وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

الفصل الثامن عشر

المذهب الجعفري ما بين ضغوط السلطات

وضروب المذاهب

جلست ذات أصيل أتعرض لمناقشة أحدهم ، كان هو الأستاذ الجامعي عبد السلام الربيعي .. حيث كان قد حاز على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد في بريطانيا وذلك في اختصاص الهندسة المعمارية .. ولقد رأيته مستبصراً منذ أمد ليس ببعيد جداً .. فكان قد ترك مذهب أهل السنّة وبالأخص مذهبه الشافعي وانتمى إلى مذهب أهل البيت ، مذهب الأئمة الاثني عشرية .. سألته ، وذلك حينما ابتدرته بالكلام وأنا أقول له :

ـ « كيف انغرست بذرة التشيع ، بل كيف اعتمل نموها؟ ».

فقال :

ـ « مهما يكن من أمر فقد نشأ مذهب أهل البيت وتكوّن في عهد صاحب الرسالة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أوّل من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام ، يوم غرس دوحة شريعته الغراء جنباً إلى جنب وسواء بسواء ، ولم يزل غارسها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتعاهدها بالسقي والعناية حتّى ثبتت ونمت في حياته ، ثُمّ أثمرت بعد وفاته ، حيث كان يتعاهدها أهل بيته وخلّص أصحابه ، وقد قام كُلّ بما يجب عليه من رعايتها ، وتحمل من نكبات واضطهاد في سبيل حفظها من تلك السلطات التي كانت تحاول القضاء عليها لمحو ذكر آل محمّد عليهم‌السلام ».

٢٢١

بينما تابع حديثه بشغف لم يكن ليكتنزه مع أي أحد ، ولكنّه لما آنس في نفسي مشاعر ودية لمعرفة وتتبع أسباب الحقيقة كان له أن يصرّح بكُلّ ما لديه ، ويبوح بكُلّ ما عنده :

ـ « وقد وقفوا أمام تلك التيارات وقفة إخلاص وإيمان وثبات على مبدأ الحق ، ولم يأبهوا يوماً ما إلى سلطة أو سياسة ، ومرت تلك الأدوار العصيبة المظلمة ، ولم يزل ذلك الغرس ثابت الجذور نامي الفروع يسقى من ماء غير آسن ، حتّى أفرعت دوحته وامتدت أغصانه وأينع ثمره بحفيد النبيّ الكريم ووارث علمه الإمام جعفر بن محمّد الصادق ».

فقلت له :

ـ « والإمام الصادق ، ما كان دوره على وجه التحديد؟ ».

فقال :

ـ « كان الإمام الصادق مهتماً في تلك الفترة المارة الذكر ببث العلوم ونشر المعارف الإسلامية بين طبقات المجتمع ، فأقبل الناس على مدرسته وازدحموا على أبوابها ينتهلون من علومه ، ويقتبسون من أنوار معارفه ، وأقبلت وفود طلاب العلم من الأقطار الإسلامية ، حتّى أصبح عدد تلاميذه والمنتمون إلى مدرسته أربعة آلاف ، منهم أئمة مذاهب ».

ـ « أئمة مذاهب؟ ».

سألته مع أنّي كنت أعلم العلم السابق بذلك ، إلاّ أنّي أحسست بأنّ تعبيره كان يمتد أكثر من هذا وأقصى بعداً. فقال :

ـ « أجل ، كأبي حنيفة ، ومالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، وابن عيينة ، والأعمش ، وغيرهم وكذلك منهم رؤساء طوائف وأعلام الحديث والفقه ».

٢٢٢

ـ « والتآليف في عصره ، ما كان وضعها؟ ».

ـ « وكثر التأليف في عصره ، دون فقه أهل البيت وحديثهم بصورة واسعة ، حتّى أحصى ما دونوه في عصره فكان أربعمائة مؤلَّف لأربعمائة مؤلِّف ممن سمعوا الحديث منه ، فدونوه وعرفت بالأُصول الأربعمائة.

