كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

ويجوز إقراض الحيوان ، رقيقا كان أو غيره فإذا استقرض جارية تنعتق عليه بالملك ، فإنّه إذا قبضها عتقت عليه ، وليس له ردّها على المقرض ، ولا له المطالبة بها ، لأنّا قد بيّنا أنّه يملك بالقبض ، وإذا ملك انعتقت عليه.

وإذا كان لرجل على غيره مال حالا ، فأجّله فيه ، لم يصر مؤجّلا ، ويستحب له أن يفي به ، ويؤخر المطالبة إلى محلّه ، فإن لم يفعل ، وطالب به في الحال ، كان له ، سواء كان الدين ثمنا ، أو اجرة ، أو صداقا أو كان قرضا ، أو أرش جناية.

وكذلك إن اتفقا على الزيادة في الثمن ، لا يصحّ ، ولم يثبت ، وإن حط من الثمن شيئا ، أو حط جميعه ، يصح ، وكان إبراء ولا يلحق بالعقد ، وانّما هو إبراء في الوقت الذي أبرأه منه.

وإذا استقرض الإنسان شيئا ، كان عليه زكاته ، إذا كانت الشرائط فيه موجودة ، ويسقط زكاته عن القارض ، لأنه ليس بملك له.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إلا أن يشرط المستقرض عليه أن يزكيه عنه ، فحينئذ يجب الزكاة على القارض ، دون المستقرض (١).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا غير واضح ، لأنّه لا دليل عليه ، لأنّا قد بينا أن بالقبض يملك المستقرض المال ، ويخرج من ملك القارض ، فكيف يشترط أن يزكى مال الغير ، ولا خلاف أنّ الزكاة تجب على أرباب الأموال ، دون غيرهم ، وأيضا كل شرط يخالف الكتاب والسنة فهو باطل ، وهذا يخالف الكتاب والسنة ، ولم يرد به حديث في باب القرض ، فانّ شيخنا أبا جعفر رحمه‌الله ما أورد في تهذيب الأحكام ، وهو أكبر كتاب له في الأحاديث ، في باب القرض حديثا بما ذكره في نهايته ، والأصل براءة الذمة ، ووجوب الزكاة على رب المال ، دون غيره.

وإذا أقرض الإنسان مالا ، فرد عليه أجود منه ، من غير شرط ، كان ذلك

__________________

(١) النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب القرض وأحكامه.

٦١

جائزا ، وإن أقرض وزنا فرد عليه عددا ، أو أقرض عددا ، فرد عليه وزنا ، من غير شرط ، زاد أو نقص بطيب نفس منهما ، لم يكن بذلك بأس ، كل ذلك من غير شرط ، كان ذلك جائزا سائغا.

وإن أقرض شيئا على أن يعامله المستقرض في التجارات ، جاز ذلك.

وإن أعطاه قراضة الذهب ، أو مكسرة الفضّة (١) ورد عليه الصحاح من الجنسين ، لم يكن بذلك بأس ، إذا لم يشرط ، فأمّا إذا شرط أن يرد عليه الصحاح ، عوضا ممّا أخذ ، منه من المكسرة ، فإنّ ذلك حرام محظور.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن أعطاه الغلة ، يريد بذلك مكسرة الدراهم ، وأخذ منه الصحاح ، شرط ذلك ، أو لم يشرط ، لم يكن به بأس (٢).

وهذا غير واضح ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا ، أنّه متى اشترط زيادة في العين والصفة ، كان باطلا ، والإجماع حاصل منعقد على هذا ، وقول الرسول عليه‌السلام شر القرض ما جر نفعا (٣) والخبر الذي أورده شيخنا في كتابه تهذيب الأحكام ليس فيه ذكر الشرط ، ولا في الخبر أنّه شرط ، وهو محمّد بن احمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان ، عن يعقوب بن شعيب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقرض الرجل الدراهم الغلة ، فيأخذ منه الدراهم الطازجية ، طيبة بها نفسه ، قال : لا بأس ، وذكر ذلك عن علي عليه‌السلام (٤).

قال محمد بن إدريس : وليس في هذا الخبر للشرط ذكر ، والطازجية بالطاء غير المعجمة ، والزاء المعجمة ، والجيم : الدراهم البيض الجيدة ، وشيخنا أبو جعفر لم

__________________

(١) ج : مكسرة.

(٢) النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب القرض وأحكامه ، مع تغيير في العبارة وهي هكذا : وإن أعطاه المكسر وأخذ منه الصحاح شرط ذلك أو لم يشرط لم يكن به بأس.

(٣) لم نعثر عليه في المجامع الروائية.

(٤) التهذيب : الباب ٨٢ من كتاب القرض واحكامه ، ح ٤ / ٤٥٠.

٦٢

يذكر الشرط في سائر كتبه ، سوى نهايته فحسب ، في الغلة التي هي مكسرة الدراهم ، بل قال في مبسوطة : لا يجوز أن يشترط في القرض ، زيادة العين ، ولا زيادة الصفة (١) وهو الحق اليقين.

وإن أقرض حنطة فرد عليه شعيرا أو أقرض شعيرا فرد عليه حنطة ، أو أقرض جلّة من تمر ، فرد عليه جلّتان ، أو قوصرة ، فرد عليه قوصرتان ، كل ذلك من غير شرط ، لم يكن به بأس.

وإن أقرض شيئا ، وارتهن عليه ، وسوغ له صاحب الرهن الانتفاع به ، من غير شرط جرى بينهما ، جاز له ذلك ، سواء كان ذلك متاعا ، أو آنية ، أو مملوكا أو جارية ، أو أيّ شي‌ء كان ، لم يكن به بأس.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إلا الجارية خاصّة ، فإنّه لا يجوز استباحة وطيها ، بإباحته إيّاها ، لمكان القرض (٢).

