كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

يتقدّم ظهورها سنة ، ولا يتقدّمها بأكثر من ذلك ، فإن وطأ المبتاع الأمة في مدة هذه السنة ، لم يجز له ردّها ، وكان له ما بين قيمتها ، صحيحة وسقيمة ، هذا آخر كلام شيخنا رحمه‌الله في مقنعته (١).

فإن قيل : المذهب مستقر ، في أنّ الخيارين للمشتري في الحيوان بمجرّد العقد ، خيار المجلس ، وخيار الثلاث ، فما يقال في رجل اشترى مملوكا؟ فهل له ردّه على بايعه ، قبل أن يحدث فيه حدثا ، في مدة الثلاثة الأيّام؟ وكذلك له أن يردّه بكل عيب يظهر فيه ، في مدّة الثلاث؟ وهل له ردّه ، بعيب يظهر بعد الثلاث ، من قبل أن يحدث فيه حدثا ، أو يتصرّف فيه؟ وهل إن تصرّف فيه ، ووجد به عيبا بعد تصرفه ، له أن يردّه أم لا؟

قلنا : جميع ما يظهر بالرقيق ، من العيوب بعد الثلاث ، وقبل التصرّف ، لا يردّ منه إلا ثلاثة عيوب ، البرص ، والجذام ، والجنون ، فإنّه يردّ عند أصحابنا ، من هذه الثلاثة عيوب ، إذا وجدت فيه ، ما لم يمض سنة من وقت الشراء ، فأمّا إن تصرّف فيه ، فلا يجوز له الردّ ، ولم يبق فرق بين الثلاثة العيوب وغيرها من العيوب بعد التصرف ، بل له الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، ويسقط الرد.

فإن قيل : فما بقي فرق بين الثلاثة عيوب وغيرها ، وأصحابنا كلّهم يفرّقون بين ذلك ، ويردون من العيوب الثلاثة ، ما بين الشراء وسنة.

قلنا : الفرق بين العيوب الثلاثة وغيرها ظاهر ، وهو أنّ ما يظهر من العيوب بعد الثلاثة الأيام ، وقيل التصرّف لا يرد به الرقيق ، لأنّه ظهر بعد تقضي الثلاثة الأيّام ، التي له الخيار فيها ولم يدل دليل على انها كانت فيه وقت ابتياعه إيّاه ، ولا في مدة الخيار التي هي الثلاثة الأيام ، فأمّا العيوب الثلاثة ، فإنّها متى ظهرت بعد الثلاثة الأيّام ، إلى مدة السنة من وقت البيع ، وقبل التصرّف في

__________________

(١) المقنعة : باب المتاجر ، باب ابتياع الحيوان ص ٦٠٠.

٣٠١

الرقيق ، فإنّها ترد بها ، لأنّ الدليل ، وهو الإجماع ، قد دلّ على ذلك ، فقلنا به كما أنّ كلّ عيب يحدث بعد الشراء في مدة الثلاثة الأيّام ، يرد به الرقيق ، إذا لم يكن تصرّف فيه مشتريه ، في الثلاثة الأيّام.

وما بنا حاجة إلى ما قاله شيخنا في مقنعته « من أنّ أصول هذه الأمراض ، يتقدّم ظهورها سنة ، ولا يتقدّمها بأكثر من ذلك » لأنّ هذا يؤدي إلى بطلان البيع ، لأنّ البائع باع ما لا يملك ، لأنّ الرقيق ينعتق بالجذام ، من غير اختيار مالكه ، وانّما الشارع حكم بأنّ الرقيق يرد من هذه الثلاثة عيوب ، ما لم يتصرّف فيه ما بين شرائه وبين سنة ، كما أنه حكم بأنّه يردّ بكل عيب حدث في هذه الثلاثة الأيام ، من وقت ابتياعه ، ما لم يتصرف فيه ، وإن لم يكن وقت ابتياعه فيه ، فبان الفرق بين الثلاثة عيوب ، وبين غيرها من العيوب ، من الوجه الذي قدّمناه وشرحناه.

ولئن خطر بالبال ، وقيل : الفرق بينهما وبين غيرها من العيوب ، هو أنّ غيرها بعد التصرّف ، ليس للمشتري الرد ، والعيوب الثلاثة له الرد بعد التصرّف ، فافترقت العيوب من هذا الوجه لا من الوجه الذي ذكرتموه.

قلنا له : هذا خلاف إجماع أصحابنا ، ومناف لأصول المذهب ، لأنّ الإجماع حاصل ، على أن بعد التصرّف في المبيع ، يسقط الرد ، بغير خلاف بينهم ، والأصول مبنيّة ، مستقرة على هذا الحكم.

فان قيل : فما بقي لاستثنائهم العيوب الثلاثة ، وأنّها تردّ بها الرقيق ، ما بين الشراء وبين سنة معنى ، ولا فائدة.

قلنا : الفائدة والمعنى ، هو الوجه الذي قدّمناه ، ليسلم هذا الإجماع ، والأصول الممهدة المقرّرة ، لأنّ الكلام والأخبار ، في الرد إلى سنة من الثلاثة العيوب مطلق ، لم يذكر فيه تصرّف أو لم يتصرّف ، والشارع إذا خاطبنا بخطاب مطلق ، يجب علينا أن نحمله على إطلاقه وعمومه ، إلا أن يكون له تخصيص وتقييد ، لغويّ

٣٠٢

أو عرفيّ ، أو شرعيّ فيرجع في إطلاقه إليه ، لأنّ المطلق يحمل على المقيّد ، إذا كان الجنس واحدا ، والعين واحدة ، والحكم واحدا كما قال تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) (١) فإذا سئلنا عن دم السمك ، هل هو نجس أم لا؟ فجوابنا بأجمعنا أنّه طاهر ، فإن استدل علينا بالآية المتقدّمة ، التي أطلق الدم فيها ، ودم السمك دم بغير خلاف ، قلنا : فقد قال تعالى في آية أخرى ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (٢) فقيّده بالسفح ، ودم السمك غير مسفوح ، فيجب أن يحمل المطلق على المقيد ، لأنّه حكم واحد ، وعين واحدة ، وجنس واحد ، فإن قيل : هذا قياس ، والقياس عندكم باطل ، قلنا : معاذ الله أن يكون ذلك قياسا ، بل أدلة مقرّرة في أصول الفقه ، ممهدة عند من الحكم أصول هذا الشأن ، وكذلك قد يخص العام بالأدلة ، ويحكم بالخاص على العام ، وأمثلة ذلك كثيرة مذكورة في مظانها.

