كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

ولا بدّ في ذلك من الترتيب ، وهو أن يشهد الشاهد أوّلا ، ثمّ يحلف المدّعي بعد ذلك ، فإن حلف قبل شهادة الشاهد لا يعتد بذلك.

فإن قال من أقام الشاهد : لست أختار اليمين مع الشاهد ، ولا أضم إليه شاهدا آخر ، واختار مطالبة المدّعي عليه باليمين ، كان له ذلك ، فإن اختار الاستحلاف ، نظرت ، فإن اختار أن يسترد ما بذله ، ويحلف هو ، لم يكن له ذلك ، لأنّ من بذل اليمين لخصمه ، لم يكن له أن يستردها إلى نفسه بغير رضاه وإن اختار أن يقيم على ذلك ، ويستحلف المدّعى عليه ، كان له ، فإذا فعل هذا ، لم يخل المدّعى عليه من أحد أمرين ، إما أن يحلف ، أو ينكل ، بضم الكاف ، فإن احلف أسقط (١) دعوى المدّعي ، وإن لم يحلف فقد نكل ، وحصل مع المدّعي نكول وشاهد ، وهل يقضي بنكوله مع شاهد المدّعي؟ فعندنا أنّه لا يحكم به عليه.

فإذا تقرر أنّه لا يحكم عليه بمجرّد النكول ، فهل تردّ اليمين على المدعي أم لا؟ قال بعض المخالفين لمذهبنا : لا ترد عليه ، لأنّها يمين بذلها لخصمه ، فإذا عفا عنها لم تعد إلى باذلها ، كيمين المدّعى عليه ، إذا بذلها للمدّعي ، ثم عفا عنها ، فإنّها لا تعود إلى باذلها.

وقال قوم : ترد إليه ، وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه مذهبنا ، لأنّ هذه غير تلك ، فانّ هذه يمين الرد ، يقضي بها في الأموال وغيرها ، وتلك يمينه مع الشاهد ، لا يقضي بها في غير الأموال ، وسببها غير سبب تلك ، فانّ سببها نكول المدّعى عليه.

إذا ادّعى على رجل أنّه سرق نصابا من حرز ، وأقام به شاهدا واحدا ، حلف مع شاهده ، ولزم الغرم ، دون القطع ، لأنّ السرقة توجب شيئين ، غرما

__________________

(١) ج : أسقط.

١٤١

وقطعا ، والغرم يثبت بالشاهد واليمين ، دون القطع.

وأمّا القتل ، فإن كان يوجب مالا ، فإنّه يثبت بالشاهد واليمين عمدا كان أو خطا وإن كان عمدا يوجب القود ، فإذا كان له شاهد واحد ، كان لوثا ، وكان له أن يحلف مع شاهده خمسين يمينا ، إذا لم يكن له من يحلف من قومه ، فإذا حلف ، ثبت القتل ، وعندنا يوجب القود.

ومن وقف وقفا على قوم ، انتقل ملكه عن الواقف وإلى من ينتقل ، قال قوم من المخالفين : إلى الموقوف عليه ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، وقال قوم منهم : ينتقل إلى الله لا إلى مالك.

فإذا ثبت ذلك فادّعى على رجل انّه وقف عليه هذه الدار وقفا مؤبدا ، وأقام به شاهدا واحدا ، فهل يثبت بالشاهد واليمين أم لا؟ فمن قال : ينتقل إلى الموقوف عليه ، قال : يثبت بالشاهد واليمين ، لأنّه نقل ملك من مالك إلى مالك ، ومن قال ينتقل إلى الله ، لا إلى مالك ، قال : لا يثبت إلا بشاهدين ، لأنّه إزالة ملك إلى الله تعالى ، كالعتق ، وانّما قلنا أنّه ينتقل إلى الموقوف عليه ، لأنّ جميع أحكام الملك باقية عليه بحالها ، بدليل أنّه يضمن باليد وبالقيمة ، وتتصرف فيه (١) وعند بعض أصحابنا يجوز بيعه على وجه.

ولا يجوز قبول شهادة واحد ، والحكم بها في الهلال ، والطلاق ، والحدود ، والقصاص ، وغير ذلك من الأحكام.

والقسامة لا تقبل إلا في الدماء خاصة.

والقسامة عند الفقهاء كثرة اليمين ، فالقسامة من القسم ، وسميت قسامة لتكثير اليمين فيها ، وقال أهل اللغة : القسامة عبارة عن أسماء الحالفين (٢) من أولياء المقتول ، فعبر بالمصدر عنهم ، وأقيم المصدر مقامهم ، يقال أقسمت أقسم أقساما وقسامة ، فأيهما كان ، فاشتقاقه من القسم ، الذي هو اليمين.

__________________

(١) ل : يضمن باليد ويتصرف فيه.

(٢) ج : المحالفين.

١٤٢

إذا ادّعى الرجل دما على قوم ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون معه أمارة تدل على صدق ما يدعيه ، أو لا تكون ، فإن لم يكن معه ذلك ، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ، فإن حلف بري‌ء ، وإن لم يحلف ، رددنا اليمين على المدّعي ، فيحلف ، ويستحق ما ادّعاه ، إن كان قتلا عمدا استحق القود عندنا ، وإن كان غير عمد استحق الدية ، ولا فصل بين هذا وبين سائر الدعاوي ، إلا في صفة اليمين ، فانّ الدعوى إذا كانت قتلا ودما ، فهل تغلظ الأيمان فيه أم لا؟ قال قوم : تغلظ ، وقال آخرون : لا تغلظ ، وهو الأظهر.

