمناه ، وإن اختلفت ، طرحها ، ولم يلتفت إليها ، وكذلك إن اتفقت ، غير أنّها لم توافق الدعوى ، طرحها أيضا ، ولم يعمل بها ، وهذا حكم (٥) سائر في جميع الأحكام والحقوق ، من الديون ، والأملاك ، والعقود ، والدماء ، والفروج ، والقصاص ، والشجاج ، فانّ الأحوط فيها أجمع ، أن يفرّق بين الشهود ، وإن جمع بينهم ، وسمع شهادتهم ، لم يكن ذلك مما يوجب رد شهادتهم ، ولا موجبا الحكم بخلافها ، غير أنّ الأحوط ما قدّمناه.

ومن شهد عنده شاهدان عدلان ، على أن حقا ما لزيد (٦) وجاء آخران ، فشهدا أنّ ذلك الحق لعمرو ، فإن كانت أبديهما خارجتين (٧) منه ، فينبغي للحاكم أن يحكم لأعدلهما شهودا ، فإن تساويا في العدالة كان الحكم لأكثرهما شهودا ،

__________________

(١) المبسوط : كتاب آداب القضاء ، في كيفية البحث عن حال الشهود.

(٢) ج : وقال أيضا أبو زيد.

(٣) ج : فلا يسدّه.

(٤) ج : بالجزم.

(٥) ج : وهذا أيضا حكم.

(٦) ل : ان الحق لزيد.

(٧) ج : خارجة

١٦٧

مع يمينه بالله تعالى ، أنّ الحق له ، فإن تساويا في العدالة والعدد ، أقرع بينهما ، فمن خرج عليه ، حلف ، وكان الحكم له ، فإن امتنع من خرج اسمه في القرعة من اليمين (١) كان الحق بينهما نصفين.

ومتى كان مع واحد منهما يد متصرّفة ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن كانت البينة تشهد بأنّ الحق ، ملك له فقط ( خفيفة الطاء ، ساكنه وهي بمعنى حسب ) وتشهد للآخر بالملك أيضا ، انتزع الحق من اليد المتصرفة ، وأعطي اليد الخارجة.

وإن شهدت البينة لليد المتصرفة ، بسبب الملك ، من بيع ، أوهبة ، أو معاوضة ، كانت أولى من اليد الخارجة (٢).

قال محمّد بن إدريس : والذي يقوى في نفسي ، وأعمل عليه ، وأفتي به ، أنّ اليد الخارجة في المسألتين معا ، يسلم الشي‌ء إليها ، وهي أحق من اليد المتصرفة ، والبينة بينتها ، كيف ما دارت القصة ، هذا الذي يقتضيه أصول مذهب أصحابنا ، بغير خلاف بين المحققين منهم ، ولقوله عليه‌السلام : البينة على المدّعي ، وعلى الجاحد اليمين (٣) ، فجعل عليه‌السلام البينة بينة المدّعي ، وفي جنبته ، فلا يجوز أن يسمع بينة الجاحد ، سواء كان معه سبب ملك ، أو غيره ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني ، في كتاب البيوع.

وجملة القول في ذلك ، وعقد الباب ، أن نقول : إذا تنازعا عينا ، وهي في يد أحدهما ، وأقام كل واحد منهما بينة ، بما يدّعيه من الملكية ، انتزعت العين من يد الداخل ، وأعطيت الخارج ، وكانت بينة الخارج أولى ، وهي المسموعة ، سواء شهدت بينة الداخل بالملك بالإطلاق ، أو بالأسباب ، بقديمه ، أو بحديثه ،

__________________

(١) ج : من اليمين حلف الآخر وكان الحكم له ، فإن امتنعا جميعا من اليمين كان الحق بينهما نصفين.

(٢) النهاية ، كتاب القضايا والاحكام باب سماع البنات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة.

(٣) الوسائل : بهذا المضمون وردت روايات في الباب ٣ من أبواب كيفية الحكم.

١٦٨

كيف ما دارت القصة ، فإنّ بينة الخارج أولى على الصحيح من المذهب ، وأقوال أصحابنا ، ولقوله عليه‌السلام المجمع عليه من الفريقين ، المخالف والمؤالف ، المتلقى عند الجميع بالقبول ، وهو : البينة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه ، فقد جعل عليه‌السلام ، البينة في جنبة المدّعى بغير خلاف.

