كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

الأعيان ، وبيوع الموصوف في الذمة. وبيع الأعيان على ضربين ، بيع عين مشاهدة مرئية ، وبيع خيار الرؤية. فأمّا بيع الأعيان المشاهدة المرئية ، فهو أن يبيع الإنسان عبدا حاضرا ، أو ثوبا مشاهدا ، أو عينا من الأعيان ، مشاهدة حاضرة مرئية ، فيشاهد البائع والمشتري ذلك ، فهذا بيع صحيح ، بلا خلاف ، ولا يفتقر إلى ضرب الأجل ، ولا وصف المبيع ، وليس من شرط صحته قبض الثمن ، قبل التفرق من مجلس العقد ، فإن هلك قبل قبض المشتري له ، أو قبل تمكينه من قبضه ، فقد بطل البيع ، ووجب على البائع ردّ الثمن إن كان تسلّمه ، وإن كان بعد قبض المشتري له ، أو بعد التمكين له من القبض ، فإنّه لا ينفسخ البيع ، ويهلك من مال مشتريه ، إلا أن يكون حيوانا فمتى مات في مدة الثلاثة أيّام ، قبل تصرف المشتري فيه ، فإنّه يهلك من مال بائعه ، فإن هلك بعدها ، فهو من مال مشتريه ، لأنّ الخيار في الحيوان ، للمشتري ثلاثة أيّام ، يثبت بمجرّد العقد ، إلا أن يشرط البائع ، أن لا خيار بيننا ، فمتى كان الخيار للمشتري ، وهلك الحيوان في مدة الخيار ، قبل التصرف فيه ، والحدث المؤذن بالرضا ، فإنّه يهلك من مال بايعه ، دون مشتريه ، ومتى كان الخيار في المدة لبائعه ، ولا خيار لمشتريه ، فإنّه يهلك من مال مشتريه ، دون مال بائعه ، لأنّه يهلك من مال من استقر العقد عليه ، ولزم من جهته.

فأمّا بيع العين الموصوفة ، غير المشاهدة بخيار الرؤية ، فهو بيع الأعيان الغائبة ، وهو أن يبتاع شيئا لم يره ، مثل أن يقول : بعتك هذا الثوب الذي في كمي ، أو الثوب الذي في صندوقي ، وما أشبه ذلك ، فيذكر جنس المبيع ، فيتميز من غير جنسه ، ويذكر الصفة ، لتقوم مقام المشاهدة في العين المرئية ، لأنّ العين المرئية ، لا يحتاج في بيعها إلى ذكر صفتها.

ومن شرط هذا البيع ، وصحته ، ذكر الجنس والصفة معا ، فإن أخلّ بأحدهما ، بطل البيع ، فإذا عقد البيع ، ثم رأى المشتري المبيع ، فوجده على ما

٢٤١

وصفه البائع له ، كان البيع ماضيا ، ولم يكن لأحدهما خيار ، وإن وجده على خلاف الصفة ، كان له ردّه ، وفسخ العقد ، أو أخذه ، وأخذ الأرش ، لا يجبر على واحد من الأمرين ، فإن هلك قبل قبضه ، انفسخ البيع ، ولا يلزم بايعه ببدله ، لأنّ البيع وقع على عين ، فإثباته ، وصحّته في غيرها يحتاج إلى دليل ، وليس هو في الذمة.

وليس من شرطه أيضا قبض الثمن قبل التفرق ، ولا ضرب الأجل المحروس من الزيادة والنقصان ، بل من شرطه ذكر الجنس والصفة ، بخلاف بيع العين المشاهدة المرئية.

فأمّا بيع الموصوف في الذمة ، فهو بيوع السلم ، بفتح السين واللام ، ويقال السلف ، فهو أن يسلم في شي‌ء موصوف ، إلى أجل معلوم ، محروس من الزيادة والنقصان ، امّا بالسنين والأعوام ، أو الشهور والأيام. ويذكر الصفات المقصودة ، فهذا أيضا بيع صحيح ، بلا خلاف.

ومن شرط صحته ، قبض الثمن قبل التفرق من المجلس ، وذكر الجنس والصفة ، وضرب الأجل المحروس ، وإن لا ينسب إلى أصله ، لأنّه بيع في الذمة ، فإذا عيّن أن يكون من موضع معروف ، أو شجرة بعينها ، أو غزل امرأة معينة ، أو نتاج حيوان معين ، أو لبنه ، أو صوفه ، وشعره ووبره ، فقد خرج عن موضوعه المشروع ، وكان باطلا بغير خلاف.

ولا يصح أن يكون ثمنه دينا على المسلم إليه ، كان للمسلم فيه ، لأنّ ذلك يكون بيع دين بدين ، وقد نهى الرسول عليه‌السلام عن بيع الدين بالدين (١).

فافترق هذا البيع ، أعني بيع الموصوف في الذمة ، من بيوع الأعيان ، وهما البيعان اللذان قدّمنا ذكرهما ، وهما بيع العين المشاهدة المرئية ، وبيع العين الغائبة الموصوفة ، لأنّ هذا أعني بيع السّلم ، للمشتري مطالبة البائع به ، على كل

__________________

(١) الوسائل : الباب ١٥ ، من أبواب الدين والقرض ، ح ١ ولفظ الحديث هكذا : لا يباع الدين بالدين.

٢٤٢

حال ، لأنّه في ذمته ، بخلاف بيوع الأعيان ، لأنّهما إذا هلكا قبل قبضهما ، بطل البيع فتميّز ، وافترق كلّ بيع ، وعقد ، من البيوع الثلاثة ، بأمر ، ووجه ، غير موجود في الآخر.

فأمّا بيع النسيئة ، مهموزة الياء ، فهو تأخير الأثمان ، إلى أجل محروس ، وتقديم المثمنات ، بخلاف بيع السلم ، لأنّ بيع السلم هو تقديم الأثمان ، قبل الافتراق من مجلس البيع ، وتأخير المثمنات إلى الأجل المحروس ، المقدّم ذكره فيما مضى.

ويجوز بيع العين الحاضرة ، بالعين الحاضرة ، ويجوز بالدين في الذمة ، وبيع خيار الرؤية ، إن وحده على حالته ووصفه ، أخذه ، وإن وجده على غير وصفه ، كان له ردّه ، على ما قدّمناه.

