كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

وكان ماله معلوم المقدار ، يكون البيع باطلا بلا خلاف ، وإن كان الجزء هو السبع في الوصية فحسب ، ولا نعديه إلى غيرها بغير خلاف.

وإذا قال : له عليّ ألف ودرهم ، لزمه درهم ، ويرجع في تفسير الألف إليه ، لأنّها مبهمة ، والأصل براءة الذمة ، وقوله : « ودرهم » ، زيادة معطوفة على الألف ، وليست بتفسير لها ، لأنّ المفسّر لا يكون بواو العطف ، وكذا الحكم لو قال : ألف ودرهمان ، فأمّا إذا قال : ألف وثلاثة دراهم ، أو ألف وخمسون درهما ، وما أشبه ذلك ، فالظاهر أنّ الكل دراهم ، لأنّ ما بعده تفسير له.

وإذا قال : له عليّ عشرة إلا درهما ، كان إقرارا بتسعة ، فإن قال : إلا درهم ، بالرفع كان إقرارا بعشرة ، لأنّ المعنى غير درهم.

وإن قال : ماله عليّ عشرة إلا درهما ، لم يكن مقرا بشي‌ء ، لأنّ المعنى ماله على تسعة.

ولو قال : ماله عليّ عشرة إلا درهم ، كان إقرارا بدرهم ، لأنّ رفعه بالبدل من العشرة ، فكأنه قال : ماله عليّ إلا درهم.

وإذا قال : له عليّ عشرة إلا ثلاثة ، إلا درهما ، كان إقرارا بثمانية ، لأنّ المراد إلا ثلاثة لا يجب ، إلا درهما من الثلاثة يجب ، لأنّ الاستثناء من الإيجاب نفي ، ومن النفي إيجاب ، واستثناء الدرهم يرجع إلى ما يليه فقط ، إذا لم يكن بواو العطف ، ولا يجوز أن يرجع إلى جميع ما تقدّم لسقوط الفائدة.

إذا قال : ماله عندي عشرون إلا خمسة ، فأنت تريد مالك إلا خمسة.

وتقول ، لك عليّ عشرة إلا خمسة ما خلا درهما ، فالذي له ستة.

وكل استثناء ممّا يليه فالأوّل حطّ ، والثاني زيادة ، وكذلك جميع العدد ، فالدرهم مستثنى من الخمسة ، فصار المستثنى أربعة ، هذه المسائل ذكرها ابن البراج في أصوله (١).

__________________

(١) .. أصوله لو كان موجودا فهو من المخطوطات.

٥٠١

إذا قال : عليّ عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين ، كان ذلك استثناء الخمسة من العشرة ، وأمّا إذا لم يعطف الثاني على الأول ، مثل أن يقول : له عليّ عشرة إلا خمسة إلا اثنين ، فيكون قد استثنى الاثنين من الخمسة ، فيبقى ثلاثة ، فيكون قد استثنى من العشرة ثلاثة فيلزمه سبعة ، ولا يجوز أن يعود هاهنا إلى الجملتين معا ، بل إلى الجملة التي تليه ، لأنّه كان يكون لا فائدة فيه ، لأنّ الكلام موضوع للإفادة ، كما إذا قال له عليّ درهم ودرهم إلا درهما ، فقد أسقط الاستثناء من الدرهمين درهما ، فلو رجع إلى الجملتين معا من الكلام صار عبثا ولغوا ، كما لو قال : له عليّ درهم إلا درهما ، فلا يقبل استثناؤه ذلك ، لأنّ الاستثناء يخرج من الجمل ، ما لولاه لصح دخوله تحته ، أو لوجب دخوله تحته على العبارتين واختلاف المقالتين بين من تكلّم في أصول الفقه ، وإذا كان الاستثناء الثاني معطوفا على الأول ، كانا جميعا راجعين إلى الجملة الاولى ، فلو قال : عليّ عشرة إلا ثلاثة وإلا درهما ، كان إقرارا بستة ، وإذا استثنى بما لا يبقى معه من المستثنى منه شي‌ء ، كان باطلا على ما قدّمناه ، لأنّه يكون بمنزلة الرجوع عن الإقرار ، فلا يقبل.

وإن استثنى بمجهول القيمة ، كقوله : عليّ عشرة إلا ثوبا ، فإن فسّر قيمته بما يبقى معه من العشرة شي‌ء ، وإلا كان باطلا.

ويجوز استثناء الأكثر من الأقل بلا خلاف ، إلا من ابن درستويه النحوي ، وابن حنبل ، ويدلّ على صحته قوله تعالى ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) (١) وقال حكاية عن إبليس ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) فاستثنى من عباده ، الغاوين مرّة ، والمخلصين اخرى ، فلا بدّ أن يكون أحد الفريقين أكثر من الآخر.

وإذا قال : عليّ كذا درهم ، بالرفع ، لزمه درهم واحد ، لأنّ التقدير هو درهم ،

__________________

(١) الحجر : ٤٢.

(٢) ص : ٨٢ ـ ٨٣.

٥٠٢

أي الذي أقررت به درهم.

وإن قال : كذا درهم بالخفض ، لزمه مائة درهم ، لأنّ ذلك أقل عدد يخفض ما بعده ، ولا يلزم أن يكون إقرارا بدون الدرهم ، لأنّه أقل ما يضاف إلى الدرهم ، لأنّ ذلك ليس بعدد صحيح ، وإنّما هو كسور.

وإن قال : كذا درهما لزمه عشرون درهما ، لأنّه أقل عدد واحد ينتصب ما بعده.

وإن قال : كذا كذا درهما ، لزمه أحد عشر درهما ، لأنّ ذلك أقل عددين ركبا ، وانتصب ما بعدهما.

وإن قال : كذا وكذا ، وأدخل بينهما الواو ، كان إقرارا بأحد وعشرين درهما ، لأنّ ذلك أقل عددين عطف أحدهما على الآخر ، وانتصب الدرهم بعدهما.