وإن كان معه أمارة تدل على دعواه ، ويشهد القلب بصدق ما يدعيه ، وهذا يسمى لوثا ، بفتح اللام ، وتسكين الواو ، والثاء المنقطة بثلاث نقط ، مثل أن يشهد معه شاهد واحد ، أو وجد القتيل في برية ، والقتيل طري ، والدم جار ، وبالقرب منه رجل معه سكين عليها دم ، والرجل ملوث بالدم ، أو وجد في قرية لا يدخلها غير أهلها ، وهكذا لو وجد في دار فيها قوم ، قد اجتمعوا على أمر من طعام أو غيره ، فوجد قتيل بينهم ، فهذا لوث ، فالظاهر أنّهم قتلوه.

فمتى كان مع المدّعي لوث ، فالقول قوله ، يبدأ به باليمين ، ويحلف خمسين يمينا ، إن كان القتل عمدا ، وخمسا وعشرين يمينا ، إن كان خطأ ، فإن حلف على قتل عمد محض ، عندنا يقاد المدّعى عليه به.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وصفة القسامة أنّه إذا لم يوجد في الدم رجلان عدلان ، يشهدان بالقتل ، فأحضر ولي المقتول خمسين رجلا من قومه ، يقسمون (١) بالله تعالى ، على أنّه قتل صاحبهم ، فإذا حلفوا ، قضي لهم بالدية ، فإذا حضر دون الخمسين ، حلف ولي الدم بالله ، من الأيمان ما يتم بها الخمسين ، وكان له الدية ، فإذا لم يكن له أحد يشهد له ، حلف هو خمسين يمينا ، ووجبت له الدية (٢).

__________________

(١) ج : رجلا يقسمون.

(٢) النهاية : باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين والقسامة.

١٤٣

والصحيح أن له القود.

وقد رجع شيخنا عن هذا القول ، إلى ما اخترناه ، في الجزء الثاني من كتاب النهاية (١) ، وقال بما قلناه ، وكذلك في مسائل خلافه (٢) ، ومبسوطة (٣).

ولا يكون القسامة إلا مع التهمة للمطالب بالدم ، والشبهة في ذلك ، على ما بيّناه وسمّيناه لوثا.

والقسامة فيما دون النفس تكون بحساب ذلك ، وسنبين أحكامها في كتاب الديات عند المصير اليه إن شاء الله تعالى.

باب شهادات الزور

لا يجوز لأحد أن يشهد بالزور ، وبما لا يعلم ، في أي شي‌ء كان ، قليلا كان أو كثيرا ، وعلى من كان موافقا ، محقا ، أو مخالفا مبطلا ، فمتى شهد بذلك أثم ، واستحقّ من الله تعالى اليم العقاب ، وكان ضامنا.

فإن شهد أربعة رجال على رجل بالزنا ، وكان محصنا ، فرجم ، ثم رجع أحدهم ، فقال : تعمدت ذلك ، قتل ، وأدّى الثلاثة الشهود ، إلى ورثة الشاهد المقتول ، الذي رجع عن شهادته ، وقال تعمدت ، ثلاثة أرباع الدية ، على ما روي في بعض أخبارنا (٤) ، وقد أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (٥).

والذي يقوى في نفسي ، انّ إقراره جائز على نفسه ، لا يتعداه إلى غيره ، ولا ينقض الحكم ، لأنه لا دليل عليه ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، وانّما ذلك ورد من طريق أخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا.

قال شيخنا في نهايته : فإن قال : أوهمت ، الزوم ربع الدية (٦) وإن رجع

__________________

(١) النهاية : باب البينات على القتل ، ولفظ النهاية هكذا : أو أقاموا القسامة وجب على المدعى عليه ان كان القتل عمدا اما القود أو الدية حسب ما يتراضيان عليه.

(٢) الخلاف : كتاب القسامة المسألة ٢.

(٣) المبسوط : ج ٧ ، كتاب القسامة ، ص ٢١٢.

(٤) الوسائل : الباب ١٢ من أبواب الشهادات.

(٥) النهاية : باب شهادة الزور.

(٦) النهاية : باب شهادة الزور ، وما بعده الى قوله : « وإن اختار » زائد على كلام النهاية.

١٤٤

اثنان ، وقالا : أوهمنا ، ألزما نصف الدية ، وإن قالا : تعمدنا ، وأراد أولياء المقتول بالرجم ، أن يقتلهما جميعا قتلهما وأدّى إلى ورثتهما دية كاملة ، يتقاسمان بينهما على السواء ، ويؤدي الشاهدان الآخران ، على ورثتهما نصف الدية ، يعني نصف الف دينار ، التي هي دية كاملة للرجل الحر ، فتحصل مع ورثة كل واحد من الشاهدين المقتولين ، سبعمائة وخمسون دينارا لأنّه يسقط من دية كل واحد منهما ، بقدر نصيبه ، لو طالب ورثة المقتول الأول ، المشهود عليه الشهود الأربعة بالدية وكان يجب على كل واحد منهم مائتان وخمسون دينارا.

وإن اختار أولياء المقتول قتل واحد منهما ، كان لهم قتله ، وأدّى الآخر مع الباقين من الشهود ، على ورثة الشاهد المقتول الثاني ، ثلاثة أرباع ديته ، وسقط بمقدار حصته ، لو طولبوا بالدية على ما قررناه ، وحررناه.

وإن رجع الكل عن شهادتهم ، كان حكمهم حكم الاثنين سواء.

كل ذلك على ما أورده شيخنا في نهايته على ما حكيناه عنه (١) من طريق أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، من أن إقرار المقر جائز على نفسه ، لا يتعداه إلى غيره في سائر الأحكام الشرعيات.

وإن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته ، وكان قبل الدخول بها ، ثم رجعا ، وجب عليهما نصف المهر الذي شهدا عليه بالطلاق ، وإن كان بعد الدخول بها ، فلا شي‌ء عليهما من المهر ، لا نصفه ولا جميعه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن أوجب عليها شيئا ، فعليه الدلالة ، وليس خروج البضع عن ملك الزوج (٢) له قيمة ، كما لو أتلفا عليه ما لا قيمة له ، فلا يلزمهما الضمان.

