كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

وقد قلنا ما عندنا ، في السباع وجلودها ، وهو أنّه يجوز بيعها ، لأخذ جلدها ، لأنّ جلود السباع ، لا خلاف أنها مع الذكاة الشرعية ، يجوز بيعها ، وهي طاهرة ، وبمجرد الذكاة ، يجوز بيع الجلود ، بلا خلاف ، وبانضمام الدباغ ، يصح التصرف فيها ، في جميع الأشياء : من لبس ، وفرش ، ودثار ، وخزن المائعات ، لأنّها طاهرة ، إلا الصلاة ، فإنّها لا تجوز فيها ، فحسب ، ما عدا الصلاة ، فلا بأس بالتصرّف فيها وقال شيخنا في مبسوطة : وما لا يؤكل لحمه ، مثل الفهد ، والنمر ، والفيل ، وجوارح الطير ، مثل البزاة ، والصقور ، والشواهين ، والعقبان ، والأرنب ، والثعلب ، وما أشبه ذلك ، وقد ذكرناه في النهاية ، فهذا كله ، يجوز بيعه ، وإن كان مما لا ينتفع به ، فلا يجوز بيعه ، بلا خلاف ، مثل الأسد ، والذئب ، وسائر الحشرات ، من الحيات ، والعقارب ، والفأر ، والخنافس ، والجعلان ، والحدأة ، والنسر ، والرحمة ، وبغاث الطير ، وكذلك الغربان ، سواء كان أبقع ، أو أسود. ثم قال رحمه‌الله : وأمّا غير الحيوان ، فعلى ضربين ، أحدهما نجس ، والآخر طاهر. فالنجس على ضربين ، نجس العين ، ونجس بالمجاورة. فأمّا نجس العين ، فلا يجوز بيعه ، كجلود الميتة قبل الدباغ ، وبعده ، والخمر ، والدم ، والبول ، والعذرة ، وسرجين ما لا يؤكل لحمه ، ولبن ما لا يؤكل لحمه ، من البهائم هذا أخر ما ذكره شيخنا في مبسوطة (١).

قال محمد بن إدريس : والذي ذكره رحمه‌الله في مبسوطة ، رجوع منه عمّا ذكره في نهايته ، لأنّ في النهاية ، حرّم بيع جميع السباع ، إلا الفهود ، والصحيح ما ذكره في مبسوطة ، إلا ما استثناه ، من الأسد والذئب ، لأنّه جعل ذلك ، في قسم ما لا ينتفع به ، وقد قلنا أنّه لا خلاف في الانتفاع بجلد ذلك ، بعد الذكاة في البيع ، وبانضمام الدباغ في التصرف فيه ، بأنواع التصرفات ، إلا الصلاة ،

__________________

(١) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في حكم ما يصح بيعه وما لا يصح ، ص ١٦٧.

٢٢١

فلا فرق بين الذئب والأسد ، وبين الأرنب والثعلب.

فأمّا قوله : وبغاث الطير لا يجوز بيعه ، المراد بذلك هاهنا ، الطير المحرم اللحم ، الذي لا تحلّه الذكاة ، غير الجارح الذي يصلح للصيد ، لأن البغاث من الطير ، هو الذي لا يصطاد عند العرب ، سواء كان مأكول اللحم ، أو غير مأكول اللحم ، قال الشاعر :

بغاث الطير أكثرها فراخا

وأم الصقر مقلات نزور

المقالات هي التي لا يعيش لها ولد ، ونزور من النزر ، وهو القليل.

ولا بأس بشراء الهر ، وبيعه ، وأكل ثمنه.

وبيع الجري ، والمار ما هي ، والطافي ، وكل سمك لا يحل أكله ، مثل الجرّيث ، وهو الجري ( والجيم من الاسمين ، مكسورة ، وكذلك الراء مكسورة أيضا ، مشددة ) وكذلك الضفادع ، والسلاحف ، وجميع ما لا يحل أكله ، حرام بيعه ، إلا ما استثناه أصحابنا من بيع الدهن النجس ، لمن يستصبح به تحت السماء ، بهذا الشرط ، فإنّه يصح بيعه ، بهذا التقييد ، لإجماعهم على ذلك.

ومعونة الظالمين ، وأخذ الأجرة على ذلك ، محرم محظور ، فأما أخذ الأجرة منهم ، على غير معونة الظلم ، فلا بأس بذلك ، مثل رعي غنمهم ، وحفاظ أملاكهم ، وغسل ثيابهم ، وغير ذلك ، وإنما المحرم أخذ أجرة المعونة على الظلم.

ومعالجة الزينة للرجال ، بما حرمه الله تعالى عليهم ، حرام.

وكسب المغنيات ، وتعلم الغناء (١) ، حرام.

وكسب النوائح بالأباطيل حرام ، على ما قلناه ، ولا بأس بذلك على أهل الدين ، بالحق من الكلام.

وأمّا المباح على كلّ حال ، فهو كلّ مباح من المأكل ، والمشارب ، وكل ما لم يكن من جملة ما ذكرنا كونه محظورا ، ولا من جملة ما يكون مكروها على ما نذكره.

__________________

(١) ج : تعلّم الغناء وتعليمه.

٢٢٢

ومن المباح ، إذا أعطى الإنسان غيره شيئا ليضعه في الفقراء ، وكان هو محتاجا إلى شي‌ء من ذلك ، جاز له أن يأخذ منه ، إذا كان مستحقا ، ومن أهله ، مثل ما يعطي غيره ، ولا يفضل نفسه على أحد ، إلا أن يفصّله صاحب المال ، فإن عيّن له على أقوام بأعيانهم ، لم يجز له أن يتعدّى ما أمره به ، ولا يجوز له أخذ شي‌ء منه عند ذلك.

وكسب القابلة حلال ، وكسب الحجام حلال طلق ، إذا لم يشترط.

