كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

فإذا كان كذلك ، بأن يعقد أشركه فاسدة ، إمّا بأن يتفاضل المالان ، ويتساوى الربح ، أو يتساوى المالان ويتفاضل الربح ، وتصرّفا ، وارتفع الربح ، ثم تفاضلا ، كان الربح بينهما على قدر المالين ، ويرجع كلّ واحد منهما على صاحبه ، بأجرة مثل ما عمله ، بعد إسقاط القدر الذي يقابل عمله في ماله ، لأنّ كل واحد منهما قد شرط في مقابلة عمله جزء من الربح ، ولم يسلم له ، لفساد العقد ، وقد تعذر عليه الرجوع إلى المبدل ، فكان له الرجوع إلى قيمته ، ويصحّ كلّ من ذلك بالتراضي ، ويحلّ تناول الزيادة بالإباحة ، دون الشرط وعقد الشركة ، ويجوز الرجوع بها لمبيحها مع بقاء عينها ، لأنّ الأصل جواز ذلك ، والمنع يفتقر إلى دليل.

فإن قال المخالف : اشتراط الفضل في الوضيعة ، بمنزلة أن يقول له : ما ضاع من مالك فهو عليّ ، وهذا فاسد.

قيل : ما أنكرت أن يكون بمنزلة أن يقول : ما ضاع فهو من مالي ومالك ، إلا انّي قد رضيت أن يكون من مالي خاصّة ، وتبرعت لك بذلك ، وهذا لا مانع منه.

ويلزم أبا حنيفة على ذلك أن لا يجيز اشتراط التفاضل في الربح ، لأنّه بمنزلة أن يقول : ما استفيده من مالي ، فهو لك ، مع انّا قد قدّمنا ، أنّه لا يلزم ، وانّما إن اختار ورضي بعد ارتفاع الربح ، أن يعطيه ذلك الفاضل تبرعا منه ، وهبة ، لم يكن بذلك بأس ، لا على طريق الاستحقاق ، باللزوم والوجوب.

والتصرّف في مال الشركة ، على حسب الشرط ، إن شرطا أن يكون لهما معا على الاجتماع ، لم يجز لأحدهما أن ينفرد به ، وإن شرطا أن يكون تصرّفهما على الاجتماع والانفراد ، فهو كذلك ، وإن شرطا التصرّف لأحدهما ، لم يجز للآخر إلا باذنه وكذا القول في صفة التصرّف في المال ، من السفر به ، والبيع بالنسيئة والتجارة في شي‌ء معيّن ، ومتى خالف أحدهما ما وقع عليه الشرط ، كان ضامنا.

والشركة عقد جائز من كلا الطرفين ، يجوز فسخه لكلّ واحد منهما متى شاء ، ولا يلزم شرط التأجيل فيها ، وينفسخ بالموت.

٤٠١

والشريك المأذون له في التصرّف ، مؤتمن على مال شريكه ، والقول قوله ، فإن ارتاب به شريكه ، وادّعى عليه خيانة مقدّرة ، حلف على قوله ، أعني الجاحد.

وإذا تقاسم الشريكان ، لم يقسما الدين ، بل يكون الحاصل منه بينهما ، والمنكسر عليهما ، وإن اقتسما ، فاستوفى أحدهما ولم يستوف الآخر ، لكان له أن يقاسم شريكه على ما استوفاه.

وإذا باع من له التصرّف في الشركة ، وأقرّ على شريكه الآخر بقبض الثمن ، مع دعوى المشتري ذلك ، وهو جاحد ، لم يبرء المشتري من شي‌ء منه ، أمّا ما يخصّ البائع ، فلأنّه ما اعترف بتسليمه إليه ، ولا إلى من وكّله على قبضه ، فلا يبرء منه ، وأمّا ما يخصّ الذي لم يبع ، فلأنّه منكر لقبضه ، وإقرار شريكه البائع عليه لا يقبل ، لأنّه وكيله ، وإقرار الوكيل على الموكّل بقبض الحقّ الذي وكله في استيفائه ، غير مقبول ، لأنّه لا دليل على ذلك ، ولو أقرّ الذي لم يبع ولا أذن له في التصرف ، أن البائع قبض الثمن ، بري‌ء المشتري من نصيب المقرّ منه بلا خلاف.

ويكره شركة المسلم للكافر بلا خلاف ، إلا من الحسن البصري ، فإنّه قال : إذا كان المسلم ، هو المتفرد بالتصرّف ، لم يكره.

إذا كان بينهما شي‌ء ، فباعاه بثمن معلوم ، كان لكلّ واحد منهما أن يطالب المشتري بحقه ، فإذا أخذ حقّه ، شاركه فيه صاحبه ، على ما قدّمناه ، لأنّ المال الذي في ذمّة المشتري ، غير متميز ، فكلّ جزء يحصل من جهته ، فهو شركة يعد بينهما ، على ما ذكره شيخنا في نهايته (١) ، ومسائل خلافه (٢).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ كلّ واحد من الشريكين ، يستحق على المدين ، قدرا مخصوصا ، وحقا غير حقّ شريكه ، وله هبة الغريم وإبراؤه منه ، فمتى أبرأه أحدهما من حقه ، بري‌ء منه وبقي حقّ الأخر الذي لم يبرء منه بلا خلاف ، فإذا استوفاه و

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة ، والعبارة منقولة عن الخلاف

(٢) الخلاف : كتاب الشركة ، المسألة ١٥.

٤٠٢

تقاضاه منه ، لم يشاركه شريكه الذي وهب ، وأبرأ ، أو صالح منه على شي‌ء ، بلا خلاف ، فإن كان شريكه بعد في المال الذي في ذمّة الغريم ، لكان في هذه الصور كلّها ، يشارك من لم يهب ، ولم يبرء فيما يستوفيه منه ، ويقبضه ، ثمّ عين المال الذي كان شركة بينهما ذهبت ، ولم يستحقا في ذمّة الغريم الذي هو المدين ، عينا لهما معيّنة ، بل دينا في ذمّته ، لكلّ واحد منهما مطالبته بنصيبه ، وإبراء ذمته وهبته ، وإذا أخذه منه ، وتقاضاه ، فما أخذ عينا من أعينان مال الشركة ، حتى يقاسمه شريكه فيها.

