كتاب السرائر - ج ٢

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

كتاب السرائر - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٦٨

فأمّا إذا كان غير ممتنع ، مثل الشاة وغيرها من أولاد البقر ، فله أن يأخذها لقوله عليه‌السلام : خذها ، فإنّما هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب (١).

فإن أخذها فهو بالخيار بين أن يأكلها ، وتكون القيمة في ذمته ، إذا جاء صاحبها ردّها عليه ، وإن شاء أن ينفق عليها تطوعا ، وإن شاء يرفع إلى الحاكم ليأخذها الحاكم ، ويبيعها ، ويعرف ثمنها.

ومن أخذ لقطة ، ثم ردّها إلى موضعها ، لم يزل ضمانه.

واللقطة على ضربين ، ضرب منه يجوز أخذه ، ولا يكون على من أخذه ضمانه ، ولا تعريفه ، بل يجوز له التصرف فيه قبل التعريف ، ومتى أقام صاحبه بينة وجب ردّه عليه ، لأنّه ملك الغير ، وانّما أباح الشارع التصرف فيه ، قبل التعريف ، كما أباح الشارع التصرف بعد السنة ، فيما يجب تعريفه من اللقط ، وهو كلما كان دون الدرهم ، أو يكون ما يجده في موضع خرب قد باد أهله ، واستنكر رسمه.

والضرب الآخر ، هو الذي لا ينبغي له أخذه ، فإن أخذه لزمه حفظه وتعريفه ، فهو على ضربين ، ضرب منه ما يجده في الحرم ، والضرب الآخر ما يجده (٢) في غير الحرم ، فما يجده في الحرم يلزمه تعريفه سنة ، في المواقف والمواسم ، وعلى أبواب الجوامع ، يوم الجمعات ، وأيّام الأعياد ، ومحافل الجماعات ، فإن جاء صاحبه ، ردّ عليه ، وإن لم يجئ صاحبه بعد السنة ، تصدّق به عنه ، أو يحفظه عليه ، ويكون في يده أمانة ، إلى أن يجي‌ء صاحبه ، وهذا الضرب لا يجوز تملكه ، ولا يصير بعد السنة كسبيل ماله ، فإن تصدّق به ، ثم جاء صاحبه ، ولم يرض بصدقته ، كان ضامنا له.

وقال شيخنا في نهايته ، في باب اللقطة : تصدّق به عنه ، وليس عليه شي‌ء ،

__________________

(١) الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب ١٣ ، ح ١ ـ ٥ ـ ٧.

(٢) ج : يجده.

١٠١

فإن جاء صاحبه بعد ذلك ، لم يلزمه شي‌ء ، فإن أراد أن يخيره بين أن يغرم له ، ويكون الأجر له ، واختار ذلك صاحب المال ، فعل ، وليس ذلك واجبا عليه (١).

إلا أنّ شيخنا يرجع عن هذا ، ويقول بما اخترناه ، في النهاية أيضا ، في باب آخر من فقه الحج ، قال : ومن وجد شيئا في الحرم ، فلا يجوز له أخذه ، فإن أخذه فليعرّفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، وإلا تصدّق به عنه ، وكان ضامنا إذا جاء صاحبه ، ولم يرض بفعله ، وإذا وجد في غير الحرم ، فليعرفه سنة ، ثم هو كسبيل ماله ، يعمل به ما شاء ، إلا أنّه ضامن ، إذا جاء صاحبه ، هذا آخر كلام شيخنا في الباب المشار إليه (٢).

وهو الحق اليقين ، لأنّه مال الغير ، والرسول عليه‌السلام قال : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (٣) ، وهذا ما طابت نفسه بالصدقة عنه.

وأمّا الذي يجده في غير الحرم ، فيلزمه أيضا تعريفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، ردّ عليه ، وإن لم يجئ كان كسبيل ماله بعد السنة والتعريف فيها ، فيجوز له التصرف فيه بسائر أنواع التصرفات ، إلا أنّه يكون ضامنا له بقيمته بعد السنة ، متى جاء صاحبه ، وجب عليه ردّه عليه ، فإن تصدق به عنه ، لزمه أيضا ، أن يغرمه له ، متى جاء ، إلا أن يشاء صاحبه أن يكون له الأجر ، ويرضى بذلك ، فيحتسب له بذلك عند الله تعالى.

وجميع النماء المنفصل والمتصل بعد الحول في هذا الضرب يكون لمن وجدها ، دون صاحبها ، لأنّه بعد الحول صارت كسبيل ماله ، ولصاحبها قيمتها فحسب ، فهو في هذا الضرب بين خيرتين ، بين أن يتصدق بها بعد السنة وتعريفها ، ويكون ضامنا لقيمتها بعد الحول ، إذا جاء صاحبها ولم يرض بفعله ، وبين أن يجعلها كسبيل ماله ، ويضمن قيمتها لصاحبها بعد السنة والتعريف.

__________________

(١) النهاية : باب اللقطة والضالة.

(٢) النهاية : باب آخر من فقه الحج.

(٣) مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب ١ ، ح ٥

١٠٢

وإلى هذا يذهب شيخنا في نهايته (١) وهو مذهب أصحابنا أجمع ، وبه تواترت أخبارهم.

وذهب شيخنا في مسائل خلافه ، إلى أن لقطة غير الحرم ، يعرفها سنة ، ثم هو مخيّر بعد السنة ، بين ثلاثة أشياء ، بين أن يحفظها على صاحبها ، وبين أن يتصدّق بها عنه ، ويكون ضامنا إن لم يرض صاحبها بذلك ، وبين أن يتملّكها ويتصرف فيها ، وعليه ضمانها إذا جاء صاحبها (٢).

فهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ، اختاره هاهنا ، لأنّ بينهما خلافا في لقطة الفقير والغني ، والصحيح الحق اليقين ، إجماع أصحابنا ، على أنه بعد السنة يكون كسبيل ماله ، أو يتصدق بها بشرط الضمان ، ولم يقولوا هو بالخيار بعد السنة في حفظها على صاحبها.