وإذا أبق « بفتح الباء » المملوك عند المشتري ، وكان الإباق حادثا ، ثم وجده ، لم يكن له ردّه على بائعه ، إلا أن يعلم أنّه كان قد أبق أيضا عنده ، فإن علم ذلك ، كان له ردّه ، واسترجاع الثمن ، أو إمساكه ، وأرش العيب.

وما يحدث من العيوب في شي‌ء من الحيوان ، ما بين حال البيع وبين الثلاثة الأيّام ، كان للمبتاع ردّه ، ما لم يحدث فيه حدثا ، فإن أراد إمساكه ، لم يكن له أرش العيوب الحادثة في مدة الثلاثة الأيّام ، على ما قدّمنا القول فيه ، وحرّرناه ، وإذا حدث بعد انقضاء الثلاثة الأيام ، لم يكن له ردّه ، على حال ، إلا ما استثنيناه من أحداث السنة ، ومتى أحدث المشتري في مدّة الثلاثة الأيّام ، فيه حدثا ، ثمّ وجد فيه عيبا ، قبل عقدة البيع ، لم يكن له ردّه.

ومن اشترى جارية ، على أنّها بكر ، فوجدها ثيبا ، قال شيخنا أبو جعفر ، في

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) الانعام : ١٤٥.

٣٠٣

نهايته : لم يكن له ردّها ، ولا الرجوع على البائع بشي‌ء من الأرش ، لأنّ ذلك قد يذهب من العلّة والنزوة (١) ، ورجع في استبصاره (٢) ، وقال : يرجع عليه بالأرش ، ما بين قيمتها بكرا وثيبا ، وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، والذي أورده في نهايته ، خبر واحد ، راويه زرعة ، عن سماعة ، وهما فطحيان.

هذا على قول من يقول من أصحابنا ، أنّ ذلك ليس بعيب يوجب الرد ، وعلى قول الآخرين يجب بذلك الرد ، واسترجاع الثمن ، أو الإمساك ، وأخذ الأرش ، على ما قدّمناه.

والذي يقوى عندي ، أنّ ذلك ، تدليس يجب به الرد ، إن اختار المشتري ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد ، على أنّ التدليس يجب به الرّد ، ولا إجماع على أنّ من اشترى جارية ، على أنّها بكر ، فخرجت ثيبا ، لا يردّها ، وانّما أورد ذلك شيخنا في نهايته ، واختاره في باقي كتبه ، ولم يورد فيه غير خبرين ، أحدهما عن زرعة ، عن سماعة ، وقد قلنا : ما فيهما ، والآخر ، عن يونس بن عبد الرحمن ، وهذا الرجل عند المحققين لمعرفة الرواة والرجال ، غير موثوق بروايته ، لأنّ الرضا عليه‌السلام كثيرا يذمه ، وقد وردت أخبار عدة بذلك ، وبعد هذا ، فلو كان ثقة عدلا ، لا يجب العمل بروايته ، لأنّه واحد ، وأخبار الآحاد ، لا يجوز العمل بها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وشيخنا المفيد في مقنعته ما تعرض لذلك ولا عمل به ، ولا أفتى بما ذكره شيخنا في نهايته ، وكان المفيد رحمه‌الله عالما بالأخبار ، وبصحتها ، وبالرجال وثقتها.

وقد روي أنّ من اشترى جارية لا تحيض في مدّة ستّة أشهر (٣) ، ومثلها تحيض ، كان له ردّها ، لأنّ ذلك عيب ، هذا إذا لم يتصرّف فيها ، أورد ذلك

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.

(٢) الاستبصار : كتاب البيوع ، باب من اشترى جارية « إلخ » وفي الوسائل : الباب ٦ من أبواب أحكام العيوب ، ح ٢.

(٣) الوسائل : الباب ٣ من أبواب أحكام العيوب ، ح ١.

٣٠٤

شيخنا في نهايته (١) ، من طريق خبر الواحد ، إيرادا لا اعتقادا.

ومن اشترى زيتا أو بزرا ووجد فيه درديا ، فإن كان يعلم أنّ ذلك يكون فيه ، لم يكن له ردّه ، لأنّه قد علم بالعيب قبل الشراء ، وإن كان غير عالم ، كان له ردّه.

وقال شيخنا في نهايته : ومن اشترى شيئا ، ولم يقبضه ، ثمّ حدث فيه عيب ، كان له ردّه ، وإن أراد أخذه وأخذ الأرش ، كان له ذلك (٢).

إلا أنّه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، فإنّه قال : كل عيب يحدث بعد عقدة البيع ، لا يجبر البائع على بذل الأرش ، وإنّما يستحق الأرش بالعيب الذي يكون بالمبيع قبل عقدة البيع ، لأنّه باعه معيبا ، فأمّا ما يحدث بعد البيع ، فلا يستحق به أرش ، لأنّه ما باعه معيبا ، بل له الرد فحسب ، أو الرضا بالإمساك بغير أرش ، إذا لم يتصرّف فيه ، أو لم يقبضه (٣).

وإلى هذا القول ، يذهب شيخنا المفيد ، في مقنعته (٤) ، وهو الصحيح من الأقوال ، وبه أفتي ، وعليه أعمل ، وقد حرّرنا ذلك فيما تقدّم ، وشرحناه.

ومتى هلك المبيع كلّه قبل القبض ، أو التمكّن من القبض ، بأن لا يمكن البائع المشتري منه كان من مال البائع ، دون مال المبتاع.

وإذا اختلف البائع والمشتري في شرط ، يلحق بالعقد ، ويختلف لأجله الثمن ، مثل ان قال : بعتك نقدا ، فقال المشتري : بل إلى سنة ، أو قال : إلى سنة ، فقال المشتري : إلى سنتين ، وهكذا ، الخيار ، إذا اختلفا في أصله ، أو قدره ، فالقول قول البائع مع يمينه ، وإذا اختلفا في شرط يفسد البيع فقال البائع : بعتك إلى أجل معلوم ، وقال المشتري : إلى أجل مجهول ، أو قال : بعتك بدراهم أو دنانير ، فقال : بل بخمر أو خنزير ، أو قال : بعتك معلوما ، فقال المشتري : بل

__________________

(١) و (٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.