فأمّا إن كانت العين المتنازع فيها خارجة من يدي المتنازعين (١) ، وهي في يد ثالث غيرهما ، ثم أقام كل واحد منهما بينة بها ، فإنّ أصحابنا يرجحون بكثرة الشهود ، فإن استويا في الكثرة ، رجحنا بالتفاضل في عدالة البينتين ، فيحكم في المال المتنازع فيه ، ويقدّم بينة صاحب الترجيح مع يمينه ، فإن استويا في جميع الوجوه ، فالحكم عند أصحابنا المحصّلين القرعة ، على أيّهما خرجت ، اعطي ، وحلف للآخر أنّه يستحقه ، وهو له ، فإن لم يكن ترجيح ، وهو في يد ثالث ، وأقام أحدهما بينة بقديم الملك ، والآخر بحديثه ، وكل منهما يدّعي أنّه ملكي الآن ، وبينة كل واحد منهما تشهد بأنّه ملكه الآن ، غير أن إحدى البينتين ، تشهد بالملكية الآن ، وبقديم الملك ، والأخرى تشهد بالملكية الآن ، وبحديث الملك (٢) ، مثاله انّ إحدى البينتين تشهد بالملك منذ سنتين ، والأخرى منذ سنة ، فالبيّنة بينة قديم الملك ، وهي المسموعة ، والمحكوم بها ، دون بيّنة حديث الملك ، لأنّ حديث الملك ، لا يملكه ، إلا عن يد قديمة ، فهو مدّعي الملكية عنه ، ولا خلاف أنّا لا نحكم بأنّه ملك عنه ، لأنّه لو كان عنه ملك ، لوجب أن يكون الرجوع عليه بالدرك ، فإذا لم يحكم بأنّه عنه ملك ، بقي الملك على صاحبه ، حتى يعلم زواله عنه.

وكذلك تكون بينة صاحب السبب ، أولى في هذه المسألة ، إذا كانت العين المتنازع فيها في يد ثالث ، وخارجة من أيديهما ، عند بعض أصحابنا ، والأقوى عندي استعمال القرعة هاهنا ، وان لا يجعل لصاحب السبب هاهنا ترجيح ، لأنّ

__________________

(١) ج : يد المتداعيين.

(٢) ج : بالملكية وبحديث الملك.

١٦٩

الترجيح عندنا ما ورد إلا بكثرة الشهود ، فإن تساووا في العدد ، فأعدلهما شهودا ، والمراد بأعدلهما في هذه المواضع ، أنّ البينتين جميعا شرائط العدالة فيهما ، إلا أن إحداهما أكثر مواظبة على الأعمال الصالحات المندوبات ، وإن كانت الأخرى غير مخلة بواجب ، ولا مرتكبة لقبيح. وليس المراد أنّ إحداهما فاسقة ، والأخرى عادلة ، لأنّ لفظة افعل في لسان العرب ، للمشاركة في الشي‌ء ، والزيادة عليه ، فمن ظنّ أنّ المراد بأعدلهما شهودا غير ما قلناه ، فقد أخطأ خطأ فاحشا.

وبقديم الملك (١) على ما دللنا عليه ، ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا ، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا ، فلم يبق إلا استعمال القرعة ، لإجماعهم على أنّ كل أمر مشكل فيه القرعة ، إلا أن يكون مع ذلك الآخر مرجح ، من المرجحات المجمع عليها ، وهي المقدّم ذكرها ، من كثرة العدد ، أو أعدلهما شهودا ، أو بقديم الملك.

ولو قلنا : نرجّح بالسبب ، إذا كان في يد ثالث ، لكان قويا ، وبه أفتي ، لأنّ فيه جمعا بين الأحاديث والروايات ، وعليه الإجماع ، فإنّ المحصلين من الأصحاب ، مجمعون عليه ، قائلون به ، ولأنّ السبب أولى من قديم الملك ، وقد رجحنا بقديم الملك ، لأنّ من شهد بالنتاج والبيع والهبة ، نفى أن يكون ملكا قبله لأحد ، أعني النتاج ، وكان أقوى ، فليتأمّل ذلك.

فهذا تحقيق المسائل المختلفة ، الموضوعة في الجزء الثالث من مسائل الخلاف ، لشيخنا أبي جعفر (٢) فإنّها مختلفة الألفاظ ، وتحريرها ما ذكرناه.