وشيخنا أبو جعفر في الجزء الأوّل من مسائل خلافه ، ومبسوطة ، قال : مسألة ، إذا وجد نصابا من الأثمان ، أو غيرها من المواشي ، عرفها سنة ، ثم هو كسبيل ماله وملكه ، فإذا حال بعد ذلك حول ، وأحوال ، لزمته زكاته ، لأنّه مالك ، وإن كان ضامنا له ، وأمّا صاحبه فلا زكاة عليه ، لأنّ مال الغائب الذي لا يتمكن منه ، لا زكاة فيه ، وقال الشافعي ، إذا كان بعد سنة ، هل يدخل في ملكه بغير اختياره؟ على قولين ، أحدهما وهو المذهب ، أنّه لا يملكها إلا باختياره ، والثاني يدخل بغير اختياره ، فإذا قال لا يملكها إلا باختياره ، فإذا ملكها ، فإن كان من الأثمان ، يجب مثلها في ذمته ، وإن كان ماشية وجب قيمتها في ذمّته ، فأمّا الزكاة ، فإذا حال الحول من حين التقط ، فلا زكاة فيها ، لأنّه أمين ، وأمّا صاحب المال ، فله مال لا يعلم موضعه على قولين ، مثل الغصب ، وأمّا الحول الثاني ، فإن لم يملكها ، فهي أمانة أبدا في يده ، ورب المال على قولين ، مثل الضالة ، وإذا ملكها الملتقط ، وحال الحول ، فهو كرجل له ألف ، وعليه ألف ، فإن قال : الدين يمنع ، فهاهنا يمنع ، وإن قال : الدّين لا يمنع ، فهاهنا لا يمنع ، إذا لم يكن له

__________________

(١) النهاية : باب اللقطة والضالة.

(٢) الخلاف : كتاب اللقطة ، المسألة ١.

١٠٣

مال سواء ، فبقدره ، فإن كان له مال سواه لزمته زكاته ، ورب المال على قولين ، كالضالة والمغصوب ، قال : دليلنا ما روي عنهم عليهم‌السلام ، أنّهم قالوا لقطة غير الحرم يعرّفها سنة ، ثمّ هي كسبيل ماله ، وسبيل ما له أن يجب فيه الزكاة قال : فبهذا الظاهر يجب فيه الزكاة ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل الخلاف ، في الجزء الأول ، في كتاب الزكاة (١).

فلو كان بعد السنة لا يدخل في ملكه ، وهو مخيّر بين ثلاث ، خير على ما قاله في الجزء الثاني في كتاب اللقطة في مسائل الخلاف ، لما وجبت عليه الزكاة بعد السنة والتعريف وحئول الحول بعد ذلك ، واستدلاله رحمه‌الله بأن قال : دليلنا ما روي عنهم عليهم‌السلام ، أنّهم قالوا : لقطة غير الحرم يعرفها سنة ، ثم هي كسبيل ماله ، وما قالوا : يكون مخيرا بعد السّنة بين ثلاث خير على ما يذهب الشافعي إليه في أحد قوليه ، وأيضا من قال بهذا القول ، لا يوجب التعريف ، وانّما يوجب التعريف حتى يتملكها ، فأمّا إذا لم يرد أن يتملكها ، فلا يجب عليه التعريف ، ولا خلاف بين أصحابنا في وجوب التعريف في مدة السنة ، فدل هذا أجمع ، على أنّ الذي اختاره شيخنا في الجزء الثاني ، مذهب الشافعي ، وأنّ مذهبنا ، وقول أصحابنا ورواياتهم ، بخلاف ذلك.

ولا يجوز التصرف في اللقط قبل مضي السنة ، فإن تصرّف كان مأثوما ضامنا إن هلكت ، بغير خلاف ، في أي موضع التقطها ، حرما كان أو غيره.

ومتى هلكت اللقطة في يده في مدّة (٢) زمان التعريف ، من غير تفريط ، لم يكن على من وجدها شي‌ء ، فإن هلكت بتفريط من قبله ، أو يكون قد تصرّف فيها ، ضمنها ، ووجب عليه غرامتها ، بقيمتها يوم هلكت ، إن كانت تضمن بالقيمة ، أو مثلها إن كانت تضمن بالمثلية.

__________________

(١) الخلاف : كتاب الزكاة ، المسألة ١٢٩.

(٢) ج : اللقطة في مدّة.

١٠٤

ومتى اشترى بمال اللقطة جارية ، ثم جاء صاحبها ، فوجدها بنته ، لم يلزمه أخذها ، وكان له ان يطالبه بالمال الذي اشترى به ابنته ، لأنّه ما وكله في شرائها ، فلا تحصل هذه البنت في ملكه ، فتكون قد انعتقت عليه ، بل هي حاصلة في ملك الغير ، وهو ضامن لماله الذي وجده ، لأنّه إن كان اشتراها بالمال قبل السنة وتعريفه ، فانّ الشراء غير صحيح ، لأنّه بعين المال الذي لا يجوز له التصرف فيه ، فإن كان اشتراها في الذمة ، ونقده ، فالشراء صحيح ، ويقع ملك الجارية للمشتري ، دون صاحب المال ، فلا تنعتق على صاحب المال الذي هو أبوها ، لأنها ما دخلت في ملكه بحال ، وإن كان اشتراها بعد السنة ، وتعريف المال بعينه ، أو في الذمة ، فالشراء صحيح ، والملك يقع أيضا للمشتري ، دون الأب الذي هو صاحب المال ، فعلى جميع الأحوال ، ما دخلت في ملك الأب ، حتّى تنعتق عليه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أجاز شراه (١) ، انعتقت بعد ذلك ، ولم يجز له بيعها (٢).

وهذا غير واضح ، ولا مستقيم ، لأنّ البيع على الصحيح من المذهب لا يقف عندنا على الإجازة ، وهذا مذهب شيخنا في مسائل الخلاف (٣) ، وهو الحقّ اليقين ، وإن كان قد جوّزه في نهايته ، فقد رجع عنه في مسائل خلافه.