(٣) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ١٧٨ ، تكون بهذا المضمون ، الا ان المسألة بهذه العبارة ما وجدناها.

(٤) المقنعة : أبواب المكاسب ، باب العيوب الموجبة للرد ص ٥٩٦.

٣٠٥

بعتني الشي‌ء مجهولا ، كان القول قول من يدعي الصحة ، وعلى من ادعى الفساد ، البيّنة ، لأنّ الأصل في العقد الصحة ، فقد اتفقا على العقد ، فمن ادّعى الفساد ، فعليه الدلالة.

قال شيخنا في مسائل خلافه : إذا باع شيئا بثمن في الذمة ، أو كان البيع عينا بعين ، فقال البائع : لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن ، وقال المشتري : لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع ، فعلى الحاكم أن يجبر البائع على تسليم المبيع أولا ، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن ، بعد ذلك بعد أن يحضر المبيع والثمن ، ثمّ قال : دليلنا على ما قلنا ، أن الثمن انّما يستحق على المبيع ، فيجب أولا تسليم المبيع ، ليستحق الثمن ، فإذا سلّم المبيع ، استحق الثمن ، فوجب حينئذ إجباره على تسليمه ، فلا بدّ إذن ممّا قلناه ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر رحمه‌الله (١).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : لو عكس عاكس على شيخنا استدلاله ، في قوله : « إنّ الثمن انّما يستحق على المبيع » فيقول له : وكذلك انّ المبيع إنما يستحق على الثمن ، وفي مقابلته ، لأنّهما عوضان ، كل منهما يستحق في مقابلة صاحبه فلا فرق بينهما ، فلأيّ شي‌ء يجبر أحدهما على تسليم ما يستحق عليه في مقابلة ما يستحقه ، قبل صاحبه ، فإذا لم يكن على ذلك دليل ، من إجماع أصحابنا ، ولا وردت له بذلك أخبار ، لا آحادا ولا متواترا ، فيرجع في ذلك إلى الدليل ، وهو أن يجبر الحاكم كل واحد منهما على تسليم ما قبله في مقابلة ما يستحقه معا ، ولا يجبر أولا أحدهما قبل صاحبه ، أو يستعمل في ذلك القرعة ، لأنّه داخل في قولهم عليهم‌السلام : القرعة في كل أمر مشكل (٢) والأول أقوى.

باب السّلف

وهو السّلم بفتح السين واللام ، في جميع المبيعات ، السّلم بيع موصوف في

__________________

(١) الخلاف : كتاب البيوع المسألة ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٢) الوسائل : أورد روايات بهذا المضمون في الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.

٣٠٦

الذمّة ، إلى أجل محروس من الزيادة والنقصان ، إما بالشهور والأيّام ، أو السنين والأعوام.

ومن شرط صحته ، قبض الأثمان ، قبل التفرّق من المجلس ، بخلاف بيع الأعيان ، فالسّلف على هذا جائز ، في جميع المبيعات التي تضبط بالصفات ، إذا جمع شروطا ، أحدها تمييز الجنس من غيره من الأجناس ، وتحديده بالوصف ، وضبطه بالصفة ، التي يمتاز بها من جنسه ، وتبينه من غيره ، وذكر الأجل المحروس على ما قدّمناه ، وقبض الثمن قبل التفرق من المجلس ، وتقدير المبيع إن كان مكيلا أو موزونا بمكيال ، وصنجة ، بالصّاد معلومين عند العامة ، فإن قدّراه بمكتل أو صخرة ، لم يجز ، لأنّ ذلك مجهول في حال العقد ، فإن عينا مكيال رجل بعينه ، وهو مكيال معروف ، أو عيّنا صنجة رجل بعينه ، وهي صنجة معروفة ، جاز السّلم فيه ، ولا يتعيّن ذلك المكيال ، ولا تلك الصنجة ، لكن يتعلّق بجنس مثل ذلك المكيال ، أو مثل تلك الصنجة ، لأنّ الغرض في قدره ، لا عينه ، فإذا جمع الشروط المقدّم ذكرها جميعا ، صحّ البيع.

وكلّ شي‌ء لا يتحدّد بالوصف ، ولا يمكن ذلك فيه لا يصح السّلف فيه.

ولا يجوز أن يكون ذكر الأجل بما لا يتعيّن ، مثل قدوم الحاج ، ودخول القوافل ، وإدراك الغلات ، وهبوب الرياح ، وما يجري مجرى ذلك.

وإذا أسلف الإنسان في شي‌ء من الثياب ، ينبغي أن يعيّن جنسها ، ويذكر صفتها ، من طولها ، وعرضها ، وغلظها ، ودقتها ، ولونها ، فإن أخل بشي‌ء من ذلك ، كان العقد باطلا. ولا يجوز أن يذكر في الثوب نساجة إنسان بعينه ، أو غزل امرأة بعينها ، فإن اشتراه كذلك ، كان البيع باطلا.

وإذا أسلف في طعام ، أو شي‌ء من الغلات ، فليذكر جنسه ، ويعيّن صفته ، على ما قدّمناه ، فإن لم يذكر ذلك ، لم يصح البيع ، وكان باطلا ، ولا يذكر ان تكون الغلّة من أرض بعينها ، أو من قرية مخصوصة ، فإن اشتراه كذلك ، لم يصح الشراء ، وكان باطلا ، ولم يكن المبيع مضمونا ، لأنّه إذا اشترى الحنطة مثلا من

٣٠٧

أرض بعينها ، ولم تخرج الأرض الحنطة ، لم يلزم البائع أكثر من ردّ الثمن ، ومتى اشتراه ولم ينسبه إلى أرض بعينها ، كان لازما في ذمّته إلى أن يخرج منه.

ولا بأس أن يسلف الإنسان في شي‌ء ، وإن لم يكن للمستسلف شي‌ء من ذلك ، غير أنّه إذا حضر الوقت ، اشتراه ، ووفّاه ، إيّاه ، بخلاف بيوع الأعيان ، لأنّ السلف في الذمة ، فيجوز بيعه ، وإن لم يكن مالكا له ، وأمّا بيوع الأعيان ، فلا يجوز بيعها إلا بعد ملكها ، لأنّها إذا هلكت قبل التسليم بطل العقد ، لأنّ العقد وقع على عين ، فانتقاله إلى عين اخرى يحتاج إلى دليل ، وأمّا بيوع الذمم فما وقع ، على عين ، بل على ما في ذمة البائع ، فافترق الأمران.