ـ « فبالجملة فإنّ مذهب أهل البيت عليهم‌السلام هو أقدم المذاهب ، وقد تخطى في العصر الأموي تلك العقبات التي حاول الأمويون بها أن يعرقلوا سيره ، ويقفوا في طريق انتشاره ، فضلاً عن مقاومة العباسيين له ، ومعارضتهم لانتشاره ».

ـ « بأي نتيجة يمكنك أن تخرج ، فيما لو درست كتب المؤرخين ..؟ ».

ـ « مثل مَن؟ ».

ـ « مثل ابن خلدون؟ ».

ـ « أود هنا أن أعود للإشارة عما تجناه ابن خلدون على الحقائق التاريخية إذ يصف هذا المذهب بالبدعة حيث يقول في مقدمته : وشذّ أهل البيت في مذاهب ابتدعوها ، وفقه انفردوا به ».

ـ « ذكر مثل ذلك في مقدمته؟ ».

ـ « نعم .. في الصفحة : ٢٧٤ ».

بينما استطرد وهو يقول :

ـ « وليس من الغريب صدور مثل هذا القول من رجل كان يحقد على العرب ويضمر لهم كُلّ سوء ، وليس ببعيد تحامله على سادة أهل البيت من أئمة المسلمين فهو يتعصب عليهم ، ويتجاهل مكانتهم ، هذا مع جهله بمذهبهم فإنّه لم يقرأ كتب المذهب وإنّما قرأ كتب الخصم ، ولم يتصل بزعمائه ، وإنّما اتصل بأعدائه ، فراق له ما سمع من قالة السوء ، واستعذب ما قرأ في كتب المناوئين

٢٢٣

لآل محمّد وشيعتهم ».

ـ « ولكن ابن خلدون ليعد من المؤرخين الكبار؟! ».

ـ « ولعل هالة الإكبار والتقدير لابن خلدون التي أحاطت بشخصيته من قبل بعض الكتاب أبعدتهم عن الوقوف على شخصية هذا الرجل بواقعها والتعرف على ما تضمنته مقدمته من أخطاء ومخالفات للحقيقة ».

فأمعن حينها النظر في وجهي ، ثُمّ أردف كلامه وهو يقول :

ـ « ولقد رأينا دوماً أنّ ابن خلدون موضع إجلال أكثر الباحثين والكتاب ، سيراً على طريقة السلف ، ونجد برغم ما تضمنته مقدمته من علوم في الاجتماع والعمران. إلاّ أنّ ذلك لا يبيح لنا أن نتغاضى عن مواقف وقفها تجاه العرب وحضارتهم ، فيجردهم من ذلك ويسلبهم فضائلهم فيصفهم بأ نّهم أُمّة متوحشة ، وهم أهل نهب وعبث ، بل هم أداة خراب للأوطان التي يتغلبون عليها إلى غير ذلك مما يدلنا بكُلّ وضوح على تعصبه أو تجاهله كما يصفه لنا الأستاذ موسى سلامة ».

ـ « وماذا قال الأستاذ سلامة؟ ».

ـ « إنّه قال : والخطأ البارز في ابن خلدون ، هو تنقصه حضارة العرب ، فإنّه هنا أعمى كامل العمي ، لا يرى بصيصاً من نور ... ، هذا مع أنّي أحتفظ له بخيانات شخصية وثقافية ، فإنّه مثلاً خان معظم الأمراء والملوك الذين خدمهم ثُمّ إنّه سرق كُلّ ما كتبه إخوان الصفا وعزاه إلى نفسه ».

وهنا عاد إلى القول :

ـ « ولا أدل على تجاهله أو تحامله من كلمته هذه في مذهب أهل البيت وصفه لهم بالشذوذ. ولو كان له قليلاً من التأمل لما قال هذا القول الذي لم

٢٢٤

يتوصل إليه بالنتائج العملية ، وهذه الكلمة هي التي بعثتني على خوض غمرات البحث والتعريف على المذاهب ، وعوامل انتشارها ، أسرار نجاح المذاهب الأربعة وأسباب خلودها دون غيرها من مذاهب المسلمين ، فاتضح لنا أنّ ذلك مستند إلى دواعي السلطة ، وإغراء المادة ، التي من أجلها نسي ابن خلدون نفسه ، فجرى قلمه بظلم الحق والحقيقة ».