والذي عندي في هذا أنّه إذا أباح المالك له وطئها من غير اشتراط في القرض ذلك ، فإنّه جائز حلال ، وانّما منع شيخنا من ذلك ، لأنّه في بعض كتبه يراعي في اللفظ من السيد ، لفظ التحليل ، وهو أن يقول له أحللت لك وطي جاريتي ، فمتى لم يقل ذلك ، وقال غيره من الألفاظ ، لم يجز له الوطي بذلك ، مثاله أن يقول له : أبحتك وطي جاريتي ، فلا يجوز عنده ، فلأجل هذا قال : فلا يجوز استباحة وطيها ، بإباحته إيّاها ، وقد رجع في مبسوطة وقال : يحل بالإباحة من المولى ، وقوله رحمه‌الله : لمكان القرض ، إن أراد بالتعليل أنّه اشترط في القرض ، فالجميع لا يجوز ، وليس الجارية بالتخصيص ، أولى من غيرها ، وإن أراد أنّه لم يشترط في القرض ، فالجميع أيضا متساو في الإباحة ، فلا وجه لقوله لمكان

__________________

(١) المبسوط : كتاب البيوع ، فصل في حكم القرض.

(٢) النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب القرض وأحكامه.

٦٣

القرض ، حتّى تنفرد الجارية بذلك.

وإذا أهدى له هدايا ، فلا بأس بقبولها ، إذا لم يكن هناك شرط ، والأفضل تجنب ذلك أجمع ، والتنزّه عنه.

ولا بأس أن يقرض الإنسان الدراهم أو الدنانير ، ويشرط على صاحبه أن ينقدها له بأرض أخرى ، لأنّ هذا الشرط لا فيه زيادة عين ولا صفة.

ومتى كان له على إنسان دراهم ، أو دنانير أو غيرهما من السلع ، جاز له أن يأخذ مكان ماله ، من غير الجنس الذي له عليه ، بسعر الوقت فإن كانت دراهم ، وتعامل الناس بغيرها ، وأسقط الأوّل السلطان ، فليس له ، إلا مثل دراهمه الاولى ، ولا يلزمه غيرها ممّا يتعامل الآن به ، إلا بقيمتها من غير الجنس ، لأنّه لا يجوز بيع الجنس بالجنس متفاضلا.

باب الصّلح

الصّلح جائز بين الناس ، إلا ما حرّم حلالا ، أو حلّل حراما ، لقوله تعالى : ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (١) وقوله ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما ) (٢) وقوله ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) (٣).

وروي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا (٤) وعليه إجماع المسلمين.

وهو أصل قائم بنفسه في الشرع ، لا فرع على غيره ، على ما يذهب إليه المخالف ، ولا خيار بعد انعقاده لأحدهما ، سواء افترقا من المجلس أو لم يفترقا ، لأنّه ليس ببيع ، وانّما هو عقد قائم بنفسه ، وقد قال تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٥) والمخالف

__________________

(١) النساء : ١٢٨.

(٢) النساء : ٣٥.

(٣) الحجرات : ٩.

(٤) الوسائل : الباب ٢ من أحكام الصلح ، ح ٢.

(٥) المائدة : ١.

٦٤

لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام يجعله فرع البيع ، ويراعى فيه شرائط البيع.

ولأجل ذلك ذكر شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله في مسائل الخلاف ، في الجزء الثاني في كتاب الصلح : مسألة ، إذا أتلف رجل على غيره ثوبا يساوي دينارا ، فأقر له به ، وصالحه على دينارين ، لم يصح ذلك ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة يجوز ذلك ، قال شيخنا : دليلنا ، أنّه إذا أتلف عليه الثوب ، وجبت في ذمته قيمته ، بدلالة أنّ له مطالبته بقيمته ، فالقيمة هاهنا دينار واحد ، فلو أجزنا أن يصالحه على أكثر من دينار ، كان بيعا للدينار بأكثر منه ، وذلك ربا لا يجوز (١).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله مصنف هذا الكتاب : هذا المسألة بناها شيخنا على مذهب الشافعي ، لأنّ الشافعي يقول أنّ الصلح فرع البيع ، فذهب إلى قول الشافعي في هذه المسألة ، والصحيح خلاف ذلك ، وأنّه يجوز الصلح على الثوب المذكور بالدينارين ، بغير خلاف ، بين أصحابنا الإمامية.

وشيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، قال لما ذكر مقالة الشافعي : ويقوى في نفسي ، أن يكون (٢) هذا الصلح أصلا قائما بنفسه ، ولا يكون فرع البيع ، ولا يحتاج إلى شرائط البيع ، واعتبار خيار المجلس على ما بيّناه فيما مضى (٣).

ويجوز الصلح على الإنكار كما يجوز الصلح على الإقرار ، فأمّا صورة الصلح على الإنكار ، هو أن يدّعي على رجل عينا في يده ، أو دينا في ذمّته ، وأنكر المدّعي عليه ، ثمّ صالحه منه على مال اتفقا عليه ، يصحّ الصلح ، ويملك المدعى المال الذي يقبضه ، من المدّعى عليه ، ظاهرا وباطنا ، إن كان صادقا في دعواه وليس له أن يرجع فيطالبه به ، ولا يجب على المدّعي رده عليه ، ويسقط دعوى المدّعي فيما ادّعاه.

وإن كان قد صرّح بإبرائه فيما ادّعاه وإسقاط حقّه عنه كان صحيحا ، وغاية في المقصود.

وإن كان في دعواه كاذبا ، فانّ المدّعي يملك المال الذي يقبضه من المدّعى

__________________

(١) الخلاف : كتاب الصلح ، مسألة ١٠

(٢) ل. ق : أنّه يكون

(٣) المبسوط : كتاب الصلح.

٦٥

عليه ظاهرا ، ويجب على المدّعي ردّه عليه.

وإذا أخرج الإنسان من داره روشنا إلى طريق المسلمين النافذ ، فإن كان عاليا لا يضر بالمارة ، ترك ، ولم يقلع ، فان عارض فيه واحد من المسلمين ، قال قوم من المخالفين : يجب قلعه ، وقال آخرون منهم : لا يجب قلعه.

