كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

إلا أنّه رجع عن ذلك في استبصاره (١) ، وهو الحق اليقين ، لأنّا قد بيّنا ، أنّه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس ببيعه متفاضلا ، ومتماثلا نقدا ، ونسيئة ، إلا ما خرج بدليل ، من الذهب والفضة ، فإنّه لا يجوز بيعهما نسيئة.

ولا يجوز التفاضل في الأدهان ، إذا كان الأصل يرجع إلى جنس واحد ، مثل أن يباع الشيرج بالشيرج ، الذي فيه البنفسج ، فإنّه يسمّى دهن البنفسج ، أو دهن الورد ، وما أشبه ذلك ، ممّا كان الأصل فيه دهن الشيرج.

ولا يجوز بيع السمسم بالشيرج ، ولا بزر (٢) الكتان بدهنه ، بل ينبغي أن يقوّم كل واحد منهما ، على انفراده.

ولا يجوز بيع البسر بالتمر ، متفاضلا ، ويجوز متماثلا ، لأنّهما جنس واحد ، بغير خلاف ، فلو كان التعليل في المنع ، من جواز بيع الرطب بالتمر صحيحا ، لما جاز بيع البسر بالتمر ، مثلا بمثل ، ولا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، من أنّه لا يجوز بيع البسر بالتمر متفاضلا ، وإن اختلف جنسه ، ولا بيع نوع من تمر بأكثر منه ، من غير ذلك ، لأنّ ما يكون من النخل ، في حكم النوع الواحد ، بغير خلاف بين أصحابنا.

وحكم الزبيب ، وتحريم التفاضل فيه ، وإن اختلف جنسه ، مثل التمر سواء ، لأنّ جميعه في حكم الجنس الواحد ، ولا يجوز بيع الدبس المعمول من التمر ، بالتمر متفاضلا ، ولا بأس ببيعه مثلا بمثل يدا ، ولا يجوز نسيئة.

ولا بأس ببيع التمر بالزبيب متفاضلا ، نقدا ونسيئة ، إلّا أنّه روى كراهة بيعه نسيئة وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ولا يجوز نسيئة.

وقد قلنا ما عندنا في أمثال ذلك ، من أنّه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس ببيعه متفاضلا ، ومتماثلا ، نقدا ونسيئة ، لما دللنا عليه من قبل.

__________________

(١) الاستبصار : ج ٣ ، كتاب البيوع ، باب اسلاف السمن بالزيت ، فراجع كلامه قدس‌سره.

(٢) البزر ـ بالكسر ـ كل حب يبذر للثبات.

٢٦١

ولا بأس ببيع الزبيب ، بالدبس المعمول من التمر ، متفاضلا ومتماثلا ، نقدا ونسيئة ، ولا يجوز بيعه بما يعمل من الزبيب من الدّبوس ، متفاضلا لا نقدا ولا نسيئة ولا يجوز بيع العنب بالزبيب إلا مثلا بمثل.

والعصير والبحتج ، لا يجوز التفاضل فيهما ، ويجوز بيع ذلك مثلا بمثل ، يدا ولا يجوز نسيئة لأنّهما معا جنس واحد ، إلا أنّ أحدهما مسّته النار ، وهو البحتج ، والآخر ما مسته ، وهو العصير ، قال الجوهري ، في كتاب الصحاح : والطلاء ما طبخ من عصير العنب ، حتى ذهب ثلثاه ، ويسمّيه العجم الميبختج هكذا حكاه بالميم المكسورة ، والياء المنقطة من تحتها بنقطتين ، المسكنة ، والباء المنقطة من تحتها بنقطة واحدة ، المضمومة ، والخاء المعجمة المسكنة ، والتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، المفتوحة ، والجيم ، هكذا ذكره ، وهو أعرف بهذا الشأن ، والأول روايتنا وسماعنا.

وما يباع بالعدد ، فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد ، والجنس واحد ، ويكره ذلك نسية ، وإن كان غير محرّم ، لأنه لا ربا فيهما ، لأنّا قد بيّنا أنّ الربا عندنا في المكيل والموزون مع التفاضل ، والجنس واحد ، والمعدود ليس كذلك.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وما يباع بالعدد ، فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد ، والجنس واحد ولا يجوز ذلك فيه نسيئة ، مثل البيضة بالبيضتين ، والجوزة بالجوزتين ، والحلّة ـ بالحاء غير المعجمة ، وهي جنس من الثياب ـ بالحلتين ، وما أشبه ذلك ، ممّا قدّمناه فيما مضى ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته (١).

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : وحكم ما يباع عددا ، حكم المكيل والموزون ، لا يجوز في الجنس منه التفاضل ، ولا في المختلف منه النسيئة (٢).

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : ما اخترناه أولا ، وهو أنّه يجوز

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.

(٢) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب بيع الواحد بالاثنين ص ٦٠٥.

٢٦٢

التفاضل في المعدود ، وإن كان الجنس واحدا يدا بيد ويكره ذلك نسيئة وزاد على قولنا ، أنّه لا كراهة في النسيئة ، وهو الذي يقوى عندي ، لأنّ الكراهة تحتاج إلى دليل ، قال رحمه‌الله في مسائل الخلاف : مسألة ، لا ربا في المعدودات ، ويجوز بيع بعضه ببعض متماثلا ، ومتفاضلا ، نقدا ونسيئة ، وللشافعي فيه قولان ، ثم قال رحمه‌الله : دليلنا الآية ، وأيضا الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وأيضا عليه إجماع الفرقة ، وأخبارهم تدل على ذلك ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه (١).

وهو الحق اليقين ، فقد رجع عمّا ذكره في نهايته ، واستدل بالآية وإجماع الفرقة وبأخبارهم ، فليت شعري ، الذي ذكره في نهايته من اين قاله ، وكيف جاز له أن يرجع عنه ، لو كان عنده حجة ، وإنما أورده من طريق خبر الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا ، فلو كان الرجل عاملا بأخبار الآحاد ، لما جاز له أن يرجع عن ذلك ، فلا يتوهم على شيخنا خلاف ما يعتقده ، وإن وجد له في بعض كتبه كلام ، يدلّ على أنّه يعمل بأخبار الآحاد ، فقد يوجد له في معظم كتبه ، وتصنيفه ، كلام يدل على أنّه غير عامل بأخبار الآحاد ويوجد ذلك في استبصاره كثيرا ، فإنّه يقول : هذا خبر واحد وأخبار الآحاد عندنا غير معمول عليها ، فلو كان عاملا بأخبار الآحاد ، لما ساغ له أن يقول ذلك كذلك ، لأنّه يكون مناقضا في أقواله ، مضادا لأفعاله.