فأمّا المكروه ، فجميع ما كره ، من المآكل ، والمشارب ، وكسب الحجام ، إذا شارط ، والرزق على القضاء وتنفيذ الأحكام ، من قبل الإمام العادل ، والأجر على تعليم القرآن ، ونسخ المصاحف ، مع الشرط في ذلك ، ومع ارتفاعه فهو حلال طلق ، وهذا مذهب جميع أصحابنا ، وعليه إجماعهم منعقد ، ومذهب شيخنا أبي جعفر ، في نهايته (١) وفي جميع كتبه ، إلا في استبصاره (٢) ، فإنّه ذهب إلى حظره مع الشرط ، وإلى كراهته مع ارتفاع الشرط ، معتمدا على خبر (٣) روته رجال الزيدية ، فأراد أن يجمع بينه ، وبين ما رواه أصحابنا من الأخبار الواردة بالكراهة مع الشرط (٤) وليس في أخبارنا التي أوردها رحمه‌الله في استبصاره ، ما يدلّ على الحظر والتحريم ، ولا يلتفت إلى خبر شاذ ، يرويه رجال الزيدية ، وأيضا أخبار الآحاد ، وإن كانت رجالها عدولا ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، بل المرجع في ذلك إلى الأدلة القاطعة للأعذار ، ولا خلاف بيننا في أنّ تعليم القرآن يجعل مهورا للنساء ، ويستباح به الفروج ، فكيف يصح أن يجعل الأجرة المحرمة مهرا ، وما قاله شيخنا في هذا الكتاب المشار إليه ، أعني الاستبصار ، فعلى طريق التأويل ، والوساطة ، والجمع ، دون الاعتقاد لكونه محرما محظورا ، لأنّ ما يقال

__________________

(١) النهاية : باب المكاسب المحظورة.

(٢) الإستبصار : ج ٣ ، باب الأجر على تعليم القرآن ، ص ٦٥ ـ ٦٦.

(٣) الوسائل : الباب ٩ ـ ٢٩ ـ ٣٠ من أبواب ما يكتسب به.

(٤) الوسائل : الباب ٩ ـ ٢٩ ـ ٣٠ من أبواب ما يكتسب به.

٢٢٣

على طريق التأويل والمناظرة ، لا يكون مذهبا لقائله ، لأنّ المقصود فيه غير ذلك ، من دفع الخصم وتأويل الكلام ، وهذا يجري للسيد المرتضى في مناظرته الخصوم كثيرا ، وإن كان فتواه وعمله واعتقاده غير ذلك في المسألة ، فلا يظن ظان ، ولا يتوهم متوهم على شيخنا أبي جعفر رحمه‌الله ، أنه يعتقد حظر ذلك.

وأجر المغنيات في الأعراس ، إذا لم يغنين بالأباطيل ، على ما روي (١).

والأظهر أنّ الغناء محرم ممن كان.

والصرف وبيع الطعام ، وعظام الفيل ، وعملها عند بعض أصحابنا ، وهو ابن البراج (٢) ، والأظهر أنّ ذلك ليس بمكروه.

وبيع الأكفان ، والنساجة ، والحياكة ، على ما روي في الأخبار (٣) ، والذباحة ، وركوب البحر للتجارة ، وكسب صاحب الفحل ، من الإبل ، والبقر والغنم ، إذا أقامه للنكاح (٤) مكروه ، وليس بمحظور عند أصحابنا ، بل إجماعهم منعقد ، على أنّ ذلك حلال.

ولا بأس بأخذ الأجر على تعليم الحكم ـ جمع حكمة ـ والآداب ، وعلى نسخها ، وتخليدها ـ بالخاء ـ الكتب.

وينبغي للمعلّم ، أن يسوّي بين الصبيان في التعليم ، والأخذ عليهم ، ولا يفضل بعضهم على بعض في ذلك ، إلا أن يؤجر نفسه لهذا على تعليم مخصوص ، وهذا يستأجره على تعليم مخصوص ، فأمّا إذا استؤجر على التعليم لجميعهم بالإطلاق ، فلا يجوز له ان يفضّل بعضهم على بعض في التعليم ، لأنّه استؤجر عليه ، سواء كانت اجرة بعضهم أكثر من اجرة بعض آخر.

ولا بأس بأخذ الأجرة على نسخ كتب العلوم الدينية والدنياوية ، ولا يجوز

__________________

(١) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ١٥ من أبواب ما يكتسب به.

(٢) المهذب : ج ١ ، كتاب المكاسب ، ص ٣٤٦ ، باختلاف يسير.

(٣) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ٢١ ـ ٢٣ من أبواب ما يكتسب به.

(٤) ل. ق : للنتاج.

٢٢٤

نسخ كتب الكفر والضلال ، وتخليدها الكتب إلا لإثبات الحج بذلك على الخصم ، أو النقض له على ما قدّمناه.

ولا بأس بأخذ الأجرة على الخطب في الاملاكات ، وعقود النكاح ، ولا بأس بأخذ الأجرة على ختن الرجال ، وخفض الجواري.

وكل صنعة من الصنائع المباحة ، إذا أدّى فيها الأمانة ، إذا تمكن لم يكن بها بأس ، وإن لم يؤد فيها الأمانة ، أو لا يتمكن معها من القيام بالواجبات ، وترك المقبحات ، فلا يجوز التعرض بشي‌ء منها.

ومن جمع مالا من حلال وحرام ، ثم لم يتميز له بالمقدار ، ولا بالعين ، أخرج منه الخمس ، وحل له التصرف في الباقي ، فإن تميّز له الحرام منه ، وجب عليه ردّه على صاحبه ، لا يسوغ له سواه ، فإن لم يجده ، ردّه على ورثته ، فإن لم يجد وارثا ، أمسكه ، وحفظه ، وطلب الوارث ، فإن لم يخلف وارثا ، وقطع على ذلك ، فهو لإمام المسلمين ، لأنّ له ميراث من لا وارث له.