وقد قلنا : لا يجوز السلف فيما لا يتحدّد بالوصف ، مثل الخبز واللحم ، وروايا الماء ، فأمّا السلف في الماء نفسه أرطالا ، إذا ضبطه بالوصف ، فلا بأس به ، وإنّما منع أصحابنا من السلف في الخبز واللحم وروايا الماء ، لاختلافها في الكبر والصغر ، فإنها لا تضبط بالتحديد ، فإن حدّدها براوية معلومة ، لا يصح ذلك ، لأنّ السلف في الذمّة ، وربما هلكت تلك الراوية ، فيبطل السلف ، كما قلنا في المكيل والموزون ، لا يجوز أن يقدرا بمكتل ، والمكتل بالتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، الزّنبيل ، ولا صخرة بل بالمكائيل العامة ، والصّنج المعروفة عند العامة ، وليس كذلك روايا الماء ، ولأنّ الخبز واللحم ، لا يمكن تحديده بوصف لا يختلط به سواه.

ولا بأس بالسلم في الحيوان كلّه ، إذا ذكر الجنس والأوصاف ، والأسنان من الإبل ، والبقر ، والغنم ، والخيل ، والبغال ، والحمير ، والرقيق ، وغير ذلك من أجناس الحيوان.

قال شيخنا في مبسوطة : وإذا أسلم في اللبن ، ووصفه بأوصاف السمن ، ويزيد فيه ذكر المراعى (١) ، فيقول : لبن عواد ، أو أوارك ، أو حمضية ، وذلك اسم للكلاء ، فالحمضية الإبل التي ترعى النبات ، الذي فيه الملوحة ، والعوادي ، فهي الإبل التي ترعى ماحلا من النبات ، وهو الخلّة فيقول العرب : الخلّة خبز الإبل ،

__________________

(١) ج : المرعى.

٣٠٨

والحمض تسمى فاكهتها ، فإذا كانت الإبل ترعى الخلّة ، سميت عوادي ، وإذا كانت ترعى في الحمض ، سميت أوارك ، وتسمى حمضيّة ، إلى هاهنا كلام شيخنا (١).

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : قال الجوهري في كتاب الصحاح : الأراك شجر من الحمض الواحدة أراكة. وأركت الإبل ، تأرك أروكا : إذا رعت الأراك ، وقال أركت أيضا ، إذا أقامت في الأراك ، وهو الحمض ، فهي آركة ، قال كثير :

فإنّ الذي ينوي من المال أهلها

أوارك لمّا تأتلف وعوادي

يقول : إنّ أهل عزّة ينوون أن لا يجتمع هو وهي ، ويكونان كالأوارك من الإبل والعوادي ، في ترك الاجتماع في مكان ، هذا آخر قول الجوهري (٢).

فمعنى قول شيخنا أوارك ، جمع آركة ، وهي التي ترعى الحمض ، وهو الأراك المقيمة فيه ، فاشتقاقها من ذلك ، والعوادي : الإبل التي تأكل الخلّة ، بضمّ الخاء ، وهو ما حلا من النبت ، وأحدها عادية ، وجمعها عوادي ، والشاهد على ذلك بيت كثير ، المقدّم ذكره ، يقول : لا تأتلف الإبل الأوارك والعوادي ، لاختلافها في المرعى.

فإذا أسلم الإنسان في شي‌ء ممّا ذكرناه ، ثم حل الأجل ، ولم يكن عند البائع ما يوفيه إيّاه ، جاز له أن يأخذ منه رأس المال ، من غير زيادة عليه ، فإن أعطاه البائع مالا ، وجعل إليه أن يشتري له ما كان باعه إيّاه ، ووكله في ذلك ، ثم بعد ذلك وكله في قبضه ، وأمره بقبضه لنفسه ، لم يكن به بأس ، والأفضل أن يتولى ذلك غيره.

وإن حضر الأجل ، وقال البائع : خذ مني قيمته الآن ، جاز له أن يأخذ منه في الحال ، ما لم يزد ثمنه على ما كان أعطاه إيّاه ، فإن زاد على ذلك ، لم يجز بيعه إيّاه ، هذا إذا باعه بمثل ما كان اشتراه من النقد ، فإن اختلف النقدان ، بأن

__________________

(١) المبسوط : كتاب السلم ، ج ٢ ، ص ١٨٠.

(٢) الصحاح : ج ٤ ، ص ١٥٧٢.

٣٠٩

يكون قد اشتراه بالدراهم والدنانير ، وباعه إيّاه في الحال بشي‌ء من العروض ، والمتاع ، أو الغلات ، أو الرقيق ، والحيوان ، لم يكن بذلك بأس ، وإن كان لو قوم ما يعطيه في الحال ، زاد على ما كان أعطاه إيّاه ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (١).

وقال غيره من أصحابنا : يجوز أن يبيعه من الذي هو عليه ، إذا حضر الأجل وحلّ ، بمثل ما باعه إيّاه (٢) ، وأكثر منه ، وأقل ، إذا عيّن الثمن وقبضه قبل (٣) التفرق من المجلس ، لئلا يصير بيع دين بدين ، سواء كان من جنس الثمن الأوّل ، أو من غير جنسه.

وهذا هو الصحيح من الأقوال ، والذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّه باع حنطة مثلا ، أو شعيرا أو ثيابا ، أو حيوانا بدراهم ، أو دنانير ، ولم يبع دنانير بدنانير ، بأزيد منها وأكثر ، لأنّه بلا خلاف بيننا ، ما يستحق في ذمّة المسلم إليه ، إلا المسلم فيه ، دون الدنانير التي هي الأثمان ، فما يبيعه إلا المسلّم فيه ، دون الثمن الأول ، لأنّ الثمن الأول ما يستحقه ، بل الذي يستحقه هو السلعة المسلم فيها ، بغير خلاف ، فإذا كان كذلك فله أن يبيعها بما شاء من الأثمان ، ويلزم من ذهب إلى القول الأول من أصحابنا ، أنّه ما يستحق عليه إلا الثمن ، دون المثمن ، فيعقد معه ، ويبيعه ذهبا بذهب ، ولا خلاف أنّه لا يستحق عليه ذهبا.

وأيضا فإنّه يهرب من الربا ، والربا يكون في الجنس الواحد ، بعضه ببعض ، وزيادة وهذا بيع جنس وبغيره ، وهذا ليس هو ربا.