وإذا كان الشي‌ء يباع في مصر من الأمصار ، كيلا أو وزنا ، ويباع في مصر آخر جزافا ، فحكمه حكم المكيل والموزون ، إذا تساوت الأحوال في ذلك ، وإذا اختلفت ، كان الحكم فيه حكم الأغلب والأعم.

الماء لا ربا فيه ، لأنّه ليس بمكيل ولا موزون ، فيدخل تحت الأخبار ،

__________________

(١) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٧٢ ، وفيه : بعضها ببعض.

٢٦٣

والآيات ، وقد بيّنا أنّه لا ربا إلا فيما يكال ويوزن.

يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب ، مثلا بمثل ولا يجوز متفاضلا وبيع خل التمر بخل التمر ، ويجوز بيع خل الزبيب بخل العنب ، مثلا بمثل ، ولا يجوز متفاضلا ، ويجوز بيع خل الزبيب بخل التمر ، متفاضلا ومتماثلا ، ويجوز بيع مدّ من طعام ، بمدّ من طعام ، وإن كان في أحدهما فصل ، بالقاف المفتوحة ، والصاد غير المعجمة المحرّكة ، واللام ، قال الجوهري في كتاب الصحاح : القصل في الطعام مثل الزوان ، قال الشاعر : « قد غربلت وكربلت من الفصل » أبو عمرو كربلت الحنطة إذا هذبتها مثل غربلتها.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : يجوز بيع مدّ من طعام ، بمدّ من طعام ، وإن كان في أحدهما قصل ، وهو عقد التبن ، أو زوان ، وهو حب أصغر منه ، دقيق الطرفين ، أو شيلم ، وهو معروف.

وقد قلنا أنّ الألبان أجناس مختلفة ، فلبن الغنم الأهلي ، جنس واحد ، وإن اختلف أنواعه ، ولبن الغنم الوحشي ، وهي الظباء جنس آخر ، وكذلك لبن البقر الأهلي ، جنس واحد ، وإن اختلفت أنواعه ، ولبن البقر الوحشي ، جنس آخر.

يجوز بيع اللبن بالزبد ، إذا كان من جنسه ، متماثلا ، ولا يجوز متفاضلا ، لا نقدا ولا نسيئة ، على ما قدّمناه.

الجبن ، والأقط ، والسمن ، والمصل ، واللبن ، كل واحد منها ، بالآخر يجوز متماثلا ، ولا يجوز متفاضلا ، إذا كانت من جنس واحد.

يجوز بيع مدّ من تمر ودرهم ، بمدّي تمر ، وبيع مدّ من حنطة ودرهم ، بمدّي حنطة ، ومدّ من شعير ودرهم بمدّي شعير ، وهكذا إذا كان بدل الدرهم ، في هذه المسائل ، ثوبا ، أو خشبة ، أو غير ذلك ممّا فيه الربا ، أو لا ربا فيه ، وهكذا يجوز بيع درهم وثوب ، بدرهمين ، وبيع دينار وثوب ، بدينارين.

وجملته أنّه يجوز بيع ما يجري فيه الربا بجنسه ، ومع أحدهما غيره ، ممّا فيه

٢٦٤

الربا ، أو لا ربا فيه ، إذا كان العين (١) مع أقل العرضين اللذين هما المثمنان (٢).

باب الصّرف وأحكامه

الصرف عبارة في عرف الشرع ، عن بيع الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة ، أو الذهب بالفضة ، أو الفضة بالذهب ، وقد بيّنا في باب الربا ، أنّه لا يجوز بيع درهم بدرهمين ، لا نقدا ولا نسيئة ولا بيع درهم بدرهم نسيئة ، ولا بأس بذلك نقدا وكذلك لا يجوز بيع دينار بدينارين (٣) لا نقدا ولا نسيئة ، ولا بيع دينار بدينار ، نسيئة ، ولا بأس بذلك نقدا ، ولا بأس ببيع دينار بدراهم نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة.

وإذا كان للإنسان على غيره دراهم ، جاز أن يأخذ بها دنانير ، وكذلك إن كان له دنانير ، فيأخذ بها دراهم ، لم يكن به بأس ، فإن كان له دنانير وأخذ الدراهم ، ثم تغيّرت الأسعار ، كان له سعر يوم قبض الدراهم ، من الذي كان له عليه الدنانير ، دون يوم المحاسبة ، على ما قدّمناه ، في الجزء الأوّل من كتابنا هذا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كان لإنسان على صيرفي دراهم ، أو دنانير ، فيقول له : حول الدنانير إلى الدراهم ، أو الدراهم إلى الدنانير ، وساعره على ذلك ، كان ذلك جائزا ، وإن لم يوازنه في الحال ، ولا يناقده ، لأن النقدين جميعا من عنده (٤).

قال محمد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : إن أراد بذلك ، انّهما افترقا قبل التقابض من المجلس ، فلا يصح ذلك ، ولا يجوز بغير خلاف ، لأنّ الصرف لا يصح أن يفترقا من المجلس ، إلا بعد التقابض ، فإن افترقا قبل أن يتقابضا ، بطل البيع والصرف ، وإن أراد أنّهما تقاولا على السعر ، وعينا الدراهم المبتاعة ، أو الدنانير المبيعة ، وتعاقدا البيع ، ولم يوازنه ، ولا ناقده ، بل نطق البائع

__________________

(١) ل : كان الغير.

(٢) ل : المتماثلان.

(٣) الى هنا ينتهى نقص نسخة الأصل.

(٤) النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.

٢٦٥

بمبلغ المبيع ، ثم تقابضا قبل التفرّق والانفصال من المجلس ، كان ذلك جائزا صحيحا ، وإن أراد الأوّل فذلك باطل ، بلا خلاف.