وأمّا قبل الدخول فيلزمه نصف المهر ، فيجب أن يغرماه له ، لأنّهما غرماه إيّاه ، وأتلفاه بشهادتهما ، فليلحظ الفرق بين الموضعين.

وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في مسائل خلافه (٣).

__________________

(١) النهاية : باب شهادة الزور.

(٢) ج : عن الزوج.

(٣) الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة ٧٨.

١٤٥

وقال رحمه‌الله في نهايته : وإن شهد رجلان على رجل ، بطلاق امرأته ، فاعتدت وتزوّجت ، ودخل بها ، ثم رجعا ، وجب عليهما الحدّ ، وضمنا المهر للزوج الثاني ، وترجع المرأة إلى الأول بعد الاستبراء بعدة من الثاني (١).

قال محمد بن إدريس رحمه‌الله : قوله ويضربان الحد ، يريد بذلك التعزير ، فسمّاه حدّا ، لأنه لا يجب على كل واحد منهما حدّ كامل ، لكنّهما شاهدا زور ، فيعزران بحسب ما يراه الإمام عليه‌السلام ، أو الحاكم من قبله.

وقوله : يرجع إلى الأوّل فيه نظر ، لأنّهما إذا شهدا بالطلاق عند الحاكم ، كانا عنده وقت شهادتهما بشرائط العدالة ، وحكم بشهادتهما ، وأمضى الحكم ، وتزوّجت المرأة بحكمه.

وقوله : فلا تأثير لرجوعهما ، ولا ينقض الحكم برجوعهما ، بل يغرمان ما أتلفا وضيعا ، بشهادتهما من الأموال ، ولا ينقض الحاكم ما حكم به ، ولا يرجع على المشهود له بشي‌ء ممّا شهدا له به.

هذا حكم سائر في جميع الأشياء ، مجمع عليه عند أصحابنا ، وإليه يذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (٢) ، ومبسوطة (٣).

قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا شهد شاهدان بحق ، وعرفت عدالتهما ، وحكم الحاكم ، واستوفى الحق ، ثم رجعا عن الشهادة ، لم ينقض حكمه ، وبه قال جميع الفقهاء ، وقال سعيد بن المسيب ، والأوزاعي ينقضه ، قال : دليلنا انّ الذي حكم به مقطوع به بالشرع ، ورجوعهما يحتمل الصدق والكذب ، فلا ينقض به ما قد قطع عليه ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله في مسائل الخلاف.

قال محمد بن إدريس : وطلاق هذه المرأة مقطوع عليه ، وتزويجها مأمور به ، محكوم بصحة العقد ، بغير خلاف ، فلا يرجع عن هذا المقطوع عليه ، المحكوم ، بصحته شرعا ، بأمر مظنون ، وهو رجوعهما إليه ، لأنّه يحتمل الصدق والكذب ، والحق

__________________

(١) النهاية : باب شهادة الزور.

(٢) الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة ٧٥.

(٣) المبسوط : ج ٨ ، فصل في الرجوع عن الشهادة ، ص ٢٤٧.

١٤٦

والباطل ، فلا ينقض به ما قد قطع عليه وحكم بصحته شرعا.

وما أورده في نهايته رحمه‌الله ، خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، ذكره في استبصاره (١) ، وأورد خبرا آخر ، وتأوّله ، والخبر الذي أورده ليقضي به ، على ما اختلف عليه من الأخبار ، ليس فيه أنّهما رجعا جميعا ، أعني الشاهدين على ما أورده في نهايته ، بل فيه : وأكذب نفسه أحد الشاهدين ، فإذا كان هذا الاختلاف والتأويل في الخبر ، ولا إجماع معنا ، ولا كتاب الله سبحانه ، ولا أخبار متواترة ، ولا سنة مقطوع بها ، بل إجماعنا منعقد على ما قررناه ، من أن الحاكم لا ينقض حكمه إذا حكم برجوع الشهود ، فلا يعدل عن الدليل إلى غيره ، لأنّه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

فإن شهدا بسرقة ، فقطع المشهود عليه ثم رجعا ، ألزما دية يد المقطوع ، فإن رجع أحدهما ، الزم نصف دية يده ، هذا إذا قالا : وهمنا في الشهادة ، فإن قالا : تعمدنا ، قطع يد واحد منهما بيد المقطوع ، وأدّى الآخر نصف دية اليد على المقطوع الثاني ، وإن أراد المقطوع الأوّل المشهود عليه ، أن يقطعهما ، قطعهما ، وأدّى إليهما دية يد واحدة ، يتقاسمان بها بينهما على السواء.

وكذلك إن شهدا على رجل بدين ، ثمّ رجعا ، ألزما مقدار ما شهدا به ، فإن رجع أحدهما ، ألزم بمقدار ما يصيبه من الشهادة ، وهو النصف.

ومتى شهدا على رجل ، ثم رجعا قبل أن يحكم الحاكم ، طرحت شهادتهما ، ولم يلزما شيئا ، بل يتوقف الحاكم عن إنفاذ الحكم ، وإن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم ، غرّما ما شهدا به ، سواء كان الشي‌ء قائما بعينه ، أو لم يكن كذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : غرما ما شهدا به ، إذا لم يكن الشي‌ء قائما بعينه ، فإن كان الشي‌ء قائما بعينه ، ردّ على صاحبه ، ولم يلزما شيئا (٢).

__________________

(١) الإستبصار : الباب ٢١ من كتاب القضايا والأحكام.

(٢) النهاية : باب شهادة الزور.