ولم يذهب إلى ذلك سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته (١) ، ومن قلّده وتابعه بل شيخنا المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، لم يذكر ذلك في كتاب له ، ولا تصنيف ، وكذلك السيد المرتضى ، ولا تعرّضا للمسألة ، ولا وضعها أحد من أصحابنا المتقدمين ، في تصنيف له جملة ، ولا ذكرها أحد من القميّين ، وانّما ذكر ذلك شيخنا في نهايته ، من طريق أخبار الآحاد ، ورد بذلك ثلاثة أخبار (٢) ، أحدها مرسل ، وعند من يعمل بأخبار الآحاد ، لا يلتفت إليه ، ولو سلّم الخبران الآخران تسليم جدل ، لكان لهما وجه صحيح مستمر على أصول المذهب والاعتبار ، وهو أن المال الذي هو الدين ، كان على رجلين ، فأخذ أحد الشريكين وتقاضى جميع ما على أحد الغريمين ، فالواجب عليه هاهنا ، أن يقاسم شريكه على نصف ما أخذه منه ، لأنّه أخذ ما يستحقه عليه ، وما يستحقه شريكه أيضا عليه ، لأنّ جميع ما على أحد المدينين ، لا يستحقه أحد الشريكين بانفراده ، دون شريكه الآخر ، فهذا وجه صحيح ، فيحمل الخبران على ذلك ، إذا أحسنا الظن براويهما ، فليتأمّل ذلك ، وينظر بعين الفكر الصافي ، ففيه غموض.

وإذا كان مال بين شريكين ، فغصب غاصب أحدهما نصيبه ، وباع مع مال

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.

(٢) الوسائل : الباب ٦ من أحكام الشركة.

٤٠٣

شريكه ، مضى العقد في مال الشريك ، ويبطل في مال الشريك الذي غصبه الغاصب.

وإذا أراد أن يتشاركا فيما لا مثل له ، ولا يتساوى أجزاؤه ، ولا يختلط خلطا لا يتميّز ، مثل أن يكون مع كلّ واحد منهما دابة ، أو ثوب ، أو غير ذلك ، فيشتري كلّ واحد منهما نصف سلعة صاحبه مشاعا ، غير مقسوم ، بنصف سلعته مشاعا غير مقسوم ، وقد صحّت الشركة بينهما.

إذا شارك اثنان سقاء ، على أن يكون من أحدهما جمل ، ومن الآخر راوية ، واستقى فيها ، على أنّ كلّ نفع يرتفع من الماء ، يكون بينهم ، لم تصح هذه الشركة ، لأنّ من شرط صحة الشركة اختلاط الأموال ، وهذا لم يختلط ، ولا يجوز أن يكون ذلك إجارة ، لأنّ الأجرة في ذلك غير معلومة ، فإذا ثبت أنّ هذه معاملة فاسدة ، فإذا استقى السقاء وباع الماء ، وحصل الكسب في يده ، فإنّه يكون للسقاء ، ويرجع الآخران عليه بأجرة المثل فيما لهما ، من جمل وراوية.

إذا عقد الشركة ، ثم أدن كلّ واحد منهما لصاحبه في التصرف ، فتصرّفا ، ثمّ أنّ أحدهما فسخ الشركة ، انفسخت ، وكان لصاحبه أن يتصرّف في نصيبه ، دون نصيب الآخر ، وكان للفاسخ أن يتصرّف في نصيبه ، ونصيب صاحبه ، لأنّ صاحبه ما رجع في إذنه ، وإنما كان كذلك ، لأنّ تصرف كلّ واحد منهما في نصيب صاحبه ، إنّما هو على سبيل التوكيل ، وللموكّل أن يمنع الوكيل من التصرف أيّ وقت شاء ، فإذا ثبت هذا فهذا الفسخ ، يفيد المنع من التصرّف على ما بيّناه ، وأمّا المال فهو بعد مشترك بينهما ، لأنّه مختلط غير متميّز ، ولا يتميّز بالفسخ ، فإذا ثبت هذا ، فإن كان المال قد نصّ ، كان لهما أن يتقاسماها ، وإن أرادا بيعها ، كان لهما ذلك.

وإذا مات أحد الشريكين ، انفسخت الشركة بموته ، ومعنى الانفساخ ، أنّ الباقي منهما لا يتصرّف في المال ، فإذا ثبت هذا ، فإن كان الوارث رشيدا ، فهو بالخيار بين أن يبقى على الشركة ، وبين أن يطالب بالقسمة ، فإن اختار البقاء على الشركة ، استأنف الإذن للشريك في التصرف ، فأمّا إن كان الوارث مولّى

٤٠٤

عليه ، فإنّ الوصي أو الولي ينوب عنه ، وينظر ، فإن كان الحظ في البقاء على الشركة ، استأنف الإذن للشريك في التصرّف ، وإن كان الحظّ في المفاصلة ، قاسمه ، ولا يجوز له أن يترك ما فيه الحظ إلى غيره ، لأنّ النظر إليه في المال على وجه الصلاح والاحتياط.

إذا كان بين رجلين ألفا درهم ، لكل واحد منهما ألف درهم فأذن أحدهما للآخر في التصرف في ذلك المال ، على أن يكون الربح بينهما نصفين ، لم يكن ذلك شركة ، ولا قراضا ، لأنّه لم يشرط له جزء من الربح ، فلهذا امتنع أن يكون قراضا ، ولم يشرط على نفسه العمل ، فمن هذا امتنع أن يكون شركة ، فإذا ثبت هذا ، كان ذلك بضاعة سأله التصرّف فيها ، ويكون ربحها جميعا لصاحبها.

إذا باع أحد الشريكين عينا من أعيان الشركة ، وأطلق البيع ، ثمّ ادّعى بعد ذلك أنّه باع مالا مشتركا بينه وبين غيره ، ولم يأذن له شريكه في البيع ، لم يقبل قوله على المبتاع ، لأنّ الظاهر أنّ ما يبيعه ملك له ، ينفرد به دون غيره ، فإذا ادّعى خلاف الظاهر ، لم يسمع منه ، فان ادّعى شريكه وأقام البيّنة ، فإنّه يبطل البيع في ملك شريكه ، ولا يبطل في ملكه ، كما قلناه في تفريق الصفقة.

