كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

فالقول قول المرتهن أيضا مع يمينه.

وإذا اختلفا في مبلغ الرهن ، أو في مقدار قيمته بعد الإقرار من المرتهن بالتفريط ، أو إقامة البيّنة عليه بذلك ، فالقول قول المرتهن أيضا في ذلك ، على الصحيح من المذهب ، لأنّه غارم ، ومدّعى عليه ، ولا خلاف أنّ القول قول الجاحد المنكر المدّعى عليه ، إذا عدم المدّعي البينة ، وقال بعض أصحابنا : القول قول الراهن في ذلك ، وهذا مخالف لما عليه الإجماع ، وضدّ لأصول الشريعة.

وإذا اختلفا في مبلغ الدين ، أخذ ما أقرّ به الراهن ، وحلف على ما أنكره ، لأنّ القول قوله في ذلك مع يمينه ، لأنّه مدّعى عليه.

وقد روي في شواذ الأخبار ، رواه السكوني العامي المذهب ، واسمه إسماعيل بن أبي زياد ، أنّ القول قول المرتهن مع يمينه ، لأنّه أمينه ، والبيّنة على الراهن ، ما لم يستغرق الرهن ثمنه (١).

قال محمّد بن إدريس : معنى هذه الرواية أنّ القول قول المرتهن ، حتى يحيط قوله ودعواه بثمن الرهن جميعه ، فمتى أحاط بثمن الرهن واستغرقه ، فالقول قول الراهن أيضا ، على هذه الرواية ، وقد بيّنا أصل هذه الرواية ، فالواجب ترك العمل بها ، لمخالفتها لأصول المذهب.

ومتى اختلفا في متاع ، فقال الذي عنده : إنّه رهن ، وقال صاحب المتاع : أنّه وديعة ، كان القول قول صاحب المتاع مع يمينه ، وعلى المدّعي لكونه رهنا البيّنة بأنّه رهن عنده ، وهذا هو الصحيح الذي عليه العمل ، وتقتضيه الأصول ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (٢).

وذهب في استبصاره إلى أن القول قول من يدّعي أنّه رهن ، وجعله مذهبا

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٧ من أحكام الرهن ، ح ٤.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.

٤٢١

له ، وجمع بين الأخبار ، وتوسّطها على هذا القول (١).

قال محمّد بن إدريس : إنى لأربأ بشيخنا أبي جعفر ، مع جلالة قدره وتبحره ورئاسته ، من هذا القول المخالف لأصول المذهب ، وله رحمه‌الله في كتابه الاستبصار توسّطات عجيبة ، لا استجملها له ، والذي حمله على ذلك ، جمعه بين المتضاد ، وهذا لا حاجة فيه ، بل الواجب الأخذ بالأدلة القاطعة للأعذار ، وترك أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، فإنّه أسلم للديانة ، لأنّ الله تعالى ، ما كلّفنا إلا الأخذ بالأدلة ، وترك ما عداها.

ولا يجوز للمرتهن أن يبيع الرهن ، إلا بإذن صاحبه ، فإن غاب عنه ، فالأولى الصبر عليه إلى أن يجي‌ء ، أو يأذن له في بيعه ، فإن لم يصبر ورفع أمره إلى الحاكم ، وأقام بيّنة بالدين والرهن ، وسأله بيعه عليه ، فالواجب على الحاكم بيع ذلك ، وتسليم ثمنه إليه ، وحفاظ ما زاد على الدين ، إن زاد الثمن على الدين ، ورده على صاحبه إذا قدم ، وإن كان قد وكله في بيعه حال الرهن ، عند حلول الأجل ، وأخذ ماله من جملته كان ذلك جائزا ، وساغ له بيعه من غير أمر الحاكم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان شرط المرتهن على الراهن ، أنّه إذا حلّ أجل ماله عليه ، كان وكيلا له في بيع الرهن ، وأخذ ماله من جملته ، كان ذلك جائزا فإذا حلّ الأجل ، ولم يوفه المال ، باع الرهن ، فإن فضل منه شي‌ء ، ردّه على صاحبه ، وإن نقص طالبه به على الكمال ، وإن تساوى لم يكن له ولا عليه شي‌ء (٢).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه‌الله : « وإن كان شرط المرتهن على الراهن أنّه إذا حلّ أجل ماله عليه كان وكيلا له في بيع الرهن » غير واضح (٣) ، لأنّا قد بيّنا في باب الوكالة ، أنّه إذا قال له : إذا جاء رأس الشهر ، فقد وكلتك في كذا

__________________

(١) الاستبصار : ح ٣ ، كتاب البيوع ، باب انّه إذا اختلف نفسان في متاع في يد واحد .. ، ص ١٢٢.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون ، وأحكامها.

(٣) ج : غير صحيح.

٤٢٢

وكذا ، أنّ الوكالة غير صحيحة ، فأمّا إذا وكله في الحال ، وشرط عليه أنّه لا يبيع الشي‌ء الموكّل على بيعه ، إلا إذا جاء رأس الشهر ، كان ذلك صحيحا ماضيا.

فان قيل : فقد قلتم فيما مضى ، أنّه إذا لم يوكّله على بيع الرهن ، جاز للحاكم بيعه ، وقضاء الدين منه ، بعد ثبوت الحقّ عنده ، فلا فائدة حينئذ في الرهن ، ولا مزية له ، لأنّه إذا كان غير رهن ، بيع على صاحبه ، وإذا كان رهنا غير موكّل في بيعه ، بيع أيضا ، فلا فائدة في الرهن.

قلنا : الفائدة ظاهرة ، وهو أنّه إذا كان رهنا ، لا يشارك المرتهن في ثمنه أحد من الغرماء ، ولو كان على صاحبه أضعاف أضعاف دين المرتهن ، وإذا لم يكن الشي‌ء رهنا كان جميع الغرماء أسوة فيه على قدر ديونهم بالحصص ، فأيّ فائدة أعظم من هذا.

وإذا كان عند الإنسان رهن ، ولا يدري لمن هو ، صبر إلى أن يتبيّن صاحبه ، فإن لم يتبينه ، ولا علمه ، باعه وأخذ ماله ، فإن زاد على ماله ، استحفظ به له ، وقد روي انّه يتصدّق به عن صاحبه (١).

وإذا مات من عنده الرهن ، ولم يعلم الورثة الرهن ، كان ذلك كسبيل ماله ، فإن علموه بعينه ، وجب عليهم ردّه على صاحبه ، وأخذ ما عليه منه.