فإن اختلفا فقال المبتاع : نقص ، وقال البائع : لم ينقص من صفاته التي وصفتها ، فالقول قول المبتاع ، لأنّه الذي ينتزع الثمن منه ، ولا يجب انتزاع الثمن منه إلا بإقراره ، أو بيّنة تقوم عليه.

فأمّا بيع الخيار ، وذكر العقود التي يدخلها الخيار ، ولا يدخلها ، فبيع الخيار على ثلاثة أضرب ، أحدها أن يعقد العقد بالإيجاب والقبول ، ويكون الإيجاب متقدّما على القبول ، فإن كان القبول متقدّما على الإيجاب ، فالبيع غير صحيح ، فإذا عقداه بالإيجاب والقبول بعده ، فيثبت لهما الخيار ، ما لم يفترقا بأبدانهما ، ويسمّى هذا خيار المجلس ، فإذا ثبت بينهما العقد ، وأراد استقراره ، ولزومه ، وإبطال الخيار بينهما ، جاز لهما أن يقولا ، أو يقول أحدهما ، ويرضى به الآخر : قد أوجبنا العقد ، وأبطلنا خيار المجلس ، فإنّه يلزم العقد ويستقر ، ويبطل خيار المجلس.

الثاني أن يشرطا حال العقد أن لا يثبت بينهما خيار المجلس ، ويكون هذا الشرط مقارنا للعقد معا معا ، فإنّ ذلك جائز أيضا.

الثالث أن يشرطا في حال العقد ، مدة معلومة ، قلّ ذلك أم كثر ، ثلاثا كان أو أكثر ، أو أقلّ ، هذا فيما عدا الحيوان.

فأمّا الحيوان ، فإنّه يثبت فيه الخيار ثلاثا ، بمجرد العقد ، شرطا أم لم يشرطا ،

٢٤٣

على ما قدّمناه ، للمشتري خاصة ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ومذهبهم.

وقال السيد المرتضى : يثبت للبائع والمشتري معا ، والأول مذهب شيخنا المفيد ، وشيخنا أبي جعفر ، وجلّة أصحابنا.

وأيضا فالعقد يثبت بالإيجاب والقبول ، وقال الله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) فمن أثبت الخيار لأحدهما ، يحتاج إلى دليل شرعي ، قاطع للأعذار ، وإجماعنا منعقد على أن الخيار للمشتري ، فمن أثبته للبائع ، يحتاج إلى دليل.

وما زاد على الثلاث ، فعلى حسب ما يشترطانه من الخيار ، إمّا لهما أو لواحد منهما (٢) ، فإن أوجبا البيع ، بعد أن شرطا مدة معلومة ، ثبت العقد ، ولزم ، وبطل الشرط المتقدم. فأمّا العقود التي يدخلها الخيار ، فنحن نذكرها ، وما يصح فيه الخيار وما لا يصح.

فأما عقد البيع ، فان كان بيع الأعيان المشاهدة ، دخلها خيار المجلس ، بإطلاق العقد ، وخيار المدة ، ثلاثا كان ، أو ما زاد عليه ، بحسب الشرط.

وان كان حيوانا ، دخله خيار المجلس ، وخيار الثلاث معا ، بإطلاق العقد ، ومجرّده ، وما زاد على الثلاث ، بحسب الشرط.

وإن كان بيع خيار الرؤية ، دخله الخيار ان معا ، خيار المجلس ، وخيار الرؤية ، إذا رآه ، ويكون خيار الرؤية على الفور ، دون خيار المجلس.

فأمّا الصرف ، فيدخله خيار المجلس ، لعموم الخبر ، فأمّا خيار الشرط ، فلا يدخله أصلا ، إجماعا ، لأنّ من شرط صحة هذا العقد ، القبض قبل التفرق.

فأمّا السلم ، فيدخله خيار المجلس ، للخبر ، وخيار الشرط ، لا يمنع منه مانع ، وعموم الخبر يقتضيه.

فأمّا الرهن ، فإنّه يلزم بالإيجاب والقبول ، دون الإقباض ، وبعض أصحابنا ، يذهب إلى أنّه لا يلزم ، ولا ينعقد إلا بالإقباض ، والأول هو الأظهر في المذهب ،

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) كان هنا أيضا نقص أوراق اجبروه بخط آخر فاقد لمزايا نسخة الأصل ولذا نجعل الأصل من هنا إلى أوائل باب الصرف نسخة « ج ».

٢٤٤

ويعضده قوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » فأمّا قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (١) فهذا دليل الخطاب ، ودليل الخطاب عندنا غير صحيح ، وقد يرجع عن ظاهره بدليل ، والآية المتقدّمة دليل عليه.

وعقد الصلح لا يدخله خيار المجلس ، لأنّ خيار المجلس يختص عقد البيع ، والصلح عندنا ليس ببيع ، ولا هو فرع البيع ، على ما يذهب إليه الشافعي.

وكذلك الحوالة ، لا يدخلها خيار المجلس ، ولا يمتنع دخول خيار الشرط فيهما ، لقوله عليه‌السلام : المؤمنون عند شروطهم (٢).

وكذلك الضمان ، لا يدخله خيار المجلس ، ولا يمتنع من دخوله خيار الشرط.

وأمّا خيار الشفيع على الفور ، فإن اختار الأخذ ، فلا خيار للمشتري ، لأنّه ينتزع منه الشقص قهرا ، وأمّا الشفيع ، فقد ملك الشقص ، وليس له خيار المجلس ، لأنّه ليس بمشتر ، وانّما أخذه بالشفعة.

وأما المساقاة ، فلا يدخلها خيار المجلس ، لأنّها ليست بيعا ، ولا يمنع مانع من دخول خيار الشرط فيها ، لقوله عليه‌السلام : المؤمنون عند شروطهم.

وأمّا الإجارة ، فلا يدخلها خيار المجلس ، لأنّها ليست بيعا ، ولا يمنع من دخول خيار الشرط فيها مانع.

وأمّا عقد الوقف ، فلا يدخله الخياران ، معا على الصحيح من المذهب ، لأنّه متى شرط فيه الرجوع ، والخيار له في الرجوع ، لم يصحّ الوقف ، وبطل.