وإذا اشترى أحد الشريكين شيئا بمال الشركة ، فإن اشتراه بثمن في الذمة ، كان ذلك للمشتري ، دون شريكه ، لأنّ إذن شريكه لم يتناول هذا الشراء ، فهو بمنزلة أن يشتري له شيئا بغير إذنه ، فأمّا إذا اشتراه بثمن معيّن من مال الشركة ، وثبت أنّ الثمن المعيّن من مال الشركة ، بتصديق البائع ، أو ببيّنة أقامها الشريك ، بطل الشراء في نصف الثمن ، ولا يبطل في النصف الآخر ، هذا إذا كان بما لا يتغابن الناس بمثله ، كما قدّمناه في تفريق الصفقة ، ويصير الثمن مشتركا بين البائع وبين شريك المشتري ، وصار المبيع مشتركا بين البائع والمشتري.

وإذا اشترى أحد الشريكين شيئا ، فادّعى أنّه اشتراه لنفسه ، دون الشركة ، وأنكر شريكه ذلك ، وزعم أنّه اشتراه للشركة ، كان القول في ذلك قول المشتري ، فأمّا إذا كان بخلاف ذلك ، فادّعى المشتري أنّه اشتراه للشركة ،

٤٠٥

وأنكر شريكه ذلك ، وزعم أنّه اشتراه لنفسه دون الشركة ، كان القول قول المشتري أيضا ، لأنّه اختلاف في نيّته ، وهو أعلم بها.

ومتى حصل بالمال المشترك ، المتاع ، ثمّ أراد أن يتقاسما ، لم يكن لأحدهما المطالبة بالمال ، بل له من المتاع بمقدار ماله من المال ، وكذلك إن حصل من أصل المال نسيئة ، لم يكن له المطالبة به نقدا ، فإن رضي أحدهما بأن يأخذ رأس ماله ، ويترك الربح والنقصان ، والنقد والنسية ، ورضي صاحبه بذلك ، واصطلحا عليه ، كان ذلك جائزا.

ومتى أعطي الإنسان غيره ثوبا أو متاعا ، وأمره بأن يبيع ، فإن ربح كان بينهما ، وإن نقص ثمنه عمّا اشتراه ، لم يلزمه شي‌ء ، ثمّ باع فخسر ، لم يكن عليه شي‌ء ، وكان له اجرة المثل ، وإن ربح ، كان صاحب المتاع بالخيار ، بين أن يعطيه ما وافقه عليه ، وبين أن يعطيه اجرة المثل ، لأنّ الشركة لم تحصل بينهما ، لأنّا قد بيّنا أنّ الشركة لا تكون إلا في مالين من جنس واحد ، على صفة واحدة ، وهذا ليس كذلك.

وليس لأحد الشريكين ، مقاسمة شريكه على وجه يضرّ به ، مثل أن يكون بينهما متاع ، أو سلعة ، أو عقار ، إن قسمت ، هلكت ، مثل الحمامات ، والأرحية ، أو الحيوان ، أو السلع الثمينة ، مثل اللئالي ، والدّرر ، وما أشبه ذلك ، فمتى طالبه بذلك ، كان متعدّيا ، ولم يلزمه إجابته إلى ذلك ، بل ينبغي أن تباع السلعة بما يساوي ، وتتقاسم بالثمن ، أو تقوم ، ويأخذ أحدهما بما قوّمت به ، ويؤدّي إلى صاحبه ما يصيبه ، فإن امتنعا من ذلك أجمع ، كان النظر في ذلك إلى الحاكم ، يعمل فيه ما يكون أصلح لهما ، إمّا أن يؤجر الشي‌ء لهما ، أو غير ذلك ممّا فيه الصلاح لهما ، لأنّه الوالي على كلّ من لا يوافق على الحق.

ويكره مشاركة سائر الكفار.

ومتى عثر أحد الشريكين على صاحبه بخيانة ، فلا يدخل هو في مثلها اقتصاصا منه ، وذلك على طريق الكراهة ، دون الحظر ، لأنّه إذا تحقّق أخذ

٤٠٦

ماله ، وعلم ذلك يقينا ، فله أخذ عوضه ، وإنّما النهي على طريق الكراهة والأولى والأفضل.

ومتى كان لإنسان على غيره مال دينا ، لم يجز له أن يجعله شركة ، أو مضاربة ، إلا بعد أن يقبضه ، ثمّ يعطيه إيّاه إن شاء.

باب المضاربة وهي القراض

القراض والمضاربة عبارتان عن معنى واحد ، وهو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا يتجر فيه ، على أن ما رزق الله من ربح ، كان بينهما على ما يشترطانه ، فالقراض لغة أهل الحجاز ، والمضاربة لغة أهل العراق ، ومواضعتهم.

وقيل في اشتقاقها أقوال ، وهو أنّ القراض من القرض ، وهو القطع ، ومنه قيل : قرض الفأر الثوب ، إذا قطعه ، ومعناه هاهنا ، أنّ ربّ المال قطع قطعة من ماله ، فسلّمها إلى العامل ، وقطع له قطعة من الربح.

والآخر ، أنّ اشتقاقه من المقارضة ، وهي المساواة ، ومعناه هاهنا ، أنّ من العامل العمل ، ومن ربّ المال المال.

واشتقاق المضاربة من الضرب بالمال في الأرض ، والتقليب له.

وعلى جواز ذلك ، إجماع الأمة ، والكتاب.

ومن شرط صحة ذلك ، أن يكون رأس المال ، دراهم أو دنانير معلومة ، مسلمة إلى العامل ، ولا يجوز القراض بغير الدنانير والدراهم ، من سائر العروض ، فعلى هذا لا يجوز القراض بالفلوس ، ولا بالورق المغشوش.

وتصرّف المضارب ، موقوف على إذن صاحب المال ، إن أذن له في السفر ، به أو في البيع نسية ، جاز له ذلك ، ولا ضمان عليه لما يهلك ، أو يحصل من خسران ، وإذا لم يأذن في البيع بالنسية ، أو في السفر ، أو أذن فيه إلى بلد معيّن ، أو شرط أن لا يتجر إلا في شي‌ء معيّن ، ولا يعامل إلا إنسانا معيّنا فخالف ، لزمه الضمان ، بدليل إجماع أصحابنا ، على جميع ذلك.

٤٠٧

ويحتج على المخالف ، في صحّة القراض مع هذه الشروط ، بقوله عليه‌السلام : المؤمنون عند شروطهم (١).