١٤٧

وقد دللنا على صحّة ما ذهبنا إليه قبل هذا بلا فصل ، حين قلنا انّ إجماع أصحابنا منعقد على أنّه إن رجع الشهود بعد حكم الحاكم (١) فلا يلتفت إلى رجوعهما ، فيما حكم به ، ولا ينقض حكمه ، لأنّ حكمه مقطوع من جهة الشرع على صحته ، ورجوعهما يحتمل الصدق والكذب ، فلا يرجع عن أمر مقطوع على صحّته ، بأمر مشكوك فيه محتمل.

وقد رجع شيخنا عما ذكره في نهايته ، في مسائل خلافه (٢) ، ومبسوطة ، فقال في مبسوطة : فصل ، في الرجوع عن الشهادة ، إذا شهد الشهود عند الحاكم بحق ، فعرف عدالتهم ، ثمّ رجعوا ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يرجعوا قبل الحكم أو بعده وقبل القبض ، أو بعد الحكم والقبض معا ، فإن رجعوا قبل الحكم لم يحكم بلا خلاف إلا أبا ثور ، فإنّه قال : يحكم به ، والأول أصح ، وإن رجعوا بعد الحكم وقبل القبض ، نظرت ، فإن كان الحق حدّا لله ، كالزنا والسرقة ، وحدّ الخمر ، لم يحكم بها ، لأنّها حدود تدرأ بالشبهات ، ورجوعهم شبهة ، وإن كان حقا لآدمي ، سقط بالشبهة ، كالقصاص ، وحدّ القذف ، لم يستوف لمثل ذلك ، وأمّا إن رجعوا بعد الحكم وبعد الاستيفاء أيضا ، لم ينقض حكمه ، بلا خلاف ، إلا سعيد بن المسيب ، والأوزاعي ، فإنّهما قالا : ينقض ، والأول أصح ، قال : فإذا ثبت أنّ الحكم لا ينقض ، فانّ المستوفي قد قبض الحق ، فلا اعتراض عليه.

وما الذي يجب على الشهود ، قال رحمه‌الله : لا يخلو المستوفى من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يكون إتلافا مشاهدة كالقتل ، والقطع ، أو حكما كالطلاق والعتق ، أو لا مشاهدة ولا حكما ، كنقل المال من رجل إلى آخر ، قال : وإن شئت قلت : لا يخلو أن يكون إتلافا أو في حكم الإتلاف ، أو خارجا عنهما ، ثم ذكر رحمه‌الله رجوعهما عن الشهادة ، بالقتل ، والقطع في السرقة ، وشرحه ، ثم

__________________

(١) ج : بعد الحكم.

(٢) الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة ٧٤.

١٤٨

ذكر رجوعهما عن الطلاق ، وإلزامهما المهر ، وشرحه ، وقال : إمّا أن يكون قبل الدخول ، أو بعده ، فإن كان بعد الدخول ، فلا مهر عليهما ، وإن كان قبل الدخول ثمّ رجعا ، فانّ الحاكم لا ينقض حكمه ، وعليهما الضمان لنصف المهر المسمّى ، ولم يتعرض لما ذكره في نهايته ، من رجوعهما إلى الزوج الأول ، بل قال :

فإنّ الحاكم لا ينقض حكمه ، فإذا حرّمها الحاكم على الثاني ، ورجّعها إلى الأول ، على ما قال في نهايته ، فقد نقض حكمه.

ثمّ قال بعد ذلك رحمه‌الله : فأمّا إذا لم يكن إتلافا مشاهدة ولا حكما ، وهو أن شهدا بدين ، وحكم بذلك عليه ، ثم رجعا ، فهل عليهما الضمان للمشهود عليه ، أم لا؟ قال قوم : لا ضمان عليهما ، وقال آخرون : عليهما الضمان ، وكذلك قالوا فيمن أعتق عبدا في يده ، أو وهبه وأقبضه ، ثمّ ذكر أنّه كان لزيد ، فهل عليهما قيمته (١) لزيد؟ على قولين ، لأنّه أقرّ به بعد ان فعل ما حال بينه وبينه بغير حق ، قال رحمه‌الله : والأقوى عندي أنّ عليهما الضمان للمشهود عليه ، وكذلك تلزم القيمة للمعتق لعبده ، لمن أقرّ له به هذا آخر ما ذكره شيخنا رحمة الله عليه في مبسوطة (٢) فأوردته ، لأنّه كلام سديد في موضعه ، وجملة نافعة كثيرة الفقه.

وكل موضع رجع فيه الشهود ، نظرت ، فإن ذكروا أنّهم أخطأوا ، فلا تعزير على واحد منهم ، وإن قالوا تعمدنا ، كان عليهم التعزير.

إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين ، ثم بان له أنّه حكم بشهادة من لا يجوز الحكم بشهادته ، نقض الحكم بلا خلاف ، فإن كان حكم بإتلاف ، كالقصاص والقتل والرجم ، فلا قود هاهنا ، لأنّه عن خطأ الحاكم ، وأمّا الدية ، فإنّها على الحاكم عند قوم ، وعند آخرين ، على المزكّين وروى أصحابنا أنّ ما أخطأت الحكام ، فعلى بيت المال (٣).

__________________

(١) ج : عليه قيمته.

(٢) المبسوط : ج ٨ ، كتاب الشهادات ، فصل في الرجوع عن الشهادة ، ص ٢٤٦ ـ ٢٤٨.

(٣) الوسائل : كتاب القضاء ، الباب ١٠ من أبواب آداب القاضي ، ولفظ الحديث هكذا : « ان

١٤٩

فأمّا إن حكم بالمال ، نظرت ، فإن كان عين المال باقية ، استردها ، وإن كانت تالفة ، فإن كان المشهود له هو القابض ، وكان موسرا ، غرم ذلك ، وإن كان معسرا ، ضمن الإمام ، حتى إذا يسر رجع الإمام عليه ، والفرق بين هذا وبين الدية ، انّ الحكم إذا كان بالمال ، حصل في يد المشهود له ما يضمن باليد ، فلهذا كان الضمان عليه ، وليس كذلك القتل ، لأنّه ما حصل في يد المشهود له ، ما يضمن باليد ، لأنّ ضمان الإتلاف ليس بضمان اليد ، فلهذا كان الضمان على الإمام في بيت المال.