ولا بأس ببيع الخشب ، لمن يجعله صنما ، أو صليبا ، أو شيئا من الملاهي ، لأنّ الوزر على من يجعله كذلك ، لا على الذي باع الآلة ، على ما رواه أصحابنا (١) والأولى عندي ، تجنب ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومن وجد عنده سرقة ، كان ضامنا لها ، إلا أن يأتي على شرائها ببينة (٢).

قال محمّد بن إدريس : هو ضامن ، سواء ، أتى على شرائها ببينة ، أو لم يأت بغير خلاف ، ومقصود شيخنا أنّه ضامن أي هل يرجع على من اشتراها منه بالغرامة ، أم لا؟ فإن كان اشتراها مع العلم ، بأنّها سرقة ، وقال له البائع لها هذه سرقة ، واشتراها كذلك ، فإذا غرم لا يرجع على من باعها بالغرامة ، لأنّه ما

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤١ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

(٢) النهاية : كتاب التجارة باب المكاسب المحظورة.

٢٢٥

غرّه ، ولأنّه أعطاه ماله بغير عوض في مقابلته ، وأمّا إن لم يعلمه ، ولا علم أنّها سرقة ، وباعه إيّاها ، على أنّها ملكه ، فمتى غرم ، رجع عليه بما غرمه ، لأنّه غره.

ولا بأس بعمل الأشربة المباحة ، وأخذ الأجرة عليها.

ولا بأس بأخذ الأجرة في النيابة عن إنسان ، في وكالة بالبيع ، والشراء ، وغير ذلك.

ولا يجوز لأجير الإنسان الذي عقد عليه مدة معلومة ، أن يعمل لغيره في تلك المدّة عملا ، لأنّه استحق منافعه ، مدة تلك المدة والزمان ، فإن أذن له المستأجر في ذلك ، كان جائزا.

وإذا مرّ الإنسان بالثمرة ، جاز له أن يأكل منها قدر كفايته ، ولا يحمل شيئا منها على حال ، من غير قصد إلى المضي إلى الثمرة للأكل ، بل كان الإنسان مجتازا في حاجة ، ثمّ مرّ بالثمار ، سواء كان أكله منها لأجل الضرورة ، أو غير ذلك ، على ما رواه أصحابنا (١) ، وأجمعوا عليه ، لأنّ الأخبار في ذلك متواترة ، والإجماع منعقد منهم ، ولا يعتد بخبر شاذ ، أو خلاف من يعرف اسمه ونسبه ، لأنّ الحق مع غيره.

وقد روي أنّه يكره للإنسان ، أن ينزى الحمير على الخيل (٢) ، وليس ذلك بمحظور ، على ما روي في بعض الأخبار (٣).

ولا بأس أن يبذرق الإنسان القوافل ، ويأخذ على ذلك الأجر ، إذا كان باختيار من يخفره ، ومستأجرا معه.

قال شيخنا في نهايته : من آجر مملوكا له ، فأفسد المملوك ، لم يكن على مولاه ضمان ما أفسده ، لكنه يستسعى العبد في مقدار ما أفسده (٤).

__________________

(١) الوسائل : الباب ٨ من أبواب بيع الثمار.

(٢) و (٣) الوسائل : الباب ٦٣ من أبواب ما يكتسب به.

(٤) النهاية : كتاب التجارة ، باب للمكاسب المحظورة ..

٢٢٦

وقال رحمه‌الله ، في الجزء الثاني من نهايته ، في باب الإجارات : ومن استأجر مملوك غيره من مولاه فأفسد المملوك شيئا ، أو أبق قبل أن يفرغ من عمله ، كان مولاه ضامنا لذلك (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : ووجه الجمع بين قوليه رحمه‌الله ، وتحرير ذلك ، والفتوى به ، أنّ المسألة الأولى في التي ذكرها في آخر الجزء الأول من نهايته ، من قوله : لم يكن على مولاه ضمان ما أفسده ، يريد بذلك ما عدا الأجرة ، لأنّ المملوك لا يضمن سيده جنايته التي على غير بني آدم ، ولا يستسعى فيها ، ولا يباع على الصحيح من أقوال أصحابنا ، ولأنّ بيعه يحتاج إلى دليل ، وانتقال ملكه إلى ملك غير سيده ، يحتاج إلى شرع ، وقوله رحمه‌الله : لكنه يستسعى العبد في مقدار ما أفسده ، غير واضح ، لأنّه مخالف للإجماع ، وإنما ورد بعض أخبار الآحاد بذلك ، فأورده إيرادا ، لا اعتقادا ، فأمّا المسألة التي أوردها في الجزء الثاني ، في كتاب الإجارات ، من قوله : « ضامنا لذلك » يريد به ضامنا للأجرة الباقية ، وهذا صحيح ، يرجع على السيّد بها ، بغير خلاف. فأمّا ضمان ما أفسده ، فلا ضمان على السيد ، بغير خلاف ، لأنّ الإنسان بغير خلاف لا يضمن ما يجنيه عبده ، على ما عدا بني آدم ، وكذلك إن جنى على بني آدم ، لا يكون سيده عاقلة له ، ولا يؤدي إلا إذا تبرّع ، وشيخنا قال هناك : يستسعى ، ولم يقل يضمن سيّده ما أفسده ، وقال هاهنا ، أعني في الجزء الثاني : يضمن سيّده وهذا على ما تراه ، يدلك على ما نبّهنا عليه ، وصحّة ما حررناه.

ولا بأس ببيع جوارح الطير ، التي تصلح للصيد بها كلّها ، وأخذ ثمنها ، والتكسب بها ، بجميع الوجوه.