وإذا كان عند إنسان رهون جماعة ، فهلك بعضها ، وبقي البعض ، كان ماله فيما بقي ، إذا كانت لراهن واحد ، فإن هلك الكلّ ، كان هلاكها من مال صاحبها ، وكان دين المرتهن باقيا في ذمة الراهن ، على ما قدّمناه ، إذا لم يكن ذلك عن تفريط منه ، حسب ما بيناه.

ومن عنده الرهن ، جاز له أن يشتريه من الراهن.

ومتى رهن الإنسان حيوانا حاملا ، كان حمله خارجا عن الرهن ، إلا أن

__________________

(١) لم نجد فيه رواية ، ولعل المراد بها بعض ما ورد في المال المجهول أو المفقود المالك ، فراجع الباب ٧ من أبواب اللقطة ، والباب ٦ من أبواب ميراث الخنثى.

٤٢٣

يشترطه المرتهن ، فان حمل في حال الارتهان ، كان مع امّه رهنا ، كهيئتها.

وحكم الأرض إذا رهنت وهي مزروعة ، كذلك ، فانّ الزرع يكون خارجا عن الرهن ، فأمّا إذا زرعت بعد الرهن ، فيكون الزرع لصاحب البذر ، ولا يدخل في الرهن ، لأنّه غير حمل ، بخلاف الشجر والنخل وحملهما ، والحيوان وحمله.

وإنّما عطف شيخنا في نهايته الزرع في الأرض ، لأنّه لا يدخل في الرهن مع الأرض ، ولم يقل إذا زرعت بعد الرهن دخل الزرع في الرهن ، مثل ما يدخل الحمل.

وكذلك حكم الشجر والنخل إذا كان فيها الحمل ، فان ثمرتها وحملها يكون خارجا من الرهن ، فإن حملت النخيل والأشجار في حال الارتهان ، كان ذلك رهنا مثل الحامل ، وهذا مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وإجماعهم عليه ، وهو الذي ذكره شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في مقنعته (١) واختاره شيخنا أبو جعفر في نهايته (٢) ثمّ اختار بعد ذلك ، مقالة المخالفين ، في مسائل خلافه (٣) ، ومبسوطة (٤) ، وذهب إلى أنّ الحمل يكون خارجا من الرهن ، وانّ حمل الحامل في حال الارتهان.

وإذا كان عند إنسان رهن بشي‌ء مخصوص ، فمات الراهن ، وعليه دين لغيره من الغرماء ، لم يكن لأحد منهم أن يطالبه بالرهن ، إلا بعد أن يستوفي المرتهن ماله على الراهن ، فإن فضل بعد ذلك شي‌ء ، كان لباقي الغرماء.

وقد روي في شواذ الأخبار الضعيفة ، أنّه يكون مع غيره من الديان سواء ، يتحاصون بالرهن (٥).

والصحيح ما انعقد عليه الإجماع ، دون ما روي في شواذ الروايات

__________________

(١) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب الرهون ص ٦٢٤.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.

(٣) الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة ٥٨.

(٤) المبسوط : ج ٢ ، كتاب الرهن ، ص ٢٣٧ ، العبارة هكذا : النماء المنفصل .. يدفع إلى الراهن .. هذا ما كان حادثا في يد المرتهن ..

(٥) الوسائل : الباب ١٩ من أحكام الرهن.

٤٢٤

وإذا كان له على الراهن مال على غير هذا الرهن ، لم يجز له أن يجعله على هذا الرهن.

ومتى مات الراهن ، كان المرتهن في غير ماله على الرهن مع غيره من الديان سواء.

وإذا كان عند إنسان دابة ، أو حيوان أو رقيق رهنا ، فإن نفقة ذلك على صاحبها الراهن ، دون المرتهن ، فإن أنفق المرتهن عليها متبرعا ، فلا شي‌ء له على الراهن ، وإن أنفق بشرط العود أو (١) أشهد على ذلك ، كان له الرجوع على الراهن بما أنفق.

وقد روي أنّ له ركوبها والانتفاع بها ، بما أنفق عليها أو الرجوع على الراهن (٢).

والأولى عندي أنّه لا يجوز له التصرّف في الرهن على حال ، لأنّا قد أجمعنا بغير خلاف ، أنّ الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرّف في الرهن.

وإذا اختلف نفسان ، فقال أحدهما : لي عندك دراهم دين ، وقال الآخر. هي وديعة عندي ، كان القول قول صاحب المال ، مع يمينه بأنّها دين ، لأنّه قد أقرّ له أنّها له معه ، وبما ادّعاه عليه ، ثمّ ادّعى ما يبطل الإقرار من حصولها (٣) في يده ، والرسول عليه‌السلام قال : « على اليد ما أخذت حتى تؤديه » (٤) إلا ما خرج بالدليل ، من الودائع والأمانات ، فقوله : وديعة يمكنه أن يبطلها ، بأن يقول : تلفت أو ضاعت ، فيكون القول قوله ، وهذا لا يجوز.

والذي ينبغي أن يحصل في ذلك ، ويعمل عليه ، ويسكن إليه ، أنّه إذا ادّعى أحدهما على الآخر ، فقال : لي عندك دراهم دين ، وقال الآخر : هي وديعة ، ولم يصدّقه على دعواه ، ولا وافقه على جميع قوله من أنّها دين ، فالقول قول المودع مع يمينه ، لأنّه ما أقرّ بما ادّعاه خصمه ، من كونها دينا ، بل أقرّ بأنّ له عنده وديعة ، ومن أقرّ بذلك ، فما أقرّ بما يلزمه في ذمّته ، لو ضاعت من غير تفريط منه ،

__________________

(١) ل : واشهد.

(٢) الوسائل : الباب ١٢ من أحكام الرهن.

(٣) ل : حصولها وديعة.

(٤) مستدرك الوسائل : الباب ١ من كتاب الغصب ، ح ٤.

٤٢٥

بل قد ادّعى عليه الخصم ، أنّ له عنده وفي ذمّته دينا ، وجحد المدّعى عليه ذلك ، ولم يكن مع المدّعي بيّنة بصحّة دعواه ، فالقول قول المدّعى عليه مع يمينه ، فأمّا لو ادّعى عليه أنّ له عليه كذا ، ثمّ صدّقه على دعواه ، وقال بعد ذلك : إنّه وديعة ، لم يقبل دعواه بعد إقراره وتصديقه ، لأنّ حرف « على » حرف وجوب والتزام ، وحرف « عند » ليس بالتزام ، بل قد يكون له عنده وديعة ، فلا يلزم بالمحتمل ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وما أورده شيخنا في نهايته (١) ، يحتمل أنّ المدّعى عليه صدق المدّعي بأنّ الدراهم دين ، ووافقه على لفظ دعواه ، وجميع قوله ، فيلزمه حينئذ الخروج إليه منه.