فإن أراد الأب عتقها وملكها (٤) ، فيحتاج أن يشتريها منه بماله في ذمته ، فعند الشراء تنعتق على الأب بغير خلاف.

ومن وجد كنزا في دار انتقلت إليه بميراث عن أهله ، كان له ولشركائه في الميراث ، إن كان له شريك فيه ، فإن كانت الدار قد انتقلت إليه بابتياع من قوم ، عرف البائع ، فإن عرفه سلّمه إليه ، وإن لم يعرفه أخرج خمسه إلى مستحقه ، إن

__________________

(١) ل : شرائها.

(٢) النهاية : باب اللقطة والضالة ، والعبارة في المصدر هكذا : « فإن أجاز شراءه لها »

(٣) الخلاف : كتاب البيع ، المسألة ٢٧٥.

(٤) ج : وتملكها.

١٠٥

كان بمقدار ما تحب فيه الزكاة ، على ما شرحناه في كتاب الزكاة ، وباب الخمس ، وكان له الباقي.

وكذلك إن ابتاع بعيرا ، أو بقرة ، أو شاة ، وذبح شيئا من ذلك ، فوجد في جوفه شيئا قل عن مقدار الدرهم ، أو كثر ، عرفه من ابتاع ذلك الحيوان منه ، فإن عرفه ، أعطاه إياه ، وإن لم يعرفه ، أخرج منه الخمس ، بعد مئونته طول سنته ، لأنّه من جملة الغنائم والفوائد ، وكان له الباقي.

وكذلك حكم من ابتاع سمكة ، فوجد في جوفها درة ، أو سبيكة ، وما أشبه ذلك ، لأنّ البائع باع هذه الأشياء ، ولم يبع ما وجده المشتري ، فلذلك وجب عليه تعريف البائع.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي (١) ، لم يعرف البائع السمكة الدرة بل ملكها المشتري ، من دون تعريف البائع ، ولم يرد بهذا خبر عن أصحابنا ، ولا رواه عن الأئمة أحد منهم.

والفقيه سلار في رسالته (٢) يذهب إلى ما اخترناه ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

ومن وجد في داره شيئا ، فإن كانت الدار يدخلها غيره ، كان حكمه حكم اللقطة ، وإن لم يدخلها غيره ، كان له.

وإن وجد في صندوقه شيئا كان حكمه مثل ذلك.

ومن وجد طعاما في مفازة ، فليقومه على نفسه ، ويأكله ، فإذا جاء صاحبه ، ردّ عليه ثمنه.

فإن وجد شاة في برية ، فليأخذها ، وهو ضامن لقيمتها ، ولا يجب عليه الامتناع من التصرف في الطعام والشاة ، قبل التعريف سنة ، بل ينتفع بذلك

__________________

(١) في كتابه النهاية : باب اللقطة والضالة.

(٢) وهي المراسم : كتاب العتق والتدبير والمكاتبة في ذكر احكام الضمانات والكفالات و.

١٠٦

وقت وجوده ، ويضمن المثلية في الطعام ، والقيمة في الشاة ، فإن أعوزت المثلية ، فالقيمة يوم الوجدان ، أو يوم الإعواز؟ الصحيح أنّها يوم الإعواز.

ويترك البعير إذا وجده في المفازة ، إلا أن يكون صاحبه قد خلاه من جهد في غير كلاء ولا ماء ، فليأخذه ، فإنّه بمنزلة الشي‌ء المباح ، وليس لصاحبه بعد ذلك المطالبة به ، فإن كان خلاه في كلاء وماء ، فليس له أخذه ، وكذلك الحكم في الدابة.

ويكره أخذ ما له قيمة يسيرة مثل العصا ، والشظاظ ، والوتد ، والحبل ، والعقال ، وأشباه ذلك ، وليس هو بمحظور.

ومن أودعه لص من اللصوص شيئا من المغصوب ، لم يجز له ردّه عليه ، فإن ردّه عليه مع قدرته على تركه ، كان ضامنا له ، فإن عرف صاحبه ردّه عليه ، وإن لم يعرف صاحبه تصدق به عنه بشرط الضمان.

والشاة إذا وجدها في الأمصار ، حبسها عنده ثلاثة أيّام ، يعرفها فيها ، فإن جاء صاحبها ردّها عليه ، وإلا تصدق بها بشرط الضمان ، أو تصرف فيها ، وكان ضامنا لقيمتها.

وإذا وجد المسلم لقيطا ، فهو حر غير مملوك ، وينبغي أن يرفع خبره إلى سلطان الإسلام ، ليطلق له النفقة عليه ، من بيت مال المسلمين ، فإن لم يوجد سلطان ينفق عليه ، استعان بالمسلمين في النفقة عليه ، فإن لم يجد من يعينه على ذلك ، أنفق عليه بعد ما يشهد ، أنّه يرجع عليه ، وكان له حينئذ الرجوع عليه بنفقته ، إذا بلغ ، وأيسر ، على ما روي في بعض الأخبار (١).

والأقوى عندي أنّه لا يرجع به عليه ، لأنّه لا دليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى أدلة ظاهرة.

وإذا تبرع بما أنفقه عليه ، ولم يشهد بالرجوع ، أو إذا أنفق عليه ، وهو يجد من يعينه

__________________

(١) الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب ٢٢ ، الحديث ٢ ـ ٣ ـ ٤.

١٠٧

بالنفقة عليه تبرعا ، فلم يستعن به ، فليس له رجوع عليه بشي‌ء من النفقة.

وإذا بلغ اللقيط ، توالى من شاء من المسلمين ، ولم يكن للذي أنفق عليه والتقطه ولاؤه ، إلا أن يتوالاه ، فإن لم يتوال الى أحد حتى مات ، كان ولاؤه لإمام المسلمين ، لأنّه داخل في ميراث من لا وارث له.

وقال شيخنا في نهايته : كان ولاؤه للمسلمين (١).

وهذا غير (٢) مستقيم على إطلاقه.