وأيضا فإن الله تعالى قال « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع بلا خلاف ، فمن أبطله ، يحتاج إلى دليل. وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (٤) وأيضا فلا يرجع في فساد هذا البيع إلى أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

(٢) ج : ما أعطاه إياه.

(٣) ج : عيّن الثمن قبل.

(٤) المقنعة : باب البيع بالنقد والنسيئة من أبواب المكاسب ، ص ٥٩٥.

٣١٠

عملا ، مع أنّه قد ورد أخبار بصحّة البيع ، معارضة لتلك الأخبار.

وكلام شيخنا في مقنعته ، هو أن قال : ومن ابتاع من إنسان متاعا غير حاضر إلى أجل ، ثم باعه منه ، قبل حلول الأجل بزيادة ، أو نقصان ، كان بيعه باطلا ، فإن جاء الأجل ، لم يكن بأس ببيعه إيّاه ، بأقلّ ممّا ابتاعه منه ، أو أكثر ، سواء حضر المتاع ، أو لم يحضر ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه‌الله (١).

وقال أيضا في جواب المسائل التي سأله عنها محمد بن محمّد بن الرّملي الحائري ، وهي مشهورة معروفة عند الأصحاب ، سؤال وعن رجل أسلف رجلا مالا على غلّة ، فلم يقدر عليها المستلف ، فرجع إلى رأس المال ، وقد تغيّر عيار المال إلى النقصان ، هل له أن يأخذ من العيار الوافي ، أو العيار الذي قد حضره ، وهو دون الأوّل؟ جواب لصاحب السلف أن يأخذ من المستلف غلة ، كما أسلفه على ذلك ، ويكلّفه ابتياع ذلك له ، فإن لم يوجد غلّة ، كان له بقيمة الغلّة في الوقت ، عين أو ورق ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه‌الله (٢) وهو الصحيح.

وكذلك من باع طعاما ، قفيزا بعشرة دراهم ، مؤجلا ، فلمّا حلّ الأجل ، أخذ بها طعاما ، سواء زاد على طعامه الذي باعه إيّاه ، أو نقص ، لأنّ ذلك بيع طعام بدراهم لا بيع طعام بطعام ، فلا يحتاج إلى اعتبار المثلية.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة إذا باع طعاما ، قفيزا بعشرة دراهم مؤجلة ، فلمّا حلّ الأجل أخذ بها طعاما ، جاز ذلك ، إذا أخذ مثله ، فإن زاد عليه لم يجز ، وقال الشافعي : يجوز على القول المشهور ، ولم يفصل ، وبه قال بعض أصحابنا ، وقال مالك : لا يجوز ، ولم يفصل ، دليلنا إجماع الفرقة ، وأخبارهم ولأنّ ذلك يؤدّي إلى بيع طعام بطعام ، فالتفاضل فيه لا يجوز ، والقول الآخر الذي لأصحابنا قوي ، وذلك أنّه بيع طعام بدراهم ، في القفيزين معا ، لا

__________________

(١) المقنعة باب البيع بالنقد والنسية من أبواب المكاسب ص ٥٩٦

(٢) لا يوجد الكتاب بأيدينا.

٣١١

بيع طعام بطعام ، فلا يحتاج إلى اعتبار المثلية ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر (١).

فانظر أرشدك الله ، إلى استدلال شيخنا ، فإنّه قال : واقر ، أنّ بعض أصحابنا يذهب في المسألة إلى خلاف ما اختاره رحمه‌الله ثم استدل بإجماع الفرقة ، إلا أنّه عاد في آخر الاستدلال إلى الحقّ ، ورجع عمّا صدّره ، ونقض ما بناه أولا ، ولم ينقض ما استدل به آخرا.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في كتابه الإستبصار (٢) ، في الجزء الثالث ، في كتاب البيوع ، باب العينة ، وأورد أخبارا فيها ذكر العينة.

قال محمّد بن إدريس : « العينة بالعين غير المعجمة ، المكسورة ، والياء المنقطة من تحتها بنقطتين ، المسكنة ، والنون المفتوحة ، والهاء ، وهي السلف عند أهل اللغة ، ذكر ذلك الجوهري في الصحاح ، وابن فارس في المجمل ، فأحببت إيضاحها ، لئلا يجري فيها تصحيف.

ولا يجوز السلم في جلود الغنم ، لأنّها لا يمكن ضبطها بالوصف.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا بأس بالسلم في مسوك الغنم ( وأراد بمسوك الغنم ، جلود الغنم ، لأنّ المسك ، بفتح الميم ، وسكون السين ، الجلد ) إذا عين الغنم ، وشوهد الجلود ، ولم يجز ذلك مجهولا (٣).

قال محمّد بن إدريس : هذا غير واضح ، ولا مستقيم ، من وجوه ، أحدها انّه لا يمكن ضبطها بالوصف ، لاختلاف ذلك وتباينه ، والثاني قوله إذا شوهد الجلود ، وعيّن الغنم ، لأنّ السلم يكون في ذمة البائع ، بحيث يكون مضمونا عليه ، ولا يجوز أن يكون معينا في سلعة بعينها ، أو ينسب إلى شجرة بعينها ، أو غزل امرأة معيّنة ، أو الحنطة من أرض معيّنة ، وإذا عيّن الغنم ، وشوهد الجلود ، بطل السلف بغير خلاف ، لأنّ الغنم إذا هلكت بطل السلم ، ولهذا لا يجوز السلم في الدّور ،

__________________

(١) الخلاف ، كتاب البيوع ، المسألة ١٦٦.

(٢) الإستبصار : ج ٣ ، ص ٧٩.

(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

٣١٢

لأنّ ذلك البيع لا بد له من الوصف ، الذي يتميز به من غيره ، فإذا عين الموضع ، ووصفها ، بطل السلف فيها ، لأنّها تصير بيع الأعيان ، والسلم بيع الذمم.