وقد حث وندب إلى طلب الكسب من الحلال ، ما لا يحصى كثيرة ، قال

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة باب الإجارات.

٢٢٧

الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً ) (١) وقال سبحانه : ( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) (٢) الآية فأمر الله تعالى بالاكتساب من فضله ، وبيّن أنّه قد جعل لعباده من المعيشة ، ما يتمكنون من التصرف فيه ، بما يقوم بهم ، ويستعينون به على صلاح أحوالهم.

وروي عن النبي عليه‌السلام أنّه قال : إذا أعسر أحدكم ، فليخرج ، يضرب في الأرض ، يبتغي من فضل الله ، ولا يغم نفسه وأهله (٣).

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لأصحابه ، في حجة الوداع : انّي والله لا أعلم عملا يقربكم من الجنة ، إلا وقد نبأتكم به ، ولا أعلم عملا يقربكم من النّار ، إلا وقد نهيتكم عنه ، وانّ الروح الأمين نفث في روعي ، ( بضم الراء ، هو النفس والبال ) أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فأجملوا في الطلب (٤).

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّه قال ما غدوة أحدكم في سبيل الله ، بأعظم من غدوته ، يطلب لولده وعياله ما يصلحهم (٥).

__________________

(١) الجمعة : ٩ ـ ١٠.

(٢) الحجر : ١٩ ـ ٢٠.

(٣) الوسائل : كتاب التجارة ، الباب ٤ من أبواب مقدماتها ح ١٢ ، ولفظ الحديث هكذا ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا عسر أحدكم فليخرج ولا يغم نفسه وأهله ، وكذا أورده في التهذيب ج ٦ ، في الباب الأول من المكاسب في ضمن ح ٣٠ / ٩٠٩.

(٤) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب مقدمات التجارة.

(٥) مستدرك الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١.

٢٢٨

كتاب المتاجر والبيوع

٢٢٩

كتاب المتاجر والبيوع

باب آداب التجارة

ينبغي للإنسان إذا أراد التجارة ، أن يبتدئ أوّلا ، فيتفقه في دينه ، ليعرف كيفية الاكتساب ، ويميز بين العقود الصحيحة والفاسدة ، لأنّ العقود الفاسدة ، لا ينتقل بها الملك ، بل هو باق على ملكية الأوّل ، ويسلم من الربا الموبق ، ولا يرتكب المأثم ، من حيث لا يعلم به ، فإنّه روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال : من اتجر بغير علم ، ارتطم في الربا ، ثم ارتطم (١).

قال محمّد بن إدريس (٢) معنى ارتطم ، يقلل رطمته في الوحل رطما ، فارتطم ، هو ، أي ارتبك فيه ، وارتطم عليه أمره ، إذا لم يقدر على الخروج منه.

وكان عليه‌السلام ، يقول : التاجر فاجر ، والفاجر في النّار ، إلا من أخذ الحق ، وأعطى الحق (٣).

وكان عليه‌السلام يقول : معاشر الناس ، الفقه ثم المتجر ، الفقه ثم المتجر ، والله للربا في هذه الأمة ، أخفى من دبيب النمل على الصفا (٤).

وكان عليه‌السلام بالكوفة ، يغتدي كلّ يوم بكرة ، من القصر ، يطوف في أسواق الكوفة ، سوقا سوقا ، ومعه الدرة على عاتقه ، فيقف على أهل كلّ سوق ، فينادي : يا معاشر (٥) التجار ، اتقوا الله عزوجل فإذا سمعوا صوته ، ألقوا ما في أيديهم ، وأرعوا بقلوبهم ، وتسمّعوا بآذانهم ، فيقول : قدّموا الاستخارة ، وتبرّكوا بالسهولة ، واقتربوا من المبتاعين ، وتزينوا بالحلم ، وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن

__________________

(١) و (٣) و (٤) الوسائل : الباب ١ من أبواب التجارة ، ح ١ و ٢.

(٢) هنا أيضا سقط صفحتين من نسخة الأصل ، إلى قوله : « على ما روى من » الآتي في السطر ١ من الصفحة الثالثة الآتية.

(٥) ل : معشر.

٢٣٠

الظلم ، وأنصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الربا ، وأوفوا الكيل والميزان ، و ( لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) ، فيطوف جميع الأسواق ، ثمّ يرجع ، فيقعد للناس (١).

قوله عليه‌السلام : قدّموا الاستخارة يعني الدعاء بالخيرة في الأمور.

وروي عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : من لم يتفقه في دينه ، ثم اتّجر ، تورّط في الشبهات (٢).

قال محمّد بن إدريس : الورطة ، الهلاك ، قال أبو عبيد : أصل الورطة ، أرض مطمئنة ، لا طريق فيها ، وأورطه ، وورّطه ، توريطا ، أي أوقعه في الورطة ، فتورّط هو فيها.

وينبغي أن يتجنب الإنسان في تجارته ، خمسة أشياء ، مدح البائع ، وذمّ المشتري ، وكتمان العيوب ، واليمين على البيع ، والربا.

معنى مدح البائع ، أي مدح البائع لما يبيعه من الأمتعة ، وذم المشتري ، معناه وذمّ المشتري لما يشتريه ، وإن شئت ، جعلت البائع بمعنى المبيع ، فكأنّه أراد مدح المبيع ، لأنّه قد يأتي فاعل بمعنى مفعول ، قال الله تعالى ( لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) (٣) أي لا معصوم ، فأمّا ذمّ المشتري ، إن شئت قلته بفتح الراء ، فيكون الشي‌ء المشتري ، وكلاهما حسن ، فأمّا كتمان العيوب مع العلم بها ، فحرام محظور بغير خلاف ، والربا فكذلك.

ولا يجوز لأحد أن يغش أحدا من الناس ، فيما يبيعه أو يشتريه ، ويجب عليه النصيحة فيما يفعله لكلّ أحد.