ـ « وكيف يمكن أن تنظر إلى مثل هذه الأسباب في صدور مثل هذه الآراء من مثل هكذا مؤرخ كبير؟ ».

ـ « إنّه لا يستبعد ذلك من إنسان تربع على سدّة قضاء دولة لا ترغب في إظهار فضل آل محمّد عليهم‌السلام ، أسوة بأخواتها التي سارت على ذلك من قبل ، فهو عبد لسلطانه ، وأسير لشيطانه ».

ـ « وبنظرك ، هل يمكن أن ينبعث مثل هذا الرأي عن نزق وخبث أم ينطلق من شقة جهل وعدم إحاطة؟ ».

ـ « إنّ رأي ابن خلدون هذا لا ينبعث إلاّ عن جهل ، أو عقل أعمى لا يبصر الحقائق ، فيجهل مواقف آل محمّد في الدفاع عن الإسلام ، وتفانيهم فى نشر تعاليمه وتعليم الناس أحكام الإسلام وفرائضه ، ومحاربة ذوي العقائد الفاسدة ، وقيامهم بتعليم الأُمّة مستمدين من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا مجال للشك في ذلك ، ولكن ابن خلدون لتحامله ، فإنّه كان قد نقل كثيراً من الأشياء مبتعداً عن طريق الواقع ، وقد صبها في قالب رغباته وتساهل في إبداء الحقيقة ، وجعلها في طيات الخفاء والكتمان ».

ـ « وكيف يمكنك أن تميز العلاقة بين المذهب الجعفري والدولة العباسية؟ ».

٢٢٥

ـ « كانت سيطرة الطبقة الحاكمة تلجئ المفكرين إلى كبت الشعور ، وتلجم الألسن عن قول الحق ، ومن التجأ إلى المعارضة فقد عرض نفسه إلى السخط وجعلها هدفاً للنقمة ، وبذلك ضاعت أكثر الحقائق ، وأثرت تلك السيطرة على سير المسلمين وتقدمهم لعدم الحرية في الرأي والعقيدة ».

ـ « وبنظرك .. فلولا ذلك لما كان لتلك الحوادث التي أخرت المسلمين أن تحدث أو تقع؟! ».

ـ « بالتأكيد! لقد كان أولئك الحكام يلتجئون دائماً إلى خلق مشكلات يفرقون بها كلمة الأُمّة ، ويثيرون الشحناء ويشغلون الأفكار ، لاستخدام الأكثر لمصالحهم الذاتية ، وقد أجهدوا أنفسهم بربط العقائد في دستورهم الذي يتماشى مع رغباتهم ».

ـ « ما هي أهم مشكلة يمكن أن تتحدد في تاريخ الإسلام؟ ».

ـ « إن أهم مشكلة في تاريخ الإسلام هي مشكلة الخلافة أو الاعتقاد بالإمامة بأ نّه منصب إلهي كالنبوة. فكما أنّ اللّه سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة ويؤيده بالمعجزة التي هي كنص من اللّه عليه فكذلك يختار للإمامة من يشاء ويأمر نبيه بالنصّ عليه ».

ـ « وإذن فالنبيّ مبلغ عن اللّه والإمام مبلغ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ».

ـ « أجل! والشيعة تعتقد أنّ تلك المنزلة لم تحصل إلاّ لعليّ وولده والإمامة متسلسلة في اثني عشر إماماً كما نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك. ولا ترى تلك الخلافة الإلهية لغير علي وبنيه عليهم‌السلام ، ولا يسعني التعرض لبحث الإمامة ولكني أريد الإشارة بهذه العجالة إلى الأدوار التاريخية التي سار فيها شيعة آل محمّد في المحافظة على وصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التمسك بالكتاب والعترة ».

٢٢٦

ـ « وأصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما كان دورهم في هذا المجال؟ ».