والقول الأوّل اختاره شيخنا أبو جعفر في الجزء الثاني من المبسوط (١) ، والقول الأخير اختياره أيضا في الجزء الثالث من مسائل خلافه (٢) ، وهو الصحيح الذي يقوى في نفسي ، لأنّ المسلمين من عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يومنا هذا ـ وهو سنة سبع وثمانين وخمسمائة ـ لم يتناكروا فيما بينهم ذلك ، وسقيفة بني ساعدة وبني النجار في المدينة معروفتان (٣) ، ما أنكرهما أحد من المسلمين ، ونفس الطريق غير مملوكة ، وانّما يملك المسلمون منافعها ، دون رقبتها ، فهم مشتركون في المنافع ، لأنّ الشركة قد تكون في المنافع ، دون الأعيان ، وقد تكون في الأعيان والحقوق.

فأمّا الشركة في الأعيان فالميراث ، وأمّا الشركة في الحقوق دون الأعيان ، فمثل الاشتراك في حقّ القصاص ، وحدّ القذف ، وحقّ المرافق من المشي في الطرقات ، فهذا الضرب إذا عفا أحد الشركاء ، كان للباقي من شركائه ، المطالبة بجميعه ، من غبر إسقاط شي‌ء منه ، وكذلك لو عفا الجميع إلا واحدا منهم ، كان له جميع الحقّ.

وأمّا الاشتراك في المنافع ، كالاشتراك في منفعة الوقف ، ومنفعة العين المستأجرة ، فعلى هذا التحرير ، لا يجوز الاعتراض على أصحاب السقائف ، والرواشن ، والساباطات ، إذا لم تضر بالمارة ، ولم تمنعهم من حقوقهم ، وهي المنافع ، والاستطراق ، والاجتياز والمشي.

إذا تنازعا جدارا بين ملكيهما ، وهو غير متصل ببناء أحدهما ، وانّما هو مطلق

__________________

(١) المبسوط : كتاب الصلح.

(٢) الخلاف : كتاب الصلح ، المسألة ٢ ، ولا يخفى عدم اختلاف قول الشيخ في كتابيه فليراجع.

(٣) ج : معروفة.

٦٦

ولأحدهما ، عليه جذوع ، فإنّه يحكم بالحائط لمن الجذوع له ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا نحكم بالحائط لصاحب الجذوع ، واختار قول الشافعي شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف (١) ، وما اخترناه أظهر ، لأنّ له عليه يدا وتصرفا ، ولا خلاف أن من كان بيده شي‌ء ، حكم له بالملك ، ولا يخرج من يده بمجرّد دعوى غيره عليه ، إلا بالبيّنة العدول.

إذا تنازع اثنان دابة ، أحدهما راكبها ، والآخر آخذ بلجامها ، ولم يكن لأحدهما بيّنة ، جعلت بينهما نصفين.

وكذلك إذا كان لرجل بيت ، وعليه غرفة لآخر ، وتنازعا في سقف البيت الذي عليه الغرفة ، ولم يكن لأحدهما بينة.

والأقوى عندي ، أنّ القول قول صاحب الغرفة مع يمينه ، لأنّ الغرفة لا تكون بلا أرض ، والبيت قد يكون بلا سقف ، وقد اتفقا ان هاهنا غرفة ، فإذا لم يكن لها أرض ، وهو سقف البيت ، فلا غرفة أذن ، فقد ترجحت دعواه بهذا الاعتبار.

وإذا كان بين رجلين حائط مشترك ، وانهدم ، وأراد أحدهما أن يبنيه ، وطالب الآخر بالإنفاق معه ، لا يجبر عليه ، وكذلك إن كان بينهما نهر ، أو بئر ، أو دولاب ، وكذلك إن كان السفل لواحد ، والعلو لآخر ، فانهدم ، فلا يجبر صاحب السفل ، على اعادة الحيطان التي تكون عليها الغرفة.

والدرب الذي لا ينفذ ، حكمه بخلاف الدرب الذي ينفذ ، لأنّ ملاكه معينون ، فلا يجوز لأحد منهم إخراج روشن ، إلا بإذن الباقين ، لأنّه إذا أخرج روشنا لاطيا ، يضر بأهل الزقاق الغير النافذ ، فرضوا به ، فإنّه يترك ، وهذا يدل على أنّ الحق لهم ، ولا يجري مجرى الطريق النافذ.

وإذا كان نفسان ، لكل واحد منهما شي‌ء عند صاحبه ، من سائر الأموال

__________________

(١) الخلاف : كتاب الصلح ، المسألة ٤.

٦٧

سواء تعيّن لهما وتميّز أو لم يتعيّن ، إذا لم يعلمه من لم يقدر على تمييزه وتعيينه ، فإذا علمه ، فلا بدّ من اعلامه صاحبه به ، وإلا لم يصح الصلح ، فاصطلحا على أن يتتاركا. ويجعل كل منهما صاحبه في حل ، كان ذلك جائزا بينهما ، فإذا فعلا ، لم يكن لأحدهما الرجوع على صاحبه بعد ذلك ، إذا كان ذلك عن طيب نفس كل واحد منهما.

ومن كان له دين على غيره آجلا (١) ، فنقص منه شيئا ، قل ذلك النقصان أو كثر ، وسأله تعجيل الباقي ، كان ذلك جائزا حلالا ، سائغا.

والشريكان إذا أرادا أن يتقاسما ، وكان المال المشترك بينهما منه ناضّ ، ومنه سلع وأمتعة ، واصطلحا عل أن يكون الربح والخسران على واحد منهما ، ويرد على الآخر رأس ماله على الكمال ، كان ذلك جائزا ، وليس كذلك المسألة التي ذكرناها في كتاب الديون ، من أنّه إذا كان الشريكان لهما مال على الناس ، فتقاسما ، واحتال كل واحد منهما شيئا منه ، ثم قبض أحدهما ، ولم يقبض الآخر ، كان الذي قبضه أحدهما ، بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما ، وما يبقى على الناس أيضا مثل ذلك ، لأنّ هاهنا ، المال الذي على الناس في ذممهم بعد مشترك ، لا يصح قسمته على ما قدّمناه ، والمسألة المتقدمة سلّم أحدهما إلى شريكه جميع ماله ، على الكمال ، وصالحه على الأمتعة بذلك ، فرضي عن نصيبه منها بما أعطاه.