وإذا شهدا بسرقة على إنسان ، فقطع ، ثمّ جاءا بآخر ، وقالا هذا الذي سرق ، وانما وهمنا على ذلك ، غرما دية اليد ، ولم تقبل شهادتهما على الآخر وانما لم تقبل شهادتهما على الآخر ، وإن لم يحصل فيهما شي‌ء من أسباب الفسق ، لقلّة ضبطهما وتحقيقهما (١) وتغفلهما ، ولأجل هذا لا يقبل الحاكم شهادة المغفلين ، الذين ليس لهم شدّة عقول ، ولا وفور تحصيل ، وإن كانوا على ظاهر العدالة.

وليس رجوع الشاهدين عن الشهادة ، بموجب للفسق ، ولا لرد شهادتهما على الآخر ، وانّما ردّت لما قلناه.

وينبغي للإمام أن يعزّر شهود الزور ، على ما قدّمناه ، ويشهرهم في أهل محلّتهم وسوقهم ، لكي يرتدع غيرهم عن مثله ، في مستقبل الأوقات والإشهار هو أن ينادي في محلّتهم ومجتمعهم وسوقهم ، فلان وفلان شاهدا زور ، ولا يجوز أن يشهرا بأن يركبا حمارا ويحلق رءوسهما ، ولا أن ينادياهما (٢) على أنفسهما ، ولا أن يمثل بهما.

__________________

ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين ».

(١) ج : تحصيلهما.

(٢) ل : أن يتأذياهما.

١٥٠

كتاب القضايا والأحكام

١٥١

كتاب القضايا والأحكام

باب آداب القضاء وما يجب أن يكون القاضي عليه من الأحوال

القضاء بين المسلمين جائز ، وربما كان واجبا ، فإن لم يكن واجبا ، ربما كان مستحبا ، قال الله تعالى ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (١) وقال ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٢) وقال : ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ) (٣).

وقد ذم الله تعالى من دعي إلى الحكم (٤) ، فأعرض عنه ، فقال ( وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) (٥) ومدح قوما دعوا إليه ، وأجابوا ، فقال ( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٦).

وروي عن ابن مسعود أنّه قال : والله لأن أجلس يوما ، فأقضي بين الناس ، أحب اليّ من عبادة سنة (٧).

وعليه إجماع الأمة ، إلا أبا قلابة فإنّه طلب للقضاء ، فلحق بالشام ، فأقام زمانا ، ثمّ جاء ، فلقيه أيّوب السختياني (٨) ، وقال له : لو أنّك وليت القضاء ، وعدلت بين الناس ، رجوت لك في ذلك أجرا ، فقال : يا با أيوب ، السابح إذا

__________________

(١) ص : ٢٦.

(٢) النساء : ٦٥.

(٣) الأنبياء : ٧٨.

(٤) ج : حكم.

(٥) النور : ٤٨.

(٦) النور : ٥١.

(٧) سنن البيهقي : كتاب آداب القاضي ، باب فضل من ابتلى بشي‌ء من الأعمال ( ج ١٠ ص ١٩ ) فيه : « كان ابن مسعود يقول : لئن أقضي يوما واوافق فيه الحق والعدل أحبّ إلى من غزو سنة » أو قال : « مائة »

(٨) ج : أبو أيّوب السجستاني.

١٥٢

وقع في البحر ، كم عسى أن يسبح ، إلا أنّ أبا قلابة رجل من التابعين ، لا يقدح خلافه في إجماع الصحابة ، وقد بيّنا أنّهم أجمعوا ، ولا يمتنع أن يكون امتناعه ، كان لأجل أنّه أحس من نفسه بالعجز ، لأنّه كان من أصحاب الحديث ، ولم يكن فقيها.

وهو من فروض الكفايات ، إذا قام به قوم سقط عن الباقين ، وقد روي عن النبيّ عليه‌السلام أنّه قال : إن الله لا يقدّس امة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه (١).

ولأنّه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد روي كراهة تولّي القضاء ، والامتناع ، روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين ، قيل : يا رسول الله وما الذبح؟ قال : نار جهنم (٢) ، وروي عنه عليه‌السلام ، أنّه قال : يؤتى بالقاضي العدل. يوم القيامة ، فمن شدة ما يلقاه من الحساب ، يود إن لم يكن قاضيا بين اثنين في تمرة (٣).

والوجه في الجمع بين هذه الأخبار ، انّ من كان من أهل العلم بالقضاء (٤) ، ويقضي بالحق ، فهو مثاب ، ومن كان من أهل العلم ، لكنّه لا يقضي بحق ، أو كان جاهلا ، لم يحلّ له أن يليه ، وكان مأثوما فيه.

والناس في القضاء على ثلاثة أضرب : من يجب عليه ، ومن يحرم عليه ، ومن يجوز له.

فأمّا من يجب عليه ، فكل من تعيّن ذلك فيه ، وهو إذا كان ثقة من أهل العلم ، لا يجد الإمام غيره.

فأمّا من يحرم عليه ، فأن كان جاهلا ، ثقة كان أو غير ثقة ، أو فاسقا من أهل العلم.

ومن يجوز له ولا يحرم عليه ، مثل أن يكون في المكان جماعة من أهل الفقه والعلم ، فللإمام أن يدعو واحدا عليه ، وقد بيّنا في كتاب الجهاد ، من له أن

__________________

(١) و (٣) مستدرك الوسائل : الباب ١٥ من أبواب آداب القاضي ، ص ٨ ـ ٩.