والأولى عندي في هذه المسائل جميعها ، أن يرجع في التفسير إلى المقرّ ، لأنّ كذا لفظ مبهم محتمل ، ولا نعلّق على الذمم شيئا بأمر يحتمل ، والأصل براءة الذمة ، ولم يذكر هذه المسائل أحد من أصحابنا ، إلا شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (١) ، ومسائل خلافه (٢) وهذان الكتابان بعضهما (٣) فروع المخالفين ، وتخريجاتهم ، وأخبارنا خالية من ذلك ، وكذلك مصنفات أصحابنا ، إلا من اتبع تصنيف شيخنا أبي جعفر ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وإذا قال : عليّ دراهم ، فإنّه يلزمه ثلاثة دراهم.

وإذا أقرّ بشي‌ء وأضرب عنه ، واستدرك غيره ، فإن كان مشتملا ، على الأول ، بأن يكون من جنسه وزائدا عليه ، وغير متعيّن ، لزمه دون الأول ، بل يدخل الأول فيه ، كقوله عليّ درهم ، لا بل درهمان ، ولا يلزمه ثلاثة دراهم ، لأنّ الأول دخل في الثاني ، لأنّه إذا قال : عليّ درهم ، فقد أخبر بدرهم عليه ، وقوله بعد هذا : لا بل درهمان ، إخبار بالدرهم الذي أقرّ به أولا ، ثانيا ، لأنّه يصح

__________________

(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإقرار ، ص ١٣.

(٢) الخلاف : كتاب الإقرار ، المسائل ٦ و ٧ و ٨ و ٩ و ١٠ و ١١.

(٣) ج : معظمهما.

٥٠٣

أن يخبر عنه ثمّ يخبر عنه ، فكأنّه نفى الاقتصار عليه ، فأخبر به ، وبغيره مرة أخرى.

وإن كان ناقصا عنه ، لزمه الأول دون الثاني ، كقوله : عليّ عشرة دراهم ، لا بل تسعة دراهم ، لأنّه أقرّ بالعشرة ، ثمّ رجع عن بعضها ، فلم يصح رجوعه ، ويفارق ذلك إذا قال : له عليّ عشرة دراهم إلا درهما ، لأنّ للتسعة عبارتين ، إحداهما لفظ التسعة ، والأخرى لفظ العشرة مع استثناء الواحد ، فبأيّهما أتى فقد عبّر عن التسعة.

إذا قال : لفلان عليّ درهم ودرهم إلا درهما ، فعلي ما يذهب إليه أنّ الاستثناء إذا تعقّب جملا معطوفة بعضها على بعض بالواو ، فإنّه يرجع إلى الجميع يجب أن نقول أنّه يصح ، ويكون إقرارا بدرهم ، ومن قال : يرجع إلى ما يليه ، فإنّه يبطل الاستثناء ، ويكون إقرارا بدرهمين ، لأنّه إذا رجع إلى ما يليه وهو درهم ، لا يجوز أن يستثني درهما من درهم ، لأنّ ذلك استثناء الجميع ، وذلك فاسد ، فيبطل الاستثناء ، ويبقى ما أقرّ به وهو درهم ودرهم الذي عطف عليه.

وإن كان ما استدركه من غير جنس الأوّل ، كقوله : عليّ درهم ، لا بل دينار ، أو قفيز حنطة ، لا بل قفيز شعير ، لزمه الإقرار ان معا ، لأنّ ما استدركه لا يشتمل على الأول ، فلا يسقط برجوعه عنه ، لأنّه غير داخل فيه.

وإن كان ما أقرّ به أولا وما استدركه متعينين بالإشارة إليهما ، أو بغيرها ممّا يقتضي التعريف ، لزمه أيضا الأمران ، سواء كانا من جنس واحد ، أو من جنسين ، أو متساويين في المقدار ، أو مختلفين ، لأنّ أحدهما والحال هذه ، لا يدخل في الآخر ، ولا يقبل رجوعه عما أقرّ به أولا ، كقوله : هذه الدراهم لفلان ، لا بل هذا الدينار ، أو هذه الجملة من الدراهم ، لا بل هذه الأخرى.

وإذا قال : له عليّ ثوب في منديل ، لم يدخل المنديل في الإقرار ، لأنّه يحتمل أن يريد في منديل لي ، فلا يلزم من الإقرار إلا المتيقن ، دون المشكوك فيه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وكذا القول في كلّ ما جرى هذا المجرى ، مثل أن يقول : غصبته سمنا في ظرف ، أو حنطة في غرارة ، وما أشبه ذلك.

٥٠٤

وإذا قال : له عليّ ألف درهم وديعة ، قبل منه ، لأنّ لفظة عليّ للإيجاب ، وكما يكون الحقّ في ذمته ، فيجب عليه تسليمه بإقراره ، كذلك يكون في يده ، فيجب عليه ردّه وتسليمه إلى المقرّ له بإقراره.

ولو ادّعى التلف بعد الإقرار قبل ، لأنّه لم يكذب إقراره ، وانّما ادّعى تلف ما أقرّ به بعد ثبوته بإقراره ، بخلاف ما إذا ادّعى التلف وقت الإقرار ، بأن يقول : كان عندي أنّها باقية ، فأقررت لك بها ، وكانت تالفة في ذلك الوقت ، فانّ ذلك لا يقبل منه ، لأنّه يكذب إقراره المتقدّم من حيث كان تلف الوديعة من غير تعد يسقط حق المودع.

والذي يقوى في نفسي ، أنّه إذا قال : له عليّ ألف درهم وديعة ، لا يقبل منه ، لأنّ لفظة « عليّ » للإيجاب والالتزام ، والوديعة غير لازمة له ولا واجبة في ذمته ، ولا في يده ، فلا يجب تسليمها إلا بعد مطالبة المودع ، فحينئذ يجب ، وقبل ذلك لا يجب ، فإذن التمسّك الأوّل غير معتمد ، بل لو قال : له عندي ألف درهم وديعة ، قبل منه ، لأنّ عندي لفظة غير موجبة ولا لازمة ، وإن كان قد ذكر الأول بعض أصحابنا (١) ، وسطّره في كتابه ، فإنّه من تخاريج المخالفين ، واستحساناتهم ، فأمّا كلام العرب الذي نزل القرآن بلغتهم ، يقتضي ما ذكرناه ، إذ لا نص على خلاف ما ذهبنا إليه ، ولا إجماع.