وإذا سافر بإذن ربّ المال ، كانت نفقة السفر من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والمركوب ، من غير إسراف ، من مال القراض ، على الأظهر الصحيح بين أصحابنا المحصّلين ، ولا نفقة للمضارب منه في الحضر ، واختار شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، القول بأنّه لا نفقة له حضرا ولا سفرا (٢) ، وبما اخترناه قال في نهايته (٣) وجميع كتبه ، ما عدا ما ذكرناه عنه في مبسوطة ، وهو أحد أقوال الشافعي ، الثلاثة في المسألة ، اختاره هاهنا شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله ، وقال في مسائل خلافه بمقالته في نهايته ، ورجع إلى قول أهل نحلته ، وإجماع عصابته ، فقال : مسألة إذا سافر بإذن ربّ المال ، كان نفقة السفر ، من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، من مال القراض ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأخبارهم. هذا آخر كلامه ، في مسائل خلافه (٤) ، فهو في مبسوطة محجوج بقوله في مسائل خلافه.

وإذا اشترى العامل ، من يعتق على ربّ المال ، بإذنه ، صحّ الشراء ، وعتق عليه ، وانفسخ القراض ، إن كان الشراء بجميع المال ، لأنّه خرج عن كونه مالا للقراض ، وملكا ، وإن كان ببعض المال ، انفسخ من القراض بقدر قيمة العبد ، وإن كان الشراء بغير إذنه ، وكان بعين المال ، فالشراء باطل ، لأنّه اشترى ما يتلف ، ويخرج عن كونه مالا عقيب الشراء ، وإن اشترى بثمن في الذمة صح الشراء ووقع الملك للعامل ، ولا يجوز له أن يدفع الثمن من مال القراض ، فإن فعل لزمه الضمان ، لأنّه تعدّى بدفع مال غيره في ثمن ، لزمه في ذمّته.

وإذا اشترى المضارب ، من يعتق عليه ، قوّم ، فإن زاد ثمنه على ما اشتراه ، انعتق منه بحساب نصيبه من الربح ، واستسعى في الباقي لربّ المال ، وإن لم يزد

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب المهور : ح ٤.

(٢) المبسوط : ج ٣ ، كتاب القراض ، ص ١٧٢.

(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.

(٤) الخلاف : كتاب القراض ، المسألة ٦.

٤٠٨

ثمنه على ذلك ، أو نقص عنه ، فهو رقّ بدليل إجماع الطائفة على ذلك.

والمضاربة عقد جائز من الطرفين ، لكلّ واحد منهما فسخه متى شاء ، وإذا بد الصاحب المال من ذلك ، بعد ما اشترى المضارب المتاع ، لم يكن له غيره ، ويجب على المضارب بيعه ، فإن كان فيه ربح ، كان بينهما ، على ما شرطا ، وإن كان خسران ، فلا يلزمه شي‌ء بحال.

والمضارب مؤتمن ، لا ضمان عليه إلا بالتعدّي ، فإن شرط عليه ربّ المال ضمانه ، صار الربح كلّه له ، دون ربّ المال.

ويكره مضاربة سائر الكفار.

واختلف أقوال أصحابنا في تصانيفهم ، في معنى الشرط للعامل في الربح ، هل يلزم أم لا؟ فبعض ، يذكر أنّه يستحقّ ما وقع الشرط عليه من الربح ، وبعض يذكر أنّه لا يستحق ذلك ، بل يجب له اجرة المثل ، دون ما وقع عليه الشرط من الربح ، ويجعل القول الأوّل رواية (١) ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (٢) ، ورجع عنه في مبسوطة (٣) ومسائل خلافه (٤) ، واستبصاره (٥) ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وأعمل عليه وأفتي به.

والذي يدلّ على صحّة ذلك ، إجماع أصحابنا المخالف في المسألة والمؤالف ، وتواتر أخبارهم (٦) ، في أنّ المضارب إذا اشترى أباه ، أو ولده بالمال ، وكان فيه ربح على ما قدّمناه ، فإنّه ينعتق عليه ، فلو لم يكن شريكا بحسب الشرط في الربح ، لما انعتق عليه ، لأنّه لو كان له اجرة المثل ، لما صحّ العتق ولا يقدّر ، لأنّ

__________________

(١) الوسائل : الباب ٣ من أحكام المضاربة ، ح ٣.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.

(٣) المبسوط : ج ٣ ، كتاب القراض ، ص ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٤) الخلاف : كتاب القراض ، مسألة ١٢.

(٥) الإستبصار : ج ٣ ، ص ١٢٦ و ١٢٧ ، باب أن المضارب يكون له الربح بحسب ما يشترط وليس عليه من الخسران شي‌ء.

(٦) الوسائل : الباب ٨ من أحكام المضاربة.

٤٠٩

الأجرة في ذمّة صاحب المال ، يوفيه إيّاها من أيّ أمواله أراد.

وأيضا قوله عليه‌السلام : الشرط جائز بين المسلمين (١) وهذا شرط جائز ، لا يمنع منه كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، لأنّ الإجماع غير حاصل على المنع منه ، وكتاب الله تعالى خال منه ، والسنة المتواترة.

وكذلك قوله عليه‌السلام : المؤمنون عند شروطهم (٢) وهذا اخبار بمعنى الأمر ، ومعناه : يجب عليهم أن يوفوا بشروطهم.

والذي ذكره شيخنا في مبسوطة في الجزء الأوّل ، في كتاب الزكاة ، في فصل في مال التجارة ، قال : من أعطى غيره مالا مضاربة على أن يكون الربح بينهما ، فاشترى مثلا بألف سلعة فحال الحول ، وهي تساوي ألفين ، فانّ زكاة الألف على ربّ المال ، والربح إذا حال عليه الحول من حين الظهور ، كان فيه الزكاة ، على ربّ المال نصيبه ، وعلى العامل نصيبه ، إذا كان العامل مسلما ، فإن كان ذميا ، يلزم ربّ المال ما يصيبه ، ويسقط نصيب الذمي ، لأنّه ليس من أهل الزكاة ، هذا على قول من أوجب الرّبح (٣) من أصحابنا وهو الصحيح ، فأمّا من أوجب له اجرة المثل ، فزكاة الأصل والربح ، على ربّ المال ، هذا آخر قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (٤) من غير زيادة ، ولا نقصان ، حكيته حرفا فحرفا.

وذكر رحمه‌الله في الجزء الثاني من كتاب القراض ، مواضع كثيرة ، أنّ للعامل من الربح ، ما وقع عليه الشرط.

ويحمل قول من قال وذكر في كتابه : أن له اجرة المثل ، على أنّه إذا كانت المضاربة فاسدة ، فإنّ شيخنا أبا جعفر ، قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا كان القراض فاسدا استحق العامل اجرة المثل على ما يعمله ، سواء كان في المال ربح أو لم يكن ، ثمّ قال : دليلنا انه عمل بإذن صاحب المال ، فإذا لم يصحّ له

__________________

(١) عوالي اللئالئ : ج ٣ ، ص ٢٢٥ ، ح ١٠٣.