وإذا قال إنسان للتاجر : اشتر لي متاعا ، فلا يجوز له أن يعطيه من عنده ، وإن كان الذي عنده خيرا ممّا يجده ، إلا بعد أن يبيّن له أنّ ذلك من عنده ، ومن خاص ماله.

قال محمّد بن إدريس : فقه ذلك ، إنّ التاجر صار وكيلا في الشراء ، ولا يجوز

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢ من أبواب آداب التجارة ، ح ١.

(٢) الوسائل : الباب ١ من أبواب آداب التجارة ، ح ٤.

(٣) هود : ٤٣.

٢٣١

للوكيل أن يشتري لموكّله من نفسه ، لأنّ العقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، فكيف يكون هو القابل والموجب؟ فلأجل ذلك ما صحّ أن يشتريه له من عنده.

ويجتنب بيع الثياب في المواضع المظلمة ، التي يتستر فيها العيوب.

وينبغي أن يسوّي بين الناس في البيع والشراء ، فيكون الصبي عنده بمنزلة الكبير ، والساكت بمنزلة المماكس ، والمستحيي بمنزلة البصير المداق.

معناه المداقق في الأمور ، فأدغم أحد القافين في الآخر ، وشدد القاف ، وقوله : والصبي ، المراد به الذي قد بلغ وعقل ، فأمّا من لم يبلغ ، فلا ينعقد بيعه وشراؤه ، وقوله : البصير ، المراد به يكون من أهل البصيرة والخبرة ، لا من بصر العين.

وكلّ ذلك على طريق الاستحباب ، إذا كانوا عالمين بالأسعار ، وبما يباع ، فلا بأس أن يبيع كل واحد بغير السعر ، الذي باعه للآخر ، مع علمه ، فأمّا إذا كان المشتري من غير أهل البصيرة ، ثم ظهر له الغبن ، فله الخيار ، بين ردّ المبيع وإمساكه ، فأمّا إن كان من أهل البصيرة ، ويعلم بالأسعار ، فلا خيار له ، وسيجي‌ء الكلام على ذلك في موضعه ان شاء الله تعالى.

وإذا قال لغيره : هلمّ إلى ، أحسن إليك ، باعه من غير ربح ، وكذلك إذا عامله مؤمن ، فليجتهد أن لا يربح عليه إلا في حال الضرورة ، وذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب.

ويستحب أن يقبل من استقاله ، لقوله عليه‌السلام : من أقال نادما بيعته ، أقاله الله نفسه يوم القيمة (١).

ويكره السوم ، والمقاولة في البيع ، والشراء ، والرياضة في ذلك ، فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لأنّ ذلك وقت التفرغ للعبادة ، والأدعية ، المستجابة ، واستدعاء الرزق من الله تعالى.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٣ من أبواب آداب التجارة ، رواياته قريبة من هذا المضمون.

٢٣٢

فإذا غدا إلى سوقه ، فلا يكونن أول من يدخلها ، على ما روي من كراهة ذلك (١) فإذا دخلها سأل الله تعالى ، من خيرها ، وخير أهلها ، وتعوّذ به من شرها ، وشر أهلها.

ويستحب لمن اشترى شيئا ، أن يتشهد الشهادتين ، ويكبّر الله تعالى ، فإنّه أبرك له فيما يشتريه ، وسأل الله تعالى أن يبارك له فيما يشتريه ، ويخير له فيما يبيعه.

وينبغي أن يتجنب مخالطة السفلة من الناس ، والأدنين منهم ، ولا يعامل إلا من نشأ في خير.

وقد روي اجتناب معاملة ذوي العاهات ، والمحارفين (٢).

ولا ينبغي أن يخالط أحدا من الأكراد ، ويتجنب مبايعتهم ، ومشاراتهم ، ومناكحتهم.

قال محمد بن إدريس : وذلك راجع إلى كراهية معاملة من لا بصيرة له ، فيما يشتريه ، ولا فيما يبيعه ، لأنّ الغالب على هذا الجيل ، والقبيل ، قلة البصيرة ، لتركهم مخالطة الناس ، وأصحاب البصائر.

ويستحب لمن أخذ شيئا بالوزن أن لا يأخذه إلا ناقصا ، وإذا أعطى أن لا يعطيه إلا راجحا ، وإذا كان ، لا يكيل إلا وافيا ، فإن كان ممن لا يحسن الكيل والوزن ، فلا يتعرض له ، بل يوليه غيره.

ولا يجوز له أن يزين متاعه بأن يري خيره ، ويكتم رديه ، بل ينبغي أن يخلط جيّده برديه ، فيكون كلّه ظاهرا ، هذا إذا كان الردي والمعيب فيما يرى ، ويظهر بالخلط ، فأمّا إذا كان ممّا لا يرى ، ولا يظهر بالخلط ، فلا يجوز له ذلك ، ويحرم عليه فعاله ، وبيعه ، قبل أن يبيّن العيب فيه وذلك مثل أن يشوب اللبن بالماء لأنّ ذلك لا يتبين العيب فيه.

ويكره له أن يطلب الغاية ، فيما يبيع ويشتري من الربح ، ولا يطلب الاستقصاء في جميع أموره ، وأحواله ، ومعاملاته ، فقد روى العباس بن معروف ،

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦٠ من أبواب آداب التجارة.

(٢) الوسائل : الباب ٢٢ من أبواب آداب التجارة.

٢٣٣

عن محمد بن يحيى الصيرفي ، عن حماد بن عثمان ، قال : دخل على أبي عبد الله عليه‌السلام ، رجل من أصحابه فشكى إليه رجلا من أصحابه ، فلم يلبث أن جاء المشكو ، انّي استقصيت حقي ، قال : فجلس مغضبا ، ثم قال : كأنك إذا استقصيت حقّك ، لم تسئ ، أرأيتك ما حكاه الله تعالى ، فقال ( وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) (١) إنّما خافوا أن يجوز الله عليهم ، لا والله ، ما خافوا إلا الاستقصاء ، فسمّاه الله ، سوء الحساب ، فمن استقصى فقد أساء (٢).