ومن كان عنده رهن ، فمات صاحبه ، وخاف إن أقرّ به ، طولب بذلك ، ولم يقبل قوله في كونه رهنا ، ولم يعط ماله الذي عليه ، جاز له أن يأخذ منه بمقدار ما عليه (٢) ، ويرد الباقي على ورثته ، فإن لم يفعل ، وأقرّ أنّه عنده رهن ، كان عليه البيّنة أنّه رهن ، فإن لم يكن معه بيّنة ، كان على الورثة اليمين ، أنّهم لا يعلمون أنّ له عليه شيئا ، ووجب عليه ردّ الشي‌ء الذي يدّعيه رهنا إلى الورثة.

لا يجوز أخذ الرهن من العاقلة على الدية ، إلا بعد حئول الحول ، فأمّا قبله فلا يجوز ، وعندنا تستأدى منهم في ثلاث سنين ، وأمّا بعد حئول الحول ، فإنّه يجوز ، لأنّه يثبت قسط منها في ذمتهم.

فأمّا الجعالة فلا يجوز أخذ الرهن فيها إلا بعد الرد.

وإذا استأجر رجلا إجارة متعلقة بعينه ، مثل أن يستأجره ليخدمه ، أو ليتولى له عملا من الأعمال بنفسه ، لم يجز أخذ الرهن عليه ، لأنّ الرهن انّما يجوز على حقّ ثابت في ذمّته ، فهذا غير ثابت في ذمة الأجير ، وانّما هو متعلّق بعينه ، ولا يقوم عمل غيره مقام فعله.

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.

(٢) ق : ما له عليه.

٤٢٦

وإن استأجره على عمل في ذمّته ، وهو أن يجعل له (١) عملا ، مثل خياطة ، أو غير ذلك ، جاز أخذ الرهن به ، لأنّ ذلك ثابت في ذمّته ، لا يتعلق بعينه ، وله أن يحصله بنفسه ، أو بغيره ، فإذا هرب ، جاز بيع الرهن ، واستيجار غيره بذلك ، ليحصل ذلك العمل.

إذا رهن رجل عند غيره شيئا بدين إلى شهر ، على أنّه إن لم يقض إلى محلّه كان مبيعا ، منه بالدين الذي عليه ، لم يصحّ الرهن ، ولا البيع إجماعا ، لأنّ الرهن موقت ، والبيع متعلّق بزمان مستقبل ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (٢).

وهو صحيح ، والأدلة على صحته ما قدّمناه نحن في هذا الباب ، من قوله عليه‌السلام المجمع عليه : « لا يغلق الرّهن » (٣) وما أوردناه من تفاسيره ، وأقوال العلماء من الفقهاء ، وأصحاب الغريب من اللغويين ، وبيت زهير بن أبي سلمى المزني ، وأيضا بيت كثير الذي في قصيدته اللامية :

غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال

يعني أنّه إذا ضحك ، وهب وأعطى الأموال ، وأخرجها عن يده ، وصارت لغيره ، فلا يقدر على ارتجاعها ، ولا فكاكها ، وهذا معنى قول الشاعر الآخر : فأمسى الرّهن قد غلقا معناه أنّه لا يقدر على فكاك قلبه من محبّة هذه المرأة ، فالرسول عليه‌السلام قد نهى أن يحصل الرهن ، بحيث لا يفك ، ولا يعود إلى ملك صاحبه الراهن ، ولا يتملك المرتهن بالشرط المخالف ، لقوله عليه‌السلام : « لا يغلق الرّهن ، الرّهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه » (٤) على ما أوضحناه فيما سلف ، وحرّرناه.

أرض الخراج لا يصحّ رهنها ، وهي كلّ أرض فتحت عنوة ، لأنّها ملك للمسلمين قاطبة ، وكذلك أرض الوقف ، لا يصحّ رهنها ، فإن رهنها كان باطلا.

__________________

(١) ل. ق : يحصل له.

(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب الرهن ص ٢٤٤ ، العبارة منقولة بالمعنى.

(٣) و (٤) مستدرك الوسائل ، الباب ١٠ من أبواب كتاب الرهن ، ح ٣.

٤٢٧

وإذا دبر عبده ، ثمّ رهنه ، بطل التدبير ، لأنّ التدبير عندنا بمنزلة الوصية ، ورهنه رجوع فيها ، وإن قلنا أنّ الرهن صحيح ، والتدبير بحاله ، كان قويا ، لأنّه لا دليل على بطلانه.

إذا رهن عند إنسان شيئا ، وشرط أن يكون موضوعا على يد عدل ، صحّ شرطه ، فإذا ثبت هذا فإن شرطا أن يبيعه الموضوع على يده ، صحّ الشرط ، وكان ذلك توكيلا في البيع ، فإذا ثبت هذا ، فإن عزل الراهن العدل عن البيع ، الأقوى والأصحّ أنّه لا ينعزل عن الوكالة ، ويجوز له بيعه ، لأنّه لا دلالة على عزله ، وذهب بعض المخالفين إلى أنّه ينعزل ، لأنّ الوكالة من العقود الجائزة ، هذا إذا كانت الوكالة شرطا في عقد الرهن ، فلا ينعزل على ما اخترناه ، لأنّه شرط ذلك ، وعقد الرهن عليه ، وهو شرط لا يمنع منه كتاب ، ولا سنة ، وقد قال عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (١) وقال : « الصلح جائز بين المسلمين » (٢) وهذا صلح ، لا يمنع منه كتاب ولا سنة ، فأمّا إذا شرطه بعد لزوم العقد ، فإنّ الوكالة تنفسخ بعزل الراهن للعدل الذي هو الوكيل ، بلا خلاف.

إذا سافر المرتهن بالرهن ، ضمن فإن رجع إلى بلده ، لم يزل الضمان ، لأنّ الاستيمان قد بطل ، فلا تعود الأمانة إلا بأن يرجع إلى صاحبه ، ثمّ يردّه إليه أو إلى وكيله ، أو يبرئه من ضمانه.