(٢) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ح ٤.

(٣) ل. ق : له الربح.

(٤) المبسوط : ج ١ كتاب الزكاة ، ص ٢٢٣.

٤١٠

ما قاوله عليه ، كان له اجرة المثل ، لأنّه دخل على أن يكون له المسمّى في مقابلة عمله هذا آخر كلامه رحمه‌الله في المسألة (١).

ومتى اختلف الشريكان ، أو المضارب وصاحب المال ، في شي‌ء من الأشياء ، كانت البيّنة على المدعي واليمين على المدّعى عليه ، مثل الدّعاوي في سائر الأحكام.

وإذا اشترى المضارب المتاع ، ونقد من عنده الثمن على من ضاربه ، لم يلزم صاحب المال ذلك ، وكان من مال المضارب ، فإن ربح كان له ، وإن خسر كان عليه.

وروي أنّه من أعطى مال يتيم إلى غيره ، مضاربة ، فان ربح كان بينهما على ما يتفقان عليه ، وإن خسر كان ضمانه على من أعطى المال (٢).

فالأولى أن يقال : إن كان هذا المعطي ناظرا في مال اليتيم ، نظرا شرعيا ، إمّا أن يكون وصيا في ذلك ، أو وليا ، فله أن يفعل فيه ما لليتيم الحظ فيه ، والصلاح ، فعلى هذا لا يلزم الولي المعطي الخسران إن خسر المال ، وهذا هو الذي تقتضيه أصول المذهب.

وما أورده شيخنا في نهايته (٣) ، خبر واحد أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما كرّرنا ذلك.

ومن كان له على غيره مال دينا ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلا بعد قبضه منه ، على ما قدّمناه.

وقد روي أنّ من كان عنده أموال الناس مضاربة ، فمات فان عيّن ما عنده أنّه لبعضهم ، كان على ما عيّن في وصيّته ، وان لم يعين كان بينهم بالسوية ، على ما يقتضيه رءوس الأموال (٤) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (٥).

وهذا إذا حقّق وقامت البيّنة برءوس الأموال ، أو تصادق أصحاب

__________________

(١) الخلاف : كتاب القراض ، مسألة ٤.

(٢) الوسائل : الباب ٢ من أبواب من تجب عليه الزكاة ، ح ٨.

(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.

(٤) الوسائل : الباب ١٣ من أحكام المضاربة.

(٥) النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة ، آخر الباب.

٤١١

الأموال والورثة ، وكان في المال ربح ، وكانت الأموال مختلطة غير متميّز ، مال كل واحد من غيره ، فإن كان خسران ، وكان الخلط بغير إذن أرباب الأموال ، فإن الخسران على الخالط لها ، لأنّه فرّط في الخلط ، فهذا تحرير الرواية المذكورة.

إذا فسخ ربّ المال القراض ، وكان في المال نسأ ـ بفتح النّون ، وسكون السّين ، وهمز الالف وقصره ، باعه العامل بإذن ربّ المال نسية ، لزمه أن يحييه ، سواء كان فيه ربح أو لم يكن فيه ربح ، لأنّ على العامل ردّ المال ، كما أخذه ، وإذا أخذه ناضا ، وجب عليه أن يرد مثله.

إذا قال : خذ هذا المال قراضا على أن يكون الربح كلّه لي ، كان ذلك قراضا فاسدا ، فإن لفظ القراض يقتضي أن يكون الربح بينهما.

وإذا قال : خذ هذا المال ، وانتفع به واتجر ، والربح كلّه لك ، فهذا قرض لا قراض ، ويكون المال قرضا على المستقرض ، وجميع الربح له ، لأنّه ربح ماله.

وإن قال : خذ هذا المال ، واشتر لي السلعة الفلانية ، والربح كلّه لي ، فهذا بضاعة ، سأله أن يشتري له بها ما ذكره ، فالربح كلّه لصاحب المال دون المشتري ، وقد قدّمنا هذا الكلام فيما مضى من كتابنا هذا ، واعدناه ، لأنّه موضعه.

إذا كان العامل نصرانيا ، فاشترى بمال القراض خمرا أو خنزيرا ، كان جميع ذلك باطلا.

ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة فقال : إذا دفع إليه ألفا للقراض ، واشترى به عبدا للقراض ، فهلك الألف قبل أن يدفعه في ثمنه ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، اختار شيخنا منها ، انّ المبيع للعامل ، والثمن عليه ، ولا شي‌ء على ربّ المال ، ثم قال : دليلنا أنّه لا يخلو أن يكون الألف تلف قبل الشراء ، أو بعده ، فإن كان التلف قبل الشراء ، وقع الشراء للعامل ، لأنّه اشتراه بعد زوال القراض ، وإن كان التلف بعد الشراء ، وقع لربّ المال ، وعليه أن يدفع الثمن ، من ماله الذي سلّمه إليه ، فإذا هلك المال ،

٤١٢

تحوّل الملك إلى العامل ، وكان الثمن عليه ، لأنّ ربّ المال إنّما فسح للعامل في التصرّف في ألف ، إمّا أن يشتريه به بعينه ، أو في الذمة ، وينقد ثمنه ، ولم يدخل على أن يكون له في القراض أكثر منه (١).

قال محمّد بن إدريس : الذي عندي في ذلك ، أنّه لا يخلو إمّا أن يكون اشترى المضارب العبد بثمن في الذمة ، لا معيّن ، أو ثمن معيّن ، فإن كان الأوّل ، فالعبد للمضارب دون ربّ مال المضاربة ، ويجب على العامل الذي هو المضارب ، أن يدفع من ماله وخاصّه ، ألفا ، ثمن العبد ، والبيع لا ينفسخ ، لأنّ الأثمان إذا كانت في الذمة ، لا ينفسخ البيع بهلاكها ، لأنّها غير معيّنة ، وإن كان الثاني ، فإنّ البيع ينفسخ ، ويكون العبد ملكا لبائعه ، على ما كان ، دون العامل ، ودون ربّ مال المضاربة ، لأنّ الثمن إذا كان معيّنا ، وهلك قبل القبض ، انفسخ البيع ، وكان الملك المبيع باقيا وعائدا إلى ملك بايعه ، بغير خلاف.