وإذا كان بيد نفسين درهمان ، فذكر أحدهما أنّهما جميعا ملكي ، ولي ، وقال الآخر : بل هما بيني وبينك ، كان الحكم أن يعطى المدّعى لهما معا درهما ، لإقرار صاحبه بذلك ، ويقسم الدرهم الباقي بينهما نصفين ، لأنّ يدهما عليه.

وروي أنّه إذا استبضع إنسان آخر ، مثلا أعطاه عشرين درهما ، واستبضعه آخر ثلاثين درهما ، فاشترى بكلّ واحدة من البضاعتين ثوبا ، ثمّ اختلطا فلم

__________________

(١) ج : على غيره مؤجّلا.

٦٨

يتميزا له ، بيعا وقسم المال (١) على خمسة أجزاء ، فما أصاب الثلاثة ، اعطي صاحب الثلاثين ، وما أصاب الاثنين ، اعطى صاحب العشرين ، على ما روي في أخبارنا (٢) ، بشرط أن لا يكون الاختلاط بتفريط من المستبضع ، فإن كان بتفريط منه ، وهلك الثوبان قبل البيع فهو ضامن ، والقرعة في ذلك ، إن استعملت ، فهي أولى ، لأنّ الإجماع منعقد على أن كل أمر ملتبس مشكل ، فيه القرعة ، وهذا من ذاك.

وقد روي أنّه إذا استودع رجل رجلا دينارين ، واستودعه آخر دينارا ، فضاع دينار منهما ، اعطي صاحب الدينارين ممّا يبقى ، دينارا ، وقسم الدينار الآخر بينهما نصفين ، هذا إذا لم يفرط المستودع في خلط المال ، واختلط ، فأمّا إذا لم تختلط الدنانير ، وعرف الضّائع ، فالباقي كان من مال صاحبه ، فأمّا إن فرط الأمين في الخلط فإنّه ضامن لما ضاع من المال.

قال شيخنا في نهايته : وإذا كان نفسان ، لكلّ واحد عند صاحبه شي‌ء فلا بأس أن يصطلحا على أن يتتاركا ويتحللا (٣).

قال محمّد بن إدريس : يقال تحللته واستحللته إذا سألته أن تجعل في حلّ من قبله ، ومنه الحديث من كانت عنده مظلمة من أخيه ، فليستحلله (٤) ذكر ذلك صاحب غريبي القران والسنة الهروي.

باب الكفالات والضّمانات والحوالات

الضمان جائز ، للكتاب والسّنة والإجماع وهو عقد قائم بنفسه ، ومن شرطه ، رضا المضمون له ، ورضا الضّامن ، فأمّا رضا المضمون عنه ، فليس من شرط صحّة

__________________

(١) ج : وقسما.

(٢) النهاية : باب الصلح ، باختلاف يسير.

(٣) الوسائل : الصلح الباب ١١ ح ١.

(٤) صحيح البخاري ، كتاب المظالم ، الباب ١٠ ( الجزء ١١ ، ص ٢١ ) وفيه : عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شي‌ء فليتحلّله منه اليوم.

٦٩

انعقاده ، بل من شرط استقراره ولزومه ، لأنّ المضمون عنه إذا لم يرض بالضمان لم يصح على ما رواه (١) وأورده بعض أصحابنا.

والصحيح انّه يستقرّ ويلزم لأنّ بالضمان ينتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضّامن بلا خلاف بينهم ، وكذلك لو سلّمه إليه وقضاه إيّاه لزم واستقر بلا خلاف فبرئ المضمون عنه بالإجماع ولم يبق للمضمون له مطالبة المضمون عنه ، ويلزم من قال بالأول المصير إلى مذهب المخالفين ، من أنّ الضمان لا ينقل المال ، بل المضمون له مخير بين مطالبة المضمون عنه ، ومطالبة الضّامن والضمان عند أصحابنا بغير خلاف بينهم ينقل المال من ذمّة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ولا يكون. للمضمون له أن يطالب أحدا غير الضامن ، ولا يصحّ ضمان ما لم يجب في ذمة المضمون عنه.

ويصح ضمان المال الثابت في الذمة ، وإن كان مؤجلا ، وإذا ضمن الضامن المال مطلقا فله ان يطالب به أي وقت شاء المضمون له (٢) ، وإن كان مؤجلا ، لم يكن له مطالبة الضامن إلا بعد حلول الأجل ، وإن كان المال حالا ، وضمّنه الضامن مؤجلا ، صحّ ذلك إذا كان الأجل محروسا من الزيادة والنقصان ، إمّا بالسنين والأعوام ، أو الشهور والأيام.

وقد يوجد في بعض الكتب لأصحابنا (٣) ولا يصحّ ضمان مال ولا نفس إلّا بأجل.

والمراد بذلك ، إذا اتفقا على التأخير والأجل ، فلا بد ، ولا يصحّ إلا بأجل محروس ، على ما قدمناه ، فأمّا إذا اتفقا على التعجيل ، فيصح الضمان من دون أجل ، وكذلك إذا أطلقا العقد.

وإلى هذا القول ذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (٤) ، وهو الحقّ اليقين ،

__________________

(١) الوسائل : كتاب الضمان ، الباب ٢.

(٢) ج : مطلقا فللمضمون له ان يطالب الضامن أي وقت شاء.

(٣) وهو الشيخ الطوسي في النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

(٤) المبسوط : كتاب الضمان.

٧٠

لأنّه لا يمنع منه مانع ، ومن ادّعى خلافه يحتاج إلى دليل ، ولن يجده.

ومتى أدّى الضامن الدين ، سقط عنه الضمان ، وهل يرجع على المضمون عنه أم لا؟ فيه أربع مسائل :

إحداها أن يكون قد ضمن بأمر من عليه الدين ، وادّى بأمره. والثانية أنّه لم يضمن بأمره ، ولم يؤدّ بأمره. الثالثة أن يكون ضمن بأمره ، وأدّى بغير أمره. الرابعة أن يكون ضمن بغير أمره ، وأدّى بأمره.