والذي اعتمده واعتقده وأعمل عليه ، بعد هذه التفاصيل جميعها أن لا ترجيح إلا بالعدد ، وبالتفاضل في عدالة البينتين فحسب ، دون الأسباب ، وقدم

__________________

(١) هذه العبارة عطف على قوله : بكثرة الشهود.

(٢) الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسائل ١٣ و ١٤ و ١٥ و ٢.

١٧٠

الأملاك ، لأنّ القياس عندنا باطل ، على ما قدّمناه ، وانّما فصلناه على وضع شيخنا في مسائل خلافه ، وهي من فروع المخالفين ، ومذاهبهم ، فحكاها ، واختارها ، دون أن يكون مذهبا لنا ، أو لبعض مشيختنا ، ولا وردت به أخبارنا ، ولم يذهب إليه أحد من أصحابنا ، سوى شيخنا أبي جعفر في كتابيه الفروع ، مبسوطة (١) ومسائل خلافه ، وعادته في هذين الكتابين ، وضع أقوال المخالفين ، واختيار بعضها ، فليلحظ.

فأمّا إن كانت يدهما معا عليها ، كالدار هما فيها ، والثوب يدهما جميعا عليه ، كان بينهما ، ولا بينة لواحد منهما ، حلف كل واحد منهما لصاحبه ، وكان الشي‌ء بينهما بنصفين.

وقد روى (٢) أصحابنا ، أنّه إذا كانت جارية مع رجل وامرأة ، وادّعى الرجل أنّها مملوكته ، وادعت المرأة أنّها بنتها ، وهي حرّة ، وأنكرت الجارية الدعويين جميعا ، كان على الرجل البيّنة بأنّ هذه الجارية مملوكته ، لم يبعها ، ولم يعتقها ، فإن أقام بذلك ، سلّمت إليه ، وكذلك إن أقرّت الجارية أنّها مملوكته ، وكانت بالغة ، سلّمت إليه ، وإن لم يقم بينة ، ولا تكون هي بالغا ، أو تكون بالغا ، غير أنها لا تقرّ ، انتزعت من يده ، فإن أقامت المرأة البينة أنّها بنتها ، سلّمت إليها إذا كانت صغيرة وإن لم تكن لها بينة ، تركت الجارية ، تمضى حيث شاءت.

ومتى كانت جارية بين شركاء ، فوطأوها كلهم في طهر واحد ، وحملت ، وولدت ، فادّعى كل واحد منهم أنّ الولد له ، أقرع بينهم ، فمن خرج اسمه ، الحق الولد به ، وغرم الباقين قيمة الولد ، على قدر ما لهم من الجارية ، ورد مع ذلك أيضا ثمن الجارية على قدر حصصهم.

قال محمد بن إدريس : وهذا يكون على التقريب ، وأنّهم (٣) في يوم واحد ، أو لا يعرف المتقدّم من المتأخر ، واشتبه الأمر وأشكل ، وإلا إذا كان الطهر مثلا

__________________

(١) المبسوط : ج ٨ ، كتاب الدعاوي والبينات ، ص ٢٥٧ ـ ٢٥٩.

(٢) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب كيفية الحكم ، ح ٩.

(٣) ج : ولأنّهم.

١٧١

شهرا أو شهرين ، لأنّ الطهر لا حدّ لأكثره عندنا ، فوطئها واحد منهم في أول الشهر ، والثاني في آخره ، ثم وضعت الولد لستة أشهر ، منذ يوم وطئ الأول ، فهو للأوّل دون الباقين (١) ، بغير خلاف ، فليلحظ ذلك.

ومتى سقط بيت على قوم ، فماتوا ، وبقي منهم صبيان ، أحدهما مملوك ، والآخر حرّ والمملوك عبد لذلك الحر ، ولم يتميز أحدهما من الآخر ، أقرع بينهما ، فمن خرج اسمه ، فهو الحر ، وكان الآخر مملوكا له.

وإذا قال إنسان : أول مملوك أملكه فهو حر ، وجعل ذلك نذرا ، ثم ملك جماعة في وقت واحد ، أقرع بينهم ، وأعتق من خرج اسمه ، على ما ورد في بعض الأخبار (٢) وأورده شيخنا في نهايته (٣).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه إذا ملك جماعة لا ينعتق منهم أحد ، ولا يقرع على واحد منهم ، لأنّ شرط النذر ما وجد ، وهو قول الناذر أول مملوك أملكه ، وهذا ما ملك واحدا قبل الآخر والأصل بقاء الرقّ وحصول الملك فمن أخرجه من الملك يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، وأخبار الآحاد لا يلتفت إليها ، ولا يعوّل عليها ، بقي معنا من الأدلّة الأصل ، وهو بقاء الملك وثبوته ، وشيخنا أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله في كتاب النهاية ، وإن كان قوله ، وعمله ، واعتقاده ، وفتواه ، بخلافه ، وقد رجع شيخنا عن هذا بعينه في الجزء الرابع (٤) من المبسوط (٥).