وأمّا الهبة ، فله الخيار قبل القبض ، وبعد القبض ، ما لم يتعوض ، أو يتصرّف فيه الموهوب له ، أو تهلك عينها ، إلا أن تكون الهبة لولده الأصاغر ، فليس للوالد الذي هو الواهب ، الرجوع ، قبض أو لم يقبض ، لأنّه هو الوالي والقابض ، فإنّها تلزم بمجرد العقد ، فان كانت لولده البالغين ، فإنّها تلزم

__________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) الوسائل : الباب ٢٠ من أبواب المهور ، ح ٤.

٢٤٥

بالقبض ، ولا يحتاج إلى إضافة شي‌ء إلى القبض ، في لزومها ، على ما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وأمّا عقد النكاح ، فلا يدخله الخياران ، للإجماع على ذلك.

وأمّا السّبق والرّماية ، فقد اختلف فيه ، فقال قوم : إنّه عقد لازم ، وقال آخرون : هو جائز ، والأولى انّه لا يدخله خيار المجلس ، لأنّه ليس ببيع ، ولا يمنع مانع من دخول خيار الشرط فيه.

وأمّا الوكالة والعارية ، والوديعة ، والقرض ، والجعالة ، فلا يمنع من دخول الخيارين فيها مانع ، لأنّ هذه العقود جائزة من جهة المتعاقدين ، غير لازمة ، فمن أراد الفسخ فسخ.

وأمّا القسمة ، فعلى ضربين ، قسمة لا ردّ فيها ، وقسمة فيها ردّ ، وعلى الوجهين معا ، لا خيار فيها في المجلس ، لأنّها ليست ببيع ، ولا يمنع من دخول خيار الشرط فيها مانع ، للخبر.

وأمّا الكتابة ، فعلى ضربين ، عندنا ، مشروطة ، ومطلقة ، فالمشروطة ليس للمولى فيها خيار مجلس ، ولا مانع من دخول خيار الشرط فيها.

وأمّا العبد ، فله الخياران معا ، لأنّه إن عجّز نفسه ، كان الفسخ حاصلا ، وإن كانت مطلقة ، فلا خيار لواحد منهما.

وأمّا الطلاق ، فليس بعقد ، فلا يدخله الخياران معا.

وكذلك العتق ، لا يدخله الخياران معا ، بغير خلاف بيننا.

إذا ثبت خيار المجلس في البيع ، على ما بيّناه ، فإنما ينقطع بأحد أمرين ، تفرق ، وتخاير.

فأمّا التفرق الذي يلزم به البيع ، وينقطع به الخيار ، فحده مفارقة المجلس ، بخطوة ، فصاعدا ومتى ثبتا موضعهما ، أو بني بينهما حائط ، لم يبطل خيار المجلس ، ولو طال مقامهما في المكان شهرا ، أو أكثر من ذلك.

وأمّا التخاير ، فعلى ضربين تخاير بعد العقد ، وتخاير في نفس العقد ، فأيّهما

٢٤٦

كان لزم العقد ، واستقر ، وبطل خيار المجلس ، فما كان بعد العقد ، مثل أن يعقداه ، ثم يقول أحدهما للآخر : اختر الإمضاء ، وإن لا يكون بيننا خيار المجلس ، وقد أبطلناه ، فمتى فعلا ذلك ، فقد بطل خيار المجلس.

وما كان منه في نفس العقد ، مثل أن يقول : بعتك ، بشرط أن لا يثبت بيننا خيار المجلس ، فإذا قال المشتري : قبلت ، ثبت العقد ، ولا خيار لهما بحال البيع ، إن كان مطلقا من غير شرط ، فإنّه يثبت بنفس العقد ، ويلزم بالتفرق بالأبدان ، على ما قدّمناه.

وإن كان مشروطا لزومه بنفس العقد ، لزم بنفس العقد ، وإن كان مقيّدا مشروطا ، لزم بانقضاء الشرط ، ويكون مدة خيار الشرط ، من حين التفرق ، لأنّ خيار الشرط يدخل إذا استقرّ العقد ، ولزم ، والعقد لم يلزم ، ولم يستقر قبل التفرق.

وأيضا فهما خياران ، خيار المجلس ، ثبت من غير شرط ، وخيار الشرط زائد عليه ، ولا يدخل أحدهما في الآخر إلا أن يشرطا ذلك بينهما ، لأنّه لا دليل عليه ، بل قد اشترط زائدا على ما كان له من خيار المجلس ، فإذا ثبت ذلك فلا يخلو أن يتصرف المشتري فيه ، أو لا يتصرف ، فإن تصرّف ، فيه بالهبة ، أو التمليك ، أو العتق ، وغير ذلك ، لزم العقد ، واستقر من جهته ، وبطل خياره ، وكان خيار البائع باقيا ، فإن تصرّف فيه البائع بالهبة ، أو التمليك ، أو العتق ، وغير ذلك ، كان ذلك فسخا للعقد ، فالتصرف من المشتري لزوم العقد ، وإمضاء له ، ومن البائع إبطال له وفسخ.

فإن حدث بالمبيع هلاك في مدة الخيار ، وهو في يد البائع ، كان من ماله ، دون المشتري ، ما لم يتصرف فيه تصرفا يؤذن بالرضا.

فإن اختلفا في حدوث الحادثة ، فعلى المشتري البيّنة ، أنّه حدث في مدة الخيار ، دون البائع ، لأنّه المدّعي ، وكذلك الحكم في حدوث عيب به يوجب الرد.

ومتى وطأ المشتري في مدة الخيار لزمه البيع ، واستقر عليه ، وبظل خياره ،

٢٤٧

ولم يجب عليه شي‌ء ، ويلحق به الولد ، ما لم يفسخ البائع ، فإن فسخ ، كان الولد لا حقا بأبيه ، ويلزمه للبائع قيمته ، إن لو كان عيدا ، وعشر قيمة الجارية ، إن كانت بكرا ، أو نصف العشر ، إن كانت ثيبا ، وإن لم يكن هناك ولد ، لزمه عشر قيمتها ، إن كانت بكرا ، وإن كانت ثيبا ، نصف عشر قيمتها ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (١) ، ومبسوطة (٢).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ المشتري لا يلزمه قيمة الولد ، ولا عشر قيمة الجارية بحال ، سواء فسخ البائع البيع ، أو لم يفسخ ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة ، ولا إجماع ، لأن الولد انعقد حرا ، ولا قيمة للحر ، فأمّا عشر القيمة لأجل وطئها ، فما ورد ، إلا فيمن اشترى جارية ، ووطأها ، فظهر بها حمل ، ردّها ، وردّ معها عشر القيمة ، إن كانت بكرا ، وإن كانت ثيبا ، نصف العشر ، ولم يرد في هذا نص ، والقياس عندنا باطل.