وإذا قال : له عليّ ألف درهم إن شئت ، لم يكن لكلامه حكم ، لأنّ الإقرار إخبار عن حقّ واجب سابق له ، وما كان كذلك لم يصحّ تعلقه بشرط مستقبل.

وإذا قال : له من ميراثي من أبي ألف درهم ، لم يكن أيضا إقرارا ، لأنّه أضاف الميراث إلى نفسه ، ثمّ جعل له منه جزء ولا يكون له جزء من ماله إلا على وجه الهبة أو الصدقة.

__________________

(١) وهو الشيخ قدس‌سره في الخلاف : كتاب الإقرار ، المسألة ١٩.

٥٠٥

ولو قال : له من ميراث أبي ألف درهم ، كان ذلك إقرارا بدين في تركته.

وهكذا لو قال : داري هذه لفلان ، لم يكن ذلك إقرارا ، لمثل ما قدّمناه ، لأنّ هذا مناقضة ، كيف يكون داره لفلان في حال ما هي له.

ولو قال : هذه الدار ، ولم يضفها إليه ، بل قال : هذه الدار التي هي في يدي ، أو هذه الدار لفلان من غير إضافة إليه ، كان إقرارا ، لأنّها قد تكون في يده بإجارة ، أو عارية ، أو غصب.

فأمّا إذا قال : هذه داري ، أو داري لفلان بأمر حقّ ثابت ، كان إقرارا أيضا صحيحا ، لأنّ قوله : بأمر حق ثابت ، يجوز أن يكون له حق ، وجعل داره في مقابلة ذلك الحق ، وإن كان قد أضافها إلى نفسه.

ويصح الإقرار المطلق للحمل ، لأنّه يحتمل أن يكون من جهة صحيحة ، مثل ميراث أو وصية ، لأنّ الميراث يوقف له ، وتصح الوصية عندنا للحمل ، فالظاهر من الإقرار الصحة ، فوجب حمله عليه.

ومن أقرّ بدين في حال صحته ، ثمّ مرض ، فأقر بدين آخر في حال مرضه صحّ ، ولا يقدّم دين الصحة على دين المرض ، بل هما سواء ، ولا يكلّف من أقرّ له في حال المرض ، إقامة بيّنة على أنّ إقراره له عن حقّ كان له عليه ، سواء كان مرضيا موثوقا بعدالته ، أو غير موثوق بعدالته ، متهما على الورثة ، أو غير متّهم ، ويعطى من أصل المال ، دون الثلث ، مثل الدين الذي أقرّ به في حال صحته ، لا فرق بينهما ، إذا كان عقله ثابتا عليه ، لأنّا قد بينا أنّ إقرار العقلاء الغير المولى عليهم ، جائز على نفوسهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (١) من غير فصل ، لأنّ الأصل تساويهما في الاستيفاء من حيث تساويا في الاستحقاق ، فعلى من ادّعى تقديم أحدهما على الآخر الدليل.

__________________

(١) النساء : ١١ و ١٢.

٥٠٦

ولا يلتفت إلى ما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فإنّه قال : إقرار المريض جائز على نفسه للأجنبي ، وللوارث على كلّ حال ، إذا كان مرضيا موثوقا بعدالته ، ويكون عقله ثابتا في حال الإقرار ، ويكون ما أقرّ به من أصل المال ، فإن كان غير موثوق به ، وكان متّهما ، طولب المقر له بالبيّنة ، فإن كانت معه بينة ، اعطى من أصل المال ، وإن لم يكن معه بيّنة ، اعطي من الثلث إن بلغ ذلك ، فإن لم يبلغ فليس له أكثر منه (١) هذا آخر كلامه رحمه‌الله في نهايته.

إلا أنّه رجع عنه في مسائل خلافه ، وفي مبسوطة (٢).

فقال في مسائل خلافه في الجزء الثاني من كتاب الإقرار : مسألة ، إذا أقرّ بدين في حال صحته ، ثمّ مرض ، فأقرّ بدين آخر في حال مرضه ، نظر ، فإن اتسع المال لهما ، استوفيا معا ، وإن عجز المال قسّم الموجود منه على قدر الدينين ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا ضاق المال ، قدّم دين الصحة على دين المرض ، فإن فضل شي‌ء صرف إلى دين المرض ، دليلنا قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (٣) ولم يفضل أحد الدينين على الآخر ، فوجب أن يتساويا في الاستيفاء ، وأيضا فإنّهما دينان ثبتا في الذمة ، فوجب أن يتساويا في الاستيفاء ، لأنّ تقديم أحدهما على الآخر يحتاج إلى دليل (٤) هذا آخر المسألة من كلام شيخنا رحمه‌الله.

إذا قال : له عندي عبد عليه عمامة ، دخلت العمامة في الإقرار.

وإذا قال : له عندي دابة عليها سرج ، لم يدخل السرج في الإقرار.

والفرق بينهما أنّ العبد ثبتت يده على ما هي عليه ، فيكون لمولاه المقرّ له ، والدابة لا تثبت لها يد على ما عليها ، فلا يكون ما عليها لصاحبها إلا بالإقرار ،

__________________

(١) النهاية : كتاب الوصايا ، باب الإقرار في المرض.

(٢) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإقرار ، ص ١٣.

(٣) النساء : ١١ و ١٢.

(٤) الخلاف : كتاب الإقرار ، المسألة ١٢.

٥٠٧

وقوله : عليها سرج ، ليس بإقرار بالسرج ، فافترقا.