وإذا أوصى إنسان ، أن يعتق (٦) ثلث عبيده ، ولم يعينهم ، أقرع بينهم ، وأعتق من خرج اسمه.

__________________

(١) ج : كان الولد لا حقا بالأوّل دون الباقين.

(٢) الوسائل : الباب ٥٧ من أبواب العتق ، والباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم.

(٣) النهاية : باب سماع البينات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة.

(٤) ج : الثالث.

(٥) المبسوط ..

(٦) ل : بعتق.

١٧٢

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة في آخر الجزء السادس : ومتى قلنا أنّه من الثلث ، أقرع بينهما ، فمن خرج اسمه أعتق ، ورق الآخر ، هذا إذا كانت قيمة كل واحد منهما ثلث ماله ، فأمّا إذا اختلفت القيمتان ، وكانت قيمة أحدهما ثلث ماله ، وقيمة الآخر سدس ماله ، فإذا أقرعنا بينهما ، مع تساوى القيمة ، أقرعنا هاهنا ، فإن خرجت القرعة لمن قيمته الثلث ، عتق ، ورق الآخر كله وإن خرجت القرعة لمن قيمته السدس ، عتق كله ، وكملنا الثلث من الآخر ، فيعتق من الآخر نصفه (١).

فأمّا المسألة الأوّلة فأوردها في نهايته ، تحمل على ان ثلثهم يكون بمقدار ثلثه ، أو أقل منه ، وما ذكره في مبسوطة يحمل [ على ما ] إذا كان ثلث العبيد يزيد على ثلث الميت ، وهو ثلث التركة ، فتجزى العبيد بالقيمة ، لا بالرؤوس ، ويكون الحكم على ما قاله رحمه‌الله.

وإذا ولد مولود ليس له ما للرجال ، ولا ما للنساء ، أقرع عليه ، فإن خرج سهم الرجال الحق بهم ، وورث ميراثهم ، وإن خرج سهم النساء ، ألحق بهن ، وورث ميراثهن ، وكل أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه ، فينبغي أن يستعمل فيه القرعة ، لما روي عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام (٢) ، وتواترت به الآثار ، وأجمعت عليه الشيعة الإمامية.

وقال شيخنا في مبسوطة : إذا قال لعبده : إن قتلت فأنت حر ، فهلك السيّد ، واختلف الوارث والعبد ، فأقام الوارث البينة أنّه مات حتف أنفه ، وأقام العبد البينة أنّه مات بالقتل ، قال قوم : يتعارضان ، ويسقطان ، ويسترق العبد ، وقال قوم : بينة العبد أولى ، لأنّ موته قتلا يزيد على موت حتف أنفه

__________________

(١) المبسوط : كتاب الشهادات ، فصل الرجوع عن الشهادة ، ج ٨ ، ص ٢٥٠.

(٢) الوسائل : الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم.

١٧٣

لأنّ كل مقتول ميت ، وليس كل ميّت مقتولا ، فكان الزائد أولى ، ويعتق العبد ، وعندنا يستعمل فيه القرعة ، فمن خرج اسمه ، حكم ببيّنته (١).

قال محمّد بن إدريس : والأظهر الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّه ينعتق العبد ، لأنّ هذا ليس بأمر مشكل ، لأنّ بينة العبد شهدت بأمر زائد ، قد يخفى على بينة الوارث.

وهكذا قال رحمه‌الله في مبسوطة ، في رجل قال لعبد له : إن متّ في رمضان ، فأنت حر ، وقال لعبد له آخر : إن مت في شوال ، فأنت حر ، فمات السيد ، واختلف العبدان ، فأقام كل واحد منهما البينة على ما ادّعاه (٢).

قال محمّد بن إدريس : الصحيح أنّه تقبل بيّنة رمضان ، لأنّ معها زيادة ، وهو أن يخفى على بينة شوال ، موته في رمضان ، ولا يخفى على بينة رمضان موته في شوال ، فكان صاحب رمضان أولى ، وليس هذا من الأمور المشكلة بقبيل.