وإنما ذكر ذلك شيخنا في مسائل خلافه على رأي بعض المخالفين ، في أنّ المبيع لا ينتقل إلى المشتري ، إلا بشرطين ، بالعقد ، وبانقضاء الشرط ، وعند أصحابنا انّه ينتقل إلى ملك المشتري ، بمجرد العقد.

فإذا تقرّر ذلك ، فقد تصرّف في ملكه تصرفا مباحا حسنا ، فدخل في قوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (٣) وما عدا ذلك فإنّا نخرجه بدليل ، فليلحظ ذلك.

وأمّا خيار البائع ، فإنّه لا يبطل بوطء المشتري ، لأنّه لا دليل عليه ، ومتى وطأ البائع في مدة الخيار ، كان ذلك فسخا للبيع ، إجماعا.

وجملة الأمر وعقد الباب ، إنّ كلّ تصرف لو وقع من البائع ، كان فسخا ،

__________________

(١) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٣٢.

(٢) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، احكام الخيارات ، ولا يخفى اختلاف يسير بين المنقول وما في الكتابين فراجع.

(٣) التوبة : ٩١.

٢٤٨

متى وقع من المشتري كان إمضاء وإقرارا بالرضا بالبيع ولزومه ، ويستقر العقد بذلك من جهته.

فأمّا إذا اتفقا على التصرف فيه ، وتراضيا ، مثل ان أعتق المشتري ، أو باع في مدة الخيار ، بإذن البائع ، أو وكلّ المشتري البائع في عتق الجارية ، أو بيعها ، فانّ الخيار ينقطع في حقهما ، ويلزم البيع ، ويستقر ، وينقطع خيارهما معا ، وينفذ العتق والبيع ، لأنّ في تراضيهما بذلك ، رضا يقطع الخيار.

خيار المجلس ، والشرط ، موروث عندنا.

إذا كان المبيع شيئا بعينه ، فهلك بعد العقد ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون قبل القبض ، أو بعده ، فإن كان قبل القبض ، بطل البيع ، سواء كان التلف في مدة الخيار ، أو بعد انقضاء مدة الخيار ، فإذا تلف ، هلك على ملك البائع ، وبطل الثمن ، فإن كان الثمن مقبوضا ، ردّه وإن كان غير مقبوض ، سقط عن المشتري ، وإن كان الهلاك بعد القبض ، لم يبطل البيع ، سواء كان في يد المشتري ، أو يد البائع ، مثل ان قبضه المشتري ، ثمّ ردّه إلى البائع وديعة ، فإذا ثبت أنّه لا ينفسخ ، نظرت ، فإن كان الهلاك بعد انقضاء مدّة الخيار ، فلا كلام ، وإن كان في مدّة الخيار ، لم ينقطع الخيار ، ثم لا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن يجيز البيع ، أو يفسخاه ، فإن فسخاه ، أو أحدهما ، سقط الثمن ، ووجب القيمة على المشتري ، وإن اختارا إمضاء البيع ، أو سكتا حتى مضت مدة الخيار ، فإنّه يلزمه الثمن المسمّى ولا يلزمه القيمة ، لأنّه مسمّى ، ولا يسقط مع بقاء العقد.

وإذا اشترى شيئا ، فبان له الغبن ، بسكون الباء ، فإن كان من أهل الخبرة ، والبصيرة ، لم يكن له ردّه ، وإن لم يكن من أهل الخبرة ، نظر فإن كان مثله ، لم تجر العادة بمثله ، فسخ العقد إن شاء ، وإن كان جرت العادة بمثله ، لم يكن له الخيار.

إذا قال بعنيه أو أتبيعني هذا بألف ، أو بعني ، أو اشتريت منك هذا بألف ،

٢٤٩

فقال صاحبه : بعتك ، لم يصح العقد والبيع ، حتى يقول المشتري بعد قول البائع بعتك : اشتريت ، أو قبلت.

وكذا إذا قال البائع : تشتري مني هذا بألف ، أو أبيعك هذا بألف ، أو اشتر هذا مني بألف ، فقال المشتري : اشتريت ، أو قبلت ، لم يصح البيع ، ولم ينعقد العقد ، إلا أن يأتي البائع بلفظ الإخبار والإيجاب ، دون لفظا الاستفهام والأمر ، وهو قوله : بعتك فيقول المشتري : اشتريت ، أو قبلت على ما قدّمناه ، فينعقد العقد بذلك ، دون ما سواه من الألفاظ.

إذا دفع قطعة إلى البقلي ، أو إلى الشارب ، فقال : أعطني بقلا ، أو ماء ، فإنّه لا يكون بيعا ، ولا عقدا ، لأنّ الإيجاب والقبول ما حصلا ، وكذلك سائر المحقرات ، وسائر الأشياء ، محقرا كان أو غير محقر ، من الثياب والحيوان ، وغير ذلك ، وإنّما يكون إباحة له ، فيتصرف كلّ واحد منهما فيما أخذه ، تصرفا مباحا ، من غير أن يكون ملكه ، أو دخل في ملكه ، ولكل واحد منهما ، أن يرجع فيما بذله ، لأنّ الملك لم يحصل لهما ، بشرط إن بقيا فإن لم يبق أحدهما ، بحاله كما كان أولا فلا خيار لأحدهما ، وليس هذا من العقود ، الفاسدة ، لأنّه لو كان عقدا فاسدا ، لم يصحّ التصرف فيما صار إلى كلّ واحد منهما ، وانما ذلك على جهة الإباحة.

باب الرّبا وأحكامه وما يصح فيه وما لا يصح

الربا محظور في شريعة الإسلام ، قال الله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (١) وقال تعالى ( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (٢) وقال ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ) (٣) وروي عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، أنّه قال : درهم ربا أعظم

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) البقرة : ٢٧٦.

(٣) البقرة : ٢٧٥.

٢٥٠

عند الله تعالى من سبعين زنية ، كلّها بذات محرم (١) ، فيجب على الإنسان معرفته ، ليتجنبه ويتنزه عنه.