يدلك على ما قلناه ، ما قاله شيخنا رحمه‌الله في مبسوطة ، فإنّه قال : تصح الإقالة في جميع السلم ، وتصح في بعضه ، ولا فرق بينهما ، فإن أقاله في جميع السلم ، فقد برئ المسلم إليه من المسلم فيه ، ولزمه ردّ ما قبضه من رأس المال ، ان كان قائما بعينه ، وإن كان تالفا ، لزمه مثله ، فإن تراضيا يقبض بدله من جنس آخر مثل ان يأخذ دراهم بدل الدنانير ، أو الدنانير بدل الدراهم ، كان جائزا أو يأخذ عرضا آخر ، بدل الدراهم ، أو الدنانير ، كان جائزا ، فإن أخذ الدنانير بدل الدراهم ، أو الدراهم بدل الدنانير ، وجب ان يقبضها في المجلس ، قبل ان يفارقه ، لان ذلك صرف وإن أخذ عرضا آخر ، جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معين بثمن في الذمة ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله في مبسوطة (١).

وقال شيخنا أيضا في نهايته : وإذا أخذ إنسان من غيره دراهم ، فأعطاه الدنانير ، أكثر من قيمة الدراهم ، أو أخذ منه الدنانير ، وأعطاه الدراهم ، مثل ماله ، أو أكثر من ذلك ، وساعره على ثمنه ، كان ذلك جائزا ، وإن لم يوازنه ويناقده في الحال ، لأنّ ذلك في حكم الوزن والنقد ، ولا يجوز ذلك إذا كان ما يعطيه أقل من ماله فإن أعطاه أقل من ماله ، وساعره ، مضى البيع في المقدار الذي أعطاه ، ولم يمض فيما هو أكثر منه ، والأحوط في ذلك أن يوازنه ويناقده في الحال ، أو يجدّد العقد في حال ما ينتقد ويتزن (٢).

وهذا يبيّن لك ، انّ مراده رحمه‌الله ، في المسألة الأولة ، أنّه ما فارقه من المجلس ، إلا بعد أن تقابضا ، كما أنّ هاهنا ، قال : « وساعره على ثمنه كان ذلك جائزا وإن لم يوازنه ويناقده في الحال ، لأنّ ذلك في حكم الوزن والنقد » يريد

__________________

(١) المبسوط : ج ٢ ، كتاب السلم ، أحكام الإقالة ، ص ١٨٧.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف واحكامه.

٢٦٦

أنّ الأخبار بمبلغ الموزون أو المكيل ، يقوم مقام الوزن في الموزون ، والكيل في المكيل ، لأنّهما لا يجوز أن يباعا جزافا ، من دون وزن ، أو اخبار بوزن ، أو كيل ، أو اخبار بكيل.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ألف درهم ودينارا ، بألفي درهم ، من ذلك الجنس ، أو من غيره من الأجناس والدراهم ، وإن كان الدينار لا يساوي ألف درهم في الحال ، وكذلك لا بأس أن يجعل بدل الدينار شيئا من الثياب ، أو جزء من المتاع ، على ما قدّمناه ، ليتخلص من الربا ، ويكون ذلك نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، وكذلك لا بأس أن يبيع ألف درهم صحاحا ، وألفا مكسرة ، وهي الغلّة « لأن مكسرة الدراهم ، تسمّى الغلّة ، مثل مكسرة الدنانير ، تسمّى قراضة » بألفين صحاحا ، أو بألفين غلة نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة.

وقال شيخنا في نهايته : وكذلك لا بأس أن يبيع درهما بدرهم ويشرط معه صياغة خاتم ، أو غير ذلك من الأشياء (١).

ووجه الفتوى بذلك ، على ما قاله رحمه‌الله : إنّ الربا هو الزيادة في العين ، إذا كان الجنس واحدا ، وهاهنا لا زيادة في العين ، ويكون ذلك على جهة الصلح في العمل ، فهذا وجه الاعتذار له ، إذا سلم العمل به ، ويمكن أن يحتج بصحته ، بقوله تعالى « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، والربا المنهي عنه غير موجود هاهنا ، لا حقيقة لغوية ولا حقيقة عرفية شرعية.

وإذا باع الإنسان دراهم بالدنانير ، لم يجز له أن يأخذ بالدنانير دراهم مثلها ، إلا بعد أن يقبض الدنانير ، ثم يشتري بها دراهم إن شاء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (٢).

قال محمّد بن إدريس : إن لم يتفارقا من المجلس ، إلا بعد قبض الدراهم المبتاعة بالدنانير التي على المشتري الأول ، فلا بأس بذلك وإن لم يكن قبضه الدنانير التي هي ثمن الدراهم الأولة المبتاعة ، هذا إذا عيّنا الدراهم الأخيرة

__________________

(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.

٢٦٧

المبتاعة ، فإن لم يعيّناها ، فلا يجوز ذلك ، لأنّه يكون بيع دين بدين ، وإن عيّناها ، لم يصر بيع دين بدين ، بل يصير بيع دين بعين.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ماله على غيره ، من الدراهم والدنانير ، بدراهم معينة ودنانير معينة ، ويقبضها قبل التفرق من المجلس ، من الذي هي عليه ، على ما أسلفنا القول فيه ، وحررناه ، ولا يجوز له أن يبيعها إيّاه بدراهم ، أو دنانير غير معيّنة ، لأنّها إذا كانت غير معيّنة ، فإنها تكون في ذمته ، وإذا كانت في ذمته ، فهي دين عليه ، فيصير بيع دين بدين ، لأنّ الأثمان عندنا تتعيّن ، فإذا كانت معيّنة ، وهلكت قبل القبض ، بطل البيع ، فإذا لم تكن معينة ، وهلكت لم يبطل البيع الذي هي ثمن له لأنّها إذا لم تكن (١) معيّنة ، فإنّه دين في الذمة ، بغير خلاف ، فافترق الأمران ، وتباين القولان.