وإذا تعسّر على الإنسان نوع من التجارة ، فليتحوّل منه إلى غيره.

ويكره الاستحطاط من الثمن بعد الصفقة ، وعقد البيع بالإيجاب والقبول ، سواء كان قبل التفرق من المجلس ، أو بعده.

ومن باع لغيره شيئا ، فلا يجوز له أن يشتريه لنفسه ، وإن زاد في ثمنه على ما يطلب في الحال ، إلا بعلم من صاحبه ، وإذن من جهته.

وفقه ذلك ، أنّ الوكيل لا يجوز له أن يشتري السلعة الموكل في بيعها من نفسه ، لأنّ البيع يحتاج إلى إيجاب وقبول ، فكيف يكون موجبا قابلا! فأمّا الأب والجد من الولد الأصغر ، فقد خرج بدليل ، وهو إجماع أصحابنا على ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وإذا نادى المنادي على المتاع ، فلا يزيد في المتاع ، فإذا سكت المنادي ، زاد حينئذ إن شاء (٣).

وقال في مبسوطة : وأمّا السوم على سوم أخيه ، فهو حرام ، لقوله عليه‌السلام : لا يسوم الرجل على سوم أخيه ، هذا إذا لم يكن المبيع في المزايدة ، فإن كان كذلك فلا تحرم المزايدة (٤).

__________________

(١) الرعد : ٢١.

(٢) تفسير البرهان : ج ٢ ، ص ٢٨٩ ، ح ٢٢.

(٣) النهاية : كتاب المتاجر ، باب آداب التجارة.

(٤) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ص ١٦٠.

٢٣٤

وهذا هو الصحيح ، دون ما ذكره في نهايته ، لأنّ ذلك على ظاهره غير مستقيم ، لأنّ الزيادة في حال النداء غير محرمة ، ولا مكروهة ، فأمّا الزيادة المنهي عنها ، هي عند الانتهاء ، وسكون نفس كلّ واحد من البيعين على البيع ، بعد استقرار الثمن ، والأخذ ، والشروع في الإيجاب والقبول ، وقطع المزايدة ، فعند هذه الحال ، لا يجوز السوم على سوم أخيه ، لأنّ السوم في البيع ، هو الزيادة في الثمن ، بعد قطعه ، والرضا به ، بعد حال المزايدة ، وانتهائها ، وقبل الإيجاب والقبول ، لقوله عليه‌السلام : لا يسوم الرجل على سوم أخيه.

فأمّا إذا باع إنسان من غيره شيئا ، وعقد العقد بالإيجاب والقبول ، وهما بعد في المجلس ، ولكلّ واحد منهما الخيار في الفسخ ، فجاء آخر يعرض على المشتري سلعة ، مثل سلعته ، بأقل منها ، أو خيرا ، ليفسخ ما اشتراه ، أو يشترى منه سلعة ، فهذا محرم ، غير أنّه متى فسخ الذي اشتراه ، انفسخ ، وإذا اشترى الثاني كان صحيحا ، وإنّما قلنا انّه حرام ، لقوله ونهيه عليه‌السلام : لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه (١).

وكذلك الشراء بعد البيع محرم ، وهو أن يعرض على البائع ، أكثر من الثمن الذي باعه به ، فإنّه حرام ، لأنّ أحدا لم يفرق بين المسألتين.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في تفسير القران ، في تفسير قوله تعالى ( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) (٢) أي ترعون ، يقال : اسمت الإبل ، إذا رعيتها ، وقد سامت ، تسوم ، فهي سائمة ، إذا رعت ، وأصل السوم الابعاد في المرعى ، والسوم (٣) في البيع الارتفاع في الثمن (٤).

وقال في موضع آخر من التبيان : أصل السوم ، مجاورة الحد ، فمنه السوم في

__________________

(١) سنن النسائي : كتاب البيوع ، ج ٧ ، ص ٢٥٨ ، وفيه : لا يبيع أحدكم على بيع أخيه.

كنز العمال : كتاب البيوع ، الفصل الثاني ، الفرع ٥ أخرجه عن النسائي والبخاري وابن ماجة ، ج ٤ ، ص ٦٩. وفي المبسوط كتاب البيوع ج ٢ ، ص ١٦٠ : لا يبيع بعضكم على بيع.

(٢) النحل : ١٠

(٣) ج : الابعاد ، والسوم.

(٤) التبيان : ج ٦ ، ذيل الآية ١٠ ، من سورة النحل.

٢٣٥

البيع ، وهو تجاوز الحدّ في السعر ، إلى الزيادة ، ومنه السائمة من الإبل الراعية ، لأنّها تجاوز حدّ الإثبات للرعي ، هذا آخر كلام شيخنا في التبيان في معنى السوم (١) فصح ما قلناه ، أنّه الزيادة والارتفاع في الثمن.

ولا يجوز أن يبيع حاضر لباد ، ومعناه أن يكون سمسارا له ، بل يتركه أن يتولّى لنفسه ، ليرزق الله بعضهم من بعض ، فإن خالف أثم ، وكان بيعه صحيحا ، وينبغي أن يتركه في المستقبل ، هذا إذا كان ما معهم ، يحتاج أهل الحضر إليه ، وفي فقده إضرار بهم ، فأمّا إذا لم يكن بهم حاجة ماسة إليه ، فلا بأس أن يبيع لهم ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (٢) وكذلك الفقيه ابن البراج في مهذبه (٣).