فمن ارتكب الربا بجهالة ، ولم يعلم أن ذلك محظور ، فليستغفر الله تعالى في المستقبل ، ويتوب إليه ، وقد تاب الله عليه فيما مضى ، ومن علم أن ذلك حرام ، ثم استعمله ، فكل ما يحصل له من ذلك ، محرّم عليه ، ويجب ردّه على صاحبه ، فإن لم يعرف صاحبه ، تصدّق به عنه ، على ما روي في الأخبار (٢) ، وإن عرفه ولم يعرف مقدار ما أربى عليه ، فليصالحه ، وليستحلّه.

وإن علم أن في ماله ربا ولا يعرف مقداره ، لا بالوزن ولا بالعين ، ولا من أربى عليه ، ولا غلب على ظنه مقدار الربا ، فليخرج خمس ذلك المال ، ويضعه في أهله ، وحلّ له التصرف فيما يبقى بعد ذلك.

وقال شيخنا في نهايته : فمن ارتكب الربا بجهالة ، ولم يعلم أنّ ذلك محظور فليستغفر الله تعالى ، وليس عليه فيما مضى شي‌ء ومتى علم أنه ذلك حرام ، ثم استعمله ، فكلّ ما يحصل له من ذلك محرم عليه ، ويجب عليه ردّه على صاحبه (٣).

قال محمّد بن إدريس : قول شيخنا رحمه‌الله : « فمن ارتكب الربا بجهالة ، ولم يعلم أنّ ذلك محظور ، فليستغفر الله تعالى في المستقبل ، وليس عليه فيما مضى شي‌ء » المراد بذلك ، ليس عليه شي‌ء من العقاب ، بعد استغفاره ، لا أنّ المراد بذلك ، أنّه ليس عليه شي‌ء من ردّ المال الحرام ، بل يجب عليه ردّه على صاحبه ، لقوله تعالى ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) (٤) فأمّا قوله تعالى ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) (٥) المراد به والله أعلم ، فله ما سلف من الوزر ، وغفران الذنب ، وحقّ القديم سبحانه بعد انتهائه ، وتوبته ، لأنّ

__________________

(١) الوسائل : الباب ١ من أبواب الربا ، ح ١.

(٢) الوسائل : الباب ٥ من أبواب الربا ، والباب ٤٧ من أبواب ما يكتسب به.

(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه ..

(٤) البقرة : ٢٧٩.

(٥) البقرة : ٢٧٥.

٢٥١

إسقاط الذنب عند التوبة ، تفضل عندنا ، بخلاف ما يذهب إليه المعتزلة ، وقيل في التفسير ذكره شيخنا في التبيان ، وغيره من المفسّرين ، أنّ المراد بذلك ما كان في الجاهليّة من الربا بينهم ، فقال تعالى « فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى ، فَلَهُ ما سَلَفَ » فأمّا ما يجري بين المسلمين ، فيجب ردّه على صاحبه ، سواء كان جاهلا بحاله ، غير عالم بأنّه محرم ، أو كان عالما بذلك ، فإنّه يجب ردّ الربا على من أربى عليه في المسألتين جميعا (١).

فلا يظن ظان ولا يتوهم متوهم على شيخنا فيما قال ، غير ما حررناه.

ولا ربا بين الولد ووالده ، ولا بين العبد وسيده ، لأنّ مال العبد لسيده ، ولا بين الرجل وأهله ، المراد بأهله هاهنا امرأته ، دون قراباته من الأهل ، والدليل على أنّ المراد بأهله امرأته هاهنا ، قوله تعالى في قصة موسى ( وَسارَ بِأَهْلِهِ ) (٢) ولا خلاف أنّ المراد بذلك ، امرأته بنت شعيب ، لأنّه ما كان معه غيرها من قراباته.

ولا ربا أيضا بين المسلم وبين أهل الحرب ، لأنهم في الحقيقة في للمسلمين ، وانّما لا يتمكن منهم.

والربا يثبت بين المسلم وأهل الذمة ، كثبوته بينه وبين مسلم مثله ، وهذا هو الصحيح من أقوال أصحابنا ، وإليه يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في جميع كتبه.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا ربا بين المسلم وأهل الذمة ، وجعلهم كالحربيين ، ذهب إلى ذلك شيخنا المفيد ، وابن بابويه ، وغيرهما.

والأول هو المعتمد ويعضده ظاهر التنزيل ، وهو قوله تعالى « أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » فخرج من ذلك أهل الحرب ، بالإجماع المنعقد من أصحابنا ، وبقي من عداهم داخلا في عموم الآية ، فلا يجوز التخصيص للعموم ، إلا بأدلة موجبة للعلم ، قاطعة للأعذار ، فأمّا أهل الحرب ، فإنّا نأخذ منهم

__________________

(١) التبيان : ج ٢ في ذيل الآية ٢٧٥ من سورة البقرة.

(٢) القصص : ٢٩.

٢٥٢

الزيادة ، ولا يجوز لنا أن نعطيهم ذلك ، مثاله أن نبيعه دينارا بدينارين ، ولا يجوز ان نبيعه دينارين بدينار.

فأمّا قول شيخنا في نهايته : ولا ربا بين الولد ووالده ، لأنّ مال الولد في حكم مال الوالد ، يبطل هذا التعليل ، في قوله : ولا بين الرجل وأهله ، فأمّا قولهم : ولا بين العبد وسيّده ، لأنّ مال العبد لسيده ، فلا فائدة فيه ، ولا لنا حاجة إلى هذا التعليل ، وأي مال للعبد ، وإنّما الربا بين اثنين مالكين.

وجميع ما (١) ذكرناه أنّه لا ربا بينه وبين غيره ، لكل واحد مهما أن يأخذ الفضل والزيادة ، ويعطي الفضل والزيادة ، إلا أهل الحرب على ما حررناه ، للإجماع على ذلك.

ولا يكون الربا المنهي عنه المحرم في شريعة الإسلام ، عند أهل البيت عليهم‌السلام ، إلا فيما يكال أو يوزن ، فأمّا ما عداهما من جميع المبيعات ، فلا ربا فيها بحال ، لأنّ حقيقة الربا في عرف الشرع ، هو بيع المثل من المكيل ، أو الموزون بالمثل متفاضلا ، نقدا ونسيئة إذا كان البيّعان غير والد وولد ، أو زوج وزوجة ، أو مسلم وحربي ، أو عبد وسيّده.