إذا انفك الرهن بإبراء أو قضاء ، كان في يد المرتهن أمانة ، ولا يجب ردّه على صاحبه ، حتى يطالبه به ، لأنّه حصل في يده أمانة ووثيقة ، فإذا زالت الوثيقة ، بقيت الأمانة.

إذا رهن عبد غيره بإذن مالكه ، كان ذلك جائزا ، فإذا رجع الآذن ، لم ينفسخ الرهن بذلك ، لأنّه عقد لازم ، لا يجوز لغير المرتهن فسخه ، لأنّه لا دليل عليه ، وللمعير أن يطالب المستعير بفكاكه ، وتخليص عبده في كلّ وقت ، سواء

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ح ٤.

(٢) الوسائل : الباب ٣ من أحكام الصلح ، ح ٢.

٤٢٨

حلّ الدين ، أو لم يحلّ ، وانّما قلنا : ليس له فسخ عقد الرهن بعد لزومه : لأنّه لا دليل على ذلك.

إذا باع من غيره شيئا على أن يكون المبيع رهنا في يد البائع ، لم يصح البيع ، لأن شرطه أن يكون رهنا لا يصحّ ، لأنّه شرط أن يرهن ما لا يملك ، فان المبيع لا يملكه المشتري قبل تمام العقد ، فإذا بطل الرهن ، بطل البيع ، لأنّ البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير ثمن المبيع ، والرهن يقتضي إيفاء الثمن من ثمن المبيع ، وذلك متناقض ، وأيضا فإنّ الرهن يقتضي أن يكون أمانة في يد البائع ، والبيع يقتضي أن يكون المبيع مضمونا عليه ، وذلك متناقض أيضا.

فأمّا إذا شرط البائع أن يسلم المبيع إلى المشتري ، ثم يردّه ، إلى يده رهنا بالثمن ، فانّ الرهن والبيع فاسدان مثل الاولى ، وهذا معنى قول شيخنا المفيد في الجزء الثاني من مقنعته : « وإذا اقترن إلى البيع اشتراط في الرهن ، أفسده ، وإن تقدم أحدهما صاحبه ، حكم له به ، دون المتأخّر » (١).

وقد سئل شيخنا أبو جعفر الطوسي ، مسألة في المسائل الحائريات ، عن معنى قول الشيخ المفيد ، في الجزء الثاني من المقنعة : « وإذا اقترن إلى البيع اشتراط في الرهن ، أفسده ، وإن تقدم أحدهما على صاحبه ، حكم له به ، دون المتأخّر » ما الذي أراد؟

فأجاب ، بأن قال : معناه إذا باعه إلى مدّة ، مثل الرهن ، كان البيع فاسدا ، وإن باعه مطلقا بشرط أن يرد عليه إلى مدّة ، إن ردّ عليه الثمن ، كان ذلك صحيحا ، يلزمه الوفاء به ، لقوله عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (٢).

قال محمّد بن إدريس : جواب شيخنا أبي جعفر الطوسي غير واضح ، لأنّه غير مطابق للسؤال ، وانّما الجواب ما قدّمناه نحن ، وأثبتناه ، وهو : إذا باع من

__________________

(١) المقنعة : أبواب المكاسب آخر باب الرهون ص ٦٢٤.

(٢) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ح ٤.

٤٢٩

غيره شيئا على أن يكون المبيع رهنا في يد البائع ، لم يصحّ البيع ، وسقنا المسألة والكلام ، وأوردنا الأجوبة عليه ، وهو جواب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، واختياره وتحريره ، وهو الصحيح الذي يليق بظاهر اللفظ ، ويقتضيه ، وضع الكلام ، ومعناه ، وهذا أوضح من الجواب الذي أجاب به في المسائل الحائريات (١). فليلحظ هذا ويتأمل ، ففيه لبس عظيم ، على جماعة من أصحابنا الذين عاصرناهم.

وإذا رهن أرضا إلى مدّة ، على أنّه إن لم يقضه فيها ، فهي مبيعة بعد المدّة بالدين ، فانّ البيع فاسد ، لأنّه بيع معلّق بوقت مستقبل ، وهذا لا يجوز ، والرهن فاسد ، لأنّه رهن إلى مدّة ، ثم جعله بيعا ، فالرهن إذا كان موقتا لم يصح ، وكان فاسدا.

إذا أقرضه ألف درهم ، على أن يرهنه بالألف داره ، ويكون منفعة الدار للمرتهن ، لم يصحّ القرض ، لأنّه قرض يجرّ منفعة ، ولا يصحّ الرهن ، لأنّه تابع له ، ولا خلاف فيه أيضا.

باب العارية

بتشديد الياء

العارية على ضربين ، مضمونة وغير مضمونة ، فالمضمونة : العين والورق ، شرط الضمان أو لم يشرط ، تعدّى أو لم يتعدّ ، وما عداهما لا يضمن إلا بشرط الضمان ، أو التعدي. وغير المضمونة ما عدا ما ذكرناه.

وإذا اختلف المالك والمستعير في التضمين والتعدّي ، وفقدت البيّنة ، فعلى المستعير اليمين.

وإذا اختلفا في مبلغ العارية ، أو قيمتها ، أخذ ما أقربه المستعير ، وكان القول قول المالك مع يمينه ، فيما زاد على ذلك ، عند بعض أصحابنا ، وهو الذي أورده شيخنا في نهايته (٢).

__________________

(١) المسائل الحائريات : ص ٣١٤ ، الطبعة الحديثة.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.

٤٣٠

والذي تقتضيه الأدلة ، وأصول المذهب أن القول قول المدّعى عليه ، وهو المستعير مع يمينه بالله تعالى ، لأنّ الأصل براءة ذمته ، ويعضد ذلك قول الرسول عليه‌السلام المجمع عليه ، وهو قوله : « على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين » ومالكها مدّع بغير خلاف ، والمستعير الجاحد ، فعليه اليمين ، ولا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، ولا بما يوجد في سواد الكتب مطلقا من الأدلة.