وقد حكينا عن شيخنا أبي جعفر ، ما قاله في مبسوطة ، قبيل هذا الكلام في هذا الباب وتصح الإقالة في جميع السلم ، وتصح في بعضه ، ولا فرق بينهما ، فإن أقاله في جميع السلم ، فقد برئ المسلم إليه من المسلم فيه ، ولزمه ردّ ما قبضه من رأس المال ، إن كان قائما بعينه ، وإن كان تالفا ، لزمه مثله ، فإن تراضيا بقبض بدله من جنس آخر ، مثل أن يأخذ دراهم ، بدل الدنانير ، أو الدنانير بدل الدراهم ، كان جائزا ، أو يأخذ عرضا آخر ، بدل الدراهم ، أو الدنانير كان جائزا ، فإن أخذ الدنانير بدل الدراهم ، أو الدراهم ، بدل الدنانير ، وجب أن يقبضها في المجلس ، قبل أن يفارقه ، لأنّ ذلك صرف ، وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معين ، بثمن في الذمة (٢).

فدلّ ذلك ، على أن الدراهم أو الدنانير المبتاعة بالثمن الذي في الذمة معيّنة ، بقوله : « وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض » قال : لأنّه بيع عرض

__________________

(١) ج : هي فيه ثمن ، لأنها لم تكن.

(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب السلم ، أحكام الإقالة ، ص ١٨٧.

٢٦٨

معين بثمن في الذمة » فجعل التعيين في المسألتين الأخذ ، لأنّه قال : « وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض » قال : « لأنّه بيع عرض معيّن بثمن في الذمة » وما جرى للتعيين ذكر إلا بقوله أخذ ، فلو لم يكن العرض معيّنا ما علله بقوله : لأنه بيع عرض معيّن ، وكذلك في الدنانير المبيعة بالثمن الذي في الذمة لا بد من تعيينها ، لئلا يكون بيع دين بدين ، على ما حرّرناه ، فليلحظ ذلك ويتأمّل ، ففيه غموض (١) على غير المحصّل لهذا الشأن.

وإذا اشترك نفسان في شراء دراهم بدنانير ، ونقد أحدهما الدنانير عن نفسه ، وعن صاحبه ، وجعل نقده عنه دينا عليه بأمره له وقوله : ثم أراد أن يشتري منه حصته بالدنانير التي له عليه من ثمنها ، أو أقل منها ، أو أكثر ، لم يكن به بأس ، إذا كانت الدراهم المبتاعة في يد المشتري ، وإن كانت في يد البائع ، فلا بدّ من أن يتقابضا بها قبل التفرق من المجلس ، فإن افترقا قبل أن يقبضها المشتري الذي هو صاحب الدين ، مع البائع الذي هو شريكه ، بطل البيع ، لأنّه صرف.

ولا يجوز إنفاق الدنانير والدراهم المحمول عليها ، إلا بعد أن يبيّن حالها ، إلا ان تكون معلومة الحال ، شايعة متعاملا بها ، غير مجهولة في بلدها ، وعند بائعها ، ومشتريها ، فيقوم ذلك مقام تبين حالها.

وشيخنا أبو جعفر ، قال في نهايته : ولا يجوز إنفاق الدراهم المحمول عليها ، إلا بعد أن يبيّن حالها ، وأطلق ذلك ، وحرّر ذلك على ما حرّرناه ، وشرحناه ، في الجزء الثالث من استبصاره (٢) ، وبه أورد الأخبار المتواترة الكثيرة ، ثم أورد الخبر الذي ذكره في نهايته ، فتأوله ، والخبر عن الفضل بن عمر الجعفي ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فالقي بين يديه دراهم ، فألقى إليّ درهما

__________________

(١) ج : عموم. والظاهر ان هذه النسخة « غموم ».

(٢) الاستبصار : كتاب البيوع ، باب إنفاق الدراهم المحمول عليها ، والخبر الخامس منه هو خبر مفضل وفي الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ١٠ من أبواب الصرف.

٢٦٩

منها ، فقال : أيش هذا؟ فقلت : ستوق ، فقال : وما الستوق؟ قلت : ثلاث طبقات طبقة فضة ، وطبقة نحاس (١) ، وطبقة فضة فقال : اكسرها (٢) فإنّه لا يحل بيع هذا ، ولا إنفاقه.

قال شيخنا أبو جعفر : فالوجه في الجمع بين هذه الأخبار ، وكان قد أورد قبل هذا الخبر أخبارا كثيرة بأنّه لا بأس بإنفاقها ، إذا كان الغالب عليها الفضة (٣) ، وبعضها ، قال : سألته عن الدراهم المحمول عليها ، فقال : لا بأس بإنفاقها (٤) وفي بعضها قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن إنفاق الدراهم المحمول عليها ، فقال : إذا جازت الفضة الثلثين ، فلا بأس (٥) ، قال رحمه‌الله : فالوجه في الجمع بين هذه الأخبار ـ أنّ الدراهم إذا كانت معروفة متداولة بين الناس ، فلا بأس بإنفاقها ، على ما جرت به عادة البلد ، فإذا كانت دراهم مجهولة ، فلا يجوز إنفاقها إلا بعد أن يبين عيارها ، حتى يعلم الآخذ لها قيمتها.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وهذا التأويل والمذهب الذي حرّره في استبصاره ، هو الذي يقوى في نفسي ، لأنّه الحقّ اليقين ، وبه تشهد العادات والحالات ، فإنّه إذا كان المعنى معلوما بشاهد حال ، جرى مجرى المنطوق به.

قال محمّد بن إدريس : أمّا استفهام الإمام عليه‌السلام ما السّتوق ، فإنّها كلمة فارسيّة غير عربية ، وهي مفتوحة السين ، غير المعجمة ، مشدّدة التاء المنقّطة من فوقها ، بنقطتين ، المضمومة ، والواو ، والقاف ، ومعناها ثلاث طبقات ، لأنّ « سه » بالفارسيّة ثلاثة ، وتوق ، طبقات وهو الزائف الردي البهرج ، قال الصولي في كتاب الأوراق : اعترض مخلد الشاعر الموصلي ، الخليفة المعتمد بالله ، لمّا دخل الموصل ، بمدح وحلّفه أن يسمعه ، فأحضره ، وسمع مدحه ، ثم قال له :

__________________

(١) ق : طبقتين فضة وطبقة نحاس.

(٢) ل. ق : اكسر هذا.

(٣) هو خبر عمر بن يزيد ، وهو ثالث أخبار الباب المذكور.

(٤) هو رواية محمّد بن مسلم ، وهو أوّل خبر من الباب.

(٥) هو خبر آخر عن عمر بن يزيد وهو الرواية الثانية من الباب.