وقال أيضا : وإن ترك مالا ولم يترك ولدا ، ولا قرابة له من المسلمين ، كان ما تركه لبيت المال (٣).

وهذا أيضا على إطلاقه غير واضح ، وانّما مقصوده هاهنا لبيت مال الإمام ، دون بيت مال المسلمين ، فإذا كان كذلك ، فالمراد أيضا بقوله : كان ولاؤه للمسلمين ، أي لإمام المسلمين ، لأنّا بغير خلاف بيننا مجمعون على أنّ ميراث من لا وارث له ، لإمام المسلمين ، وكذلك ولاؤه ، فإذا ورد (٤) لفظ في مثل ذلك ، بأنّه للمسلمين ، أو لبيت المال ، فالمراد به ، لبيت مال الإمام ، وانّما أطلق القول بذلك ، لما فيه من التقية ، لأنّ بعض المخالفين لا يوافق عليه ، ويخالف. وهكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في آخر الجزء الأوّل من مبسوطة (٥) ، وهو الحق اليقين.

ومن وجد شيئا من اللقط ، والضوال ، ثمّ ضاع من غير تفريط ، أو أبق العبد ، ( بفتح الباء ، يأبق بكسر الباء ، في المستقبل ، اباقا بكسر أوله ) ، من غير تعدّ منه عليه ، لم يكن عليه شي‌ء ، فإن كان هلاك ما هلك بتفريط من جهته ، كان ضامنا ، وإن كان إباق العبد بتعدّ منه عليه ، كان مثل ذلك ، وإن لم يعلم أنّه كان لتعد منه ، أو لغيره ، وجب عليه اليمين بالله ، أنّه ما تعدّى فيه ، وبرئت عهدته.

__________________

(١) النهاية : باب اللقطة والضالة.

(٢) ل : غير واضح ولا مستقيم.

(٣) النهاية : باب اللقطة والضالة.

(٤) ج : فإذا أورد.

(٥) المبسوط : ج ٣ كتاب اللقطة ، ص ٣٤٧.

١٠٨

ولا بأس للإنسان أن يأخذ الجعل على ما يجده من الآبق والضوال ، واللقط ، إذا جعل ذلك صاحبه ، وسمّاه وقدره ، كان له ما قدره ، وبذله ، وجعله ، دون ما سواه ، فإن جعل جعلا على ردّه ، ولم يقدر الجعل بتقدير ، وأطلق ذلك ، عاد إطلاقه إلى عرف الشرع ، وتقييده يحمل عليه ، فإن كان عبدا أو بعيرا في المصر ، كان جعله دينارا ، يجعل صاحبه ، وإطلاقه ، وإن كان خارجا من المصر ، فأربعة دنانير ، قيمتها أربعون درهما فضة ، وفيما عدا العبد والبعير ، ليس فيه شي‌ء موظف ، ولا تقييد عرف الشرع يرجع في إطلاقه إليه ، بل يرجع فيه إلى عرف العادة والزمان ، حسب ما جرت في أمثاله ، فيعطي واجده إيّاه ، فإن لم يجعل صاحبه جعلا لمن ردّه ، لا مطلقا ولا مقيدا فلا يستحق واجده على صاحبه شيئا ، بحال من الأحوال ويجب عليه ردّه على صاحبه ، من غير استحقاق لشي‌ء ، لقوله عليه‌السلام : المسلم يردّ على المسلم (١) ، ولقوله عليه‌السلام : لا يحل مال امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه (٢).

فلا يظن ظان ، ويتوهم متوهم ، أنّ من رد شيئا من الضوال والآبق واللقط ، يستحق على صاحبه جعلا من غير أن يجعله له ، فانّ ذلك خطأ فاحش ، وقول فظيع ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فإنّه كان يؤدي إلى أنّ البعير يساوي مثلا دينارا ، فردّه وأخذه (٣) من خارج المصر ، فإنّه كان يستحق على صاحبه أربعة دنانير ، يأخذها منه بغير اختياره ، وهذا أمر لا يقوله محصل.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله قال في مبسوطة ، في الجزء الثالث ، في كتاب اللقطة : من جاء بضالة إنسان ، أو بآبق ، أو بلقطة ، من غير جعل ، ولم يشرط فيه ، فإنّه لا يستحق شيئا ، سواء كان ضالة ، أو آبقا ، أو لقطة ، قليلا كان ثمنه ، أو كثيرا ، سواء كان معروفا برد الضوال ، أو لم يكن ، وسواء جاء به من

__________________

(١) الوسائل : كتاب العتق. الباب ٤٩ ، الحديث ١ إلا ان لفظ الحديث هكذا : « في جعل الآبق المسلم يرد على المسلم ».

(٢) مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب ١ ، الحديث ٥.

(٣) ج : واجده.

١٠٩

طريق بعيدة ، تقصّر الصلاة اليه (١) أو جاء به من طريق دون ذلك ، ثمّ ذكر بعد هذا القول أقوال المخالفين ، ثم قال : وأول الأقوال أصحّ ، وأقرب إلى السداد ، ثم قال : وقد روى أصحابنا فيمن ردّ عبدا أربعين درهما قيمته أربعة دنانير ، ولم يفصلوا ، ولم يذكروه في غيره شيئا ، ثم قال رحمه‌الله : وهذا على جهة الأفضل ، لا الوجوب ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (٢) وهو الحقّ اليقين.

ولا تدخل الأمة في العبد ، بل لو وجد إنسان أمة ، لم يكن حكمها حكم العبد ، لأنّ القياس عندنا باطل ، ولم ترد الأخبار إلا بالعبد ، والأنثى يقال لها عبدة وامة ، ولا تدخل الإناث في خطاب الذكران ، إلا على سبيل التغليب ، عند بعضهم ، وذلك مجاز ، والكلام في الحقائق ، وليس كذلك البعير ، لأنّ البعير يدخل فيه الذكر والأنثى ، لأنّه بمنزلة الإنسان من ابن آدم ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

ومن وجد شيئا يحتاج إلى النفقة عليه ، فسبيله أن يرفع خبره إلى السلطان ، لينفق عليه من بيت المال ، فإن لم يجده ، وأنفق عليه هو ، وأشهد على ما قلناه ، كان له الرجوع على صاحبه بما أنفقه عليه ، وإن كان ما أنفق عليه قد انتفع بشي‌ء من جهته ، إمّا بخدمته ، أو ركوبه أو لبنه ، وكان ذلك بإزاء ما أنفق عليه ، لم يكن له الرجوع على صاحبه بشي‌ء.