وقد رجع شيخنا عمّا ذكره في نهايته ، في مبسوطة ، فقال : ويجوز السلف في جلود الغنم إذا شاهدها ، وروي أنّه لا يجوز ، وهو الأحوط ، لأنّه مختلف الخلقة واللون ، ولا يمكن ضبطه بالصفة ، لاختلاف خلقته ، ولا يمكن ذرعه ، ولا يجوز وزنه ، لأنّه يكون ثقيلا ، وثمنه أقل من ثمن الخفيف ، قال رحمه‌الله : وعلى هذا لا يجوز السلف في الرق ( قال محمّد بن إدريس : الرق ـ بفتح الراء ـ جلود تعمل ، يكتب فيها ) ولا فيما يتخذ من الجلود ، من قلع ونعال مقدودة محذوّة ، وخفاف وغير ذلك ، لاختلاف خلقة الجلد ، ولا يمكن ضبطه بالصفة ، ويجوز السلف في القرطاس ، إذا ضبط بالصفة ، كما تضبط الثياب هذا آخر كلامه رحمه‌الله في مبسوطة (١).

وقال شيخنا أبو جعفر أيضا ، في مبسوطة : العلس ، صنف من الحنطة ، يكون فيه حبتان ، في كمام ، فيترك كذلك ، لأنّه أبقى له ، حتى يراد استعماله ، فيلقى في رحى ضعيفة ، فيلقى عنه كمامه ، ويصير حبا ، ( قال محمد بن إدريس : العلس بالعين غير المعجمة المفتوحة ، واللام المفتوحة ، والسين غير المعجمة ) ثم قال رحمه‌الله : القول فيه كالقول في الحنطة في كمامها ، لا يجوز السلف فيه ، إلا ملقى عنه كمامه ، لاختلاف الأكمام ، وكذلك القول في القطنية ، لا يجوز أن يسلف في شي‌ء منها ، إلا بعد طرح كمامها عنها ، حتى يرى ، ولا يجوز حتى تسمى حمصا ، أو عدسا ، أو جلبانا أو ماشا ، وكل صنف منها على حدّته ، وهكذا كل صنف من الحبوب يوصف ، كما توصف الحنطة ، يطرح كمامها ، دون قشوره ، لأنّه لا يجوز أن يباع بكمامه (٢).

قال محمّد بن إدريس : القطنية بكسر القاف ، وسكون الطاء غير المعجمة ،

__________________

(١) المبسوط : كتاب السلم ، فصل فيما يجوز فيه السلف ، ج ٢ ، ص ١٨٩.

(٢) المبسوط : كتاب السلم ، ج ٢ ، ص ١٧٤.

٣١٣

وكسر النون ، وسميت قطنية ، لأنّها تقطن في البيوت ، وهي العدس ، والحمص وأمثال ذلك ، فأمّا الجلبان بالجيم المضمومة ، واللام المسكنة ، والباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، والألف والنون ، فهو شي‌ء يشبه الماش هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح ، فأمّا الجلجلان ، فهو السمسم بغير خلاف بين أهل اللغة ، وقال بعضهم : إنّه الكزبرة.

ولا بأس بالسلف في الفواكه ، كلّها ، إذا ذكر جنسها ، ولم ينسب إلى شجرة بعينها.

ولا بأس بالسلف في الشيرج ، والبذر ، إذا لم يذكر أن يكون من سمسم بعينه ، أو حب كتان بعينه ، فإن ذكر ذلك كان البيع باطلا.

ولا بأس بالسلف في الألبان والسمون ، إذا ذكر أجناسها.

ومتى أعطي الإنسان غيره قرضا دراهم أو دنانير ، أو كان له عليه دين من ثمن مبيع ، أو أرش جناية ، أو مهر ، أو اجرة ، وغير ذلك ، وأخذ منه شيئا من المتاع ، ولم يساعره في حال ما أعطاه المال ، كان عليه المتاع بسعر يوم قبضه ، دون يوم قبض المال.

ولا يجوز أن يبيع الإنسان ماله على غيره ، في أجل لم يكن قد حضر وقته ، وإنّما يجوز له بيعه إذا حلّ الأجل ، فإذا حضر ، جاز له أن يبيع على الذي عليه ، بزيادة من الثمن ، الذي اشتراه به ، أو نقصان وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته (١) : أو على غيره من الناس ، وإن باع على غيره ، وأحال عليه المتاع ، كان ذلك جائزا ، وان لم يقبض هو المتاع ، ويكون قبض المبتاع الثاني قبضا عنه ، وذلك فيما لا يكال ولا يوزن ، ويكره ذلك فيما يدخله الكيل والوزن ، فإن وكل المبتاع منه بقبضه ويكون هو ضامنا لم يكن به بأس على كل حال (٢).

قال محمّد بن إدريس رحمه‌الله : قد حرّرنا القول في بيع الدين ، وقلنا إنّه لا

__________________

(١) مراده قدس‌سره ، أنّ الشيخ « رحمه‌الله » في نهايته زاد على قوله : « على الذي عليه » قوله : أو على غيره من الناس ، فراجع.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

٣١٤

يجوز الأعلى من هو عليه ، وشرحناه وأوضحناه في باب الديون ، بما لا طائل في إعادته.

ولا بأس أن يبتاع الإنسان ما اكتاله غيره من الناس ، ويصدقه في قوله ، لأنّ الاخبار من البائع بالوزن أو الكيل ، يقوم مقام الوزن والكيل ، في ارتفاع الجهالة بالمكيل والموزون ، ويكون القول في ذلك قول المشتري ، لأنّه جعله أمينه في كيله ووزنه ، فأمّا إذا كاله بحضوره ، ووزنه بحضوره ، ثم انفصلا ، ثم ادّعى بعد ذلك المشتري نقصانا ، فالقول قول البائع مع يمينه ، بخلاف الأوّل ، وقد روي أنّه إذا أخذه بقول البائع ثم أراد بيعه ، لم يبعه إلا بالكيل (١).

ولو قلنا إنّه إذا أخبره بما أخبر به البائع الأول ، لم يكن به بأس ، وجاز البيع ، ويكون القول قول المشتري في ذلك ، مثل المسألة الأولى ، لأنّ الغرر والجهالة ، قد زالت باخباره عن خبر البائع بكيله أو وزنه.

وكلّ ما يكال أو يوزن ، فلا يجوز بيعه جزافا ، وكذلك حكم ما يباع عددا فلا يجوز بيعه جزافا.

وإذا اشترى الإنسان شيئا بالكليل أو الوزن ، وغيره ، فزاد ، أو نقص منه شي‌ء يسير ، لا يكون مثله غلطا ، ولا تعدّيا ، لم يكن به بأس ، فإن زاد ذلك أو نقص شيئا كثيرا ، ولا يكون مثله إلا غلطا أو تعمدا أو تعديا ، وجب عليه رده على صاحبه ما زاد ، وكان فيما نقص بالخيار في محاكمة خصمه ، إن شاء طالبه به ، وإن شاء ترك محاكمته.