٢٧٠

أنشدني هجاك لأهل الموصل ، فأنشده :

هم قعدوا فانتقوا لهم حسبا

يجوز بعد العشاء في العجب

حتى إذا ما الصّباح لاح لهم

بيّن ستوقهم من الذهب

والنّاس قد أصبحوا صيارفة

اعلم شي‌ء ببهرج النسب

ولا يجوز بيع الفضة إذا كان فيها شي‌ء من المس أو الرصاص أو الذهب ، أو غير ذلك إلا بالدنانير ، إذا كان الغالب الفضة ، فإن كان الغالب الذهب ، والفضة الأقل ، فلا يجوز بيعه إلا بالفضة ، ولا يجوز بيعه بالذهب ، لأنّه لا يؤمن فيه الربا ، لأنّه ما يتحصل مقدار ما في ذلك ، فيصير مجهول المقدار ، وليس كذلك إذا باع فضة معلومة ، معها جنس آخر بفضة أكثر منها ، لأن تلك معلومة ، فتكون الفضة بالمثل مثلا بمثل ، والزائد ثمن الجنس الآخر ، وما منعنا من ذلك ، إلا إذا لم يحصل العلم بمقدار كل واحد منهما على التحقيق ، فإن تحقق ذلك ، جاز بيع كل واحد منهما بجنسه ، مثلا بمثل ، من غير تفاضل.

وكذلك حكم الأواني المصوغة من الذهب والفضة ، والسيوف المحلاة بالذهب والفضة إن كان ممّا يمكن تخليص كل واحد منهما من صاحبه ، فلا يجوز (١) بيعها بالذهب والفضة ، فإن لم يمكن ذلك فيها ، فان كان الغالب فيها الذهب ، لم تبع إلا بالفضة ، وإن كان الغالب فيها الفضة ، لم تبع إلا بالذهب ، لما قلناه من الجهل بما فيها ، وخوف الربا ، فان تساوى النقدان ، وعلما ، بيع بالذهب والفضة معا.

والسيوف المحلاة والمراكب المحلاة

بالذهب والفضة ، فإن كانت محلاة

بالفضة ، وعلم مقدار ما فيها ، جاز بيعها بالذهب والفضة نقدا ، ولا يجوز نسيئة. فإن بيع بالفضة ، فيكون ثمن السيف أكثر مما فيه من الفضة ، جاز ، وإن كان أقل ممّا فيه أو مثل ما فيه لم يجز (٢) بيع ذلك ، إلا أن يستوهب السيف والسير ، أو يشتريهما ،

__________________

(١) ج : فإنّه يجوز.

(٢) أقلّ ممّا فيه لم يجز.

٢٧١

أعني السيف والسير نسيئة في ذمته ، ويعجل الفضة أو الذهب الذي هو مثل الخلية ، قبل مفارقه المجلس ، هذا إذا كان مثل ما فيه ، فأمّا إذا كان أقلّ ممّا فيه من الفضة ، فلا يجوز على حال ، لأنّ ذلك ربا محض ، وكذلك الحكم فيها إذا كانت محلاة بالذهب ، وعلم مقدار ما فيها ، بيع بمثلها وأكثر منها بالذهب ، ولا يجوز بيعها بأقل مما فيها من الذهب ، ويجوز بيعها بالفضة ، سواء كان أقل ممّا فيها من الذهب ، أو أكثر ، إذا كان نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة على حال.

ومتى لم يعلم مقدار ما فيها ، وكانت محلاة بالفضة ، فلا تباع إلا بالذهب ، وإن كانت محلاة بالذهب ، لم تبع إلا بالفضة ، أو بجنس آخر سوى الجنسين من السلع والمتاع.

ومتى كانت محلاة بالفضة ، وأرادوا بيعها بالفضة ، وليس لهم طريق إلى معرفة مقدار ما فيها ، فيجعل معها شي‌ء آخر ، وبيع حينئذ بالفضة ، إذا كان أكثر مما فيه تقريبا ، ولم يكن به بأس ، وكذلك الحكم فيما كان من الذهب ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (١).

ولي في ذلك نظر.

ولا بأس ببيع السيوف المحلاة بالفضة (٢) ، نسيئة إذا نقد مثل ما فيها من الفضة ويكون ما يبقى ، ثمن السير والنصل ، على ما قدّمناه.

ولا يصح أن يشتري الإنسان سلعة بدينار غير درهم ، ولا بدراهم غير دينار ، لأنّ ذلك مجهول.

قال محمّد بن إدريس : قولنا « لا يصح » نريد به العقد لا يصح ، وقولنا (٣) « لأنّه مجهول » المراد به الثمن مجهول ، وإذا كان الثمن مجهولا ، فالعقد والبيع لا يصح ، وهو غير صحيح ، ووجه كون الثمن في هذه الصورة مجهولا ، لأنّه لا يدرى كم حصة الدرهم من الدنانير ، ولا حصّة الدنانير من الدراهم ، إلا بالتقويم ،

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.

(٢) ج : المحلاة بالفضة بالفضة.

(٣) ج : قوله لا يصح يريد به العقد لا يصح وقوله.

٢٧٢

والرجوع إلى أهل الخبرة ، وذلك غير معلوم وقت العقد ، فهو مجهول.

فإن استثنى من جنسه ، فباع بمائة دينار إلا دينارا ، أو بمائة درهم ، إلا درهما ، صحّ البيع ، لأنّ الثمن معلوم ، وهو ما بقي بعد الاستثناء.

إذا اشترى خاتما من فضة مع فضة بفضة ، جاز إذا كان الثمن أكثر ممّا فيه من الفضة ، هذا إذا كانت فضة الخاتم معلومة المقدار.

ومن أقرض غيره دراهم ، ثمّ سقطت تلك الدراهم التي أقرضها إيّاه ، وجاءت غيرها ، لم يكن عليه إلا الدراهم التي أقرضها ، أو سعرها بقيمة الوقت الذي أقرضها فيه.