وقد بيّنا في كتاب الشهادات ، ما يقبل فيه شهادة الصبيان ، وينبغي أن يفرّق بينهم في الشهادة ، ويؤخذ بأوّل قولهم ، ولا يؤخذ بثانيه ، ومتى اختلفوا لم يرجع إلى شي‌ء من أقوالهم ، ولا يعتد أيضا بشي‌ء من أقوالهم التي يرجعون إليها ، من الأقوال الأولة.

وإذا بحث الحاكم عن عدالة الشاهد ، فإن الجرح يقدم على التزكية ، ولا يقبل الجرح إلا مفسّرا وتقبل التزكية من غير تفسير ، وقال قوم : يقبل الأمران معا مطلقا.

والصحيح الأول ، لأنّ الناس يختلفون فيما هو جرح ، وما ليس بجرح ، فإنّ أصحاب الشافعي لا يفسّقون من شرب النبيذ ، ومالك يفسّقه ، ومن نكح المتعة في الناس من فسقه ، وعندنا أنّ ذلك لا يوجب التفسيق ، بل هو مباح طلق ، وربما كان مستحبا ، فإذا كان كذلك لم يقبل الجرح إلا مفسرا ، لئلا يجرحه بما هو جرح عنده ، وليس بجرح عند الحاكم ، ويفارق الجرح التزكية ، لأنّ التزكية إقرار صفة على الأصل ، فلهذا قبلت من غير تفسير ، والجرح اخبار عمّا حدث (٣) من

__________________

(١) و (٢) المبسوط : ج ٨ ، كتاب الشهادات ، ص ١٧٣.

(٣) ج : وجدت.

١٧٤

عيوبه ، وتجدد من معاصيه ، فبان الفصل بينهما.

ولا يقبل الجرح ولا التزكية ، حتى يكون الشاهد بها من أهل الخبرة الباطنة ، والمعرفة المتقادمة هذا في التزكية خاصة ، والفصل بينهما ، أنّ الجرح يعرف لحظة واحدة (١) وهو أن يرتكب ما يفسق به ، فتسقط شهادته ، ولو كان قبل ذلك أعدل الناس ، فلهذا لم يفتقر إلى الخبرة المتقادمة ، وليس كذلك التزكية ، لأنّه لا يكون عدلا ، بأن يراه في يومه عدلا ، لأنّ العدل من تاب عن المعاصي ، وطالت مدته في الطاعات ، إلا أن يتوب على ما قدّمناه.

لا يجوز للحاكم أن يرتّب شهودا يسمع شهادتهم ، دون غيرهم ، بل يدع الناس ، فكل من شهد عنده ، فإن عرفه ، وإلا سأل عنه على ما قلناه.

وقيل : إنّ أول من رتب شهودا لا يقبل غيرهم ، إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي.

والصحيح ما قلناه ، لأنّ الحاكم إذا رتّب قوما ، فإنّما يفعل هذا بمن هو عدل عنده ، وغير من رتبه كذلك مثله ، أو أعدل منه ، فإذا كان الكل سواء ، لم يجز أن يخص بعضهم بالقبول دون بعض ، ولأنّ فيه مشقة على الناس ، لحاجتهم إلى الشهادة بالحقوق في كل وقت ، من نكاح ، وغصب ، وقتل ، وغير ذلك ، فإذا لم يقبل إلا قوما ، دون قوم ، شق على الناس.

وينبغي للقاضي ، أن يتخذ كاتبا يكتب بين يديه ، وصفة الكاتب أن يكون عدلا عاقلا ، ولا يجوز له أن يتخذ كافرا بلا خلاف ، لقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ) (٢) وكاتب الرجل بطانته ، وقال تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ » (٣) وكاتب الرجل وليه وصاحب سره ، وعليه إجماع الصحابة.

__________________

(١) ج : في لحظة واحدة.

(٢) آل عمران : ١١٨.

(٣) الممتحنة : ١.

١٧٥

ولا ينبغي لقاض ، ولا وال (١) من ولاة المسلمين ، أن يتخذ كاتبا ذميا ، ولا يضع الذمي في موضع يفضل به مسلما ، وينبغي أن يعز المسلمين لئلا تكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم.