فإذا ضمن بأمره ، وقضى بأمره ، فإنّه يرجع عليه به بلا خلاف.

وأمّا إذا ضمن بغير إذنه ، وأدّى بغير إذنه ، وأمره ، فإنّه يكون متبرّعا بذلك ، فلا يرجع عليه بغير خلاف بين أصحابنا ، لأنّه يكون قد قضى دين غيره بغير إذنه ، فلا يرجع عليه به.

وأمّا إذا ضمن عنه بإذنه ، وأدّى بغير إذنه ، فإنّه يلزمه ، لأنا قد بيّنا أنّه بنفس الضمان انتقل الدين إلى ذمته ، فلا يحتاج في قضائه إلى إذنه ، بمقدار ما أدّى الضامن ، إن كان بمقدار الحقّ ، وإن كان ما أدّى أنقص من الحقّ ، فلا يلزمه إلا بمقدار المؤدى فحسب ، وبه وردت الأخبار (١) عن الأئمة الأطهار.

فمن ذلك ما أورده شيخنا أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام في باب الصلح ، محمد بن خالد ، عن ابن بكير ، عن عمر بن يزيد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل ضمن ضمانا ، ثم صالح على بعض ما صالح عليه ، قال : ليس له إلا الذي صالح عليه (٢).

وأيضا فشيخنا أبو جعفر قد حققه في مبسوطة ، وذهب إليه.

وأيضا فالمضمون عنه أمر الضامن بالضمان عنه ، فقد جعله كالوكيل له في قضاء دينه ، وإن لم يكن وكيلا بما له على الحقيقة ، فهو كالوكيل ، فيده نائبة عن يد

__________________

(١) الوسائل : كتاب الضمان ، الباب ٦ من أحكام الضمان.

(٢) التهذيب : كتاب الصلح ، الباب ٨٣.

٧١

موكله ، ولا يرجع الوكيل على موكله ، إلا بما غرمه وصالح عليه فحسب ، فأمّا إذا كان زائدا على مقدار الدين ، فلا يلزمه بغير خلاف ، وإن كان على مذهبنا ، المال قد انتقل بالضمان من ذمة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فهو المطالب به بسبب المضمون عنه ، فما ادّى عنه رجع عليه به.

وأمّا إذا ضمن بغير إذنه ، وادّى بإذنه وأمره ، فإنّه لا يرجع عليه به ، لأنّه التزم وضمن بغير أمر منه متبرعا ، فانتقل المال إلى ذمته ، فلا تأثير لإذنه في القضاء عنه. لأن (١) قضاءه بعد الضمان انّما هو عن نفسه ، لا عن غيره ، لأنّه واجب عليه دونه.

فأمّا بيان الحقوق التي يصح فيها الضمان ، ولا يصحّ ، فجملة الأمر ، وعقد الباب ، ان كل حق لازم ثابت في الذمّة ، سواء كان مستقرا أو غير مستقر ، فإنّه يصح ضمانه ، وما لم يكن ثابتا في الذمّة ، لا يصحّ ضمانه ، فعلى هذا التحرير ، نفقة الزوجات إن كانت ماضية ، صح ضمانها ، لأنّها ثابتة لازمة في الذمة ، وإن كانت نفقة اليوم ، صح أيضا ، لأنّها تجب بأول اليوم ، وإن كانت نفقة مستقبلة (٢) لم يصح ضمانها ، لأنها غير ثابتة في الذمة ، لأنّ النفقة تجب عندنا بالتمكين من الاستمتاع ، لا بمجرّد العقد ، وإذا لم تجب النفقة بعد ، فلا يصح الضمان ، وفي الموضع الذي يصح ضمانها ، فلا يصح ، إلّا أن تكون معلومة ، لأنّ ضمان المجهول على الصحيح من المذهب ، وعند المحصّلين من الأصحاب ، لا يصحّ.

وإلى هذا القول ، ذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه وفي مبسوطة فإنّه قال : لا يصح ضمان المجهول ، سواء كان واجبا في حال الضمان ، أو غير واجب ، ولا يصح ضمان ما لم يجب ، سواء كان معلوما أو مجهولا (٣).

فالمجهول الذي ليس بواجب ، مثل أن يقول : ضمنت لك ما تعامل فلانا ، أو ما تقرضه ، وتداينه ، فهذا لا يصح ، لأنّه مجهول ولأنّه غير واجب ، في الحال ،

__________________

(١) ج : وان.

(٢) ج : كانت مستقبلة.

(٣) الخلاف : كتاب الضمان ، المسألة ١٣.

٧٢

والمجهول ، الذي هو واجب ، مثل أن يقول : أنا ضامن لما يقضي لك به القاضي على فلان ، أو ما يشهد لك به البينة من المال عليه ، أو ما يكون مثبتا في دفترك ، فهذا لا يصح ، لأنّه مجهول وإن كان واجبا في الحال ، وقال قوم من أصحابنا : إنّه يصح أن يضمن ما تقوم به البيّنة ، دون ما يخرج به دفتر الحساب ولست أعرف به نصا (١) ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : فإن قال قائل : فإذا لم يعرف الشيخ أبو جعفر الطوسي بصحة ضمان ما قامت به البيّنة نصا ، فمن أين أورده في نهايته (٢) وذهب إليه ، وأفتى به ، وعول عليه.

قلنا : هذا أدلّ دليل ، وأوضح قيل ، في اعتذارنا له فيما يورده في نهايته ، من أخبار الآحاد ، وانّه يوردها إيرادا من طريق أخبار الآحاد ، بحيث لا يشد شي‌ء من الأخبار ، لا اعتقادا على ما قاله في عدته ، على ما أسلفنا القول في معناه ، وأنّه غير عامل بأخبار الآحاد ، وإلا إن كان عاملا بها ، فيلزمه العمل بما أورده في نهايته ، وهو قد دفع ، وقال : لست أعرف بذلك نصا ، فيكون مناقضا لأقواله.