ولا بأس أن يعطي الإنسان غيره دراهم أو دنانير ، ويشترط عليه أن ينقدها إيّاه ، بأرض أخرى مثلها ، في العدد أو الوزن ، من غير تفاضل فيه ، ويكون ذلك جائزا لأن ذلك (١) يكون على جهة القراض لا على جهة البيع ، بل هو محض القرض ، وهذا القرض ما جر نفعا حتى يكون حراما ، لأنّ المحرّم من القرض ، هو أن يشترط زيادة في العين أو الصفة ، وهاهنا لا زيادة في العين والمقدار ، ولا زيادة في الصفة ، ولأنّ البيع في المثلين ، لا يجوز إلا مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة وجوهر الفضة لا يجوز بيعه ، إلا بالذهب ، أو بجنس غير الفضة ، لأنّه لا يؤمن فيه الربا ، ولأنّ ما فيه من الفضة غير معلوم ، ولا محقق.

وجوهر الذهب ، لا يجوز بيعه إلا بالفضة ، أو بجنس غير الذهب ، وجوهر الذهب والفضة معا يجوز بيعه بالذهب والفضة معا (٢).

ولا يجوز بيع تراب الصاغة ، فإن بيع ، كان ثمنه للفقراء والمساكين ، يتصدّق به عليهم ، لأنّ ذلك لأربابه الذين لا يتميزون ، فإن تميزوا ، ردّ عليهم أموالهم ، واصطلحوا فيما بينهم ، على ما رواه أصحابنا ووجد في رواياتهم (٣).

__________________

(١) ج : ل : الا ان.

(٢) ج : يجوز بيعه بالفضة والذهب.

(٣) الوسائل ، كتاب التجارة ، الباب ١٦ من أبواب الصرف.

٢٧٣

وجوهر الأسرب « مضموم الأوّل ، مسكّن السّين ، مضموم الراء ، مشدّد الباء وهو الرّصاص » وكذلك جوهر النحاس ، والصّفر « مضموم الصاد » لا بأس بالاسلاف فيه ، دراهم ودنانير ، إذا كان الغالب عليه ذلك ، وإن كان فيه فضة يسيرة ، أو ذهب قليل.

الدراهم والدنانير يتعيّنان بالعقد ، فإذا اشترى سلعة بدراهم أو دنانير بعينها ، لم يجز له أن يسلّم غيرها ، إذا ثبت أنّهما يتعيّنان.

متى باع دراهم بدنانير ، أو دنانير بدراهم ، ثم خرج أحدهما زائفا ، بأن يكون الدراهم رصاصا ، أو الدنانير نحاسا ، كان البيع باطلا ، لأنّ العقد وقع على شي‌ء بعينه ، فإذا لم يصح ، بطل ، وثبوته وانتقاله إلى غيره ، يحتاج إلى دليل ، فإن وجد بالدراهم عيبا من جنسه ، مثل أن يكون فضة خشنة ، أو ذهبا خشنا ، أو يكون سكة مضطربة ، مخالفة لسكة السلطان ، فهو بالخيار ، بين أن يردّه ، ويسترجع ثمنه ، وليس له بدله ، فإن كان العيب في الجميع ، كان بالخيار ، بين أن يرد الجميع ، وبين الرضا به ، فإن كان العيب في البعض ، كان له ردّ الجميع ، لوجود العيب في الصفقة ، وليس له أن يردّ البعض المعيب ، ويمسك الباقي.

وإذا باع دراهم بدراهم أو دنانير بدنانير بأعيانها ، فوجد ببعضها عيبا من جنسها ، كان ذلك عيبا ، له ردّه وفسخ العقد ، وله الرضا به ، وان كان العيب من غير جنسه ، كان البيع باطلا.

باب الشرط في العقود

لا يجوز أن يبيع الإنسان إلا ما يملكه في الحال ، ويتعيّن عليه ملكه ، فإن باع مالا يملكه ، ولا يملك بيعه ، كان البيع باطلا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لا يجوز أن يبيع الإنسان إلا ما يملكه في الحال ، فإن باع مالا يملكه ، كان البيع موقوفا على صاحبه ، فإن أمضاه ، مضى

٢٧٤

وإن لم يمض ، كان باطلا (١).

إلا أنّه رحمه‌الله رجع عن هذا في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا باع إنسان ملك غيره بغير إذنه ، كان البيع باطلا ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ينعقد البيع ويقف على إجازة صاحبه ، وبه قال قوم من أصحابنا ، قال رحمه‌الله : دليلنا إجماع الفرقة ومن خالف منهم لا يعتد بقوله ، وأنّه لا خلاف أنّه ممنوع من التصرّف في ملك غيره ، والبيع تصرّف ، وأيضا روى حكيم عن النبي عليه‌السلام ، أنّه نهى عن بيع ما ليس عنده (٢) ، وهذا نص ، وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبي عليه‌السلام ، أنّه قال : لا طلاق إلا فيما يملك ، ولا عتق إلا فيما يملك ، ولا بيع إلا فيما يملك (٣) ، فنفى عليه‌السلام البيع من غير الملك ، ولم يفرّق ، هذا أخر كلام شيخنا (٤).

فانظر يرحمك الله ، إلى قوله رحمه‌الله : « دليلنا إجماع الفرقة ، ومن خالف منهم لا يعتد بقوله » فلو كان ما ذكره في نهايته جميعه حق وصواب كيف كان يقول لا يعتد بقوله ، وهو القائل به في نهايته ، وانّما يورد أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، فيتوهم المتوهم ، ويظن الظان ، أنّ ذلك اعتقاده وفتواه ، وأنّه يعمل بأخبار الآحاد ، ولو كان ما ذكره في نهايته حقا وصوابا ، وعليه أدلة ، ما رجع عنه ، ولا استدل على خلافه.

وإذا باع ما يملك وما لا يملك ، في صفقة واحدة ، وعقد واحد ، مضى البيع فيما يملك ، وكان فيما لا يملك باطلا ، حسب ما قدّمناه ، واخترناه ، وكذلك إذا باع ما يجوز بيعه ، من جملة ما يملك وما لا يجوز بيعه من المحرّمات ، مضى البيع فيما يصح بيعه ، وبطل فيما لا يصح البيع فيه.

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

(٢) و (٣) مستدرك الوسائل : الباب ١ من أبواب عقد البيع وشرطه ، الحديث ٣ ـ ٤ باختلاف يسير.

(٤) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٢٧٥.