فهذا تحرير هذا المسألة وما ذكره شيخنا ، اختيار أبي العبّاس بن سريج ، من قول الشافعي ، اختاره شيخنا أيضا والذي حرّرناه واخترناه ، هو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وبه يقول شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله ، في مواضع كثيرة ، من كتبه وتصنيفاته ، مسائل (٢) الخلاف (٣) والمبسوط (٤).

لا يصح القراض إذا كان المال جزافا ، لأنّه لا دلالة عليه.

إذا قارضه على أن يشتري أصلا ، له فائدة يستبقي الأصل ، ويطلب فائدته ، كالشجر والعقار والحيوان الذي يرجى نسله ودرّة ، فالكلّ قراض فاسد ، لأنّ موضوع القراض الصحيح في الشرع غير هذا ، وأيضا لا دليل على صحّة ذلك ، لأنّ القراض عقد شرعي ، يحتاج في ثبوته إلى أدلة شرعية.

إذا دفع إليه مالا قراضا ، فإن اتجر حضرا ، كان عليه من التصرّف فيه

__________________

(١) الخلاف : كتاب القراض ، المسألة ١٥ ، مع تقطيع في العبارة.

(٢) ل : إلا مسائل.

(٣) الخلاف ، كتاب القراض ، المسألة ١٥.

(٤) المبسوط : ج ٣ ، كتاب القراض ، ص ١٩٤.

٤١٣

ما يليه ربّ المال في العادة ، من نشر الثوب ، وطيّه ، وتقليبه ، على من يشتريه ، وعقد البيع ، وقبض الثمن ، ونقده ، وإحرازه في كيسه ، وختمه ، ونقله إلى صندوقه ، وحفظه ، ونحو ذلك ، ممّا جرت العادة بمثله ، وإن كان ذلك شيئا لا يليه ربّ المال في العادة ، مثل النداء على المتاع في الأسواق ، ونقله إلى الخان ، ومن مكان إلى مكان ، فليس على العامل أن يعمل بنفسه ، بل يكتري من يتولاه فإن القراض متى وقع مطلقا من غير اشتراط شي‌ء من هذا ، وجب أن يحمل إطلاقه على ما جرت العادة ، كما نقول في صفة القبض (١) والتصرّف ، فإن خالف العامل ، فحمل على نفسه ، وتولّى من التصرّف ما لا يليه في العرف ، لم يستحق الأجرة على فعله ، لأنّه تطوّع بذلك ، فإن خالف واستأجر أجيرا يعمل فيه ما يعمله بنفسه ، كانت الأجرة من ضمانه ، لأنّه أنفق المال في غير حقّه.

إذا دفع إليه ألفين منفردين ، فقال له : خذهما قراضا ، على أن يكون الربح من هذا الألف لي ، وربح الآخر لك ، فالقراض فاسد ، لأنّ موضوع القراض على أن يكون الربح لكل جزء من المال بينهما.

إذا خلط الألفين ، وقال : ما رزق الله من فضل ، كان لي ربح ألف ولك ربح ألف ، كان جائزا ، لأنّ الألف الذي شرط ربحها ليست متميّزة ، وإنّما كانت تبطل لو كانت متميّزة ، مثل المسألة الاولى ، وذلك لا يجوز.

إذا غصب رجل مالا فاتّجر به ، فربح ، أو كان في يده مال أمانة ، أو وديعة ، أو نحوهما ، فتعدّى فيها ، واتجر ، وربح ، فلمن يكون الربح؟ قيل : فيه قولان.

أحدهما أنّ الربح كلّه لرب المال ، ولا شي‌ء للغاصب ، لأنّا لو جعلنا الربح للغاصب ، كان ذلك ذريعة إلى غصب الأموال ، والخيانة في الودائع ، فجعل الربح لرب المال ، صيانة للأموال.

__________________

(١) ج : في القبض.

٤١٤

والقول الثاني ، أنّ الربح كلّه للغاصب ، لا حقّ لرب المال فيه ، لأنّه إن كان قد اشترى بعين المال ، فالشراء باطل بغير خلاف ، وإن كان الشراء في الذمة ، ملك المشتري المبيع ، وكان الثمن في ذمته بغير خلاف ، فإذا دفع مال غيره ، فقد قضى دين نفسه بمال غيره ، فكان عليه ضمان المال فقط ، والمبيع ملكه ، حلال له ، طلق ، فإذا اتّجر فيه ، وربح ، كان متصرّفا في مال نفسه ، فلهذا كان الربح له ، دون غيره ، ولا يكون ذريعة إلى أخذ الأموال ، لأنّ حسم ذلك بالخوف من الله تعالى ، والحذر ممّا يرتكبه من المعصية ويحذره من الإثم ، وهذا القول هو الصحيح الذي تقتضيه الأدلّة وأصول المذهب.

إذا قال : خذه قراضا ، والربح بيننا ، فالقراض صحيح ، لأنّ قوله بيننا ، معناه بيننا نصفين ، كرجل قال : هذه الدار بيننا ، أو بيني وبينك ، كان إقرارا بأنّها بينهما نصفين ، وجملته أنّ هاهنا ثلاثة عقود ، عقد يقتضي أنّ الربح كلّه لمن أخذ المال ، وهو القرض ، وعقد يقتضي أنّ الربح كلّه لربّ المال وهو البضاعة ، وهو أن يقول له : خذ هذا المال ، واتّجر به ، والربح كلّه لي ، وعقد يقتضي أنّ الربح بينهما ، وهو القراض ، فإذا قال : خذه واتّجر به ، صلح لهذه الثلاثة العقود ، قرض ، وقراض ، وبضاعة ، فإذا قرن به قرينة ، أخلصته إلى ما تدل القرينة عليه ، فإن قال : خذه ، واتّجر به ، والربح لك ، كان قرضا ، فان قال : خذه واتّجر به ، على أنّ الربح كلّه لي ، كان بضاعة ، فإن قال : خذه ، واتّجر به ، والربح بيننا ، كان قراضا ، لأنّ القرينة تدلّ عليه.

إذا اشترى العامل عبدا ، واختلف هو وربّ المال ، فقال العامل : اشتريته لنفسي ، وقال ربّ المال : بل اشتريته للقراض ، وبمال القراض ، فالقول قول العامل مع يمينه ، لأنّ العبد في يده ، وظاهر ما في يده أنّه ملكه ، فلا يقبل قول غيره في إزالة ملكه عنه.