إذا قال : هذه الدار لفلان ، لا بل لفلان ، أو قال غصبتها من زيد ، لا بل من عمرو ، فإنّ إقراره الأول لازم ، ويكون الدار للأول ، ويغرم قيمتها للثاني ، لأنّه حال بينه وبين ما أقرّ له به ، فهو كما لو ذبح شاة له ، وأكلها ، ثمّ أقرّ له بها ، أو أتلف مالا ، ثمّ أقرّ به لفلان ، فإنّه يلزمه غرامته ، فكذلك هذا ، وهذا كما نقول في الشاهدين : إذا شهدا على رجل بإعتاق عبده ، أو طلاق امرأته غير المدخول بها ، وحكم الحاكم بذلك ، ثمّ رجعا عن الشهادة ، كان عليهما غرامة قيمة العبد ، وغرامة المهر ، لأنّهما حالا بينه وبين ملكه ، فلا ينقض حكم الحاكم بغير خلاف.

وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في المبسوط ، في كتاب الإقرار (١) ، وكتاب الشهادات (٢).

وإذا باع شيئا ، ثمّ أقرّ البائع أن ذلك المبيع لفلان ، فإنّ الغرامة تلزمه ، ولا ينفذ إقراره في حقّ المشتري.

إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم ، فجاء بألف ، وقال : هذه التي أقررت لك بها ، كانت لك عندي وديعة ، كان القول في ذلك قوله ، عند بعض الناس ، والأظهر أنّه لا يقبل قوله في ذلك ، ويلزمه ما أقرّ به ، لأنّا قد بيّنا من قبل أن لفظة « عليّ » لفظة إيجاب وإلزام ، والوديعة غير لازمة له ، إلا أن يعقّب. قوله : وديعة فرطت فيها.

وإذا قال : له عندي ألف درهم وديعة شرط عليّ أني ضامن لها ، كان ذلك إقرارا بالوديعة ، ولم يلزمه الضمان الذي شرطه عليه ، لأنّ ما كان أصله أمانة لا يصير مضمونا بالشرط ، وما يكون مضمونا لا يصير أمانة بشرط ، لأنّه لو شرط على المستام أن يكون مال السوم أمانة ، لم يصر أمانة بالشرط.

__________________

(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإقرار ، ص ١٧.

(٢) المبسوط : ج ٨ ، كتاب الشهادات ، فصل في الرجوع عن الشهادة ، ص ٢٤٧.

٥٠٨

إذا شهد شاهدان على رجل بأنّه أعتق عبده الذي في يده فإن كانا عدلين ، حكم بعتق العبد ، وإن لم يكونا عدلين ، فردّت شهادتهما ، ثم اشتريا ذلك العبد من المشهود (١) ، صحّ الشراء ، وعتق عليهما ، ويفارق ذلك ، إذا قال رجل لامرأة : أنت أختي ، فأنكرت المرأة ، ثمّ أنّه تزوّج بها ، في أنّه لا يصحّ العقد ، لأنّه قد أقر أن فرجها حرام عليه ، فإذا تزوّج بها ، لم يقصد إلا المقام على الفرج الحرام ، فلذلك لم يصح ، وليس كذلك إذا اشتريا العبد ، لأنّهما يقصد ان غرضا صحيحا ، وهو استنقاذه من الرق ، فافترقا.

إذا قال : له عليّ ألف دينار من ضرب كذا ، أو سكة كذا وكذلك إذا قال له على درهم من ضرب كذا وسكة كذا (٢) ونقد كذا قبل منه تفسيره ، إذا انطلق عليها اسم الذهب المتعامل به ، وكذلك الدراهم المتعامل بها ، وإن كانت ردية ، فإن كانت دراهم لا فضة فيها بحال ، لا يقبل منه ، وكذلك حكم الدّنانير ، هذا إذا كان تفسيره بالصفة متصلا بالإقرار ، فأمّا إن كان منفصلا ، لا يقبل منه ذلك التفسير ، بل يرجع في إطلاق إقراره إلى نقد البلد الذي هو فيه وغالبه.

إذا قال يوم السبت : لفلان عليّ درهم ، ثمّ قال يوم الأحد : له عليّ درهم ، لم يلزمه إلا درهم واحد ، ويرجع إليه في التفسير ، فأمّا إذا قام يوم السبت : لفلان عليّ درهم من ثمن عبد ، ثم قال يوم الأحد : له عليّ درهم من ثمن ثوب ، لزمه درهمان ، لأنّ ثمن العبد غير ثمن الثوب. ويفارق ذلك إذا قال مطلقا من غير اضافة إلى سبب ، لأنّه يحتمل التكرار ، وكذلك إذا أضاف كلّ واحد من الإقرارين إلى سبب غير السبب الذي أضاف إليه الآخر.

إذا قال : له عليّ ما بين الدرهم إلى العشرة ، لزمه ثمانية ، لأنّه أقرّ بما بين الواحد والعاشر ، والذي بينهما ثمانية ، وكذلك إذا قال : له عليّ من درهم إلى

__________________

(١) ج : من المشهود عليه.

(٢) نسخة « ج » خالية عن الإقرار بالدرهم.

٥٠٩

عشرة ، وقال بعض الناس : يلزمه تسعة ، والأول هو الصحيح ، لأنّه اليقين ، وهذا محتمل ، فلا نعلّق على الذمة شيئا بأمر محتمل.

إذا ادّعى عليه رجل مالا بين يدي الحاكم ، وقال : لا أقرّ ولا أنكر ، قال له الحاكم : هذا ليس بجواب ، فأجب بجواب صحيح ، فإن أجبت ، وإلا جعلتك ناكلا ، ورددت اليمن على خصمك ، فإن لم يجب بجواب صحيح ، فالمستحب أن يكرر ذلك عليه ثلاث مرات ، فإن لم يجب بجواب صحيح ، جعله ناكلا وردّ اليمن على صاحبه ، وإن ردّ اليمين بعد المرة الأولى جاز ، لأنّه هو القدر الواجب ، وإنّما جعلناه ناكلا بذلك ، لأنّه لو أجاب بجواب صحيح ، ثمّ امتنع عن اليمين ، جعل ناكلا ، فإذا امتنع عن الجواب واليمين ، فأولى أن يكون ناكلا بذلك.

فأمّا إذا قال : لي عليك ألف درهم ، فقال : نعم ، أو قال : أجل ، كان ذلك إقرارا.