٢٧٥

مثال الأول ، باع ملكه وملك غيره بثمن واحد ، في عقد واحد ، ومثال الثاني ، باع شاة مملوكة له ، وخنزيرا ، وهو مسلم ، في عقد واحد بثمن واحد ، فإن البيع في المملوك صحيح ، والبيع في غير المملوك ، وفي غير المحلل للمسلم تملكه باطل.

فإذا تقرر هذا ، فالمشتري بالخيار بين أن يردّ الصفقة جميعها ، أو يمسك ما يصح فيه البيع ، بما يخصّه من الثمن الذي يتقسط عليه ، مثاله باع شاة وخنزيرا بثلاثة دنانير ، فإنّ الثمن يتقسط على قدر قيمة الشاة ، وقيمة الخنزير عند مستحليه ، فيقال : كم قيمة الشاة؟ فيقال : قيراطان ، ويقال : كم قيمة الخنزير؟ فيقال : قيراط ، فيرجع بثلث الثمن ، وهو دينار ، وبالعكس من ذلك ، أن يقال : قيمة الشاة قيراط ، وقيمة الخنزير عند مستحليه قيراطان ، فيرجع المشتري بثلثي الثمن ، وهو ديناران.

وكذلك في ملكه وملك الغير ، إذا باعهما معا في عقد واحد ، بثمن واحد ، فبحساب ما صوّرناه ، لا يختلف الحكم في ذلك ، فالاعتبار بالقيم ، ويرجع في الأثمان بحسب القيمتين.

وقال شيخنا في نهايته : وإذا باع فلا ينعقد البيع ، إلا بعد أن يفترق البيعان ، بالأبدان ، فإن لم يفترقا ، كان لكلّ واحد منهما فسخ البيع ، والخيار (١).

قال محمّد بن إدريس : هذه عبارة موهمة غير واضحة ، كيف يقال : فإذا باع فلا ينعقد البيع ، وهذا كالمتناقض ، فإنّه إذا باع انعقد البيع ، وإن كان ما باع فما انعقد البيع ، وإنما مراد شيخنا في هذا الموضع ، أنّ البيع ، إذا لم يفترقا بالأبدان ، لم يلزم كل واحد منهما ، بل لكلّ واحد منهما الخيار في فسخه وإمضائه ، فإذا بالأبدان ، لزم واستقرّ من كل واحد منهما ، وليس لكل واحد منهما الخيار ، إلا أن يظهر عيب في المبيع ، قبل عقدة البيع ، فيكون المشتري بالخيار ، بين الرد

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

٢٧٦

والإمساك ، فإذا ردّ يرجع بجميع الثمن ، وإذا اختار الإمساك ، رجع بأرش العيب ، « بفتح ألف الأرش » على البائع ، لا يجبر المشتري على أحد الأمرين ، هذا ما لم يتصرّف فيه تصرفا يؤذن بالرضا ، في العادة ، أو ينقص قيمته بتصرّفه.

ومتى شرط المبتاع على البائع ، مدّة من الزمان ، كان ذلك جائزا ، كائنا ما كان ، على ما قدّمناه فيما مضى ، فإن هلك المتاع في تلك المدّة ، من غير تفريط من المبتاع ، ولا تصرفه فيه ، التصرّف المذكور ، كان من مال البائع ، فإن هلك بعد انقضاء المدة ، كان من مال المبتاع ، دون البائع ، على كل حال ، سواء تصرف فيه ، أو لم يتصرف ، لأنّ بعد المدة ، ما بقي له خيار.

فكل من كان له الخيار ، فالمتاع يهلك من مال من ليس له خيار ، لأنّه قد استقرّ العقد عليه ، ولزم ، والذي له الخيار ، ما استقر عليه العقد ، ولا لزمه ، فإن كان الخيار للبائع ، دون المشتري ، وكان المتاع قد قبضه المشتري ، وهلك في يديه ، كان هلاكه من مال المشتري ، دون البائع ، لأنّ العقد استقرّ عليه ، ولزم من جهته.

وإذا باع الإنسان شيئا ، ولم يقبض المتاع ، ولا قبض الثمن ، ومضى المشتري ، ولم يشترطا خيارا لهما ، ولا لأحدهما ، ولا ضربا للثمن أجلا ، ولا قبض أحدهما شيئا من المعوضين ، لا الثمن ولا المثمن ، ففي هذه الصورة يكون العقد موقوفا ، عند أصحابنا إلى ثلاثة أيّام ، فإن جاء المبتاع في مدة الثلاثة الأيّام ، كان البيع له ، وإن مضى ثلاثة أيّام ، كان البائع أولى بالمتاع ، إن شاء فسخ البيع ، وإن شاء لم يفسخه ، وطالب المشتري بالثمن ، لا يجبر على أحد الأمرين ، بل الخيرة له في ذلك.

فإن هلك المتاع في مدة هذه الثلاثة الأيام ، ولم يكن قبّضه إيّاه ، ولا قبض ثمنه ، ولا مكّنه من قبضه ، على ما حرّرناه ، فقد اختلف قول أصحابنا في ذلك ، فذهب شيخنا المفيد ، والسيّد المرتضى ، وغيرهما ، إلى أنّ هلاكه من مال المشتري ، وذهب شيخنا أبو جعفر ، وجماعة من أصحابنا ، إلى أن هلاكه من مال

٢٧٧

البائع ، دون مال المبتاع ، وإن هلك بعد الثلاثة الأيام ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع على كل حال عند الجميع ، وعلى الأقوال كلها بغير خلاف.

والذي يقوى في نفسي ، ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد في غير هذه الصورة ، أنّ المبيع إذا هلك قبل أن يقبضه بايعه ، للمشتري ، أو قبل تمكين البائع للمشتري (١) من قبضه فإنّه يهلك من مال بايعه وهذا من ذاك وأيضا فلا خلاف انّ بعد الثلاثة الأيام يهلك من مال بايعه ، والخيرة له ، ولا خيرة للمشتري ، بل العقد لزمه ، واستقر عليه ، ولا خيار له ، وانما هلك من ماله ، لأنّه ما مكن المشتري من قبضه ، ولا قبّضه إيّاه ، وفي قبل انقضاء المدّة التي هي الثلاثة الأيّام ، هذا حكمه ، والدليل قائم فيه ، ثابت ، لأنّ القبض ما حصل ، ولا التمكين (٢) من القبض حصل.