وإذا اختلف مالك الدابة وراكبها ، فقال المالك : آجرتكها أو غصبتنيها ، وقال الراكب : بل أعرتنيها ، فلا يقبل قول المالك في مقدار ما ادّعاه من الأجرة ، ولا يقبل قول الراكب فيما ادّعاه من العارية ، بل يوجب عليه اجرة المثل ، لأنّا قد تحققنا ركوب الدابة ، والراكب يدّعي العارية ، يحتاج إلى بيّنة ، والمالك يدّعى عقد إجارة واجرة معيّنة ، يحتاج أيضا إلى بينة ، فإذا عدمنا البيّنات على ذلك ، وقد تحققنا ركوب الدابة ، فالواجب في ذلك اجرة المثل ، عوضا عن منافع الدابة المتحققة ، فمن أسقطها يحتاج إلى دليل.

وكذلك الحكم إذا اختلف مالك الأرض وزارعها ، حرفا فحرفا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف ، في كتاب العارية : القول قول الراكب والزارع للأرض ، دون صاحب الدابة وصاحب الأرض (١).

إلا أنّه رحمه‌الله رجع في كتاب المزارعة من مسائل الخلاف عن ذلك ، وقال : مسألة : إذا زرع أرض غيره ، ثم اختلفا ، فقال الزارع : أعرتنيها ، وقال ربّ الأرض : بل أكريتكها ، وليس مع واحد منهما بيّنة ، حكم بالقرعة ، وللشافعي فيه قولان ، وعليه أكثر أصحابه ، أحدهما : أنّ القول قول الزارع ، وكذلك في الراكب إذا ادّعى أنّ صاحب الدابة أعاره إيّاها ، وهو الذي يقوى في نفسي. والقول الثاني : أنّ القول قول ربّ الأرض والدابة ، وحكى أبو علي

__________________

(١) الخلاف : كتاب العارية ، المسألة ٥.

٤٣١

الطبري أنّ في أصحابه من حمل المسألتين على ظاهرهما ، وفرّق بينهما بأنّ العادة جرت بإعارة الدواب ، وفي الأرض بالإجارة دون العارية. دليلنا على ما قلناه : أولا إجماع الفرقة على أنّ كلّ مجهول يشتبه ، ففيه القرعة ، وهذا من ذاك ، وأمّا ما قلناه ثانيا ، فهو أن الأصل براءة الذمة ، وصاحب الدابة والأرض مدّع للأجرة ، فعليه البيّنة ، فإذا عدمها ، كان على الراكب والزارع اليمين ، هذا آخر المسألة من كلام (١) شيخنا أبي جعفر (٢) رحمه‌الله.

قال محمّد بن إدريس : أمّا رجوع شيخنا إلى القرعة في هذا ، ليس بواضح (٣) ، لأنّ هذا أمر غير مجهول ، ولا مشكل ، بل هذا بيّن ، والشارع والإجماع بيّنه ، وهو مثل الدعاوي في سائر الأحكام ، من أنّ على المدّعي البينة وعلى الجاحد اليمين. وأمّا ما قاله ثانيا ، فهو الذي اختاره في كتاب العارية ، وهو خيرة المزني ، صاحب الشافعي ، وقد بيّنا ما عندنا في ذلك ، وهو إنّا لا نقبل قول مدّعي مقدار الأجرة ، ولا نقبل قول مدعي العارية ، ونأخذ عوض المنفعة المتحققة الذي هو الركوب والزرع ، لأنّا إذا لم يسلم لنا العوض المدّعى من الأجرة ، رجعنا إلى العوض (٤) ، وهو اجرة المثل ، ولا نقبل قول الزارع والراكب في إبطال المنفعة كلّها ، وهي متحققة قد استوفاها ، وهو مدّعي لسقوط عوضها بالكلية ، فهذا تحرير هذه الفتيا ، فليلحظ ، فإنّها غير ملتبسة ولا غامضة على المتأمّل ، فإنّي لا أستجمل القول لشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله مع جلالة قدره ، ما قاله في المسألتين من القرعة ، والقول الثاني الذي قال فيه : إنّ الأصل براءة الذمّة.

وإذا استعار من غيره دابة ليحمل عليها وزنا معينا ، فحمل عليها أكثر منه ، أو ليركبها إلى موضع معيّن ، فتعدّاه ، كان متعدّيا ، ولزمه الضمان ، ولو ردّها إلى المكان المعيّن بلا خلاف.

__________________

(١) ج : آخر كلام.

(٢) الخلاف ، كتاب المزارعة ، المسألة ١١.

(٣) ج : بصحيح.

(٤) ج : المعوّض.

٤٣٢

وإذا أذن صاحب الأرض للمستعير في الغراس أو البناء ، فزرع ، جاز له ، لأنّ ضرر الزرع أخف من ضرر ما أذن له فيه ، ولا يجوز له الغراس والبناء إذا أذن له في الزرع ، لأنّ ضرر ذلك أكثر ، والإذن في القليل لا يكون إذنا في الكثير ، وكذا لا يجوز له أن يزرع الدخن ، أو الذرة ، إذا أذن له في زرع الحنطة ، لأنّ ضرر ذلك أكثر. ويجوز له أن يزرع الشعير ، لأنّ ضرره أقل.

وإذا أراد مستعير الأرض للغراس والبناء قلعه ، كان له ذلك ، لأنّه عين ماله ، وإذا لم يقلعه ، وطالبه المعير بذلك بشرط أن يضمن له أرش النقص ، وهو ما بين قيمته قائما ومقلوعا ، اجبر المستعير (١) ، على ذلك ، لأنّه لا ضرر عليه فيه ، وليس للمستعير أن يطالب بالتبقية ، بشرط أن يضمن أجرة الأرض ، فإن طالبه المعير بالقلع من غير أن يضمن أرش النقصان ، لم يجبر عليه ، لأنّه لا دليل على ذلك ، ويحتج على المخالف فيه بما رووه من قوله عليه‌السلام : « من بنى في رباع قوم بإذنهم فله قيمته » (٢).

وإذا أعار شيئا بشرط الضمان ، فردّه المستعير إليه ، أو إلى وكيله ، بري‌ء من ضمانه ، ولا يبرء إذا ردّه إلى ملكه ، مثل أن يكون دابة ، فشدّها على إصطبل صاحبها ، لأنّ الأصل شغل ذمته هاهنا ، ومن ادّعى أنّ ذلك يبرئ ذمّته ، فعليه الدليل.

ومن استعار شيئا ورهنه ، كان لصاحبه أن يأخذه من عند المرتهن ، ولم يكن له منعه منه ، وكان له أن يرجع على الراهن بما له عليه من المال.