وأمّا الأعيان المضمونة ، مثل العين المضمونة في يد الغاصب ، والعارية في يد المستعير ، إذا شرط ضمانها ، فهل يصح ضمانها عمّن هي في يده ، أم لا؟ الصحيح أنّها يصحّ ضمانها ، لأنّها مضمونة.

ومتى كان لرجل على رجلين الف درهم ، على كل واحد منهما خمسمائة ، وضمن كل واحد منهما صاحبه ، تحول الحقّ الذي على كل واحد منهما إلى صاحبه ، وهو خمسمائة ، إلا أن قبل الضمان كان له دين الأصل ، وبعد الضمان دين الضمان ، فان قضى أحدهما الألف عن نفسه ، وعن صاحبه برئا جميعا ، لأنه يكون قد قضى دين غيره ، وذلك صحيح ، وإن أبرأه عن الألف برئ

__________________

(١) المبسوط : كتاب الضمان.

(٢) النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

٧٣

مما عليه ، ولا يبرأ الآخر ، لأنّه لم يبرئه ، ومتى قضى خمسمائة ، لم يقع ذلك إلا عن الخمسمائة التي تحولت إليه بالضمان ، لأنّ الخمسمائة التي عليه انتقلت عنه إلى ذمة صاحبه بالضمان ، علي ما قررناه ، هذا إذا ضمنا في حالة واحدة.

فأمّا إن ضمن أحدهما ما على الآخر ، بري‌ء المضمون عنه ، وصار الألف جميعا لازما للضامن ، خمسمائة ، دين الأصل ، وخمسمائة دين الضمان.

فإن عاد بعد ذلك المضمون عنه ، وضمن صاحبه الأول الذي هو الضامن ، فقد تحول ، وانتقل الألف جميعا من ذمة الأول إلى ذمّة الأخير ، وعلى هذا الاعتبار ، لأنّا قد بيّنا انّ بالضمان عند أصحابنا ، ينتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فليس له مطالبة المضمون عنه بحال.

وأصحابنا يعتبرون في صحّة الضمان ، أن يكون الضامن مليا بما ضمن وقت الضمان ، أو غير ملي مع علم المضمون له بذلك ، فمتى كان غير ملي وقت الضمان ، ولم يعلم المضمون له حاله ، فله الرجوع على المضمون عنه.

فعلى هذا التحرير قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : من كان عليه حق فسأل غيره ضمانه عنه لصاحبه ، فضمنه ، وقبل المضمون له ضمانه ، وكان الضامن مليا بما ضمّن فقد وجب عليه الخروج إلى صاحبه مما ضمن ، وبري‌ء المضمون عنه من مطالبة من كان له عليه ، غير أنّه يثبت له حقه على من كان ضمن عنه ، فإن أراد مطالبته بذلك ، كان له ذلك (١) ( لأنه بأمره وإذنه ضمن ، فمتى أدّى كان له الرجوع عليه ، وثبت حقّه قبله ) (٢).

ومتى تبرع الضامن ، من غير مسألة المضمون عنه ذلك ، وقبل المضمون له ضمانه ، فقد بري‌ء عهدة المضمون عنه ، إلا أن ينكر ذلك ويأباه ، فيبطل ضمان المتبرع ، ويكون الحق على أصله ، لم ينتقل عنه بالضمان ، وليس للضامن على

__________________

(١) النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

(٢) وما وقع في القوسين زائد على المصدر.

٧٤

المضمون عنه رجوع فيما ضمن ، إذا تبرع بالضمان عنه ورضى (١).

ومن ضمن حقا ، وهو غير ملي به ، لم يبرئ المضمون عنه بذلك ، إلا أن يكون المضمون له قد علم ذلك ، وقبل ضمانه مع ذلك ، فلا يجب له مع هذه الحال الرجوع على المضمون عنه.

وإذا كان الضامن مليا بما ضمن في الحال التي ضمن فيها ، وقبل المضمون له ضمانه ، ثمّ عجز بعد ذلك عما ضمن ، وافتقر ، لم يكن للمضمون له الرجوع على المضمون عنه ، وانّما يرجع عليه ، إذا لم يكن الضامن مليا في وقت الضمان.

وإن ظن (٢) في حال ما ضمن ، أنّه ملي بذلك ، ثمّ انكشف بعد ذلك ، أنّه كان غير ملي في تلك الحال ، كان له الرجوع على المضمون عنه.

ومن ضمن لغيره نفس (٣) إنسان ، إلى أجل معلوم ، بشرط ضمان النفوس ، ثم لم يأت به عند الأجل ، وحلوله ، كان للمضمون له حبسه ، حتى يحضر المضمون أو يخرج إليه مما عليه.

ومن ضمن غيره إلى أجل ، وقال : إن لم أحضره عند حلول الأجل كان عليّ كذا ، وحضر الأجل ، لم يلزمه إلا إحضار الرجل ، دون ما ذكره من المال.

فإن بدأ بضمان المال ، أولا فقال : عليّ المال المعين إلى كذا وضرب الأجل ، إن لم أحضره ، ثمّ لم يحضره ، وجب عليه ما ذكره من المال ، وكان ضامنا للمال ، بخلاف المسألة المتقدمة ، لأنّه في هذه بدأ بضمان المال أولا ، فقال عليّ كذا ، وفي الأولة بدأ بضمان النفس ، قبل المال ، فافترق الأمران.

روى ذلك أحمد بن محمد ، بن أبي نصر ، عن داود بن الحصين ، عن أبي العباس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل ، تكفل بنفس الرجل ، إلى أجل ، فإن لم يأت به ، فعليه كذا وكذا درهما ، قال عليه‌السلام : إن

__________________

(١) ج : بالضمان عنه.

(٢) ج : فان ظنّ.

(٣) ج : بنفس.

٧٥

جاء به إلى أجل ، فليس عليه مال ، وهو كفيل بنفسه أبدا ، إلا أن يبدأ بالدراهم ، فإن بدأ بالدراهم فهو له ضامن ، إن لم يأت إلى الأجل الذي أجله (١).