والذي ينبغي تحصيله في ذلك ، أنّه إن كان انتفع بذلك قبل التعريف والحول ، فيجب عليه اجرة ذلك ، وإن كان انتفع بلبن ، فيجب عليه رد مثله ، والذي أنفقه عليه يذهب ضياعا ، لأنّه بغير إذن من صاحبه ، والأصل براءة الذمة ، وإن كان بعد التعريف والحول ، فإنّه لا يجب عليه اجرة ، ولا ردّ شي‌ء من الألبان والأصواف ، لأنّه ماله ، بل هو ضامن للعين الموجودة فحسب.

__________________

(١) ج : الصلاة فيها.

(٢) المبسوط : ج ٣ ، كتاب اللقطة ، ص ٣٣٣ ، والعبارة في المصدر هكذا : وقد روى أصحابنا فيمن رد أربعين درهما قيمته أربعة دنانير.

١١٠

إذا وجد لقطة ، وجاء رجل فوصفها ، فإنّه لا يخلو أن يكون معه (١) بينة ، أو لم يكن معه بيّنة ، فإن وصفها ، ومعه بيّنة ، فإنّه يعطيه (٢) ، فإن كان معه شاهد واحد ، حلف معه ، وإن لم يكن معه بيّنة ، فإنّه لا يعطيه ، فإن وصفها ولم يكن معه بينة ، ووصف عفاصها ( بالعين غير المعجمة المكسورة ، والفاء ، والصاد غير المعجمة ، وهي الجلدة التي فوق صمام القارورة ، ووكاها ، وهو شدادها ) وذكر وزنها ، وعددها ، وحليتها (٣) ، ووقع في قلبه ، وغلب على ظنه أنّه صادق ، يجوز أن يعطيه ، فأمّا اللزوم ، فلا يلزمه الدفع إليه.

وقال قوم شذاذ من غير أصحابنا : يلزمه أن يعطيه ، إذا وصفها ، والأول أصح ، لأنّه لا دلالة على وجوب تسليمها إليه.

فإذا ثبت ذلك ، ووصفها إنسان ، وقلنا يجوز أن يسلّمها إليه ، فأعطاه ، ثم جاء آخر ، وأقام بينة بأنّها له ، انتزعت من الذي تسلّمها ، وأعطيت الذي أقام البيّنة ، لأنه أقام بيّنة ، وليس عليه أكثر من إقامتها ، فإن أقام آخر بينة بأنّها له ، فالذي يقتضيه مذهبنا ، أنّه يستعمل القرعة.

والأقوى عندي أنّه إذا لم يقم البيّنة ، لا يعطيه إيّاها ، سواء غلب في ظنّه صدقه ، أو لم يغلب ، لأنّه لا دليل عليه ، والذمّة اشتغلت بحفاظها وتعريفها ، وإن لا يسلمها إلا إلى صاحبها ، وهذا الواصف ليس بصاحبها ، على ظاهر الشرع والأدلة.

إذا قال : من جاء بعبدي الآبق فله دينار ، فجاء به واحد ، استحق الدينار. وكذلك إن جاء به اثنان ، أو ثلاثة ، وما زاد على ذلك ، ولو قال : من دخل داري فله دينار ، فدخلها اثنان فصاعدا ، استحق كل واحد دينارا ، والفرق بينهما أنّ من قال : من دخل داري فله كذا ، علّق الاستحقاق بالدخول ، وقد وجد من كل واحد منهم ذلك ، فاستحقّه ، وليس كذلك الرد ، لأنّه علّق الاستحقاق بردّه ، ولم

__________________

(١) ج : يكون له.

(٢) ل : يعطيه إياه.

(٣) ج : وجنسها.

١١١

يرده كلّ واحد منهم بانفراده ، وانّما جاء به جميعهم ، فبجميعهم حصل المقصود ، فلهم كلهم الأجرة ، لأنّ السبب وجد من جميعهم ، ولم يوجد من كل واحد على الانفراد.

الذمّي إذا وجد لقطة في بلاد الإسلام ، كان حكمه فيها حكم المسلمين سواء.

ومن وجد لقطة ، فإذا عرفها سنة ، فقد أتى بما عليه ، وإن عرف ستة أشهر ، ثم ترك التعريف ، فهل يستأنف ، أو يبني؟ قيل : فيه وجهان ، أحدهما يستأنف ، والآخر يبني عليها ، وهو الأقوى ، لأنّه ليس في الخبر (١) ، أكثر من أن يعرّف سنة ، ولم يقل متوالية ولا متواترة.

فإذا ثبت ذلك ، فالكلام في ثلاثة أشياء ، أحدها وقت التعريف ، والثاني كيفيّة التعريف ، والثالث زمان (٢) التعريف.

فأمّا وقت التعريف ، فإنّه يعرف بالغداة ، والعشيّ ، وقت بروز الناس ، ولا يعرف بالليل ، ولا عند الظهيرة ، والهاجرة التي يقبل فيها الناس.

فأمّا كيفية التعريف ، فإنّه يقول من ضاع له لقطة ، أو يقول : من ضاع له دينار ، أو درهم ، أو يقول مبهما ، ولا يفسره وهو الأحوط ، لأنّه ربما طرح عليه إنسان علامة.

فأمّا الزمان (٣) ، فإنّه يعرف في الجماعات والجمعات ، ويقف على أبواب الجوامع ، ولا يعرفها داخلها ، فإنّه منهي عنه.