ولا يقبل عندنا كتاب قاض ، إلى قاض ، بغير خلاف بيننا ، وإجماعنا منعقد على ذلك ، وما يرويه المخالف في ذلك ، فكله أخبار آحاد ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّ العمل يجب أن يكون تابعا للعلم ، ولا علم في ذلك ، ولا دلالة عليه.

وإذا كتب الكتاب ، فأدرجه ، وختمه ثم استدعى بهما ، فقال : هذا كتابي ، قد أشهدتكما على نفسي بما فيه ، لم يصح ، ولا يصح هذا التحمل ، ولا العمل عليه ، وكذلك ان قرأه عليهما ، عندنا لما قدمناه ، فهذا فرع يسقط عنا.

وفي الوصايا فإنه لو أوصى بوصية ، وأدرج الكتاب ، وأظهر (٢) للشهود مكان الشهادة ، وقال : قد أوصيت بما أردته في هذا الكتاب ، ولست أختار أن يقف أحد على حالي ، وتركتي ، قد أشهدتكما عليّ بما فيه ، لم يصح هذا التحمل بلا خلاف.

الذي يقتضيه مذهبنا أنّ الإمام إذا مات ينعزل النائبون عنه ، إلا أن يقرّهم الإمام القائم مقامه.

المشتري للعقار إذا أشهد على البائع بالبيع ، وطالبه بكتاب الأصل ، لم يجب عليه أن يعطيه إيّاه ، لأنّه ملكه ، ولأنّه حجته عند الدرك.

وإذا كان لجماعة على رجل حقوق من جنس واحد ، أو أجناس ، فوكّلوا من ينوب عنهم في الخصومة ، فادّعى الوكيل عليه الحقوق ، فإن اعترف ، فلا كلام ، وإن أنكر ، وكانت هناك بينة ، حكم عليه بها ، فإن لم تكن بينة ، فالقول قوله مع يمينه ، فإن أراد كل واحد من الجماعة أن يستحلفه على الانفراد ، كان له ، لأنّ اليمين حق له ، فكان له أن ينفرد باستيفائه ، وإن قالت الجماعة قد رضينا

__________________

(١) ج : ولا لوال.

(٢) ج : ولم يظهر.

١٧٦

منه بيمين واحدة عن الكل لكلنا ، قال قوم : يستحلفه ، لأنّه لمّا صح أن يثبت الحقوق عليه بالبينة الواحدة ، صح أن يسقط الدعوى باليمين الواحدة ، وقال آخرون : لا يجوز أن يقتصر الحاكم منه على يمين واحدة ، والأول هو الصحيح ، لأنّ اليمين حقّ لهم ، فإذا رضوا بيمين واحدة ، فينبغي أن يكتفي بها.

إذا استعدى رجل عند الحاكم على رجل ، فإن كان حاضرا ، أعدى عليه ، وأحضره ، سواء علم بينهما معاملة ، أو لم يعلم ، وليس في ذلك ابتذال لأهل الصيانات والمروّات ، فانّ عليا عليه‌السلام ، حضر مع يهودي عند شريح ، وحضر عمر مع أبي عند زيد بن ثابت ، ليحكم بينهما في داره ، وحج أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء من العباسيين ، فحضر مع جمّالين مجلس الحكم ، عند حاكمه لخلف جرى بينهم.

فإذا ثبت هذا ، فمتى (١) حضر ، قيل له. ادّع الآن ، فإذا ادّعى عليه ، لم يسمع الدعوى إلا محررة ، فأمّا إن قال : لي عنده ثوب ، أو فرس ، أو حقّ ، لم يسمع دعواه ، لأنّ دعواه لها جواب ، فربما كان بنعم ، فلا يمكن الحاكم أن يقضي به عليه ، لأنّه مجهول ، قالوا : أليس الإقرار بالمجهول يصح ، فهلا قلتم إنّ الدعوى المجهولة تصح ، قلنا : الفصل بينهما ، أنّه إذا أقرّ بمجهول ، لو كلفناه تحرير الإقرار ربما رجع عن إقراره ، فلهذا ألزمنا المجهول به ، وليس كذلك مسألتنا ، لأنّه إذا ردّت الدعوى عليه ، ليحررها ، لم يرجع ، فلهذا لم تسمع إلا معلومة.