فإن اختلفا فقال ربّ المال : اشتريته لنفسك ، وقال العامل : للقراض

٤١٥

اشتريته ، فالقول أيضا قول العامل ، لأنّه أمين.

وإذا تلف من المال شي‌ء بعد أن يقبضه العامل ، كان من الربح بكلّ حال ، سواء كان بعد أن دار في التجارة ، أو قبل ذلك ، فإذا ذهب بعض المال قبل أن يعمل ، ثمّ عمل ، فربح ، فأراد أن يجعل البقيّة رأس المال ، بعد الذي هلك ، فلا يقبل قوله ، ويوفى رأس المال من ربحه ، حتى إذا وفّاه ، اقتسما الربح على شرطهما ، لأنّ المال إنّما يصير قراضا في يد العامل بالقبض ، فلا فصل بين أن يهلك قبل التصرّف ، أو بعده وقبل الربح ، فالكلّ هالك من مال ربّ المال ، فوجب أن يكون الهالك ابدا من الربح ، لا من رأس المال.

إذا خلط العامل مال القراض بمال نفسه ، خلطا لا يتميز ، فعليه الضمان ، كالمودّع والوكيل ، لأنّه صيّره كالتالف ، بدلالة أنّه لا يقدر على ردّ المال إلى ربّه بعينه.

إذا دفع إليه ثوبا وقال بعه ، فإذا نضّ ثمنه ، فقد قارضتك عليه ، فالقراض فاسد.

باب الرهون وأحكامها

الرهن في اللغة هو الثياب ، والدوام ، تقول العرب : رهن الشي‌ء ، إذا ثبت ، والنعمة الراهنة ، هي الثابتة الدائمة ، ويقال : رهنت الشي‌ء ، فهو مرهون ، ولا يقال : أرهنت ، وقيل : إنّ ذلك لغة ، وتقول العرب : أرهن الشي‌ء ، إذا غالى في سعره ، وأرهن ابنه ، إذا خاطر به وجعله رهينة ، وأمّا الرهن في الشريعة ، فإنّه اسم لجعل المال وثيقة في دين ، إذا تعذّر استيفائه ممن عليه ، استوفى من ثمن الرهن ، وهو جائز بالإجماع ، وعقد لازم من جهة الراهن ، وجائز من جهة المرتهن.

وشروط صحّته ستة ، حصول الإيجاب والقبول من جائزي التصرّف.

وأن يكون المرهون عينا لا دينا ، لأنّا قد بيّنا أنّه وثيقة عين في دين.

وأن يكون ممّا يجوز بيعه ، لأنّ كونه بخلاف ذلك ، ينافي المقصود به.

وأن يكون المرهون به ، دينا لا عينا مضمونة ، كالمغصوب مثلا ، لأنّ الرهن

٤١٦

إن كان على قيمة العين إذا تلفت ، لم يصحّ ، لأنّ ذلك حقّ لم يثبت بعد ، وإن كان على نفس العين ، فكذلك ، لأنّ استيفاء نفس العين من الرهن لا يصح.

وأن يكون الدين ثابتا ، فلو قال : رهنتك كذا بعشرة دنانير تقرضنيها غدا ، لم يصحّ.

وأن يكون لازما ، كعوض القرض ، والثمن ، والأجرة وقيمة المتلف ، وأرش الجناية ، ولا يجوز أخذ الرهن على مال الكتابة المشروطة ، لأنّه عندنا غير لازم.

وإذا تكامل ما ذكرناه من هذه الشروط ، صحّ الرهن بلا خلاف ، وليس على صحّته مع اختلال بعضها دليل.

فأمّا القبض ، فقد اختلف قول أصحابنا ، هل هو شرط في لزومه أم لا؟

فقال بعضهم بأنّه شرط في لزومه من جهة الراهن دون المرتهن ، وقال الأكثرون المحصّلون منهم : يلزم بالإيجاب والقبول ، وهذا هو الصحيح ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد يجب الوفاء به فأمّا قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (١) فهذا دليل الخطاب ، وهو متروك عند المحصّلين من أصحابنا ، وقد يرجع عن دليل الخطاب عند من يعمل به ، ويترك بدليل ، والآية الأولى دليل على ذلك فالأوّل مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (٢) ، وشيخنا المفيد في مقنعته (٣) والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (٤) ، فإنّه رجع عمّا ذهب إليه في نهايته.

واستدامة القبض في الرهن ليست شرطا في صحّته ولزومه.

ولا يجوز للراهن أن يتصرّف في الرهن بما يبطل ، أو ينقص حق المرتهن ، كالبيع والهبة والرهن عند آخر ، والعتق ، فإن تصرّف ، كان تصرّفه باطلا ، ولم ينفسخ الرهن ، لأنّ الأصل صحته ، والقول بفسخه يحتاج إلى دليل ، وإنّما ينفسخ الرهن إذا فعل ما يبطل به حقّ المرتهن منه بإذنه ، ويجوز له الانتفاع بما عدا ذلك ، من سكنى الدار ، وزراعة الأرض ، وخدمة العبد ، وركوب الدابة ،

__________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.

(٣) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب الرهون ص ٦٢٢.

(٤) الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة ٥.

٤١٧

وما يحصل من صوف ، ولبن ونتاج ، إذا اتفق هو والمرتهن ، وتراضيا على ذلك.

وكذا يجوز للمرتهن الانتفاع بالسكنى ، والزراعة والخدمة والركوب ، والصوف ، واللبن ، إذا أذن له الراهن ، لأنّ الحقّ لهما ، لا يخرج عنهما ، ولا يستحقه سواهما ، فإن سكن المرتهن الدار ، أو زرع الأرض بغير إذن الراهن ، أثم ، ولزمه أجرة الأرض والدار ، وكان الزرع له ، لأنّه عين ماله ، والزيادة حادثة فيه ، وهي غير متميزة منه.

ولا يحلّ للراهن ولا للمرتهن وطء الجارية المرهونة ، فإن وطأها الراهن بغير إذن المرتهن ، أثم ، وعليه التعزير ، ولا حد عليه ، فإن حملت وأتت بولد ، كان حرا ، لا حقا بأبيه الراهن ، ولا تخرج من كونها رهنا ، وجاز بيعها في الدين الذي هي مرهونة عليه ، وقال بعض أصحابنا : فإن حبلت وأتت بولد ، فإن كان موسرا ، وجب عليه قيمتها ، تكون رهنا مكانها ، لحرمة الولد ، وإن كان معسرا ، بقيت رهنا بحالها ، وجاز بيعها في الدين ، وهذا غير صحيح ، لأنّه مخالف لأصول مذهبنا.