وكلّ ما يكال أو يوزن ، فإنّه يحرم التفاضل فيه ، والجنس واحد ، نقدا ونسيئة ، مثل بيع درهم بدرهم ، وزيادة عليه ، ودينار بدينار ، وزيادة عليه ، وقفيز حنطة بقفيز منها ، وزيادة عليه ، ومكوك (٢) شعير بمكوك منه ، وزيادة عليه ، وكذلك حكم جميع المكيلات والموزونات.

وإذا اختلف الجنسان فلا بأس بالتفاضل فيهما نقدا ونسيئة ، إلا الدراهم والدنانير ، فلا يجوز النسيئة فيهما ، لا متماثلا ولا متفاضلا ، ويجوز ذلك نقدا متفاضلا ، ومتماثلا بغير خلاف بين أصحابنا ، لقوله عليه‌السلام المجمع عليه

__________________

(١) ل. ق : وجميع من.

(٢) المكوك بالتشديد. مكيال يسع ساعا ونصفا. وقيل غير ذلك.

٢٥٣

إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم (١) ولو لا الإجماع المنعقد على تحريم بيع الدنانير والدراهم نسيئة ، لجاز ذلك ، لأنّه داخل في عموم قوله عليه‌السلام ، فخصصناهما بالإجماع ، وبقي الباقي وما عداهما على أصل الإباحة ، وقوله تعالى : « ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) ، وقد قلنا أنّ حقيقة الربا في عرف الشريعة ، بيع المثل من المكيل أو الموزون بالمثل ، متفاضلا نقدا ونسيئة.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا اختلف الجنسان ، فلا بأس بالتفاضل فيهما نقدا ونسيئة ، إلا الدراهم والدنانير ، والحنطة والشعير ، فإنّه لا يجوز بيع دينار بالدراهم نسيئة ويجوز ذلك نقدا ، بأيّ سعر كان ، وكذلك الحكم في الحنطة والشعير ، فإنّه لا يجوز التفاضل فيهما ، لا نقدا ولا نسيئة لأنّهما كالجنس الواحد ، هذا آخر كلام شيخنا رحمه‌الله (٢).

قال محمد بن إدريس : لا خلاف بين المسلمين ، العامة والخاصة ، أنّ الحنطة والشعير جنسان مختلفان ، أحدهما غير الآخر ، حسا ونطقا ، ولا خلاف بين أهل اللغة واللسان العربي في ذلك ، فمن ادّعى أنهما جنس واحد ، أو كالجنس الواحد ، يحتاج إلى أدلة قاطعة للأعذار ، من إجماع منعقد ، أو كتاب ، أو سنة متواترة ، ولا إجماع على ذلك ، ولا نصّ في كتاب الله تعالى ، ولا سنّة مقطوعا بها متواترة ، وقد قلنا ان اخبار الآحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، ولا يخص بها الإجماع ، ولا الأدلة (٣).

ثم لم يذهب إلى هذا القول ، غير شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه‌الله وشيخنا المفيد رحمه‌الله ، في مقنعته (٤) ، ومن قلده في مقالته ، وتبعه في تصنيفه ، بل جلّة أصحابنا المتقدّمين ، ورؤساء مشايخنا المصنفين الماضين رحمهم‌الله ، لم يتعرضوا.

__________________

(١) أورده الشيخ قدس‌سره في الخلاف كتاب البيوع ، ذيل المسألة ١٢١ ، وفيه : إذا اختلف الجنسان

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.

(٣) هنا عثرنا على أوراق من نسخة الأصل

(٤) المقنعة : باب بيع الواحد بالاثنين ص ٦٠٤.

٢٥٤

لذلك ، بل أفتوا ، وصنفوا ، ووضعوا في كتبهم ، أنه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس بيع الواحد بالاثنين ، من المكيل والموزون ، على العموم والإطلاق ، من سائر المكيلات والموزونات ، ولم يستثنوا من ذلك إلا الدنانير والدراهم ، في بيع النسيئة فحسب ، مثل شيخنا ابن بابويه في كتاب من لا يحضره فقيه (١) ، فإن هذا مذهبه ومقالته في مقنعه (٢) وسائر كتبه ، وكذلك السيّد المرتضى ، وعلي بن بابويه ، وغير هؤلاء من المشيخة الفقهاء. وأبو علي بن الجنيد ، من كبار فقهاء أصحابنا ، ذكر المسألة وحققها ، وأوضحها في كتابه الأحمدي للفقه المحمدي ، فإنّه قال : لا بأس بالتفاضل بين الحنطة والشعير ، لأنّهما جنسان مختلفان (٣).

وكذلك ابن أبي عقيل ، من كبار مصنفي أصحابنا ، ذكر في كتابه ، فقال : وإن اختلف الجنسان ، فلا بأس ببيع الواحد بأكثر منه ، وقد قيل : لا يجوز الحنطة بالشعير ، إلا مثلا بمثل سواء ، لأنّهما من جنس واحد ، بذلك جاءت بعض الأخبار ، والقول والعمل على الأول ، هذا آخر كلامه (٤).

وأيضا قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » يعضد ذلك ، ويشيّده ، وأيضا قوله عليه‌السلام المجمع عليه : إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم ، وقد اختلف الجنس في الحنطة والشعير ، صورة وشكلا ، ولونا وطعما ، ونطقا وإدراكا وحسا ، فإذا كان لا إجماع على المسألة ، ولا كتاب الله تعالى ، ولا سنة متواترة ، بل الكتاب المنزل على الرسول عليه‌السلام يخالفها ، والإجماع من الفرقة المحقة يضادها ، ودليل العقل يأباها ، فما بقي إلا تقليد الواضع لها في كتابه ، ولا خلاف أنّه لا يجوز تقليد ما يوجد في سواد الكتب (٥) إذا لم تقم على صحته الأدلة

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ، كتاب المعيشة ، باب الربا ، ص ٢٧٤ ـ ٢٨٦ ، وفيه : روى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : الحنطة والشعير رأس برأس ، لا يزاد واحد منهما على الآخر ، ص ٢٨١.

(٢) المقنع : باب المكاسب والتجارات ، باب الربا ، وعبارته هكذا : واعلم أنّه لا ربا الا فيما يكال أو يوزن ، .. فتأمّل

(٣) لا يوجد في المصادر التي بأيدينا.