هذا كله ما لم تكن وصية ، فإن كانت الدعوى وصية ، سمع الدعوى فيها ، وإن كانت مجهولة ، والفصل بينهما وبين سائر الحقوق ، انّ تمليك المجهول بها يصح ، فصحّ أن يدّعى مجهولة ، وليس كذلك غيرها ، لأنّ تمليك المجهول به لا يصح ، فلهذا لم تقبل الدعوى به إلا معلومة.

فإذا ثبت ذلك ، فإن حرر الدعوى ، فلا كلام ، وإن لم يحررها ، ولم يحسن

__________________

(١) ج : ثبت فمتى.

١٧٧

ذلك ، فلا يجوز للحاكم أن يلقنه تحريرها.

فإن كانت الدعوى أثمانا ، فلا بدّ من ذكر ثلاثة أشياء ، تكون معلومة ، وهو أن يذكر القدر ، والجنس ، والنوع ، قالوا : أليس لو باع ثوبا بألف مطلقا ، انصرف إلى نقد البلد ، هلا قلتم تسمع الدعوى مطلقا ، وتنصرف إلى نقد البلد ، قلنا : الفصل بينهما ، أنّ الدعوى ، إخبار عمّا كان واجبا عليه ، وذلك يختلف في وقت وجوبه ، باختلاف الأزمان والبلدان ، فلهذا لم تسمع منه إلا محررة ، وليس كذلك الشراء ، لأنّه إيجاب في الحال ، فلهذا انصرف إلى نقد البلد.

فأمّا إن كانت غير الأثمان ، لم تخل من أحد أمرين ، إمّا أن تكون عينا قائمة أو هالكة ، فان كانت عينا قائمة ، فإن كانت ما يمكن ضبطها بالصفات ، ضبطها ، وإن لم يمكن ضبط الصفات ، كالجواهر ، ونحوها ذكر قيمتها ، وإن كانت تالفة ، فإن كان لها مثل ، كالحبوب ، والأدهان ، وصفها ، وطالب بها ، لأنّها تضمن بالمثل ، وإن لم يكن لها مثل ، كالحيوان ، والثياب ، فلا بدّ من ذكر القيمة.

كل موضع تحررت الدعوى ، فليس للحاكم مطالبة المدّعي عليه بالجواب ، بغير مسألة المدّعي ، لأنّ الجواب حقّ المدّعي ، فليس للحاكم المطالبة به من غير مسألته ، كنفس الحق ، فإذا أقرّ بما ادّعاه خصمه ، لم يكن للحاكم أن يحكم عليه به ، إلا بمسألة المقرّ له به ، لأنّ الحكم عليه به حقّ له ، فلا يستوفيه إلا بأمره ، كنفس الحق. والحكم أن يقول له : ألزمتك ذلك ، أو قضيت عليك به ، أو يقول : أخرج له منه ، على ما قدّمناه أولا ، وشرحناه.

إذا أراد الإمام أن يولّي قاضيا ، فإن وجد متطوعا به ، ولاه ، ولا يولّي من يطلب عليه رزقا ، وإن لم يجد متطوعا ، كان له أن يولّي القضاء ، ويرزقه من بيت المال ، وروي أنّ عليا عليه‌السلام ولّى شريحا ، وجعل له في كل سنة خمسمائة درهم ، وكان عمر قبله ، جعل له كل شهر مائة درهم (١).

__________________

(١) لم نعثر عليه.

١٧٨

عندنا للحاكم أن يقضي بعلمه في جميع الأشياء ، لأنّه لو لم يقض بعلمه ، أفضى إلى إيقاف الأحكام ، أو فسق الحكّام ، لأنّه إذا طلّق الرجل زوجته بحضرته ثلاثا ، ثم جحد الطلاق ، كان القول قوله مع يمينه ، فإن حكم بغير علمه ، وهو استحلاف الزوج ، وتسليمها إليه ، فسق ، وإن لم يحكم ، وقف الحكم ، وهكذا إذا أعتق الرجل عبده بحضرته ، ثم جحد ، وإذا غصب من رجل ماله ثم جحد ، يقضي إلى ما قلناه.