إذا قال لامرأته : قد طلقتك بألف ، وقبلت ذلك ، وبذلته لي ، لأجل أنّك كرهت المقام معي ، فأنكرت ، كان القول قولها مع يمينها ، فإذا حلفت ، سقطت الدعوى ، ولزمه الطلاق البائن بإقراره ، ولم يثبت له الرجعة.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا أقرّ ببنوّة صبي ، لم يكن ذلك إقرارا بزوجية امه ، ثمّ قال : دليلنا أنّه يحتمل أن يكون الولد من نكاح صحيح ، ويحتمل أن يكون من نكاح فاسد ، أو وطء شبهة ، وإذا احتمل الوجوه ، لم يحمل على الصحيح دون غيره ، وقوله باطل ببنوّة أخيه (١) هذا آخر كلام شيخنا.

قال محمّد بن إدريس : معنى قوله رحمه‌الله : « وقوله » يريد قول الخصم « باطل ببنوة أخيه » يريد بذلك أنّ رجلا آخر أقرّ بولد آخر ، أخ لهذا المقرّ به من امّه ، فإنّه يلزم على قول من ذهب من المخالفين ، أنّ ذلك يكون إقرارا بزوجيّة امه أن تكون المرأة أم الولدين اللذين قد أقرّ رجل ببنوّة أحدهما ، وأقرّ آخر

__________________

(١) الخلاف : كتاب الإقرار ، مسألة ٣١. مع تقطيع في العبارة.

٥١٠

ببنوّة الآخر ، زوجة للمقربين معا ، في حال ما أقرّا بالولدين ، وهذا لا يقوله أحد ، ان امرأة واحدة يكون زوجة لرجلين في حال واحدة ، فليتأمّل ذلك ، فقول شيخنا فيه غموض وإجمال ، يحتاج إلى بيان.

إذا قال لفلان عليّ ألف درهم ، ثمّ سكت ، ثمّ قال : من ثمن مبيع لم أقبضه ، لزمه الألف ، ولم يقبل منه ما ادّعاه من البيع ، لأنّه أقرّ بالألف ، ثمّ فسره بما يسقطه ، وكذلك لو قال : لفلان عليّ ألف درهم ، ثمّ سكت ، ثمّ قال وقد قبضها ، وكذلك إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم من ثمن مبيع ، ثمّ سكت ، ثم قال : لم أقبضه (١) ، لا فرق بين الموضعين ، سواء وصل قوله بثمن مبيع ، ثمّ قال : لم أقبضه ، أو فصله ، لا فرق بين الموضعين ، لأنّه أقرّ بمال الآدمي ، ولفظ الإقرار ، لفظ التزام وإيجاب متقدّم ، وإذا ثبت حقّ الآدمي ، فلا دلالة على إسقاطه ، وتعقيبه بما وصله ، لا يسقطه ، لأنّه على غير وجه الاستثناء ، لأنّ الاستثناء هو المسقط لبعض ما اشتمل عليه ، لأنّه يخرج من الجمل ، ما لولاه لوجب دخوله تحته ، أو لصلح دخوله تحته ، على أحد القولين ، وليس لنا ما يسقط من الجمل والكلام إذا تعقبه ، إلا الاستثناء فحسب ، لأنّه ثبت من اللسان والعرف الشرعي واللغوي ، فقلنا به. مع أنّه لا يجوز أن يسقط جميع الجملة ، ومتى استثنى جميع الجملة ، كان الاستثناء باطلا.

ومن ذهب إلى خلاف ما نحن عليه يسقطه (٢) جملة ، لأنّ الشافعي يذهب إلى أنّه إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم من ثمن مبيع ، ثمّ سكت ، ثمّ قال لم أقبضه قبل منه ، لأنّ قوله بعد السكوت لم أقبضه ، لا ينافي إقراره الأول ، لأنّه قد يكون عليه ألف درهم ثمنا ، ولا يجب عليه تسليمها حتى يقبض المبيع ، ولأنّ الأصل عدم القبض ، فإذا قال (٣) : له عليّ ألف درهم من ثمن مبيع لم أقبضه ، لم

__________________

(١) هنا ينتهى كلام الشيخ قدس‌سره في المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإقرار ، ص ٣٤.

(٢) ج : يسقط جمله

(٣) هذا أول المسألة ٢٤ من كتاب الإقرار ، من كتاب الخلاف ، باختلاف يسير.

٥١١

يلزمه ، ولا فرق بين أن يعيّن المبيع أو يطلقه ، هذا قول الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا عيّنه ، قبل منه وصل أو فصل ، وإن أطلقه لم يقبل منه ، ولزمه الألف ، واستدلّ الشافعي أنّه أقرّ بحقّ في مقابلة حقّ لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فإذا لم يسلم ماله ، لم يلزمه ما عليه ، واختار شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، وفي مبسوطة ، قول الشافعي ، وزاد على استدلال الشافعي ، بأن قال : إن الأصل براءة الذمة ، ولا دليل على أنّه يلزمه ، هذا آخر كلامه واستدلاله ، ولم يتمسك بإجماع الفرقة ، ولا بالأخبار ، ولا بكتاب الله تعالى ، لأنّ ذلك لا إجماع عليه ، ولا سنّة متواترة ، ولا كتاب الله سبحانه.

فأمّا قوله رضي‌الله‌عنه : الأصل براءة الذمة ، فصحيح من قبل أن يقرّ المقرّ بحق الآدمي ، فأمّا بعد الإقرار فقد انتقل من ذلك الأصل ، وعاد الأصل ثبوت حق الآدمي ، فمن أسقطه يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، بل هذا من تخريجات المخالفين ، واستحساناتهم ، ومقاييسهم ، واجتهاداتهم ، وآرائهم ، ولقد كفينا بحمد الله جميع ذلك من لزوم الأصول ، وانّ إقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، بما يوجب حكما في شريعة الإسلام ، وأنّه لا يجوز له الرجوع عنه ، ولا إسقاطه ، ولا إسقاط شي‌ء منه ، إلا بما قد أجمعنا عليه من إسقاط بعضه بالاستثناء فحسب ، لما دللنا عليه.