إذا استعار أرضا للزرع فزرع فيها ، ثمّ رجع المعير قبل أن يدرك الزرع ، وطالبه بالقلع ، فإنّه يجبر على التبقية ، لأنّ الزرع لا يتأبّد ، وله وقت ينتهي إليه ، فأجبرناه على التبقية ، ومنهم من قال : حكمه حكم الغراس ، سواء.

إذا أعاره حائطا ليضع عليه جذوعه ، فوضعها عليه ، لم يكن له أن يطالبه

__________________

(١) ج : المستعير ، إذا لم تكن المدّة معيّنة.

(٢) كنز العمال : ج ١٠ ، كتاب الغصب ، ص ٦٤٣. أخرجه عن سنن البيهقي وغيره وعن أبي عدي في الكامل.

٤٣٣

بقلعها على أن يضمن له أرش النقصان ، لأنّها موضوعة على حائط نفسه ، فأحد الطرفين على أحدهما ، والطرف الآخر على الآخر ، فلو أجبرناه على القلع على هذا الوجه ، كان ذلك إجبارا على قلع جذوعه من ملكه ، وليس كذلك الغراس ، لأنّها في ملك غيره.

إذا أذن له في غرس شجرة في أرضه ، فغرسها ثم قلعها ، فهل يعيد أخرى أم لا؟ الصحيح أنّه ليس له الإعادة إلا بإذن مجدّد ، وكذلك إذا أعاره حائطا ، فوضع عليه جذوعا ، ثم انكسر الجذع ، فليس له اعادة غيره ، إلا بإذن مجدّد (١).

إذا كان لإنسان حبوب ، فحملها السيل إلى أرض رجل ، فنبتت فيها ، كان ذلك الزرع لصاحب الحب ، لأنّه عين ماله ، كما نقول فيمن غصب حبا ، فزرعه ، أو بيضا فحضنها عنده ، وفرخت ، فانّ الزرع والفراخ للمغصوب منه ، لأنّهما عين ماله ، إذا ثبت هذا فليس عليه أجرة الأرض ، لأنّها حصلت فيها بغير صنع منه ، ولصاحب الأرض مطالبة صاحب الحبّ بقلعه من غير أرش ، لأنّه لم يأذن له في ذلك ، كما نقول في شجرة إذا تشعبت أغصانها ، ودخلت في ملك لغيره ، فانّ لصاحب الملك أن يجبره على قلعها ، إذا لم يمكن تحويلها من غير قلع.

ولا يجوز إجارة العارية لأنّه لا يملك منافعها بعقد الإجارة (٢) وكذلك لا يجوز له إعارتها ، لأنّه أذن له في الانتفاع بها على وجه مخصوص ، وكذلك إذا قدم له طعام ليأكله ، فله أن يأكل ، ولا يجوز له أن يلقم غيره ، ولا أن يزل منه معه ، لأنّه لم يؤذن له في ذلك ، يقال : أزلّ فلان لفلان زلّة ، إذا جعل له نصيبا من طعامه.

باب الوديعة

الوديعة مشتقة من ودع يدع ، إذا استقرّ وسكن ، والوديعة عقد جائز من الطرفين ، من جهة المودع متى شاء أن يستردها فعل ، ومن جهة المودع متى شاء أن يردها فعل.

__________________

(١) ج : مجدّد إذا لم تكن المدة معينة

(٢) ل : بعقد العارية.

٤٣٤

والإنسان مخيّر في قبول الوديعة والامتناع من ذلك ، وهو أولى ما لم يكن فيه ضرر على المودع.

ويجب عليه حفظها بعد القبول لها كما يحفظ ماله.

وهي أمانة لا يلزم ضمانها إلا بالتعدّي ، فإن شرط صاحبها ضمانها كان الشرط باطلا ، لأنّه شرط يخالف الكتاب والسنة ، فإن تصرّف فيها ، أو في شي‌ء منها ، ضمنها ، وكذا إن فكّ ختمها ، أو فتح قفلها أو حلّ شدها ، أو نقلها من حرز إلى ما هو دونه ، كان متعدّيا ، ويلزمه الضمان ، وكذا إن لم يكن هناك ضرورة من خوف نهب ، أو غرق ، أو غيرهما ، فسافر بها ، أو أودعها أمينا آخر ، وصاحبها حاضر ، أو خالف مرسوم صاحبها في كيفيّة حفظها ، وكذا لو أقرّ بها لظالم يريد أخذها من دون أن يخاف الضرر من القتل أو الضرب ، أو سلّمها إليه بيده ، أو بأمره ، وإن خاف ذلك على قول بعض أصحابنا.

والأولى والأصح والأظهر ، أنّه متى خاف الضرر ، ونزوله به ، فلا يكون ضامنا بخروجها من يده ، وإعطائه الظالم إيّاها على سائر الأحوال ، فإن قنع الظالم منه بيمينه ، فله أن يحلف ويورّي في ذلك ، ولا يجوز له تسليم الوديعة إلى الظالم عند هذه الحال ، فإن سلّمها وترك اليمين ، كان ضامنا ، ولا ضمان عليه إن هجم الظالم فأخذها قهرا.

ولو تعدّى المودّع ، ثمّ أزال التعدّي ، مثل أن يردها إلى الحرز بعد إخراجها منه ، لم يزل الضمان ، لأنه كان لازما له قبل الرد ، ومن ادّعى سقوطه عنه ، فعليه الدلالة ، ولو أبرأه صاحبها من الضمان بعد التعدّي ، وقال : قد جعلتها وديعة عندك من الآن ، بري‌ء لأنّ ذلك حقّ له ، فله التصرف فيه بالإبراء والإسقاط ، ويزول الضمان بردها إلى صاحبها أو وكيله ، سواء أودعه إيّاها مرّة أخرى أم لا ، بلا خلاف.

وإذا علم المودع أنّ المودع لا يملك الوديعة لم يجز ردّها عليه مع الاختيار ،

٤٣٥

بل يلزمه ردّ ذلك إلى مستحقه ، إن عرفه بعينه ، فإن لم يتعيّن له ، حملها إلى الإمام العادل ، فإن لم يتمكن ، لزمه الحفظ بنفسه في حياته ، وبمن يثق به في ذلك ، بعد وفاته ، إلى حين التمكّن من المستحق ، ومن أصحابنا من قال : تكون والحال هذه في الحكم كاللقطة ، على ما روي في بعض الروايات (١) والأول أحوط.

وإن كانت الوديعة من حلال وحرام لا يتميز أحدهما من الآخر ، لزم ردّ جميعها إلى المودع متى طلبها ، بدليل إجماع أصحابنا.