وهذا هو الصحيح الذي لا خلاف فيه بين العلماء ، من الخاص والعام ، وبين مصنّفي غريب الأحاديث ، من أهل اللغة ، كالمبرد ، وأبي عبيد ، وغيرهما ، فانّ المبرد ، ذكر ذلك في كاملة : فلا يتوهم متوهم ، أنّ المراد بقوله عليه‌السلام : ولا يجوز أن يبيع حاضر لباد (٤) معناه أنّه لا يبيع الحاضر البادي ، أو لا يبيع الحاضر على البادي ، وهذا لا يقوله من له أدنى تحصيل ، فانّي شاهدت بعض متفقهة أصحابنا ، وقد اشتبه عليه ذلك ، وقال : المراد به ، ما أوردته أخيرا ، من أنّه لا يبيع حاضر شيئا على باد ، وهذا غاية الخطأ ، ومن أفحشه ، وهل يمنع من أن يبيع حاضر على البادي ، أحد من المسلمين ، ولو أراد ذلك عليه‌السلام لما قال : ولا يجوز أن يبيع حاضر لباد ، بل كان يقول : ولا يجوز أن يبيع حاضر على

__________________

(١) التبيان : ج ٦ ذيل الآية ١٠ ، من سورة النحل.

(٢) المبسوط : كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ج ٢ ، ص ١٦٠.

(٣) المهذب : لم نجده في المطبوع طبع المؤسسة.

(٤) الوسائل : الباب ٣٧ من أبواب آداب التجارة ، ح ١ ـ ٣ ، ولفظ الحديث هكذا : لا يبيع حاضر لباد.

٢٣٦

باد ، فلما قال : لباد ، دل عليه أنّه لا يكون سمسارا له.

ووجدت بعض المصنّفين ، قد ذكر في كتاب له ، قال : نهي أن يبيع حاضر لباد ، فمعنى هذا النهي ، والله أعلم ، معلوم في ظاهر الخبر ، وهو الحاضر للبادي ، يعني متحكما عليه في البيع ، بالكرة ، أو بالرأي الذي يغلب به عليه ، يريه أنّ ذلك نظر له ، أو يكون البادي يوليه عرض سلعته ، فيبيع دون رأيه ، أو ما أشبه ذلك. فأمّا إن دفع البادي سلعته إلى الحاضر ، ينشرها للبيع ، ويعرضها ، ويستقصي ثمنها ، ثم يعرفه مبلغ الثمن ، فيلي البادي البيع بنفسه ، أو يأمر من يلي ذلك له بوكالته ، فذلك جائز ، وليس في هذا من ظاهر النهي شي‌ء ، لأنّ ظاهر النهي ، انّما هو ان يبيع الحاضر للبادي ، فإذا باع البادي بنفسه ، فليس هذا من ذلك بسبيل ، كما يتوهمه من قصر فهمه ، هذا آخر الكلام. فأحببت إيراده هاهنا ، ليوقف عليه ، فإنّه كلام محصّل ، سديد في موضعه.

فأمّا المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد ، لبيعه السمسار ، ويستقصي في ثمنه ، ويتربص ، فإنّ ذلك جائز ، لأنّه لا مانع منه ، وليس كذلك في البادية.

ولا يجوز تلقي الجلب ، ليشتري منهم قبل دخولهم البلد ، لأنّ النبيّ عليه‌السلام قال : لا يبيع بعضكم على بيع بعض ، ولا تلقوا السلع ، حتى يهبط بها الأسواق (١).

وروي عنه عليه‌السلام أنّه نهى عن تلقي الجلب ، فان تلقى متلقّ فاشتراه ، فصاحب السلعة بالخيار ، إذا ورد السوق (٢).

فإن تلقى واشتراه ، يكون الشراء صحيحا ، لأنّ النبي عليه‌السلام أثبت الخيار للبائع ، والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح ، وخياره يكون على الفور مع

__________________

(١) أورده في المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، في فصل بيع الغرر ، ص ١٦٠ ، باختلاف يسير.

(٢) الرواية عامية أوردها في الخلاف في كتاب البيوع ذيل المسألة ٢٨٢ ، سنن النسائي : كتاب البيوع ، التلقي ، ج ٧ ، ص ٢٥٧ ولفظه هكذا : « لا تلقّوا الجلب ، فمن تلقّاه فاشترى منه ، فإذا أتى سيّده السوق ، فهو بالخيار ».

٢٣٧

الإمكان ، فأمّا إذا كان راجعا من ضيعة ، أو من سفر ، فتلقى جلبا ، جاز له أن يشتريه ، لأنّه لم يتلق الجلب ، للشراء منهم.

وحدّ التلقي روحة ، وحدّها أربعة فراسخ ، فإن زاد على ذلك كان تجارة وجلبا ، ولم يكن تلقيا.

وقال شيخنا في نهايته : وأمّا التلقي ، فهو أن يستقبل الإنسان الأمتعة والمتاجر ، على اختلاف أجناسها ، خارج البلد ، فيشتريها من أربابها ، وهم لا يعلمون بسعر البلد ، فمن فعل ذلك ، فقد ارتكب مكروها ، لما في ذلك من المغالطات ، والمغابنات (١) ، وكذلك أيضا يكره أن يبيع حاضر لباد ، لقلة بصيرته ، بما يباع في البلاد ، وإن لم يكن شي‌ء من ذلك محظورا ، لكن ذلك من المسنونات (٢).

وما ذكره في مبسوطة ، في المسألتين معا ، من أنّ ذلك محرّم (٣) ، هو الصحيح ، لأنّه نهى عليه‌السلام عن ذلك ، والنهي عندنا بمجرده ، يقتضي التحريم ، في عرف الشريعة.

فإن قيل : لو كان ذلك على جهة التحريم ، لكان البيع فاسدا ، لأنّ النهي عندكم يقتضي فساد المنهي عنه ، وقد قلتم : إن البيع إذا تلقي صحيح.