ولم يذهب أحد من أصحابنا إلى هذا المقال ، ولا أودعه في كتاب ، سوى شيخنا أبي جعفر في هذين الكتابين المشار إليهما ، وهما المبسوط ومسائل الخلاف ، لأنّهما فروع المخالفين ، وما عداهما من سائر كتبه ، لم يتعرّض لذلك بقول.

وقلّده ونقل من مسطورة ابن البراج ، (١) كما قلّده في غير ذلك ممّا أجمعنا على خلافه ، من أنّ الإنسان إذا باع جارية حاملا ، لا يجوز له أن يستثنى الحمل ،

__________________

(١) في المهذب : كتاب الإقرار ، ص ٤١٣.

٥١٢

لأنّه يجري مجرى بعض أعضائها (١).

وقد دللنا على فساد ذلك فيما مضى.

ولا فرق بين أن يقول ذلك ، ويقبل منه ، وبين أن يقول له عليّ ألف درهم قضيتها ، أو ألف درهم من ثمن خمر ، أو خنزير ، أو من ثمن مبيع لم أقبضه ، أو تلف قبل القبض ، فانّ شيخنا أبا جعفر في مبسوطة ، قال : فمتى أقرّ بكفالة بشرط الخيار ، أو بضمان بشرط الخيار ، مثل أن يقول : تكفلت لك ببدن فلان ، أو ضمنت لك مالك على فلان ، على أني بالخيار ثلاثة أيام ، فقد أقرّ بالكفالة ، ووصل إقراره بما يسقطها ، فلا يقبل إلا ببيّنة ، وكذلك إذا قال : له عليّ ألف درهم قضيتها ، أو ألف درهم من ثمن خمر ، أو خنزير ، أو من ثمن مبيع تلف قبل القبض (٢).

فهذا جميعه أورده شيخنا مستدلا على أنّه إذا أقرّ بشي‌ء ، ووصل إقراره بما يسقطه ، فلا يقبل قوله إلا ببيّنة ، فيلزمه مثل ذلك فيما اختاره من أنّه يقبل قوله ، إذا وصل إقراره بقوله له عليّ ألف درهم من ثمن مبيع ، ثمّ قال : لم أقبضه ، إذ لا فرق بينهما ، وهو قائل في أحدهما بغير ما قال في الآخر ، واستدلاله فاض عليه ، وهو محجوج بقوله الذي قال فيه : إذا أقرّ بشي‌ء ، ووصل إقراره بما يسقطه ، فلا يقبل قوله إلا ببيّنة.

وإذا قال : لفلان عليّ ألف درهم مؤجلا إلى وقت كذا ، لزمه الألف ، ولا يثبت التأجيل ، ولشيخنا في ذلك قولان ، أحدهما أنّه يثبت التأجيل ، ويقول في موضع آخر : لا يثبت التأجيل ، وهذا الذي يقوى في نفسي لما دللنا عليه أولا.

الإقرار بالعجمية يصح ، كما يصح بالعربية ، لأنّها لغة ، ولأنّها تنبئ عمّا في النفس من الضمير كالعربية ، فإذا أقرّ بالعجمية عربي ، أو أقرّ بالعربية عجمي ، فإن كان عالما بمعنى ما يقوله ، لزمه إقراره ، وإن قال : قلت ذلك ولا أعرف

__________________

(١) جواهر الفقه : مسائل البيع.

(٢) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإقرار ، ص ٣٥ ، مع تقطيع في العبارة.

٥١٣

معناه ، فان صدّقه المقرّ له ، لم يلزمه شي‌ء فإن كذّبه فالقول قول المقرّ مع يمينه أنّه لم يدر معناه ، لأنّ الظاهر من حال العربي أنّه لا يعرف العجمية ، ومن حال العجمي أنّه لا يعرف العربية ، فقدّم قوله لهذا الظاهر.

إذا شهد عليه شهود بإقراره ، ولم يقولوا : « وهو صحيح العقل » صحّت الشهادة بذلك الإقرار ، لأنّ الظاهر صحة إقراره ، ولأنّ الظاهر أنّهم لا يتحملون الشهادة على من ليس بعاقل ، فإذا ادّعى المقرّ المشهود عليه أنّه أقرّ وهو مجنون ، وأنكر المقرّ له ذلك ، كان القول قوله مع يمينه ، لأنّ الأصل عدم الجنون ، فأمّا إذا شهد عليه الشهود بالإقرار ، فادّعى أنّه كان مكرها على ذلك ، لم يقبل منه ، لأنّ الأصل عدم الإكراه ، فإن أقام البيّنة على أنّه كان محبوسا أو مقيّدا وادّعى الإكراه ، قبل منه ذلك ، وكان القول قوله مع يمينه لأنّ الظاهر من حال المحبوس والمقيّد ، انّه مكره على تصرفه وإقراره.

إذا أقرّ الصبي على نفسه بالبلوغ ، نظر ، فإن لم يبلغ بعد القدر الذي يجوز أن يبلغ فيه ، لم يقبل إقراره ، وإن كان بلغ القدر الذي يبلغ فيه ، صحّ إقراره ، وحكم ببلوغه ، لأنّه أقرّ بما يمكن صدقه فيه.

الإقرار بالنسب لا يخلو من أحد أمرين.

إمّا أن يكون المقرّ بالنسب ، مقرا على نفسه بنسب ، أو غيره ، فان كان على نفسه ، مثل أن يقر بأنه ابنه ، نظر ، فان كان المقر به صغيرا اعتبر فيه ثلاثة شروط.

أحدها أن يمكن أن يكون ولدا له ، وإن لم يمكن أن يكون ولدا له ، فلا يثبت ، مثل أن يقرّ به ، وللمقرّ ستة عشر سنة ، وللمقرّ به عشر سنين ، والثاني أن يكون مجهول النسب ، لأنّه إذا كان معروف النسب فلا يثبت ، والثالث لا ينازعه فيه غيره لأنّه إذا نازعه فيه غيره ، لم يثبت ما يقول الّا ببيّنة ، فإذا حصّلت هذه الشروط الثلاثة ثبت النسب.