وأقل ما يعرف في الأسبوع ، دفعة واحدة ، ولا يجب عليه التعريف كل يوم ، ولا كل ساعة ، فإن كان ممن يعرف بنفسه ، فعل ، وإلا استعان بغيره ، أو يستأجر من يعرف من ماله ، ولا يرجع على صاحبها به ، لأنّ التعريف واجب عليه.

وأخذ اللقطة عند أصحابنا على الجملة مكروه ، لأنّه قد روي في الأخبار أنّه لا يأخذ الضالة إلا الضالون (٤).

__________________

(١) الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب ٢.

(٢) ج : زمان ، الزمان. وهو الظاهر.

(٣) ج : زمان ، الزمان. وهو الظاهر.

(٤) لا توجد بعينها في المصادر التي بأيدينا وفي الباب ١ من اللقطة من الوسائل : « لا يؤدي الضالة إلا

١١٢
١١٣

كتاب الشهادات

قال الله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) (١) الآية.

ومعناه إذا تبايعتم بدين ، لأنّ المداينة لا يكون إلى أجل ، إلا في البيع ، وقوله فاكتبوه ، أي اشهدوا ، ثم ذكر الشهادة في ثلاثة مواضع ، فقال ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) (٢) ثم أمر بالإشهاد على التبايع ، فقال ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (٣) ثم توعد على كتمانها ، فقال :

( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (٤).

وفي هذا المعنى ، ما روي عنه عليه‌السلام أنّه قال : من سئل ، عن علم ، فكتمه ، ألجمه الله يوم القيمة بلجام من نار (٥).

وقال ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) (٦) إلى قوله ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٧).

ومعنى قوله « فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ » يعنى قاربن البلوغ ، لأنّه لا رجعة بعد بلوغ الأجل.

وروي عن ابن عبّاس ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن الشهادة ، فقال : ترى الشمس ، على مثلها فاشهد ، أودع (٨).

فإذا ثبت ذلك ، وتقرر ، فالكلام في ذكر أقسام الحقوق منها ، وجملته أنّ

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢

(٢) البقرة : ٢٨٢

(٣) البقرة : ٢٨٢

(٤) البقرة : ٢٨٣.

(٥) سنن ابن ماجة ، الباب ٢٤ ، الحديث ٢٦٤ و ٢٦٦.

(٦) الطلاق : ١ ـ ٢.

(٧) الطلاق : ١ ـ ٢.

(٨) الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب ٢٠ الحديث ٣.

١١٤

الحقوق ضربان ، حق لله ، وحق الآدمي ، فأمّا حقّ الآدمي ، فإنّه ينقسم في باب الشهادة ثلاثة أقسام ، أحدها لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين ، وهو ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال ، وتطّلع عليه الرجال ، كالنكاح ، والخلع ، والطلاق والرجعة ، والتوكيل له ، والوصية إليه ، والجناية الموجبة للقود ، والعتق ، والنسب.

والثاني ما يثبت بشاهدين ، وشاهد وامرأتين ، وشاهد ويمين ، وهو كل ما كان مالا ، أو المقصود منه المال ، فالمال : القرض ، والغصب ، والمقصود منه المال : عقود المعاوضات ، البيع ، والصرف ، والسلم ، والصلح ، والإجارات ، والمساقات ، والضمانات ، والحوالات ، والقراض ، والرهن ، والوقف ، والوصية له لا إليه ، والجناية التي توجب المال ، عمدا كانت أو خطأ كالحائفة والمأمومة ، وقتل الحر عبدا عمدا ، ونحو ذلك.

والثالث ما يثبت بشاهدين ، وشاهد وامرأتين ، وأربع نسوة ، وهو الولادة ، والرضاع عند بعض أصحابنا ، وإن كان الأكثر منهم لا يقبل في الرضاع شهادة النساء ، والاستهلال ، والعيوب تحت الثياب.

فأمّا حقوق الله تعالى فجميعها لا مدخل لشهادة النساء ، ولا للشاهد مع اليمين فيها ، وهي على ثلاثة أضرب ، ما لا يثبت إلا بأربعة ، وهو الزنا ، واللواط ، والسحق ، وقد روى أصحابنا ، أنّ الزنا يثبت بثلاثة رجال وامرأتين ، وبرجلين وأربع نسوة (١) ، ونشرح ذلك عند المصير إليه ان شاء الله.

والثاني ما لا يثبت إلا بشاهدين ، وهو الردة ، والسرقة ، وحد الحر في شرب المسكر ، وكذا العبد فيه سواء عندنا.

والثالث ما اختلف فيه وهو الإقرار بالزنا ، فإنّه قال قوم : لا يثبت إلا بأربعة ، كالزنا ، وقال آخرون : يثبت بشاهدين ، كسائر الإقرارات ، وهو الأليق

__________________

(١) الوسائل : كتاب الشهادات الباب ٢٤ الحديث ٣ ـ ٤ ـ ٥ ـ ٧ ـ ١٠ ـ ١١ ـ ٢٥ ـ ٢٨ ـ ٣٢. والحديث ١ من الباب ٣٠ من أبواب حد الزنا.

١١٥

بمذهبنا ، والأصحّ من القولين.

وليس عندنا عقد من العقود ، من شرطه الشهادة ، وعند مخالفينا كذلك إلا النكاح وحده عندهم ، وعندنا ليس من شرطه الشهادة.

يحكم بالشاهد واليمين في الأموال عندنا ، سواء كان المال دينا أو عينا ، وكذلك يحكم بشهادة امرأتين ، مع يمين المدّعي ، في ذلك ، عند بعض أصحابنا.

والذي تقتضيه الأدلة ويحكم بصحته النظر الصحيح ، أنّه لا يقبل شهادة امرأتين مع يمين المدّعي ، وجعلهما بمنزلة الرجل في هذا الموضع ، يحتاج إلى دليل شرعي ، والأصل أن لا شرع ، وحملها على الرجل قياس ، وهو عندنا باطل ، والإجماع فغير منعقد ، والأخبار غير متواترة ، فإن وجدت فهي نوادر شواذ ، والأصل براءة الذمم ، فمن أثبت بشهادتهما حكما شرعيا ، فإنّه يحتاج إلى أدلة قاهرة ، أمّا إجماع ، أو تواتر أخبار ، أو قرآن وجميع ذلك خال منه ، فبقي دليل العقل ، وهو ما اخترناه وحققناه.