قلنا : نهى عليه‌السلام ، عن التلقي ، وما نهى عن نفس العقد الذي هو البيع ، فلا يتعدّى أحدهما إلى الآخر ، ولو كان النهي عن نفس البيع ، لفسد ، وانّما النهي عن التلقي.

ونهى عن الاحتكار ، والاحتكار عند أصحابنا ، هو حبس الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والسمن ، من البيع ، ولا يكون الاحتكار المنهي عنه ، في شي‌ء من الأقوات ، سوى هذه الأجناس ، وإنّما يكون الاحتكار منهيا عنه ، إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شي‌ء منها ، ولا يوجد في البلد غيره ، فأمّا مع

__________________

(١) ل : المعاتبات.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الاحتكار والتلقي.

(٣) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع فصل في بيع الغرر ، ص ١٦٠.

٢٣٨

وجود أمثاله ، وسعة ذلك على الناس ، وكثرته ، فلا بأس أن يحبسه صاحبه ، ويطلب بذلك الفضل.

ومتى ضاق على الناس الطعام ، ولم يوجد إلا عند من احتكره ، كان على السلطان ، والحكام من قبله ، أن يجبره على بيعه ، ويكرهه عليه ، ولا يجوز أن يجبره على سعر بعينه ، ولا أن يسعر عليه ، بل يبيعه بما يرزقه الله تعالى ، ولا يمكنه من حبسه ، أكثر من ذلك.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : وللسلطان أن يكره المحتكر على إخراج غلته ، وبيعها في أسواق المسلمين ، إذا كانت بالناس حاجة ظاهرة إليها ، وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة ، ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها (١).

والأول مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (٢) ، ومسائل خلافه (٣) ، ومبسوطة (٤) ، وجميع كتبه ، وهو الصحيح الذي يقوى في نفسي ، لأنّ عليه الإجماع ، وبه تواترت الأخبار ، عن الأئمة الأطهار ، وأيضا الأصل براءة الذمة ، من إلزام هذا المكلّف التسعير ، وأيضا إثبات ذلك ، حكم شرعي ، يحتاج فيه إلى دليل شرعي.

وروي عن النبي عليه‌السلام ، أنّ رجلا أتاه ، فقال : سعّر على أصحاب الطعام ، فقال : بل أدعو الله ، ثم جاء آخر فقال : يا رسول الله ، سعّر على أصحاب الطعام ، فقال : بل الله يرفع ويخفض ، واني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة (٥).

فإذا ثبت ذلك ، فإذا خالف إنسان من أهل السوق ، بزيادة سعر ، أو نقصانه ، فلا اعتراض عليه لأحد.

__________________

(١) المقنعة : باب تلقي السلع والاحتكار ص ٦١٦.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الاحتكار والتلقي

(٣) الخلاف : كتاب السلم ، المسألة ٢٥.

(٤) المبسوط : ج ٢ ، كتاب السلم ، فصل في حكم التسعير

(٥) أوردها الشيخ قدس‌سره في المبسوط : ج ٢ في فصل حكم التسعير ص ١٩٥ ، أخرجه في كنز العمال ، في الباب الثالث من كتاب البيوع ، في الإكمال من التسعير : ج ٤ ، ص ١٠٢ ، الرقم ٩٧٤٣ ، أخرجه عن أحمد في مستنده.

٢٣٩

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : لا يجوز للإمام ، ولا للنائب عنه ، أن يسعّر على أهل الأسواق ، متاعهم من الطعام وغيره ، سواء كان في حال الغلاء ، أو في حال الرخص ، بلا خلاف.

ونهى عليه‌السلام عن بيعتين في بيعة ، وقيل : إنّه يحتمل أمرين ، أحدهما أن يكون المراد ، أنّه إذا قال : بعتك هذا الشي‌ء ، بألف درهم ، نقدا ، وبألفين نسية ، بأيّهما شئت خذه ، فإنّ هذا لا يجوز ، لأنّ الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع ، كما إذا قال : بعتك هذا العبد ، أو هذا العبد ، أيّهما شئت فخذه ، لم يجز ، والآخر أن يقول : بعتك عبدي هذا بألف ، على أن تبيعني دارك هذه بألف درهم ، فهذا أيضا لا يصح ، لأنّه لا يلزمه بيع داره.

ونهى عن النجش ـ بالنون والجيم والشين المعجمة ـ وحقيقته الاستثارة ، وهي أن يزيد رجل ، في ثمن سلعة ، زيادة لا تساوى بها ، وهو لا يريد شراها ، وإنّما يريد ليقتدي به المستام ، فهذا هو النجش الحرام.

ولا يجوز بيع حبل ـ الحبلة ، بالحاء غير المعجمة ، والباء المنقطة ، بنقطة واحدة من تحتها ، بفتحهما معا ، وكذلك الحبلة بفتح الحاء ، غير المعجمة ، والباء أيضا ـ وهو أن يبيع شيئا بثمن مؤجل إلى نتاج الناقة ، لأنّ ذلك أجل مجهول.

ونهي عن بيع المجر ـ بالميم المفتوحة ، والجيم المسكنة ، والراء ـ وهو بيع ما في الأرحام ، ذكره أبو عبيدة ، وقال ابن الأعرابي : المجر الذي في بطن الناقة ، وقال : المجر الربا ، والمجر القمار ، والمجرد المحاقلة والمزابنة.

باب حقيقة البيع وبيان أقسامه وعقوده وجمل من أحكامه

البيع هو انتقال عين مملوكة ، من شخص إلى غيره بعوض مقدر ، على وجه التراضي ، وهو على ثلاثة أضرب ، بيع عين مرئية مشاهدة ، وبيع خيار الرؤية ، وبيع موصوف في الذمة ، وإن شئت قلت : البيع على ضربين ، بيوع

٢٤٠