(٢) مستدرك الوسائل : الباب ٣ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤.

(٤) ل : بالفتيا.

١٥٣

يتولى القضاء والأحكام بين الناس ، ومن ليس له ذلك.

والفرق بين الحكم والقضاء ، انّ الحكم ، هو إظهار ما يفصل به بين الخصمين قولا ، والقضاء إيقاع ما يوجبه الحكم فعلا.

وينبغي أن لا يتعرض للقضاء أحد ، حتى يثق من نفسه بالقيام به ، وليس يثق أحد بذلك من نفسه ، حتى يكون عاقلا كاملا عالما بالكتاب ، وناسخه ومنسوخه ، وعامه وخاصه ، وندبه وإيجابه ، ومحكمه ومتشابهه ، عارفا بالسنّة المقطوع بها ، وناسخها ومنسوخها ، وعامّها وخاصّها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومجملها ومبيّنها ، عالما باللغة ، مضطلعا أي قيّما بمعاني كلام العرب ، بصيرا بوجوه الإعراب ، لأنّه مبين (١) عن صاحب الشريعة عليه‌السلام ، فيجب أن يعرف لغته.

روي أنّ رقبة بن مصقلة ، قال لأبي حنيفة الفقيه : ما تقول في رجل ضرب طلته بمرقاق ، فقتلها؟ فقال أبو حنيفة : ما أدري ما تقول ، فقال له : أفتفتي ، ويحك في دين الله ، وأنت لا تعرف لغة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الطلة الحمأة ، والمرقاق الذي يسمّى الشوبك.

وقال أبو عمرو بن العلاء : الفقيه يحتاج إلى اللغة حاجة شديدة ، إلا الرواية.

وقال الأصمعي : سمعت حماد بن سلمة يقول : من لحن في حديثي ، فليس يحدّث عني.

وقال أبو داود الشيخي (٢) : سمعت الأصمعي يقول : إنّ أخوف ما أخاف على طالب العلم ، إذا لم يعرف النحو ، أن يدخل في جملة قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كذّب عليّ فليتبوّأ مقعده من النار ، لأنّه لم يكن يلحن ، فمهما رويت عنه ، ولحنت فيه ، كذبت عليه.

وروي عن عمر بن الخطاب ، أنّه اجتاز بقوم يرمون ، فأساؤا الرمي ،

__________________

(١) ل : أمين.

(٢) ل : السحي.

١٥٤

فقالوا : يا أمير المؤمنين ، نحن قوم متعلمين ، فقال عمر : لإساءتكم في لحنكم ، شرّ من إساءتكم في رميكم ، رحم الله امرأ أصلح من لسانه ، وقال ، تعلموا العربية ، فإنّها تثبت العقل (١).

وقيل للحسن البصري : إنّ لنا إماما يلحن ، فقال : أخّروه.

وكان ابن عمر يضرب ولده على اللحن.

وروي عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال : نحن قوم فصحاء ، فإذا رويتم الأخبار عنا فاعربوها (٢).

ولأنّ الفقيه لو سأله سائل ، فقال له : ما تقول في ظبي رميته بسهمي ، فاحتمله ، ومضى به ، وغاب عن عيني ، ووجدته بعد ذلك ميتا ، فالجواب من الفقيه ، أن يقول له : لا تأكله فإنه منهي عنه ، لقول الرسول عليه‌السلام : كل ما أصميت ، ودع ما أنميت ، فقال له : ما معنى أصميت وأنميت ، فقال له الفقيه : لا أدري ، فقال له المستفتي : فتنهاني عن شي‌ء ، بقول لا تدري ما هو.

قال محمد بن إدريس : اصميت الرمية ، إذا قتلتها في مكانها ، من غير أن تحمل السهم ، وتعدو به ، وأنميت الرمية ، إذا احتملت بالسهم ، ومضت به.

قال امرء القيس ، مادحا للرامي :

هو لا ينمي رميته

ما له لا عد من نفر

فلهذا احتاج إلى اللغة.

ويكون ورعا عن محارم الله تعالى ، زاهدا في الدنيا ، متوفرا على الأعمال الصالحات ، مجتنبا للكبائر والسيئات ، شديد الحذر من الهوى ، حريصا على التقوى.

فإذا كان بالصفات التي ذكرناها ، جاز له أن يتولى القضاء والفصل بين الناس.

ولا ينعقد له (٣) القضاء. إلا بولاية إمام المسلمين وإذنه.

__________________

(١) ج : تنبت العقل.

(٢) الوسائل : الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٥ ، ولفظه : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أعربوا حديثا ، فانّا قوم فصحاء.

(٣) ج : ولا ينعقد.

١٥٥

وإذا أراد أن يجلس للقضاء ، ينبغي ويستحب له أن ينجز حوائجه التي تتعلّق نفسه بها ، ليتخلّى ويفرغ للحكم ، ولا يشتغل قلبه بغيره.

ثم يستحب له أن يتوضأ وضوء الصلاة ، ويلبس أحسن ثيابه وأطهرها ، ويخرج إلى المسجد الأعظم الذي يصلّي الجمعة فيه ، في البلد الذي يحكم فيه ، فإذا دخله ، صلّى ركعتين ، ويجلس مستدبر القبلة ، ولا يجلس وهو غضبان ، ولا جائع ، ولا عطشان ، ولا مشغول القلب بتجارة ، ولا خوف ، ولا حزن ، ولا فكر في شي‌ء من الأشياء ، فإن خالف ذلك ، وجلس ، وقضى بالحق ، نفذ حكمه بغير خلاف.

وليجلس وعليه هدي (١) مفتوح الهاء ، مسكن الدال ـ وسكينة ووقار.