ومتى ادّعى صاحب الوديعة تفريطا ، فعليه البيّنة ، فإن فقدت فالقول قول المودع ـ لأنّه أمين ـ مع يمينه.

فإذا ثبت التفريط ، واختلفا في قيمة الوديعة ، ولا بيّنة فالقول قول المودع الأمين ـ لأنّه المدّعى عليه ـ مع يمينه.

ومن أصحابنا من قال : القول قول صاحبها مع يمينه (٢) ، وهذا مخالف لأصول المذهب ، وما عليه الإجماع ، والمتواتر من الأخبار ، لأنّ القول بذلك ، يؤدّى إلى أنّ القول قول المدّعي ، وعلى الجاحد البيّنة ، وهذا خلاف ما عليه كافّة المسلمين ، وأيضا الأصل براءة ذمة الجاحد ، فمن شغلها بزيادة على ما يقول ويقرّ فعليه الدلالة ، ولأنّه أيضا غارم ، والغارم يكون القول قوله مع يمينه ، بلا خلاف ، وما ذكره شيخنا في نهايته (٣) خبر واحد ، لا يرجع بمثله عن الأدلة القاهرة ، ولا يخصّ بمثله العموم.

وإذا طلبها صاحبها من المستودع ، وهو متمكن من ردّها ، وليس عليه في ذلك ولا على غيره ضرر ، لا يمكن تلافيه من الخوف على النفس وعلى المال ، وجب عليه ردّها ، سواء كان المودع كافرا ، أو مسلما ، أو مؤمنا ، أو فاسقا ، وعلى كلّ حال.

__________________

(١) لم نجد رواية في خصوص هذا الموضوع. ولعلّ المراد بها بعض ما ورد في المال المجهول المالك أو المفقود المالك. فراجع الوسائل : الباب ٧ من اللقطة ، والباب ٦ من أبواب ميراث الخنثى.

(٢) وهو الشيخ رحمه‌الله في النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.

(٣) وهو الشيخ رحمه‌الله في النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.

٤٣٦

وإذا اختلف نفسان في مال ، فقال الذي عنده المال : إنّه وديعة ، وقال الآخر : إنّه دين عليك ، كان القول قول صاحب المال ، وعلى الذي عنده المال ، البيّنة أنّه وديعة ، فإن لم يكن له بيّنة ، وجب عليه ردّ المال فإن هلك كان ضامنا ، فإن طالب صاحب المال باليمين أنّه لم يودّعه ذلك المال ، كان له ذلك ، وقد قدّمنا ذلك فيما مضى ، وحرّرناه. هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الرهن (١) والوديعة (٢).

والوجه في الموضعين معا عندي ، أن يكون المدّعى عليه قد وافق المدّعى على صيرورة المال إليه ، وكونه في يده ، ثمّ بعد ذلك ادّعى أنّه وديعة لك عندي ، فلا يقبل قوله ، ويكون القول قول من ادّعى أنّه دين ، لأنّه قد أقرّ بأنّ الشي‌ء في يده أولا ، وادّعى كونه وديعة ، والرسول عليه‌السلام قال : « على اليد ما أخذت حتى تردّه » (٣) وهذا قد اعترف بالأخذ والقبض ، وادّعى الوديعة ، وهي تسقط الحق الذي أقرّ به لصاحب المال ، فلا يقبل قوله في ذلك ، فأمّا إذا لم يقر بقبض المال أولا ، بل ما صدّق المدّعي على دعواه ، بأنّ له عنده مالا دينا ، بل قال : لك وديعة عندي كذا وكذا ، فيكون حينئذ القول قوله مع يمينه ، لأنّه ما صدّقه على دعواه ، ولا أقرّ أولا بصيرورة المال إليه ، بل قال : لك عندي وديعة ، فليس الإقرار بالوديعة ، إقرارا بالتزام شي‌ء في الذمة ، فليلحظ ذلك ، ففيه غموض.

ومتى تصرّف المودع في الوديعة ، كان متعدّيا ، وضمن المال ، فإن ردّها ، أو ردّ مثلها إلى المكان من غير علم من صاحبها ، لم تبرأ بذلك ذمته ، وكان ضامنا كما كان ، إلا أن يردّها على صاحبها ، ويجعلها عنده وديعة من رأس ، على ما أسلفناه فيما مضى.

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.

(٣) مستدرك الوسائل : الباب ١ من أبواب الغصب ، ح ٤ و ٥.

٤٣٧

ومتى مات المستودع ، وجب ردّ الوديعة إلى ورثته ، عند المطالبة منهم ، فإن كان واحدا سلّمها إليه ، وإن كانوا جماعة ، لم يسلّمها إلا إلى جماعتهم ، أو إلى واحد يتفقون عليه ، فإن لم يتفقوا على ذلك ، قال بعض أصحابنا : أو يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ، والأولى رفعها إلى الحاكم ، لأنّ الودعيّ لا يجوز له قسمتها ، فإن سلّمها إلى واحد منهم بغير رضاء الباقين ، كان ضامنا لحصتهم على الكمال.

وليس المودع أن يسافر بالوديعة ، سواء كان الطريق مخوفا أو غير مخوف ، وسواء كانت المسافة قريبة أو بعيدة.

المودع متى أودع الوديعة عند غيره ، مع قدرته على صاحبها ، فإنّه يكون ضامنا ، سواء أودع زوجته ، أو غير زوجته ، ثقة أو غير ثقة ، فأمّا إذا لم يقدر عليه ، وأراد السفر ، فلا بأس بأن يودعها عند من يثق بديانته.

ولا يجوز له دفنها من غير وصيّة بها إلى غيره ، واستيمان منه عليها ، وإيداع الغير.

إذا أخرج الوديعة لمنفعة نفسه ، لا لمنفعة صاحبها ، مثل أن يكون ثوبا وأراد ان يلبسه ، أو دابة فأراد ركوبها ، فإنّه يضمن بنفس الإخراج ، فأمّا إذا نوى أن يتعدّى ، أو يخرجها ، ولم يفعل ذلك ، فإنّه لا يضمن بالنيّة ، حتى يتعدّى.

وإذا أودع غيره حيوانا ، ولم يأمره بأن يسقيه ولا يعلفه ، ولا نهاه ، لزمه الإنفاق عليه ، وسقيه ، وعلفه ، ويرجع على صاحبه بذلك إذا أشهد بأنّه يرجع عليه بذلك ، لأنّه إذا أطلق ، عرف بفحوى الخطاب أمره بالسقي والعلف ، لأنّ العادة جارية بأنّ الدابة تسقى وتعلف ، فوجب حمل ذلك على العرف ، وإن لم يتلفظ به ، لأنّه عرف من فحوى الخطاب.