محمد بن احمد بن زياد ، عن الحسن بن محمد الكندي ، عن أحمد بن الحسن الميثمي ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي العباس ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، رجل كفل لرجل بنفس رجل ، فقال : إن جئت به ، وإلا فعليّ خمسمائة درهم ، قال : عليه نفسه ، ولا شي‌ء عليه من الدراهم ، فإن قال : عليّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه ، فقال : يلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه (٢).

فهذان الخبران أوردهما شيخنا أبو جعفر في تهذيب الأحكام (٣).

وفي نهايته (٤) أورده عبارة ملتبسة في هذا المعنى ، وفقه ذلك ما ذكرناه.

ولا بدّ أن يكون الدراهم التي لزمته في الموضع المذكور ، ضمانا عما وجب له في ذمّة المضمون عنه ، ثابتة في ذمته ، حتى يصح ضمانها ، لأنّا قد بيّنا أنّ ضمان ما لم يجب ولا يثبت في الذمة لا يجوز.

ثمّ قال شيخنا في نهايته : وإن لم يكن عين المال ، وقال : أنا أضمن له ما يثبت (٥) لك عليه ، إن لم آت به ، إلى وقت كذا ، ثمّ لم يحضره ، وجب عليه ما قامت به البيّنة ، للمضمون عنه (٦) ولا يلزمه ما لم تقم به البينة ، مما يخرج به الحساب في دفتر ، أو كتاب ، وانّما يلزمه ما قامت له به البيّنة ، أو يحلف (٧) خصمه عليه ، فإن حلف على ما يدعيه بعد رد اليمين عليه ، واختيار الضامن المذكور ذلك ، وجب عليه الخروج منه (٨).

قال محمد بن إدريس : هذا على قول من قال من أصحابنا (٩) بصحة ضمان

__________________

(١) و (٢) الوسائل : الباب ١٠ من أحكام الضمان ، ح ١ ـ ٢.

(٣) التهذيب : الباب ٨٤ من باب الكفالات والضمانات ، ح ٥ / ٤٨٨ و ١٠ / ٤٩٣.

(٤) النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

(٥) ج : ثبت.

(٦) ج : للمضمون له.

(٧) ج : يحلّقه.

(٨) و (٩) النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

٧٦

المجهول ، فأمّا على الصحيح من المذهب ، فلا يصح هذا كله ، والضمان من أصله باطل ، لأنّه ضمان مجهول ، وقد بيّنا فيما مضى قول شيخنا ، ورجوعه عمّا ذهب إليه في نهايته ، في مبسوطة (١) ، ومسائل خلافه ، واستدل على فساده ، بأن قال : دليلنا ما روي عن النبيّ عليه‌السلام ، أنّه نهى عن الغرر ، وضمان المجهول غرر ، لأنّه لا يدري كم قدرا من المال عليه. ثمّ قال رحمه‌الله : وأيضا فلا دليل على صحة ذلك ، فمن ادّعى صحّته فعليه الدلالة ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه (٢).

ومن خلى غريما لرجل من يده قهرا ، أو إكراها ، كان ضامنا لما عليه فان خلاه بمسألة وشفاعة لم يلزمه شي‌ء ، إلّا أن يضمن عنه ما عليه ، حسب ما قدّمناه.

ومن خلّى قاتلا من يد ولي المقتول ، بالجبر والإكراه ، كان ضامنا لدية المقتول ، إلا أن يرد القاتل إلى الولي ويمكنه منه.

كفالة الأبدان عندنا تصح إلا أنّها لا تصحّ إلا بإذن من تكفل عنه. فإذا كفل بالبدن ، نظر ، فإن كان قد كفل حالا ، صحت الكفالة ، وإن كفل مؤجلا صحت ، كما نقول في كفالة المال ، وإن كفل مطلقا كانت صحيحة ، وكانت حالة ، وإلى هذا التحرير يذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (٣).

وقال في نهايته : لا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل (٤).

وقد قدّمنا معنى ذلك ، وما المقصود به.

فإذا ثبت هذا ، وهو الصحيح الحقّ اليقين ، كان للمكفول له مطالبته بتسليمه في الحال ، فإن سلّمه ، بري‌ء ، وإن امتنع من تسليمه ، حبس حتى يسلم ، على ما قدّمناه.

وإن أحضره الكفيل ، وسأله أن يتسلمه ، فإن كان ممنوعا من تسليمه (٥) بيد

__________________

(١) المبسوط : كتاب الضمان.

(٢) الخلاف : كتاب الضمان ، المسألة ١٣.

(٣) المبسوط : كتاب الضمان ، أحكام الكفالة.

(٤) النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

(٥) ج : من تسلّمه.

٧٧

ظالمة مانعة لم يبرأ من كفالته ، ولا يصح تسليمه ، وإن لم يكن ممنوعا من تسليمه ، لزمه قبوله ، فإن لم يقبل ، أشهد عليه رجلين ، أنّه سلّمه إليه وبري‌ء.

فإن كانت الكفالة مؤجلة ، لم يكن له مطالبة الكفيل قبل المحلّ ، فإذا حل الأجل ، كان حكمه ما قدّمناه.

وإن كان غائبا وقت حلول الأجل ، كان له حبس الكفيل ، أو يخرج ممّا عليه فإن مات المكفول ، برئ الكفيل ، ولا يلزمه المال الذي كان في ذمته ، لأنّه لا دليل عليه.

إذا قال لرجل : فلان يلزم فلانا فاذهب ، وتكفّل به ، ففعل ذلك ، كانت الكفالة على من باشر عقدها ، دون الآمر ، لأنّ المأمور تكفل باختياره من غير إجباره.

إذا تكفّل بدين رجل ، ثم ادّعي الكفيل ، أنّ المكفول له ، قد أبرأ المكفول به من الدين ، وأنّه قد برئ من الكفالة ، وأنكر ذلك المكفول له ، كان القول قول المكفول (١) مع يمينه ، وعلى الكفيل البيّنة ، لأنّه مدّع ، والأصل بقاء الكفالة.