ـ « لقد قام أصحاب رسول اللّه في نشر تلك الدعوة في الصدر الأوّل وتحمّلوا ما تحملوا في سبيل ذلك ، وفي أيام الدور الأموي والعصر العباسي حتّى شهدوا وبأم أعينهم ما لقيه آل محمّد وشيعتهم من الاضطهاد والمحنة. ومع ذلك كان لهم الدور في استنباط النشاط والوعي الفكري والعقلي والعمل على إبقاء شعلة الدين وهاجة ».

ـ « أخبرني ، فما كانت نتائج تلك الحركة الفكرية؟ ».

ـ « لقد كان من نتائج تلك الحركة الفكرية الواسعة النطاق والنهضة العلمية التي ازدهرت في عصر الإمام الصادق عليه‌السلام هو انتشار مذهب أهل البيت في الأقطار الإسلامية ».

ـ « وما كان تأثير الدولة العباسية؟ ».

ـ « كانت الدولة العباسية في طفولتها تعارض حركة انتشار المذهب من وراء الستار ، إذ ليس في إمكانها التظاهر في المعارضة ، لأ نّهم في حاجة ملحة لاستمالة أعيان أهل البيت والاستعانة بزعماء الشيعة لتثبت أركان الدولة ».

ـ « وهل كان ثمة شهرة لأيّما مذهب دون آخر؟ ».

ـ « لم تكن هناك شهرة لأحد سوى الإمام الصادق عليه‌السلام والتاريخ يدلنا بوضوح على ذلك ».

ـ « والمذهب المالكي؟ ».

ـ « أما مالك بن أنس فقد كان في حياة الإمام الصادق عليه‌السلام كأحد رجال المدينة ، ولم ينتشر ذكره إلا في سنة ١٤٨ هـ وهي سنة وفاة الإمام الصادق ، وكان ضربه بالسياط واهانته في سنة ١٤٦ هـ أي قبل وفاة الإمام الصادق بأقل من

٢٢٧

سنتين ، وبعد سنة ١٤٨ هـ وجه المنصور نظره نحو مالك وأمره أن يضع كتاباً يحمل الناس عليه ويوزع نسخاً في الأمصار ولا يكون غيره ».

ـ « وما كان غرض المنصور الفعلي من ذلك؟ ».

ـ « لقد كان غرض المنصور من ذلك هو معارضة انتشار مذهب أهل البيت ، لأ نّه ثقل عليه تخليد ذكر جعفر بن محمّد وقيام ولده الأمام موسى بن جعفر بعده ، والتفاف الناس حوله حتّى لقبوه بالعالم وهو هو في زهده وورعه وعلمه ».

ـ « وهل استسلم مالك لمثل هذه العروض والاغراءات؟ ».

ـ « لم يغب عن مالك مغزى هذا التكليف فأجابه : يا أميرالمؤمنين لا تفعل ، أما هذا الصقع فقد كفيتكه ، وأما الشام ففيه الرجل الذي علمته ( يعنى الأوزاعي ) وأما أهل العراق فهم أهل العراق ».

ـ « وإذن فالحبل يمتد أبعد! ».

ـ « فكان المنصور يشد أزر الأوزاعي ويراسله ويلحظ مالكاً ويواصله حتّى ازدحم الناس على باب داره التي أصبحت كأبواب دور الملوك ، بذل جهده بالإنتصار إلى أهل الرأي وهو يأمل من وراء ذلك كُلّه تغليب مذهبه على مبادئ أهل البيت ».

ـ « ولما اشتد جانب الدولة ، ترى ما الذي كان له أن يحصل؟ ».

ـ « ولما اشتد جانب الدولة العباسية وقوي ساعدها ، أظهر المنصور ما كان يضمره ، فأعلن مقاومة أهل البيت ومعارضة انتشار مذهبهم ، وشدد النكير على أهله ».

ـ « وكيف كانت معارضة المنصور والرشيد لمذهب أهل البيت؟ ».

٢٢٨

ـ « كان المنصور يأمل بالإمام أبي حنيفة عندما رعاه بعنايته ونصره وقدمه على كثير من الفقهاء أن يوجد منه شخصية علمية تقف أمام انتشار مذهب يهددها ويشكّل وخطراً عليها ».