فإن وطأها بإذن المرتهن ، لم ينفسخ الرهن ، حملت أو لم تحمل ، لأنّ ملكه ثابت ، وإذا كان ثابتا ، كان الرهن على حاله ، وجاز بيعها في الدين أيضا ، لأنّه في الأوّل ما رهن أمّ ولده ، بل رهن رهنا يصح بيعه في حال ما رهنه على كلّ حال ، وبلا خلاف.

فإن وطأها المرتهن بغير إذن الراهن ، فهو زان ، وولده منها رقّ لسيدها ، ورهن معها ، ويجب عليه الحدّ.

فإن كان الوطء بإذن الراهن ، كان الولد حرّا لا حقا بأبيه المرتهن ، لا قيمة عليه للراهن فيه ، ولا يلزمه مهر ، لأنّ الأصل براءة الذمّة ، ويصح بيعها بعد ذلك أيضا في الدين بغير خلاف.

ورهن المشاع جائز ، كرهن المقسوم.

ويجوز توكيل المرتهن في بيع الرهن.

٤١٨

وإذا كان الرهن ممّا يسرع إليه الفساد ، قبل حلول الأجل ، ولم يشرط بيعه ، إذا خيف فساده كان الرهن باطلا ، لأنّ المرتهن لا ينتفع به ، والحال هذه.

وإذا أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن ، بشرط أن يكون ثمنه رهنا مكانه ، كان ذلك جائزا ، ولم يبطل الرهن ، لقوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) وقول الرسول عليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (٢) والشرط جائز بين المسلمين (٣).

وإن قال له : بع الرهن ، بشرط أن تجعل ثمنه من ديني ، قبل محلّه ، صحّ البيع ، وكان الثمن رهنا إلى وقت المحلّ ، ولم يلزم الوفاء بتقديم الحقّ قبل محلّه ، لأنّه لا دليل عليه.

والرهن أمانة في يد المرتهن ، إن هلك من غير تفريط ، فهو من مال الراهن ، ولم يسقط بهلاكه شي‌ء من الدين ، بدليل إجماعنا ، وقوله عليه‌السلام : « لا يغلق الرّهن الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه » (٤) لأنّ المراد من الغنم (٥) : الاستفادة والنماء ، والزيادة ، والغرم : النقصان والتلف ، والمراد بقوله : « الرّهن من صاحبه » المراد به من ضمان صاحبه.

ومعنى قوله : « لا يغلق الرهن ، بالغين المعجمة ، وفتح الياء ، واللام » أي لا يملكه المرتهن بالارتهان ، وإن شرط الراهن للمرتهن أنّه إذا لم يأت بالمال كان الرهن له بالدين ، لا يلزم ذلك ، ولا يملكه المرتهن بهذا الشرط ، لقوله عليه‌السلام : « لا يغلق الرهن » قال الهروي صاحب الغريبين في الحديث : لا يغلق الرهن ، أي لا يستحقه مرتهنه ، إذا لم يؤدّ الراهن ما رهنه فيه ، وكان هذا من فعال الجاهلية ، فأبطله الإسلام ، إلى هاهنا كلام الهروي ، وقال الجوهري في

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ح ٤.

(٣) عوالي اللئالي : ج ٣ ، ح ١٠٣ ، ص ٢٢٥.

(٤) مستدرك الوسائل : الباب ١٠ من أحكام الرهن ، ح ٣ ، وفيه لا يغلق الراهن.

(٥) ل. ق : بالغنم.

٤١٩

كتاب الصحاح : غلق الرهن غلقا ، إذا استحقه المرتهن ، وذلك إذا لم يفتكّ (١) في الوقت المشروط ، وفي الحديث : لا يغلق الرهن ، قال زهير :

وفارقتك برهن لا فكاك له

يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا (٢)

ويحتج على المخالف بقوله عليه‌السلام : « الخراج بالضمان » (٣) وخراجه إذا كان للراهن بلا خلاف ، وجب أن يكون من ضمانه ، ولا يعارض ذلك ، بما رووه من أنّ رجلا رهن فرسه عند إنسان ، فنفق ، فسأل المرتهن النبي عليه‌السلام عن ذلك ، فقال : ذهب حقّك (٤) ، لأنّ المراد بذلك ، ذهب حقّك من الوثيقة ، لا من الدين ، وقلنا ذلك لوجهين ، أحدهما أنّه وحّد الحقّ ، ولو أراد ذهاب الدين والوثيقة معا ، لقال : ذهب حقّاك ، والثاني أنّ الدين إنّما يسقط عند المخالف ، إذا كان مثل قيمة الرهن أو أقل ، ولا يسقط الزيادة منه ، إذا كان أكثر ، فلو أراد ذهاب حقه من الدين ، لاستفهم عن مبلغه وفصّل في الجواب.

وقولهم : « سقوط الحقّ من الوثيقة ، معلوم بالمشاهدة ، فلا فائدة في بيانه » غير صحيح ، لأنّ تلف الرهن لا يسقط حقّ المرتهن من الوثيقة على كل حال ، بل إذا أتلفه الراهن ، أو أتلفه أجنبيّ ، فإنّ القيمة تؤخذ وتجعل (٥) رهنا مكانه ، فأراد عليه‌السلام ، أن يبيّن أنّ الرهن إذا تلف من غير جناية سقط حق الوثيقة.

وإذا ادّعى المرتهن هلاك الرهن ، كان القول قوله مع يمينه ، سواء ادّعى ذلك بأمر ظاهر ، أو خفي ، والدليل عليه إجماع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، وأيضا فقد بيّنا أنّه أمانة في يده ، فإذا كان كذلك ، فالقول قوله في هلاكه.

وإذا اختلف الراهن والمرتهن في الاحتياط والتفريط ، وفقدت البيّنات ،

__________________

(١) ج : لم يفكّ.

(٢) الصحاح : ج ٤ ، ص ١٥٣٨.

(٣) سنن النسائي : كتاب البيوع ، الخراج بالضمان ، ج ٧ ، ص ٢٥٥.

(٤) سنن البيهقي : كتاب الرهن ، الباب ٦ ( من قال الرهن مضمون ) ، ج ٦ ، ص ٤١ ، ح ٣.

(٥) ج : فإنّ الذي يؤخذ يجعل.

٤٢٠