(٤) رسالتان مجموعتان فتاوى ابن أبي عقيل ص ١١٤.

(٥) ج : في سواد إذا

٢٥٥

الواضحة ، والبراهين اللائحة.

ولا بأس ببيع قفيز من الذرة ، أو غيرها من الحبوب ، بقفيزين من الحنطة أو الشعير ، أو غيرهما من الحبوب ، يدا ونسيئة بغير خلاف على ما أصلناه ، وحررناه ، فيما تقدّم ، وقوله عليه‌السلام : « إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم » وإنّما روي كراهية بيع ذلك نسيئة دون أن يكون ذلك محرما محظورا ، وهذا مقالة جميع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، ومذهب شيخنا أبي جعفر ، في نهايته (١) ، ومسائل خلافه (٢) ومبسوطة (٣) ، وغير ذلك من كتبه ، وأمّا ما لا يكال ولا يوزن ، فلا بأس بالتفاضل فيه والجنس واحد ، نقدا ونسيئة روي كراهة ذلك نسيئة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وأمّا ما لا يكال ولا يوزن ، فلا بأس بالتفاضل فيه ، والجنس واحد نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة ، مثل ثوب بثوبين ، ودابة بدابتين ، ودار بدارين ، وعبد بعبدين ، وما أشبه ذلك ، ممّا لا يدخل تحت الكيل والوزن ، والأحوط في ذلك أن يقوّم ما يبتاعه بالدراهم والدنانير ، وغيرهما من السلع ، ويقوّم ما يبيعه بمثل ذلك ، وإن لم يفعل ، لم يكن به بأس (٤).

قوله رحمه‌الله : « ولا يجوز ذلك نسيئة » محمول على تغليظ الكراهة ، دون الحظر ، لأنّا قلنا : إنّ الشي‌ء إذا كان شديد الكراهة ، قالوا : لا يجوز.

وأيضا فشيخنا أبو جعفر ، قد رجع عمّا ذكره في نهايته ، في الجزء الثاني من مبسوطة في فصل ، في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، فإنّه قال : إذا تبايعا عينا بعين ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إمّا أن لا يكون في واحدة منهما الربا أو في واحدة منهما الربا أو في كل واحدة منهما الربا ، فإن لم يكن في واحدة منهما الربا ، مثل الثياب والحيوان ، وغير ذلك ، ممّا لا ربا فيه ، جاز بيع بعضه ببعض ، متماثلا ، ومتفاضلا ، نقدا ، ويكره ذلك نسيئة ، ويجوز إسلاف إحداهما في

__________________

(١) و (٤) النهاية : كتاب التجارة باب الربا وأحكامه ..

(٢) الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة ٦٥.

(٣) المبسوط : ج ٢ كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح.

٢٥٦

الأخرى هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (١).

وأيضا فقد بيّنا أنّ حقيقة الربا في عرف الشرع بيع المثل بالمثل متفاضلا ، من المكيل والموزون ، وأنه لا ربا عندنا إلا في المكيل والموزون ، بغير خلاف بيننا ، وبيع البعير بالبعيرين ، والدّار بالدّارين ، وما أشبه ذلك ، ليس بمكيل ولا موزون ، فخرج ذلك من حقيقة الربا المنهي عنه في شريعة الإسلام ، ودخل ذلك في عموم قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع بغير خلاف.

وقد بيّنا أيضا ، أنّ أخبار الآحاد ، لا يرجع إليها ، ولا يعوّل عليها ، فإن ورد خبر شاذ ، لا يلتفت إليه ، ولا تخص بمثله الأدلة والعموم.

ثم أخبارنا التي أوردها شيخنا في استبصاره (٢) ، في الجزء الثالث كلّها ناطقة بما ذكرناه ، من قولهم عليهم‌السلام ، لما سئلوا عن بيع البعير بالبعيرين ، فقالوا : لا بأس ، جميعها كذلك ، أوردها ولم يقل فيها شيئا ، أعني شيخنا أبا جعفر ، ولا قال : إذا كان ذلك نسيئة لا يجوز ، ولو كان ذلك اعتقاده ، لقال : وتوسط بين الأخبار ، على ما جرت عادته وسجيّته.

وما يكال ويوزن ، فبيع المثل بالمثل ، جائز حسب ما قدّمناه ، يدا ولا يجوز ذلك نسيئة.

ولا بأس ببيع الأمتعة والعقارات ، والحبوب وغير ذلك ، بالدراهم والدنانير ، نقدا ونسيئة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز بيع الغنم باللحم ، لا وزنا ولا جزافا (٣) وقال في مبسوطة ، ومسائل خلافه : إذا كان اللحم من جنس الحيوان ، فلا يجوز ، وإن كان من غير جنسه ، فذلك جائز (٤).

__________________

(١) المبسوط : ج ٢ ، كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، ص ٨٩.

(٢) الاستبصار : كتاب البيوع ، باب بيع ما لا يكال ولا يوزن.

(٣) النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا واحكامه.

(٤) المبسوط : كتاب البيوع فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، والمسألة ١٢٦ من كتاب بيع الخلاف.

٢٥٧

قال محمّد بن إدريس : أمّا قوله رحمه‌الله : « ولا يجوز بيع الغنم باللحم لا وزنا ولا جزافا » ، إن أراد الجزاف ، فلا يجوز ، لأنّ ما يباع بالوزن ، لا يجوز بيعه ولا شراؤه جزافا ، بلا خلاف بيننا ، وأمّا قوله : « لا وزنا » فهذا فيه كلام ، إن أراد بذلك أنّه ربا ، فقد قال في مبسوطة ما حكيناه عنه ، من أنّه إذا باع عينا بعين ، فإن كان في إحداهما الربا ، والأخرى لا ربا فيها ، فإنّ بيع ذلك جائز ، وهذا من ذاك.

وأيضا كان يفسد عليه إطلاق كلامه في نهايته ، من قوله : « ولا يجوز بيع الغنم باللحم » ولم يقل أي اللحمان هو ، لأنّه إذا كان لحم غير الغنم ، فلا بأس على ما ذكره في مسائل خلافه ومبسوطة ، لأنّه قد اختلف الجنس.