ـ « وكيف كان المذهب في عصر المأمون؟ ».

ـ « وفي أيام المأمون كانت الغلبة للمذهب الجعفري في الأقطار بل امتدت دعوة التشيع إلى رجال الدولة أنفسهم منهم الوزراء والأمراء وقواد الجيش والكتاب ، ورؤساء الدواوين ، الأمر الذي دعا المأمون إلى التظاهر بالتشيع ، والميل إلى العلويين ».

ـ « ولماذا فعل مثل ذلك؟ ».

ـ « لأ نّه خشي على زوال ملكه فدعا الإمام على بن موسى الرضا إلى البيعة ، والتنازل عن العرش ، ولكن الإمام ردّ هذه الدعوة علماً منه بأ نّها مفتعلة ، ولكنه تفادى إيقاع نفسه في التهلكة بقبول ولاية العهد قبولاً شكلياً لا أكثر ولا أقل ».

ـ « وقبِل ولاية العهد؟ ».

ـ « وقبِل ولاية العهد بعد أخذ ورد ، وأكثر المأمون عقد المجالس للمناظرة في الإمامة ، وقد نجح بما دبره في سياسته ودهائه ، إذ استمال قلوب الشيعة وأمن ثورة العلويين المتوقعة ، وفاخر علماء الأديان الأُخرى بالرضا ».

ـ « وفي عصر خلافة المعتصم ، كيف كانت الأوضاع؟ ».

ـ « وفي أيام المعتصم التجأ الشيعة إلى التكتم نوعاً ما ، ونراهم يخرجون على الدولة بعدة كاملة ، وقوة لم تستطع الدولة معارضتها ، وذلك عندما استخرجوا جنازة الإمام الجواد في سنة ٢٢٠ هـ عندما حاول دفنه سراً ، ولا يسمح لأحد في تشييعه ».

٢٢٩

ـ « حقاً إنّها لمهزلة! ».

ـ « ولكن الشيعة خرجوا بذلك الموكب المهيب الذي يربو عددهم على اثني عشر الف والسيوف على عواتقهم ، فشيعوا جنازة الإمام رغم معارضة السلطة ».

ـ « وهل قويت المعارضة في أيام المتوكّل؟ ».

ـ « لقد اشتد الأمر وعظمت المحنة في أيام المتوكّل العباسي ، فكان بغض علي وشيعته يأكل قلبه كما تأكل النار يابس الحطب ، وكان لا يذوق طعم الراحة ولعلي عليه‌السلام ذكر في الوجود ، ولشيعته مجتمع زاهر بالعلم محتفظ بكرامته ، مستقل بمواهبه ، منصل عن الدولة. وقد تتبع العلويين حتّى حطّ من كرامة أهل البيت. ولم يسمح لأي أحد أن يذكرهم بخير ».

ـ « المتوكّل يفعل كُلّ هذه الأفاعيل؟ ».

ـ « ولِمَ لا ، وقد فعل أتعس منها آباؤه الأشاوس والذين ظلت كتبنا الدراسية تمجّد أفعالهم وتشيد بصنائعهم .. ونحن كالغفّل لا ندري أين ضاعت مستندات تاريخنا ووثائق أيامنا .. فيدلنا عصر المتوكّل ومن خلال كُلّ ما يمكن ملاحظته في زمانه ، على شدّة بغضه وتحامله على أهل البيت وأنصارهم .. أو حتّى من ينبس ببنت شفة بشيء من مناقبهم! ».

ـ « هل يمكن أن تمثّل لي بمثال ما؟ ».

ـ « إنّ نصر بن علي الجهضمي حدث بحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أخذ بيد الحسن والحسين وقال : « من أحبّني وأحب هذين وأباهما وأُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة » ، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط إلى أن كلمه جعفر بن عبد الواحد بأنّ نصراً لم يكن شيعياً وإنّما هو من أهل السنّة ، فضرب خمسمائة سوط

٢٣٠

وعفي عن الباقي ».