تقبل عندنا شهادة القاذف ، إذا تاب وأصلح ، وكيفية توبته من القذف ، هو أن يقول : القذف باطل حرام ، ولا أعود إلى ما قلت.

وقال بعضهم : التوبة ، إكذابه نفسه ، وحقيقة ذلك ، أن يقول : كذبت فيما قلت ، روي ذلك في بعض أخبارنا (١).

والذي قدّمناه هو الصحيح ، لأنّه إذا قال : كذبت فيما قلت ، ربما كان كاذبا في هذا ، لجواز أن يكون صادقا في الباطن ، وقد تعذر عليه تحقيقه ، فإذا قال : القذف باطل حرام ، فقد أكذب نفسه ، وقوله ، لا أعود إلى ما قلت ، فهو ضد ما كان منه (٢) ويفتقر إلى صلاح العمل بعد ذلك ، وهو أن يعمل طاعة ، هذا الكلام في قذف السب.

وأمّا قذف الشهادة ، فهو أن يشهد بالزنا ، دون الأربعة ، فإنهم فسقة ، فالتوبة هاهنا ، أن يقول : قد ندمت على ما كان منى ، ولا أعود إلى ما أتهم فيه ، فإذا قال

__________________

(١) الوسائل : كتاب الشهادات الباب ٣٦.

(٢) ج : ما كان عليه.

١١٦

هذا زال فسقه ، وثبتت عدالته ، وقبلت شهادته ، ولا يراعى صلاح العمل.

ويجوز للحاكم عندنا أن يقول لإنسان : تب أقبل شهادتك ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بالتوبة ، وكذلك الله تعالى. هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (١) ولا أرى بذلك بأسا.

ولا يجوز للشاهد ، ان يشهد ، حتى يكون عالما بما يشهد به ، حين التحمل ، وحين الأداء ، لقوله تعالى ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٢) وقال تعالى ( إِلّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٣) ولما قدّمناه من رواية ابن عباس ، عن الرسول عليه‌السلام قال : سئل عن الشهادة ، فقال للسائل : هل ترى الشمس؟ قال : نعم ، قال : على مثلها فاشهد ، أودع.

ولا يجوز للحاكم أن يقبل إلا شهادة العدل ، فأمّا من ليس بعدل فلا يقبل شهادته ، لقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٤) والعدالة في اللغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال ، متساويا. وأمّا في الشريعة ، فهو كلّ من كان عدلا في دينه ، عدلا في مروته ، عدلا في أحكامه ، فالعدل في الدين ، أن لا يخل بواجب ، ولا يرتكب قبيحا ، وقيل لا يعرف بشي‌ء من أسباب الفسق ، وهذا قريب أيضا ، وفي المروة أن يكون مجتنبا للأمور التي تسقط المروة ، مثل الأكل في الطرقات ، ولبس ثياب المصبغات للنساء ، وما أشبه ذلك. والعدل في الأحكام أن يكون بالغا عاقلا.

وقال شيخنا في مبسوطة : فأمّا إن كان مجتنبا للكبائر ، مواقعا للصغائر ، فإنّه يعتبر الأغلب من حاله ، فإن كان الأغلب من حاله مجانبة المعاصي ، واجتنابه لذلك نادرا ، لم تقبل شهادته ، وقال رحمه‌الله : وانّما اعتبرنا الأغلب في الصغائر ، لأنّا لو قلنا أنّه لا تقبل شهادة من واقع اليسير من الصغائر أدّى ذلك إلى أن لا تقبل

__________________

(١) المبسوط : ج ٨ ، كتاب الشهادات ، ص ١٧٩ ، وفي المصدر : ويجوز للإمام عندنا.

(٢) الاسراء : ٣٥.

(٣) الزخرف : ٨٦.

(٤) الطلاق : ٢.

١١٧

شهادة أحد ، لأنّه لا أحد ينفك من مواقعة بعض المعاصي (١).

قال محمد بن إدريس ، رحمه‌الله : وهذا القول لم يذهب إليه رحمه‌الله ، إلا في هذا الكتاب ، أعني المبسوط ، ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا ، لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي ، إلا بالإضافة إلى غيرها ، وما خرجه واستدلّ به ، من أنّه يؤدّي ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ، لأنّه لا أحد ينفك من مواقعة بعض المعاصي ، فغير واضح ، لأنّه قادر على التوبة من ذلك الصغير فإذا تاب قبلت شهادته. وليست التوبة مما يتعذر على إنسان ، ولا شك أن هذا القول تخريج لبعض المخالفين ، فاختاره شيخنا هاهنا ، ونصره ، وأورده على جهته ، ولم يقل عليه شيئا ، لأنّ هذا عادته في كثير ممّا يورده في هذا الكتاب.

فأمّا شهادة أهل الصنائع الدنية ، كالحارس ، والحجّام ، والحائك ، والزبال ، وما أشبه ذلك ، فعندنا أنّ شهادتهم مقبولة ، إذا كانوا عدولا في أديانهم ، لقوله تعالى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (٢).

كلّ من يجر بشهادته نفعا إلى نفسه ، أو يدفع ضررا عنها ، فانّ شهادته لا تقبل ، فالجار إلى نفسه هو أن يشهد الغرماء للمفلس المحجور عليه ، أو يشهد السيد لعبده المأذون له في التجارة ، والوصي بمال الموصي ، الذي له فيه تصرف ، والوكيل بمال الموكل ، كذلك والشريك لشريكه ، بحق هو شركة بينهما.

والدافع عن نفسه ، هو أن تقوم البيّنة على رجل بقتل الخطأ ، فشهد اثنان من عاقلة الجاني بجرح الشهود ، أو قامت البيّنة بمال على الموكّل ، وعلى الموصي ، فشهد الوكيل والوصي بجرح الشهود ، فلا تقبل الشهادة في هذه المواضع ، وما شاكلها ، لقوله عليه‌السلام : لا يجوز شهادة خصم ، ولا ظنين (٣) ، وهو المتهم ،

__________________

(١) المبسوط : ج ٨ ، كتاب الشهادات ، فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل.