ومن أسلم في متاع موصوف ، ثم أخذ دون ما وصف برضى منه ، كان ذلك جائزا ، وكذلك إن أعطى فوق ما وصف ، برضى من الذي باعه ، لم يكن به بأس ، فإن طلب البائع على الجودة عوضا ، لا يجوز له أخذه ، لأنّ الجودة صفة لا يجوز إفرادها بالبيع.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٥ من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح ٤ و ٨.

٣١٥

ولا بأس بالسلف في الصوف ، والشعر ، والوبر ، إذا ذكر الوزن فيه ، والجودة والصفات التي يمتاز بها من غيره.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أسلف في الغنم ، وشرط معه أصواف نعجات بعينها ، كائنا ما كان ، لم يكن به بأس (١).

قال محمّد بن إدريس : إن جعل في جملة السلف أصواف النعجات المعينة ، فلا يجوز السلف في المعيّن ، على ما مضى شرحنا له.

وبيع الصوف على ظهر الغنم أيضا لا يجوز ، سواء كان سلفا أو بيوع الأعيان ، وإنما هي رواية أوردها شيخنا في نهايته (٢) إيرادا ، لا اعتقادا.

ولا يجوز أن يسلف السمسم بالشيرج ، ولا حبّ الكتان بدهنه.

وقال شيخنا في نهايته : ولا الكتان بالبزر (٣).

ومقصوده بذلك ، ما ذكرناه ، لأنّه حذف المضاف ، واقام المضاف إليه مقامه ، وذلك كثير في كلام العرب ، وإلا ان أراد الكتان الذي هو الشعر الذي يغزل ، فلا بأس بأن يسلفه بالبزر ، بغير خلاف.

ولا بأس بالسلف في جنسين مختلفين ، كالحنطة والشعير ، عند من جعلهما جنسين ، أو كالحنطة والأرز ، والتمر والزبيب ، والمروي ، والحرير.

قال محمّد بن إدريس : المروي ثياب منسوبة إلى مرو ، يقال لمن يعقل في النسبة إلى مرو : مروزيّ ، وفيما لا يعقل من الثياب وغيرها : مروي ، بإسقاط الزاي ، فهذا الفرق بينهما ، فلأجل ذلك قال الشارع : المروي والحرير ، وما أشبه ذلك من الأنواع المختلفة الأجناس ، بعد أن يذكر المبيع ويميّز بالوصف.

قال شيخنا أبو جعفر ، في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، في كتاب البيوع ، مسألة : إذا انقطع المسلم فيه ، لم ينفسخ البيع ، وبقي في الذمة ، وللشافعي فيه

__________________

(١) و (٢) و (٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

٣١٦

قولان ، أحدهما أنّه ينفسخ ، والآخر له الخيار ، إن شاء رضي بتأخيره إلى قابل ، وإن شاء فسخه ، دليلنا ان هذا عقد ثابت ، وفسخه يحتاج إلى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه ، هذا آخر المسألة (١).

وقال رحمه‌الله أيضا ، في الجزء الثاني من كتاب السلم ، مسألة : إذا أسلم في رطب إلى أجل ، فلمّا حلّ الأجل لم يتمكن من مطالبته ، لغيبة المسلم إليه ، أو غيبته ، أو هرب منه ، أو توارى من سلطان ، وما أشبه ذلك ، ثم قدر عليه ، وقد انقطع الرطب ، كان المسلف بالخيار ، بين أن يفسخ العقد ، وبين أن يصبر إلى عام القابل (٢).

قال محمد بن إدريس : والمسألة الأولى ، القول فيها هو الصحيح ، دون الأخيرة ، لأنّ الأخيرة اختار شيخنا رحمه‌الله فيها أحد قولي الشافعي ، دليلنا على أنّ العقد لا ينفسخ ، ولا يكون للمشتري الخيار في الفسخ ، ما دلّ عليه رحمه‌الله ، وهو أنّ العقد ثابت بالإجماع ، وقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وفسخه يحتاج إلى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه.

ويجوز السلف في المعدوم ، إذا كان مأمون الانقطاع ، في وقت المحل.

السلم لا يكون إلا مؤجلا على ما قدّمناه ، قصر الأجل ، أو طال ، ولا يصحّ أن يكون حالا.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا كان السلم مؤجلا ، فلا بدّ من ذكر موضع التسليم ، فإن كان في حمله مئونة لا بدّ من ذكره (٣).

قال محمّد بن إدريس : لم يذهب إلى هذا أحد من أصحابنا ، ولا ورد به خبر عن أئمتنا عليهم‌السلام ، وانّما هذا أحد قولي الشافعي ، اختاره شيخنا أبو جعفر رحمه‌الله ، ألا تراه في استدلاله لم يتعرض لإجماع الفرقة ، ولا أورد خبرا في ذلك ، لا من طريقنا ، ولا من طريقة المخالف ، وليس من شرط صحة السلم ، ذكر

__________________

(١) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ١٦٥.

(٢) و (٣) الخلاف : كتاب السلم ، المسألة ٢ ـ ٩.

٣١٧

موضع التسليم ، بغير خلاف بين أصحابنا ، والأصل براءة الذمة ، وقوله تعالى : « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، وقوله « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد.

يجوز السلم في الأثمان ، من الدنانير والدراهم ، إذا كان رأس المال من غير جنسها ، مثل الثياب والحيوان وغيرهما.

الإقالة فسخ في عقد المتعاقدين ، وليست ببيع ، وإذا أقاله بأكثر من الثمن ، أو بأقل كانت الإقالة فاسدة ، دليلنا انّ كل من قال بأنّ الإقالة فسخ على كل حال ، قال بهذه المسألة ، فالفرق بين الأمرين خارج عن الإجماع.

ولا يجوز السلف في الجوز ، والبيض والرمان ، والبطيخ ، والبقول ، كلّها إلا وزنا.