وإذا أودع إنسان وديعة عند إنسان ، وقال له : ادفعها إلى فلان أمانة ووديعة ، فادّعى المودع أنّه دفعها إليه ، وأنكر المودع الثاني أن يكون دفعها إليه ، وقال المودع الأوّل لصاحبها : أنا امتثلت أمرك ، ودفعتها إليه ، فالقول قوله مع يمينه ، وتعود المحاكمة بين صاحبها وبين المودع الثاني ، فإن اعترف فذاك ، وإن

٤٣٨

أنكر الإيداع ، فالقول قول المودع الثاني أيضا ، لأنّ المودع مؤتمن ، فوجب أن يكون القول قوله ، كما أنّه لو ادّعى أنّه ردّها على المودع الذي هو صاحبها ، فانّ القول قوله في ذلك.

إذا خلط الوديعة بماله خلطا لا يتميّز ، مثل أن يخلط دراهم بدراهم ، أو دنانير بدنانير ، أو طعاما بطعام ، فإنّه يضمن ، سواء خلطها بمثلها ، أو أرفع منها ، أو أدون منها ، وعلى كلّ حال ، لأنّه قد تعدّى فيها بالخلط ، بدلالة أنّه لا يمكنه أخذ ماله بعينه ، فوجب عليه الضمان.

وإذا كان عنده وديعة ، فادّعاها نفسان ، فقال المودع : هي لأحدهما ، ولا أعلم عين صاحبها ، وادّعى كلّ واحد منهما علمه بذلك ، لزمه يمين واحدة بأنّه لا يعلم لأيّهما هي ، فإذا حلف وبذل كلّ واحد من المتداعيين اليمين أنّه له ، استخرج واحد منهما بالقرعة ، فمن خرج اسمه ، خلف وسلّمت إليه ، لأنّه أمر مشكل.

إذا أودعه شيئا ليس بمحرز ، مثل الدراهم والدنانير ، في طبق أو صينيّة ، ونحو ذلك ، فأخذ منها درهما ، ضمن ذلك الدرهم والدينار ، لأنّه تعدّى بأخذه ، فعليه ضمانه ، ولا يضمن الباقي ، لأنّه ما تعدّى فيه ، فلا يتعلق به ضمان ، فإن ردّ المأخوذ ، فلا يخلو إمّا أن يردّ ما أخذه بعينه ، أو يرد بدله ، فإن ردّ ما أخذه بعينه ، فإنّه لا يضمن سواه ، سواء تميز من غيره أو لم يتميز ، فأمّا إن ردّ بدله ، فإن كان متميّزا ، فلا يضمن غيره فحسب ، وإن كان غير متميّز العين بعد الخلط والرد ، فإنّه يضمن الجميع ، لأنّه خلط ماله بمال غيره ، فكان متعديا بالخلط ، فهو كما لو كان مقارضا ، فخلط مال القراض بمال من عنده ، فإنّه يضمن مال القراض كلّه.

المودّع إذا حضرته الوفاة ، يلزمه أن يشهد على نفسه ، بأنّ عنده وديعة لفلان ، ويشهد حتى لا تختلط بماله ، ويأخذه ورثته ، ولا يقبل قول المودع إلا ببيّنة ، فإذا لم يكن معه بيّنة ، فالظاهر أنّ هذا مال الميّت ، فيؤدّي إلى هلاك ماله ، وكذلك الحكم إذا سافر ، فان الحكم فيه واحد حرفا فحرفا.

٤٣٩

إذا أودع صندوقا ، وقال له : لا ترقد عليه ، فرقد عليه ، وزاده قفلا آخر حفاظا له ، فإنّه لا يضمن ، لأنّه زاده حرزا.

ولو قال له : اطرحها في بيتك ، واحفظها ، فإذا فزعت عليها ، لا تخرجها ، ففزع عليها فأخرجها ، وحفظها في حرز مثله ، لم يضمنها لأنّه زاده حرزا ، وبالغ في الحرز.

ولو أودعه خاتما ، فقال : دعه في إصبعك الخنصر ، فوضعه في البنصر ، لم يضمن ، لأنّ الخاتم في البنصر أوثق ، لأنّه يكون في الخنصر سريع القلق.

ولو قال : دعه في البنصر ، فوضعه في الخنصر ، فإنّه يضمن ، لأنّه وضعه فيما دون منه في الحرز.

إذا طالب المودع فقال : لم تودعني شيئا ، وأنكر ، فأقام المودع البيّنة ، أنّه كان أودعه ، فقال : صدقت البيّنة ، كنت أودعتني ، لكن تلفت منى قبل ذلك ، فإنّه لا يسمع هذا القول ، وعليه الضمان ، لأنّ البيّنة قد أكذبته ، وبان كذبه بالبيّنة.

إذا أودع وديعة ، فقال : اجعلها في كمّك ، فجعلها في يده ، قال قوم : لا يضمن ، لأنّ اليد أحرز من الكم ، وقال آخرون : إنّه يضمن ، لأنّه إذا أمسكها في يده ، فقد يسهو ، أو تسترخي يده منها ، وليس كذلك الكم ، لأنّه قد آمن من أن تسقط بالاسترخاء ، لأنّه يعلم خفّته (١) ، ويقوى في نفسي ، أنّه من حيث خالف صاحبها ، يضمن ، لأنّ ذلك يكون تعدّيا لأنّه لم يخالفه لفضل حفظ وحرز.

إذا دفع إليه شيئا فقال : اتركه في جيبك ، فطرحه في كمه ، فإنّه يضمن ، ولو قال : اربطها في كمّك ، فطرحها في جيبه ، لم يضمن ، لأنّ الجيب أحرز من الكم ، فإن قال : اتركها في جيبك ، فتركها في فيه ، ضمن ، لأنّه نقلها إلى ما هو دونه في الحرز ، لأنّه ربما بلعها ، وربما تسقط من فيه ، وليس كذلك الجيب ، لأنّ الجيب لا يقع منه إلا إذا بط.

إذا أودع صبيّ وديعة عند رجل ، يلزمه الضمان ، لأنّ دفع الصبيّ لا حكم

__________________

(١) ج : حقنة.

٤٤٠