(٢) الحجرات : ١٣.

(٣) لا توجد بعينها في المصادر لكن أوردها الشيخ الطوسي « قدس‌سره » في مبسوطة : ج ٨ في باب من لا تقبل شهادته ، ص ٢١٩ وفي الوسائل : الباب ٣٠ من أبواب الشهادات : « سئل أبو عبد الله

١١٨

وهؤلاء متهمون.

لا تقبل شهادة عدو على عدوه ، والعداوة ضربان ، دينية ودنياوية ، فالدينية لا ترد بها الشهادة ، مثل عداوة المسلم للمشركين ، لا ترد بها شهادتهم ، لأنّها عداوة في الدين ، وهي طاعة وقربة ، فهي واجبة ، وهكذا عداوة الكفّار للمسلمين ، لا ترد شهادتهم بها ، لو كانت وحدها ، وانّما ترد لفسقهم وكفرهم ، لا للعداوة ، ألا ترى انّا نرد شهادتهم بعضهم على بعض ولبعض ، وإن لم يكن هناك عداوة ، وهكذا شهادة أهل الحق لأهل الأهواء الباطلة ، تقبل ، لأنّهم يعادونهم في الدين ، فأمّا العداوة الدنياوية ، فإنّه ترد بها الشهادة ، مثل أن يقذف رجل رجلا ، ثم يشهد المقذوف على القاذف ، ويدّعي أنّ فلانا قطع عليه وعلى رفيقه الطريق ، ثم يشهد عليه ، فان شهادته لا تقبل ، وهكذا إذا شهد الزوج على زوجته ، بعد قذفها بالزنا ، فإنّ شهادته لا تقبل ، وما أشبه ذلك ، من المواضع التي يعلم بحكم العادة ، أنّه يحصل فيها تهمة الشاهد ، فأمّا شهادة العدو لعدوّه ، فإنّها تقبل ، لأنّ التهمة معدومة.

من كان الغالب من حاله السلامة ، والغلط منه نادر ، قبلت شهادته ، وإن كان الغالب الغلط والغفلة ، والسلامة نادرة ، لم تقبل ، لأنّا لو قلنا (١) ذلك ، أدى إلى قبول شهادة المغفلين ، ولو لم تقبل إلا ممّن لا يغلط ، أدّى إلى أن لا تقبل شهادة أحد ، لأنّ أحدا لا يخلو من ذلك ، فاعتبرنا الأغلب.

كلّ من خالف الحق لا تقبل شهادته على ما بيّناه ، فأمّا من يختلف من أصحابنا المعتقدين للحقّ ، في شي‌ء من الفروع التي لا دليل عليها موجبا للعلم ، فانا لا نرد شهادتهم ، بل نقبلها ، إلا أن يكون على ذلك دليل ظاهر قاطع ، من كتاب أو سنة متواترة ، أو إجماع ، ويخالف فيه ، ويعاند ، ويكابر ، فإنّه ترد شهادته ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (٢) وهو الحق والصواب ، لأنّه فسق الظاهر ،

__________________

عليه‌السلام عمّا يردّ من الشهود فقال : الظنين ، والمتهم ، والخصم » وفي الباب أخبار أخر فراجعه.

(١) ج : لو قبلنا.

(٢) المبسوط : ج ٨ ، كتاب الشهادات ، فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل.

١١٩

وخلاف الأدلة.

الغناء من الصوت ممدود ، ومن المال مقصور ، فإذا ثبت هذا ، فالغناء عندنا محرّم ، يفسق فاعله ، وترد شهادته ، فأمّا ثمن المغنيات ، فليس بحرام إجماعا ، لأنّها تصلح لغير الغناء.

إذا سمع الشاهد رجلا يقر بدين ، فيقول : لفلان علي ألف درهم ، صار السامع به شاهدا بالدين ، قال المقر اشهدوا عليّ بذلك أو لم يقل ، وكذلك إذا شاهد رجلين تعاقدا عقدا ، كالبيع ، والصلح ، والإجارة ، والنكاح ، وغير ذلك ، وسمع كلام العقد ، صار شاهدا بذلك ، وكذلك الأفعال ، كالغصب ، والقتل ، والإتلاف ، يصير به شاهدا ، وكذلك إذا كان بين رجلين خلف في حساب ، فحضرا بين يدي شاهدين ، وقالا لهما قد حضرنا لنتصادق ، فلا تحفظا علينا ما يقر به كل واحد منّا لصاحبه ، ثم حصل من كلّ واحد منهما إقرار لصاحبه بالدين ، صارا شاهدين ، ولا يلتفت إلى تلك المواعدة ، لأنّ الشاهد بالحق ، من علم به ، فمتى علم به ، صار شاهدا.

فأمّا شهادة المختبي فمقبولة عندنا ، وهو إذا كان على رجل دين ، يعترف به سرا ويجحده جهرا ، فاحتال صاحب الدين ، فخبا له شاهدين ، يسمعانه ، ولا يراهما ، ثم جاراه ، فاعترف به ، وسمعاه ، وشهدا به ، صحت الشهادة عندنا ، وخالف في ذلك شريح فقط.

ويعتبر في شهادة النساء الإيمان ، والستر ، والعفاف ، وطاعة الأزواج فيما أوجب الله تعالى عليهن طاعتهم ، وترك البذاء بالذال المعجمة ، وهو قول الفحش ، والتبرّج إلى أنديه الرجال ، إلا لحاجة ضروريّة.

ولا يجوز قبول شهادة الظنين ، والمتهم ، وقد قلنا أنّ الظنين هو المتهم ، وإن كان اللفظ مختلفا ، فالمعنى واحد ، وهذا في كلام العرب والقرآن كثير ، والظنين هو المتهم بالزور والخيانة.

١٢٠