٥١٤

إذا أذن الرجل لعبده في النكاح ، فتزوّج بامرأة بمهر ، وضمن السيد ذلك المهر ، ثمّ انّه باع العبد منها بقدر المهر الذي لزمه ، لم يصح البيع ، لأنّ إثباته يؤدي إلى إسقاطه ، والمسألة مفروضة ، إذا اشترته زوجته قبل الدخول بها ، لأنّا إذا صححنا ذلك البيع ، ملكت المرأة زوجها ، وإذا ملكته انفسخ النكاح ، وإذا انفسخ النكاح ، سقط المهر ، لأنّه فسخ جاء من قبلها قبل الدخول ، وكل فسخ جاء من قبل النساء قبل الدخول أسقط جميع المهر ، فإذا سقط المهر ، عري البيع عن الثمن ، والبيع لا يصحّ إلا بالثمن ، فلما كان إثباته يؤدّي إلى إسقاطه ، لم يثبت.

إذا تسلّم المقرّ له ما حصل الإقرار به ، واستحق ببعض وجوه الاستحقاقات ، نزع من يده ، وسلم إلى مستحقه ، ولا درك للمقرّ له على المقرّ ، لاختصاص فائدة الإقرار بإسقاط حقّ المقرّ فحسب ، فإن اقترن بإقراره ضمان الدرك ، فمنع مانع من التسليم ، أو استحق بعده ، فعليه دركه من حيث كان ضمان المقرّ للدرك دلالة للحاكم ، على أنّ الإقرار حصل عن استحقاق يقتضي ضمان الدرك.

وإن كان الإقرار بعد تقدّم دعوى لقائم العين كالدار والفرس ، أو بمعيّن في الذمة ، كالدين وثمن المبيع ، والأجرة ، والأرش ، وما أشبه ذلك ، فعلى الحاكم إلزامه بالخروج إلى المقرّ له ، ممّا تعلّق بذمته ، وتسليم ما في يده من الأعيان القائمة ، فإن قامت بيّنة بعد التسليم باستحقاق عين المقرّ به ، فعلى الحاكم نزعه من يد المقرّ له به ، ولا ضمان عليه ، إلا أن يقترن الإقرار بالضمان ، أو يكون من حقوق الذمم ، كالديون وغيرها ، فيضمن على كلّ حال ، فلتلحظ هذه الجملة ، وتتأمل.

قال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة في كتاب الإقرار : إذا أعتق رجل عبدين في حال صحّته ، فادّعى عليه رجل أنّه غصبهما منه ، وأنّهما مملوكان له ، فأنكر ذلك المعتق ، فشهد له المعتقان بذلك ، لم تقبل شهادتهما ، لأنّ إثبات شهادتهما يؤدّي إلى إسقاطها ، لأنّه إذا حكم بشهادتهما ، لم ينفد العتق ، وإذا لم ينفذ العتق ، بقيا على رقهما ، وإذا بقيا على رقهما ، لم تصح شهادتهما ، فلمّا كان إثباتها

٥١٥

يؤدّي إلى إسقاطها ، لم يحكم بها ، قال رحمه‌الله ، وهذا على مذهبنا أيضا ، لا تقبل شهادتهما ، لأنّا لو قبلناها ، لرجعا رقين ، وتكون شهادتهما على المولى ، وشهادة العبد لا تقبل على مولاه ، فلذلك بطل ، لا لما قالوا (١) هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة.

قال محمّد بن إدريس : ما ذهب إليه شيخنا رحمه‌الله في ذلك ، غير واضح ، بل هو ضد لما عليه إجماعنا وتواتر أخبارنا (٢) بغير خلاف ، وقد أورد ذلك في نهايته (٣) ، إنّ شهادتهما مقبولة.

وما اعتل به غير مستقيم ، لأنّهما في حال شهادتهما وإقامتها وسماع الحاكم لها لم يكونا عبدين ، بل كانا حرين على ظاهر الحال ، بغير خلاف ، فما شهدا في حال ما شهدا وأقاما ، إلا على غير سيدهما ، فلا يؤثر بعد ذلك ما يتعقب الشهادة ، لأنّ المؤثرات في وجوه الأحكام ، لا يكون لها حكم ، إلا أن تكون مقارنة غير متأخرة ، بل إن قيل : إنّ شهادتهما لسيدهما الحقيقي لا عليه ، كان صحيحا ، ومثل هذه المسألة بل هي بعينها من الحكم منصوصة لأصحابنا ، الرواية بها متواترة ، لا يتعاجم في ذلك اثنان من أصحابنا.

وأيضا فالشاهد إذا شهد عند الحاكم ، وكان وقت شهادته مقبول الشهادة ، لا يؤثّر بعد ذلك ما يطرأ عليه من تجدد فسق ، بل يجب على الحاكم الحكم بشهادته ، فلو شرب بعد إقامة شهادته بلا فصل خمرا ، وقبل الحكم بها ، فإنّ الحاكم يحكم بها ، ولا يطرحها بغير خلاف بيننا ، إلا أن يرجع الشاهد عنها قبل الحكم بها ، فيطرحها الحاكم إذا كان رجوعه قبل الحكم بها ، فأمّا إذا كان رجوعه عنها بعد الحكم بها ، فلا يرجع الحاكم عن الحكم بها ، ولا ينقض حكمه.

__________________

(١) المبسوط : ج ٣ ، كتاب الإقرار ، ص ٤٢.

(٢) الوسائل : الباب ٢٣ ، ح ٧ ، والباب ٢٩ ، ح ١ ، من أبواب الشهادات.

(٣) النهاية : كتاب الشهادة ، باب شهادة العبيد والإماء ، والعبارة هكذا : وإذا شهد العبد على سيّده بعد أن يعتق قبلت شهادته عليه.