إذا قال الكفيل : تكفلت ببدنه ، ولا حقّ لك عليه ، وأنكر المكفول له (٢) ، كان القول قوله مع يمينه ، لأنّ الظاهر أنّ الكفالة صحيحة ، والكفيل يدّعي ما يبطلها.

إذا تكفّل ببدن رجل إلى أجل مجهول ، لا يصح.

والحوالة عقد من العقود ، يجب الوفاء به ، لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٣) ووجوب الوفاء به يدل على جوازه ، وأجمعت الأمة على جواز الحوالة ، وهي مشتقة من تحويل الحقّ ، من ذمّة ، إلى ذمة ، يقال : أحاله بالحقّ عليه يحيله احالة واحتال الرجل إذا قبل الحوالة ، فالمحيل ، الذي عليه الحق (٤) ، والمحتال الذي يقبل الحوالة ، والمحال عليه ، هو الذي عليه الحقّ للمحيل ، والمحال به هو الدين نفسه.

__________________

(١) ج : القول قوله.

(٢) ج : المكفول.

(٣) المائدة : ١.

(٤) ج : له الحق.

٧٨

فإذا ثبت ذلك ، فالحوالة متعلقة بثلاثة أشخاص ، محيل ، ومحتال ، ومحال عليه ، والثلاثة يعتبر رضاهم في صحة عقد الحوالة ، لأنّه إذا حصل رضا هؤلاء أجمع ، صحت الحوالة بلا خلاف ، وإذا لم يحصل ، فيه خلاف.

وإذا أحاله بدينه على من له عليه دين ، فلا خلاف في صحّة الحوالة ، فأمّا إذا أحاله على من ليس له عليه دين ، فانّ ذلك لا يصح عند المخالف ، ولا خلاف في صحّة ذلك عند أصحابنا معشر الإمامية ، فإذا ثبت ذلك ، تحوّل الحق من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، إجماعا الأزفر ، واشتقاق الحوالة يقتضي ذلك ، لأنّها مشتقة من التحويل ، والمعنى ، إذا حكم الشرع بصحته ، وجب أن نعطيه حقّه.

فإذا ثبت ذلك ، فانّ المحتال إذا أبرأ المحيل ، بعد الحوالة ، من الحقّ لم يسقط حقّه عن المحال عليه ، لأنّ المال قد انتقل ، وتحول عنه إلى غيره ، فإذا ثبت أنّ الحق قد انتقل من ذمّته ، فإنّه لا يعود إليه ، سواء بقي المحال عليه على غناه ، حتى أداه ، أو جحده حقّه ، وحلف عند الحاكم ، أو مات مفلسا ، أو أفلس وحجر عليه الحاكم ، إلا أنّ أصحابنا يعتبرون ملاءة المحال عليه ، وقت الإحالة ، الملاءة ، بفتح الميم ، والمد ، أو علم المحال له ، بإعساره ، كما اعتبروا ذلك في الضامن على ما قدّمناه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وان كان له على غيره مال ، فأحال به على غيره ، وكان المحال عليه مليا به ، في الحال ، وقبل الحوالة ، وأبرأه منه ، لم يكن له رجوع عليه ، ضمن ذلك المحال به عليه (١) ، أو لم يضمن ، بعد أن يكون قد قبل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة ، إلا بعد ضمان المحال عليه ، ولم يضمن من أحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة المحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة ، فإن انكشف لصاحب المال ، انّ الذي (٢) أحيل عليه به ، غير ملي بالمال ، بطلت الحوالة ، وكان له

__________________

(١) ج : المحال عليه.

(٢) وفي المصدر : انّ الرجل الذي.

٧٩

الرجوع على المديون بحقه عليه ، ومتى لم يبرأ المحال له بالمال المحيل في حال ما يحيله ، كان له أيضا الرجوع عليه ، أيّ وقت شاء ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته (١).

قال محمّد بن إدريس : لا أرى لقوله رضى الله عنه وجها في أوّل الكلام ، وهو « وقبل الحوالة ، وأبرأه منه لم يكن له رجوع عليه ، ضمن ذلك المحال به عليه ، أو لم يضمن ، بعد أن يكون قد قبل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة ، إلا بعد ضمان المحال عليه ، ولم يضمن من أحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة المحيل ، ولم تبرأ ذمته بالحوالة » قلنا بعد (٢) أن يقبل الحوالة ، فقد تحوّل الحقّ من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، سواء ضمن ذلك ، أو لم يضمن ، لأنّ الضمان به ، ينتقل المال من ذمة المضمون عنه ، إلى ذمة الضامن ، وكذلك الحوالة ، بها يتحول الحقّ ، من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، فلا فائدة في الضمان ، بعد عقد الحوالة ، وانتقال المال وتحويله.

وقوله رضى الله عنه في آخر الكلام والباب : ومتى لم يبرء المحال له ، بالمال المحيل ، في حال ما يحيله ، كان له أيضا الرجوع عليه ، أيّ وقت شاء ، لا وجه له ، لأنّ الحوالة عقد قائم بنفسه ، عند أصحابنا ، وهي من العقود اللازمة للمتعاقدين ، وينتقل المال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، مع رضا المحال له ، وهي مشتقة من تحويل الحق ، فإذا كان كذلك ، فقد انعقد العقد ، وتحول الحقّ ، فسواء أبرأه منه بعد الحوالة أو لم يبرئه (٣) لأنّ الذمة قد برئت بتحويل الحقّ ، وعقد الحوالة ، فلا حاجة بنا إلى أن يبرأ بعد الحوالة ، لأنّ الذمة قد برئت بعد عقد الحوالة ، وانتقال المال ، وتحويل الحقّ ، فلا يحتاج بعد ذلك إلى براءة أخرى ، وهذه الألفاظ التي أوردها شيخنا في نهايته (٤) ، ألفاظ أخبار الآحاد ، أوردها إيرادا لا اعتقادا ، على ما كررنا القول في معناه.

__________________

(١) النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

(٢) ج : فامّا بعد.

(٣) ج : أبرأه بعد أو لم يبرئه.

(٤) النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

٨٠