وأيضا الأصل براءة ذمة المشتري ، فمن علّق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّا قد قلنا أنّ أصحابنا مختلفون في المسألة ، فما بقي من الأدلة ، إلا دليل الأصل ، وهو براءة الذمة ، فمن علّق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل.

واحتج شيخنا المفيد ، لمقالته في مقنعته ، بأن قال : ولو هلك المبيع في مدّة هذه الثلاثة الأيّام ، كان من مال المبتاع ، دون البائع ، لثبوت العقد بينهما عن تراض ، وإن هلك بعد الثلاثة الأيام ، كان من مال البائع ، لأنّه أحق به ، وأملك ، على ما بيّناه ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه‌الله (٣).

فعلل رحمه‌الله ، واستدل ، بأن قال « كان من مال المبتاع ، دون البائع ، لثبوت العقد بينهما » وهذا التعليل والاستدلال يلزمه بعد الثلاثة الأيام ، لأنّ العقد ثابت بينهما بغير خلاف ، إذا لم يختر فسخه البائع ، وعنده رحمه‌الله ، أنّه إذا

__________________

(١) المشتري ، أو يمكن البائع المشتري.

(٢) ج : ولا التمكّن.

(٣) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب عقود البيع ص ٥٩٢.

٢٧٨

هلك بعد الثلاثة الأيام ، فإنّه من مال بايعه ، وإن لم يفسخ البيع ، والثبوت الذي استدل به قبل مضي الثلاثة الأيام ، قائم بعد الثلاثة الأيام ، بغير خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وإذا اشترى إنسان عقارا ، أو أرضا ، وشرط البائع ، أن يرد على المبتاع ، بالثمن الذي ابتاعه به في وقت بعينه ، كان البيع صحيحا ، ولزمه ردّه عليه في ذلك الوقت ، وإن مضى الوقت ، ولم يجئ البائع ، كان بالخيار فيما بعد ، بين ردّه وإمساكه ، فإن هلك المبيع في مدة الأجل المضروبة ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع ، وكذلك إن استغل منه شيئا كان له ، وكان له أيضا الانتفاع به ، على كل حال (١).

قال محمّد بن إدريس : المقصود من هذه المسألة ، وحقيقة القول فيها ، أنّ البائع جعل عند عقدة البيع ، لنفسه الخيار ، دون المشتري ، في أجل محروس ، من الزيادة والنقصان ، بأن يردّ عليه الثمن ، مكملا في ذلك الوقت ، فلو حضر الوقت ، ولم يحضر الثمن ، واختار الفسخ ، لم يكن له ذلك ، وكذلك إن أحضر بعض الثمن ، واختار الفسخ ، لم يكن له ذلك ، لأنّه شرط في خياره أن يحضر الثمن ، ويرده في ذلك الوقت ، فإما إن باع العقار ، وجعل لنفسه خيار مدّة من الزمان ، وفسخ العقد في جميع المدة المضروبة ، انفسخ ، وإن لم يحضر الثمن ، ولا شيئا منه ، ولا سلّمه إلى المشتري ، لأنّ هذه المسألة ، غير تلك ، لأنّ تلك ، اشتراط أن يجي‌ء بالثمن ، في المدّة المضروبة ، وما جاء بالثمن ، فلم يحصل له شرطه وهذه المسألة ، جعل لنفسه الخيار بين الفسخ والإمضاء ، في هذه المدّة ، من غير إحضار الثمن ، فافترقتا.

والشرط في الحيوان كله ، الدواب ، والحمير والبغال ، وغيرها ، والأناسي من العبيد ، أيضا ثلاثة أيّام ، شرط ذلك في حال العقد ، أو لم يشرط ، يثبت

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

٢٧٩

بمجرّد العقد ، للمشتري خاصة ، على الصحيح من المذهب ، الخياران معا ، خيار المجلس وخيار الثلاث ، بمجرّد العقد وإطلاقه.

فإن اشترط المشتري أكثر من ذلك ، كان على ما شرط ، وإن اشترط البائع ، أن لا خيار بينهما ، في المجلس ، ولا مدة الثلاث ، كان أيضا جائزا.

وإن اشترط البائع أيضا لنفسه ، خيار مدة معلومة ، كان أيضا جائزا ، وثبت بحسب الشرط.

وقولنا : « ثبت الخيار للمشتري ، ثلاثة أيّام في الحيوان ، شرط ذلك أو لم يشرط » نريد به شرط المشتري ذلك ، أو لم يشرطه ، ولا يظن ظان ، أنّ المراد به شرط البائع ، أن لا يثبت بينهما خيار ، أو لم يشرط ، لأنّه إذا شرط البائع أن لا يثبت بينهما خيار في هذه المدة ، كان على ما شرط ، ويكون خيار مدة الثلاث ، مع ارتفاع الشروط ، وإطلاق العقد ، وتجرده ، للمشتري خاصة ، على ما أسلفنا القول فيه.

وقد قلنا فيما مضى أنّ السيد المرتضى رحمه‌الله ، جعل للاثنين معا الخيار ، مدّة هذه الثلاثة الأيام.

والأظهر من المذهب ، الأول ، وقد استدللنا فيما مضى ، على صحة ذلك ، بما لا فائدة في إعادته.

هذا ما لم يحدث المبتاع في هذه المدة ، حدثا يدل على الرضا ، أو يتصرف فيه تصرّفا ينقص قيمته ، أو يكون لمثل ذلك التصرّف ، اجرة تستحق في العرف والعادة ، بأن يركب الدابة ، أو يستعمل الحمار ، أو يقبّل الجارية ، أو يلامسها ، أو يعتقها ، أو يدبّرها تدبيرا ليس له الرجوع فيه ، وهو المنذور ، أو يكاتبها ، أو غير ذلك من أنواع التصرف ، فإنّه يلزمه البيع ، ويستقر عليه ، وإن كان قبل مضى الثلاثة الأيّام ، ولم يكن له بعد ذلك التصرّف والاحداث ردّ على صاحبه على حال ، وإن لم يحدث فيه حدثا إلى أن يمضي ثلاثة أيّام ، لم يكن له بعد مضيها خيار ، إلا أن يجد فيه عيبا ، قبل عقدة البيع ، فإن هلك الحيوان في مدّة

٢٨٠