فإذا جلس ، حكم للأوّل فالأول ، فإن لم يعلم بالأول ، أو دخلوا عليه في دفعة واحدة ، روى أصحابنا أنّه يتقدّم إلى من يأمر كل من حضر للتحاكم اليه ، أن يكتب اسمه واسم أبيه ، وما يعرف به من الصفات الغالبة عليه ، دون الألقاب المكروهة ، فإذا فعلوا ذلك ، وكتبوا أسماءهم ، وأسماء خصومهم في الرقاع ، قبض ذلك كله ، وخلط الرقاع ، وجعلها تحت شي‌ء يسترها به عن بصره ، ثم يأخذ منها رقعة فينظر فيها ، ويدعو باسم صاحبها وخصمه ، فينظر بينهما (٢).

ويستحب أن يصل إليه في حكمه ، كل أحد ، ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه ، لما روى أبو مريم الأنصاري ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : من ولي شيئا من أمور الناس ، فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم ، احتجب الله دون خلّته (٣) ، بفتح الخاء ، وهي الحاجة ـ وفاقته وفقره.

وقد كره قوم القضاء في المساجد ، وأجازه آخرون ، وهو الأليق بمذهبنا ،

__________________

(١) ج : على هدى.

(٢) لم نجده في مجاميعنا الروائية.

(٣) سنن أبي داود : كتاب الخراج والامارة ، الباب ١٣ ( الرقم ٢٩٤٨ ) وفيه : انّ أبا مريم الأزدي .. قال .. سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « من ولاه الله عزوجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته أو خلّته وفقره ».

١٥٦

لأنّه لا خلاف أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقضي في المسجد الجامع بالكوفة ، ودكة القضاء معروفة إلى اليوم ، وهي التي في وسط المسجد الجامع ، وهي تسمّى أيضا دكة الطست ، لا يظلها شي‌ء من الظلال.

فأمّا إقامة الحدود فيها فمكروهة.

فإن حكم بحكم ، فإن وافق الحق ، لم يكن لأحد أن يعارضه فيه ، وإن أخطأ ، وجب عليهم أن ينبهوه عليه.

وقال المخالف : ليس لأحد أن يرد عليه ، وإن حكم بالباطل عنده ، لأنّه إذا كان باجتهاده ، وجب عليه العمل به ، ولا يعترض عليه بما هو فرضه ، ولا اجتهاد عندنا ، ولا قياس ، وليس كل مجتهد مصيبا.

وإذا دخل الخصمان عليه ، وجلسا ، وأراد كل واحد منهما الكلام ، ينبغي له أن يأذن للذي سبق بالدعوى ، فإن ادّعيا جميعا في وقت واحد ، فالذي رواه أصحابنا أنّه يأمر من هو على يمين خصمه أن يتكلم ، ويأمر الآخر بالسكوت ، إلى أن يفرغ من دعواه.

وإذا دخل عليه الخصمان ، فلا يبدأ أحدهما بالكلام منفردا ، وذلك على طريق الكراهة ، فإن سلّما ، أو سلم أحدهما ، ردّ السّلام ، دون ما سواه.

ويستحب أن يكون نظره إليهما واحدا ، ومجلسهما بين يديه على السواء ، لا أن ذلك واجب ، على ما يتوهمه من لا بصيرة له بهذا الشأن.

ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين ، والمستحب له تركهما ، حتى يبدأ بالكلام ، فإن صمتا ولم يتكلما (١) ، فله أن يقول لهما حينئذ : إن كنتما حضرتما لشي‌ء فاذكراه فإن بدأ أحدهما بالدعوى ، سمعها ، ثم أقبل على الآخر ، فسأله عما عنده فيما ادّعاه خصمه.

فإن أقرّ به ، ولم يرتب بعقله واختياره ، ألزمه الخروج إليه منه ، بعد سؤال صاحب الحق ، فإن خرج ، وإلا إن كان له مال ظاهر من جنس الحق الذي

__________________

(١) ج : فان صمتا

١٥٧

أقرّ به لخصمه ، سلّم الحاكم إلى الخصم من ذلك ماله ، وإن كان من غير جنس الحق ، باعه عليه ، وقضى دينه منه ، وإن لم يكن له مال ظاهر ، أمر خصمه بملازمته حتى يرضيه ، فإن التمس الخصم حبسه على الامتناع من أداء ما أقرّ به ، فإن عرف الحاكم أنّه معدم فقير ، خلّى سبيله ، فإن لم يعرف من حاله شيئا ، حبسه له (١) ، فإن ظهر له بعد أن حبسه ، أنّه معدم فقير لا يرجع إلى شي‌ء ، ولا يستطيع الخروج ممّا أقرّ به خلّى سبيله ، وأمره أن يتمحل يعنى يتكسب ويحتال قال الشاعر :

وقالت تمحل كي تحج فانّني

أرى الناس يعتدّون للحج أرجلا

فقلت لها والله مالي حيلة

فما ذا عسيت اليوم أن أتمحلا

حق خصمه ، ويسعى في الخروج ممّا عليه.

وإن ارتاب الحاكم بكلام المقر ، وشك في صحّة عقله أو اختياره للإقرار ، توقف عن الحكم عليه ، حتى يستبرئ حاله.

وإن أنكر المدّعى عليه ما ادّعاه المدّعي ، سأله ألك بيّنة على ذلك ، فإن قال نعم هي حاضرة ، نظر في بينته بعد سؤاله ، وإن قال : نعم غير أنّها ليست حاضرة ، فلا يقول له الحاكم أحضرها ، بل يتركه ، إلى أن يحضر بينته ويسأله سماعها.

وقال شيخنا في نهايته : قال له أحضرها (٢) ، وقد رجع عن هذا القول ، في مبسوطة (٣).