٥١٦

كتاب النكاح

٥١٧

كتاب النّكاح

قال الله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (١) فندب تعالى إلى التزويج ، وقال عزّ اسمه ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ) (٢) فندب إلى التزويج ، وقال تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (٣) فمدح تعالى من حفظ فرجه إلا على زوجه أو ملك يمينه ، وروى ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : معاشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة ، فليتزوج ، ومن لا يستطيع فعليه بالصوم ، فإن له وجاء (٤) فجعله كالموجوء ، وهو الذي رضّت خصيتاه ، ومعناه أنّ الصوم يقطع الشهوة.

قال محمّد بن إدريس : الباءة النكاح بعينه ، ونظيرها من الفعل فعلة بفتح الفاء والعين ، وفيها لغة أخرى باءه بهاء أصلية ، ونظير ذلك من الفعل فاعل ، كقولك عالم ، وخاتم ، وفيها لغة أخرى الباه ، مثل الجاه.

وروي عنه عليه‌السلام أنّه قال : « من أحبّ فطرتي فليستن بسنّتي ، ألا وهي النكاح » (٥) وقال عليه‌السلام : « تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط » (٦).

وأجمع المسلمون على أنّ التزويج مندوب إليه ، وإن اختلفوا في وجوبه.

__________________

(١) النساء : ٣.

(٢) النور : ٣٢.

(٣) المؤمنون : ٥ و ٦ والمعارج : ٢٩ و ٣٠.

(٤) و (٦) مستدرك الوسائل : الباب ١ من أبواب مقدمات النكاح ، ح ٢١ ، ١٧ لكن الزيادة في العبارة في الأوّل والنقيصة في الثاني.

(٥) مستدرك الوسائل : الباب ١ من أبواب مقدمات النكاح ، ح ٦ باختلاف يسير.

٥١٨

فإذا ثبت ذلك ، فيحتاج أولا أن نبيّن من يحرم نكاحه ، ثم نبيّن أقسام النكاح المباح ، وشروطه ، والأسباب الموجبة لتحريم الوطء بعد صحة العقد ، وما يتعلّق بذلك كلّه من الأحكام.

فنقول : من يحرم عليه العقد عليهن على ضربين ، أحدهما يحرم على كل حال ، والثاني يحرم في حال دون حال.

فالضرب الأول المحرّمات بالنسب ، أوهن ست ، الأم وإن علت ، والبنت وإن نزلت ، والأخت ، وبنت الأخ ، والأخت ، وإن نزلتا ، والعمّة ، والخالة وإن علتا ، بلا خلاف.

والمحرّمات بالرضاع وهن ست أيضا كالمحرّمات بالنسب ، إلا أنّ الراضع من لبن المرأة يحرم عليه كلّ من ينتسب إلى بعلها بالولادة والرضاع ، ولا يحرم عليه من ينتسب إلى المرأة إلا بالولادة دون الرضاع.

ولا يقتضي التحريم الرضاع إلا بشروط.

منها أن يكون سنّ الراضع دون سنّ المرتضع من لبنه دون الحولين ، وقد ذهب بعض أصحابنا المتأخرين في تصنيف له إلى أن قال : منها أن يكون سن الراضع والمرتضع من لبنه دون الحولين ، وهذا خطأ من قائله ، لأنّ الاعتبار بسن الراضع ، لأنّ المرأة إذا كان بها لبن ولادة حلال ، ومضى لها أكثر من حولين ، ثمّ أرضعت من له أقلّ من حولين الرضاع المحرم ، انتشرت الحرمة ، ويتعلّق عليه وعليها أحكام الرضاع بغير خلاف من محصّل.

واعتبارنا الحولين في المرتضع لدليل إجماع الطائفة ، وأيضا قوله تعالى : ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) (١) لأنّ المراد إثبات الرضاع الشرعي الذي تتعلّق به الحرمة ، بدليل أنّه تعالى

__________________

(١) البقرة : ٢٣٣.

٥١٩

لا يجوز أن يريد الرضاع اللغوي ، لأنّه ينطلق على ما يحصل بعد الحولين وقبل تمامها ، ولا يريد نفي جوازه دونهما أو بعدهما ، لأنّ ذلك جائز. بلا خلاف ، ولا نفي الكفاية بدونهما أو بعدهما ، لأنّ الكفاية قبل تمامها قد تحصل بلا شبهة ، فلم يبق إلا ما قلناه.

ومن شرط تحريم الرضاع أن يكون لبن ولادة من عقد أو شبهة عقد ، لا لبن در أو لبن نكاح حرام ، بدليل إجماعنا.

ومنها أن يكون ما ينبت اللحم ويشد العظم ، فإن لم يحصل ذلك فيوما وليلة ، أو عشر رضعات متواليات ، على الصحيح من المذهب ، وذهب بعض أصحابنا إلى خمس عشرة رضعة ، معتمدا على خبر واحد ، رواية عمار بن موسى الساباطي (١) وهو فطحي المذهب ، مخالف للحق ، مع انّا قدّمنا أنّ أخبار الآحاد لا يعمل بها ، ولو رواها العدل ، فالأول مذهب السيد المرتضى وخيرته (٢) ، وشيخنا المفيد (٣) ، والثاني خيرة شيخنا أبي جعفر الطوسي (٤) ، والأوّل هو الأظهر الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ الرضاع يتناول القليل والكثير ، فالإجماع حاصل على العشرة ، وتخصّصها ، ولأنّ بعض أصحابنا يحرم بالقليل من الرضاع والكثير ، ويتعلّق بالعموم ، فالأظهر ما اخترناه ففيه الاحتياط.

وكلّ رضعة من العشر رضعات تروي الصبي.

ولا يفصل بينها برضاع امرأة أخرى ، فأمّا إن فصل بين العشر رضعات بشرب لبن من غير رضاع ، فلا تأثير له في الفصل ، بل حكم التوالي باق بلا خلاف بين أصحابنا في جميع ذلك.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢ من أبواب ما يحرم بالرضاع ، ح ١.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) في المقنعة : أبواب النكاح ، باب ما يحرم النكاح من الرضاع ، وما لا يحرم منه ص ٥٠٣.

(٤) في النهاية : كتاب النكاح ، باب مقدار ما يحرم من الرضاع وأحكامه ، وفي الخلاف : كتاب الرضاع ، المسألة ٣.

٥٢٠