إذا أسلم مائة درهم في كر طعام ، وشرط أن يعجل خمسين درهما ، في الحال ، وخمسين إلى أجل ، وعجّل خمسين ، وفارقه ، لم يصح السلم في الجميع ، وإن شرط خمسين نقدا ، وخمسين كانت دينا له في ذمّة المسلّم إليه ، فإنّه لا يصحّ في الدين ، ويصح في النقد ، لأنّه يكون بيع دين بدين ، ونهى الرسول عليه‌السلام عن بيع الدين بالدين (١).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : يجوز السلف في الزاووق ، وهو الزئبق ، وقال : يجوز السلف في النقل ، وهو الأحجار الصغار ، وقال : يجوز السلف في القضة (٢).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الزاووق بالزاء المعجمة ، المفتوحة ، بهمزة فوق الألف ، وواوين بعد الألف ، والقاف ، والنقل بالنون المفتوحة ، والقاف المفتوحة ، واللام ، والقضّة ، بالقاف المكسورة ، والضاد المعجمة المفتوحة المشدّدة ، ضبطت ذلك لئلا يقع فيه تصحيف (٣).

إذا اختلفا في قدر المبيع ، أو قدر رأس المال ، وهو الثمن ، أو في الأجل أو في

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٥ من أبواب الدين والقرض ، ح ١ ، ولفظه هكذا : عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يباع الدين بالدين.

(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب السلم ، فصل فيما يجوز فيه السلف ، ص ١٨٤.

(٣) ل : قال في المبسوط : القضة هي الجصّ.

٣١٨

قدره ، كان القول قول البائع مع يمينه ، إلا في الثمن ، فانّ القول قول المشتري مع يمينه.

فإن قيل : فقد قلتم إذا اختلف البائع والمشتري في الثمن ، كان القول قول البائع ، فكيف قلتم هاهنا القول قول المشتري.

قلنا : القول قول البائع في الثمن ، إذا كانت بيوع الأعيان ، وكانت العين قائمة غير تالفة ، فأمّا بيوع السلم ، فالأعيان في الذمم غير موجودة ، بل هي معدومة فافترق الأمران.

ولا يجوز السلف في العقار ، لأنّهما إذا أطلقا الوصف من غير تعيين ، لم يجز ، لأنّه يختلف باختلاف الأماكن ، والقرب من البلد ، والبعد منه ، وإن عيّن البقعة لم يجز ، لأنّه إن قيل من القرية الفلانية ، اختلف باختلاف أماكنه ، وإن عيّن أرضا بعينها ، لا يصحّ ، لأنّ بيع العين بصفة ، لا يجوز ولا يصحّ.

إذا أتى المسلم إليه ، بالمسلم فيه ، فإن كان على صفته بعد حلول الأجل ، لزم المشتري قبوله ، لأنّه أتى بما تناوله العقد ، فإن امتنع ، قيل له : إمّا أن تقبله ، وإمّا أن تبرئه منه ، لأنّ للإنسان غرضا في تبرئة ذمته من حق غيره ، وليس لك أن تبقيه في ذمته بغير اختياره وبراءته يحصل بقبض ما عليه ، أو إبرائه منه ، فأيّهما فعل جاز ، وإن امتنع قبضه الإمام ، أو النائب عنه ، عن المسلّم إليه ، وتركه في بيت المال ، إلى أن يختار قبضه ، ويبرأ المسلّم إليه منه ، ولم يجز للحاكم إبراؤه منه بالإسقاط عن ذمّته ، لأنّ الإبراء لا يملك بالولاية ، وقبض الحق يملك بالولاية.

قال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : ويجوز السلف في القثاء ، والخيار ، والبطيخ ، والفجل ، والجزر ، والفواكه ، كلّها من الرمان ، والسفرجل ، والفرسك ( قال محمد بن إدريس : الفرسك بالفاء المكسورة ، والراء المسكنة ، غير المعجمة ، والسين غير المعجمة المكسورة ، والكاف ، وهو الخوخ ) وفي البقول كلّها ، ولا يجوز جميع ذلك الا وزنا ، ولا يجوز عددا ، لأنّ فيه صغيرا وكبيرا ، وكل ما

٣١٩

أنبتته الأرض ، لا يجوز السلف فيه إلا وزنا إلا ما خرج بالدليل من المكيل (١).

قال شيخنا في المبسوط : ويجوز السلف في الزاووق ، يعني الزئبق ، والزاووق بالزاء المعجمة ، والألف وواوين ، وقاف ، وذكر جواز السلم في السقمونيا ، وذكر شيخنا أبو جعفر أيضا في مبسوطة الإهليلج والبليلج والسقمونيا ونحو ذلك من العقاقير ، فيه الربا ، لأنّه من الموزون (٢).

قال محمّد بن إدريس : الإهليلج ، والبليلج ، من الأخلاط ، من عقاقير الأدوية ، والسقمونيا لبن شجرة يسيل منها سيلا.

وذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة في كتاب السلم ، في صفات الإبل والسلم فيها : ويستحب أن يذكر بريئا من العيوب ، ويسمّى ذلك غير مودن (٣).

قال محمّد بن إدريس : المودن ، بالميم المضمومة ، والواو الساكنة والدال المفتوحة غير المعجمة ، والنون ، هو الضاوي بالضاد المعجمة.

وذكر أيضا رحمه‌الله ، في آجال السلف : والمجهول أن يقول إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، ثمّ قال : ولا يجوز إلى فصح النصارى ، ولا إلى شي‌ء من أعياد أهل الذمة ، مثل السعانين والفطير (٤).

قال محمّد بن إدريس : فصح النصارى ، بالفاء والصاد غير المعجمة ، والحاء غير المعجمة مكسورة الفاء ، مسكن الصاد ، وهذا العيد عند النصارى ، إذا أكلوا اللحم بعد صومهم ، وأفطروا ، وهذا العيد بعد عيد السعانين لثلاثة أيّام ، قال المبرد في كتاب الاشتقاق : سمعت التوزي ، وسئل عن فصح النصارى ، فقال قائل :

إنّما أخذ من قولهم ، أفصح اللبن ، إذا ذهبت رغوته ، وخلص ، فإنّما معناه ، أنّه قد ذهب عناؤهم وصومهم ، وحصلوا على حقيقة ما كانوا عليه ، فقال : هو هذا ،

__________________

(١) المبسوط : ج ٢ ، كتاب السلم ، فصل فيما يجوز فيه السلف ، ص ١٨٨ ، والعبارة منقولة مقطوعة.

(٢) المبسوط : ج ٢ كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، ص ٩٠.

(٣) و (٤) المبسوط : ج ٢ ، كتاب السلم ، ص ١٧٦ وص ١٧٢ مع تقطيع في العبارة.

٣٢٠