وأيضا الإجماع منعقد ، على أنّه لا ربا إلا فيما يكال ويوزن ، إذا بيع المثل بالمثل وزيادة ، وبيع الغنم باللحم ، خارج من ذلك.

وأيضا الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، مع قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، فمن منع منه يحتاج إلى دليل ، ولا إجماع منعقد على المسألة ، حتى يصار إليه.

فإن قيل : فعلى هذا التقرير والتحرير ، يجوز بيع الغنم باللحم ، يدا بيد ، فهل يجوز ذلك نسيئة.

قلنا : إن أسلف الغنم في اللحم ، لا يجوز بغير خلاف ، لأنّ السلم في اللحم عندنا لا يجوز ، لأنّه لا يكاد يضبط بالوصف ، فإنّه يتباين تباينا كثيرا ، وكذلك الخبز ، وروايا الماء ، وإن كان جعل اللحم الثمن ، والمسلم فيه الغنم ، ووصفها ، وضرب الأجل المحروس ، فذلك جائز ، لا مانع يمنع منه ، فليتأمّل ذلك ، ويفهم عنى ما سطرته ، فإن فقهه غامض ، إلا على المحصّل المحقق لأصول المذهب.

ثم قال شيخنا في نهايته : ولا يجوز أيضا بيع الرطب بالتمر ، مثلا بمثل ، لأنّه إذا جف نقص (١).

__________________

(١) النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.

٢٥٨

قال محمد بن إدريس : وهذا غير واضح ، بل يجوز ذلك ، ومذهبنا ترك التعليل والقياس ، لأنّه كان يلزم عليه ، ان يجوز بيع رطل من العنب ، برطل من الزبيب ، وهذا لا يقول به أحد من أصحابنا ، بغير خلاف.

وأيضا فلا خلاف أنّ بيع الجنس بالجنس مثلا بمثل ، جائز سائغ ، والمنع منه يحتاج إلى دليل ، وقوله تعالى « وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » يدل على جوازه ، وقد رجع شيخنا عمّا ذكره في نهايته ، في الجزء الثالث من استبصاره ، فقال : الوجه في هذه الأخبار ، ضرب من الكراهة دون الحظر (١) ولا بأس ببيع الحنطة بالدقيق والسويق ، مثلا بمثل ، ولا يجوز التفاضل فيه ، ويكون ذلك نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، ولا بأس ببيع الحنطة والدقيق بالخبز ، مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، والتفاضل فيه لا يجوز ، لا نقدا ولا نسيئة.

ولا بأس ببيع اللبن والسمن والزبد ، كلّه إذا اتفقت أجناسه ، مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، ولا يجوز التفاضل فيه ، لا نقدا ولا نسيئة ، فعلى هذا التحرير والتقرير ، لا يجوز بيع رطل من لبن الغنم ، إلا برطل منه ، وكذلك إن أريد بيعه بسمن من سمن الغنم ، فلا يجوز إلا برطل سمن ، ولا يجوز بأقل منه ، لأنّ الجنس واحد ، فإنّه لا يجوز التفاضل بين اللبن والسمن ، إذا كان الجنس واحدا ، وكذلك الزبد واللبن ، والزبد والسمن.

واللحمان إذا اتفق أجناسها ، جاز بيع بعضها ببعض ، مثلا بمثل يدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة ، ولا يجوز التفاضل فيها ، لا نقدا ولا نسيئة ، وإذا اختلف أجناسها ، جاز التفاضل فيها نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، مثل رطل من لحم الغنم ، برطلين من لحم البقر نقدا ، ولا يجوز نسيئة.

ولا بأس ببيع الثوب بالغزل ، وإن كان الثوب أكثر وزنا منه ، وإن كان

__________________

(١) الاستبصار : ج ٣ ، كتاب البيوع ، باب بيع الرطب بالتمر ، ص ٩٢ ـ ٩٣.

٢٥٩

الغزل من جنسه ، وكذلك إن كان الغزل أكثر وزنا من الثوب ، لأنّ الربا المحرم غير حاصل فيهما ، لأنّ أحدهما فيه الربا ، والآخر لا ربا فيه ، فبيع أحدهما بالآخر جائز ، سواء كان نقدا أو نسيئة ، متفاضلا أو متماثلا ، لأنّ أحدهما موزون ، والآخر غير موزون (١).

وهذا يعضد ما حررناه ، وشرحناه ، من بيع الغنم باللحم ، وجوازه على ما حقّقناه.

ويجوز بيع المثل بالمثل من الموزون والمكيل نقدا ، ولا يجوز نسيئة.

وكل ما يكال أو يوزن ، فلا يجوز بيعه جزافا.

ويجوز أن يسلف في المكيل من الحبوب ، والأدهان وزنا ، وفي الموزون من الأشياء ، كيلا إذا كان يمكن كيله ، ولا يتجافى في المكيال ، ولا يجوز بيع الجنس الواحد فيما يجري فيه الربا ، بعضه ببعض وزنا ، إذا كان أصله الكيل ، ولا كيلا إذا كان أصله الوزن.

والفرق بينهما ، أنّ المقصود من السلم ، معرفة مقدار المسلم فيه ، حتى يزول عنه الجهالة ، وذلك يحصل بأيّهما قدره من كيل أو وزن ، وليس كذلك ما يجري فيه الربا ، فانّ الشارع أوجب علينا التساوي بالكيل في المكيلات وبالوزن في الموزونات ، فإذا باع المكيل بعضه من بعض وزنا ، فإذا ردّ إلى الكيل ، جاز أن يتفاضل ، لثقل أحدهما وخفة الآخر ، فلذلك افترقا.

ويجوز بيع المكيل بالوزن ، ولا يجوز بيع الموزون بالكيل ، لأنّه غرر وجزاف ، ولا يجوز بيع ما يباع عددا جزافا ، فإن كان ما يباع بالعدد ، يصعب عده ، فلا بأس أن يكال أو يوزن منه مقدار بعينه ، ثم يعد ، ويؤخذ الباقي بحسابه.

ولا بأس ببيع السمن بالزيت متفاضلا يدا بيد ونسيئة ، وروي كراهة ذلك نسيئة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا بأس ببيع السمن بالزيت متفاضلا يدا بيد ، ولا يجوز ذلك نسيئة (٢)

__________________

(١) إلى هنا انتهى الأوراق التي عثرنا عليها.

(٢) النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.

٢٦٠