الحقوق ضربان ، حقّ للآدميين ، وحقّ لله ، فإن ادّعى حقا لآدمي ، كالقصاص ، وحدّ القذف ، والمال ، فاعترف به ، أو قامت به البينة ، لم يجز للحاكم أن يعرض له بالرجوع عنه ، والجحود ، لأنّه لا ينفعه ذلك ، لأنّه إذا ثبت باعترافه ، لم يسقط برجوعه ، وإن كان قد ثبت بالبينة ، لم يسقط عنه بجحوده ، وإن كان حقا لله كحدّ الزنا والشرب ، فإن كان ثبوته عند الحاكم بالبينة ، لم يعرض له بالرجوع ، لأنّ الرجوع لا ينفعه ، وإن كان ثبوته باعترافه ، جاز للحاكم أن يعرض له بالرجوع ، لكنه لا يصرّح بذلك ، لأنّ فيه تلقين الكذب ، وانّما قلنا بجوازه ، لأنّ ماعزا ، لمّا اعترف قال له النبي عليه‌السلام : لعلك قبلتها ، لعلك لمستها.

إذا شهد شاهدان عند الحاكم بحق ، وكانا عدلين ، حين الشهادة ثم فسقا قبل الحكم بشهادتهما ، أو بعد الحاكم بشهادتهما ، فإن فسقا قبل الحكم بشهادتهما ، قال قوم من المخالفين : لا يحكم بشهادتهما ، وقال آخرون : يحكم ، وهذا الذي يقتضيه مذهبنا ، لأنّ المعتبر في العدالة حين الأداء ، ولا يراعى ما قبل ذلك ، ولا ما بعده.

فإن فسقا بعد الحكم ، وقبل الاستيفاء ، فإن كان حقا لآدمي لا ينقض وأمضى ، وإن كان حقا لله ، فإنّه لا يمضي ، لقوله عليه‌السلام : ادرءوا الحدود بالشبهات (١) وحدوث الفسق شبهة ، ويفارق المال ، لأنّ المال لا يسقط بالشبهة.

فأمّا إن قامت البينة ، بأنهما كانا فاسقين قبل الشهادة ، والإقامة لهما ،

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٤ من أبواب مقدمات الحدود ، ح ٤.

١٧٩

والحكم بها ، بأن قامت البينة عنده أنّهما شربا الخمر أو قذفا حرا ، قبل الحكم بشهادتهما بيوم ، قال قوم : ينقض الحكم ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا.

من ادعى مالا أو غيره ، ولا بينة له ، فتوجهت اليمين على المدّعى عليه ، فنكل عنهما ، فإنّه لا يحكم عليه بالنكول ، بل يلزم اليمين المدّعي ، فيحلف ، ويحكم له بما ادّعاه ، هذا هو مذهب أصحابنا.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : فإذا نكل ، لزمه الحق ، وأطلق ذلك (١) ورجع في مسائل الخلاف (٢) ، والمبسوط (٣) ، إلى ما اخترناه ، والمعنى فيما ذكره في نهايته ، من قوله لزمه الحق ، يعني أن بنكوله صارت اليمين على المدّعي ، بعد أن كانت عليه ، وكل من كانت عليه اليمين ، فهو أقوى جنبة من صاحبه ، والقول قوله مع يمينه ، لا أنّه أراد بمجرد النكول يقضي الحاكم عليه بالحق ، من دون يمين خصمه.

فامّا حقوق الله فعلى ضربين ، حقّ لا يتعلّق بالمال ، وحقّ يتعلّق بالمال ، فأمّا ما لا يتعلّق بالمال ، كحدّ الزنا ، وشرب الخمر ، وغير ذلك ، فلا يسمع فيه الدعوى ، ولا يلزم الجواب ، ولا يستحلف ، لأنّ ذلك مبني على الإسقاط.

إذا مات رجل ، وخلّف طفلا ، وأوصى إلى رجل بالنظر في أمره ، فادّعى الوصي دينا على رجل ، فأنكر ، فإن حلف ، سقطت الدعوى ، وإن لم يحلف ، فلا يمكن ردّ اليمين على الوصي ، لأنه لا يجوز أن يحلف عن غيره ، فتوقف إلى أن يبلغ الطفل ، ويحلف ، ويحكم له.

المستحب أن لا يكون الحاكم جبّارا ، متكبرا ، عسوفا ، لأنّه إذا عظمت هيبته ، لم يلحن ذو الحجّة بحجّته (٤) ، هيبة له ولا يكون ضعيفا مهينا ، لأنّه

__________________

(١) النهاية : كتاب القضاء والأحكام .. والعبارة هكذا : « فان نكل عن اليمين الزمه الخروج الى خصمه ».

(٢) الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة ٣٨.

(٣) المبسوط : ج ٨ ، فصل في النكول عن اليمين ، ص ٢١٢.

(٤) ج : لحجّته.

١٨٠