وإن قال المدّعي : لست أتمكن من إحضارها ، قال شيخنا في نهايته : جعل معه مدة من الزمان ، ليحضر فيه بينته ، وتكفل لخصمه (٤).

ورجع عن هذا القول في مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا ادّعى على غيره حقا ، فأنكر المدّعى عليه ، فقال المدّعي : لي بيّنة غير أنّها غائبة ، لم تجب (٥) له ملازمة المدّعى عليه ، ولا مطالبته له بكفيل ، إلى أن يحضر البينة ، وبه قال

__________________

(١) ج : حبسه.

(٢) و (٤) النهاية : كتاب القضايا والأحكام.

(٣) المبسوط : ج ٨ ، كتاب آداب القضاء ، ص ١٥٩.

(٥) ل : لم يجز.

١٥٨

الشافعي ، وقال أبو حنيفة : له المطالبة بذلك ، وملازمته ، وقال رحمه‌الله : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، ومن أوجب ذلك فعليه الدلالة ، هذا آخر كلامه رحمه‌الله في مسائل خلافه (١).

وهو الحق اليقين ، لأنّ فيه الدليل ، ولا دليل على ما خالف ذلك.

وإن قال : لا بيّنة لي ، قال له : فما تريد ، فإن قال : تأخذ لي بحقي من خصمي ، قال للمنكر : أتحلف له ، فإن قال نعم ، أقبل على صاحب الدعوى ، فقال له : قد سمعت ، أفتريد يمينه ، فإن قال : لا ، أقامهما ، ونظر في حكم غيرهما.

وإن قال : نعم أريد يمينه ، رجع إليه فوعظه ، وخوّفه بالله ، فإن أقرّ الخصم بدعواه ، ألزمه الخروج إليه مما ادّعاه عليه بعد سؤاله.

فإن قال المنكر عند (٢) توجه اليمين عليه : يحلف هذا المدّعي على صحة دعواه ، وأنا أدفع إليه ما ادّعاه ، قال الحاكم للمدّعي : أتحلف على صحة دعواك ، فإن حلف ، ألزم خصمه الخروج إليه ممّا حلف عليه بعد سؤاله ، وإن أبي اليمين ، بطلت دعواه.

وإن أقام المدّعي البينة ، فذكر المدّعى عليه أنّه قد خرج إليه من حقه ، كان عليه البينة بأنّه قد وفاه الحق ، فإن لم تكن له بيّنة وطالب صاحب البينة بأن يحلف بأنّه ما استوفى ذلك الحق منه ، كان له ذلك ، فإن امتنع من ذلك خصمه ، وأبي أن يحلف أنّه لم يأخذ حقه ، بطل حقه.

وإن قال المدّعي : ليس معى بينة ، وطلب من خصمه اليمين ، فحلفه الحاكم ، ثم أقام بعد ذلك البيّنة على صحة ما كان يدعيه ، لم يلتفت إلى بينته ، وأبطلت.

وإن اعترف المنكر بعد يمينه بدعوى خصمه عليه ، وندم على إنكاره ، لزمه الحق ، والخروج منه الى خصمه ، فإن لم يخرج إليه منه ، كان له حبسه ،

__________________

(١) الخلاف : كتاب آداب القضاء ، المسألة ٣٦.

(٢) ج : بعد.

١٥٩

فإن ذكر إعسارا ، كشف عن حاله ، فإن كان على ما قال ، انظر ولم يحبس ، وإن لم يكن كذلك ، الزم الخروج إلى خصمه من حقه.

ومتى بدأ الخصم باليمين ، من غير أن يحلفه الحاكم ، لم يبره ذلك من الدعوى ، وكان متكلفا.

وإن أقرّ المدّعي عليه بما ادعاه خصمه ، وقال : أريد أن تنظرني ، حتى أتمحله ، أي أكتسبه (١) ، قال الحاكم لخصمه : فما عندك فيما يقول ، فإن سكت ولم يجب بشي‌ء ، توقف عليه القاضي هنيهة ، ثم قال له : قل ما عندك ، فإن لم يقل شيئا ، إقامة ، ونظر في أمر غيره ، وإن قال أنظره فذلك له ، وإن أبى لم يكن للحاكم ، أن يشفع إليه فيه ، ولا يشير عليه بالإنظار.

وله أن يأمرهما بالصلح ، ويشير بذلك ، لقوله تعالى « وَالصُّلْحُ خَيْرٌ » (٢) وما هو خير ، فللإنسان فعله بغير خلاف من محصّل.

وقد يشتبه هذا الموضع على كثير من المتفقهة ، فيظن أنّه لا يجوز للحاكم أن يأمر بالصلح ، ولا يشير به ، وهذا خطأ من قائله ، وشيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، قد أفصح عن ذلك ، وحقّقه ، وذهب إليه ، فقال : إذا ترافع إليه نفسان ، وكان الحكم بينهما واضحا ، لا إشكال فيه ، لزمه أن يقضي بينهما ويستحب أن يأمرهما بالمصالحة ، وإن كان حكمهما مشكلا أخره إلى البيان ، ولا حدّ له غير ظهور الحكم وبيان الحق ، وإن قدّمه لم يجز ، لأن الحكم قبل البيان ظلم ، والحبس بالحكم بعد البيان ظلم ، هذا آخر كلام شيخنا (٣).

وإن قال : الدين عليّ ، وأنا معسر ، لا أقدر على قضائه ، نظر في سبب الدين ، فإن كان عن مال حصل في يديه ، كالقرض ، والشراء ، والصلح ، والغصب ، ونحو ذلك ، لم يقبل قوله أيضا في الإعسار ، لأنّ الأصل الغنى ،

__________________

(١) ج : أتكسبه.

(٢) النساء : ١٢٨.

(٣) المبسوط : ج ٨ ، كتاب آداب القضاء ، ص ١٧٠.

١٦٠