ـ « ويحدثنا المقريزي : إن يزيد بن عبد اللّه أمير مصر ، أمر بضرب جندي تأديباً لشيء صدر منه ، وعندما أحس الجندي بألم الضرب ، أقسم على الأمير بحق الحسن والحسين أن يعفو عنه ، فأمر الأمير بضربه ثلاثين سوطاً جزاء لهذا القسم ، وكتب إلى المتوكّل في بغداد يخبره بخبر الجندي ، فورد الكتاب على يزيد يأمره بضربه مئة سوط وحمله إلى بغداد » (١).

بينما تابع حديثه وهو يقول :

ـ « ولعل النطع والسيف كانت خاتمة المطاف لذلك الجندي. وأمر بضرب أحمد بن محمّد بن عاصم صاحب خان عاصم ألف سوط ، لإتهامه بسب الشيخين حتّى مات ».

ـ «؟!».

ـ « قال في الحضارة الإسلامية نقلاً عن المنتظم : وكانت الحكومة إذا أرادت أن تعاقب شيعياً لمذهبه لم تذكر اسم علي ، بل يجعل سبب العقوبة أنّه شتم أبابكر وعمر ».

ـ « إنّها صور ماكرة لعوب! ».

ـ « وما أكثر من عوقب بهذه الوسيلة. ولكن أنصار المتوكّل وحزبه الذين يرون البغض لعلي وشيعته يقربهم إليه زلفاً. نالوا بذلك إربهم في الدنيا وعقابهم في الآخرة ».

ـ « وإذن ، فعصر المتوكّل ».

____________

(١) تاريخ بغداد ٤ : ١٥٣.

٢٣١

ـ « .. خلاصة القول ، فإنّ المتوكّل اشتد في العداء لأهل البيت والنيل منهم ، واستقدم أبا الحسن الهادي عليه‌السلام من المدينة إلى سامراء في سنة ٢٣٦ وعامله بالشدة والأذى وقد توصل المنحرفون عن آل علي إلى إساءة الإمام الهادي عليه‌السلام فسعوا به إلى المتوكّل وأخبروه أنّ في منزله سلاحاً وكتباً من شيعته ، فهجموا على داره ليلاً ولم يعثروا على أي شيء من ذلك ، وما زال الإمام الهادي عليه‌السلام مقيماً في سامراء إلى أن مات مسموماً سنة ٢٥٤ هـ ، وكانت مدّة إقامته فيها ١٨ سنة ».

ـ « وكيف كان للشيعة أن تتحرك لنصرة أَهل البيت؟ ».

ـ « لقد مرت الأدوار ، وتعاقبت الأيام ، والشيعة يلاقون الأذى ويخوضون غمار الحروب ويواجهون المصاعب ، ويتجرعون من ولاة الأمر ضروب المحن ، كُلّ ذلك في سبيل نصرة آل محمّد عليهم‌السلام ونشر مذهبهم على وجه البسيطة ، وما دفعهم إلى تحمل ذلك إلاّ حبهم لآل محمّد ، وامتثالهم لأوامر النبيّ في المحافظة عليهم ووصاياه المتكررة باتباعهم. ويكفيك ، مضافاً إلى كُلّ ما سمعت من الأدلة القاطعة ، نص الوراثة. فإنّه ليعد وحده حجة اللّه البالغة والأكيدة! ».

ـ « حديث الوراثة ، حدثني به رجاءً؟ ».

ـ « لا ريب في أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أورث علياً من العلم والحكمة ، ما أورث الأنبياء أوصياءهم ، حتّى قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب ».

ـ « حتّى كان للشيعة أن يذودوا عن هذا الباب لأ نّه يؤدي إلى الرسول نفسه .. أليس هكذا اعتقادهم؟ ».

ـ « بلا شك ، ولقد بذل الشيعة كُلّ ما في وسعهم لنصرة أهل البيت الذين

٢٣٢

عنهم يأخذون تعاليم دينهم ، وكانوا في هذه الأدوار يتصلون بمدرسة أهل البيت مهما كلفهم الأمر ، فلا يقعد بهم خوف ظالم ، ولا تحول دونهم ودون الاتصال بهم تلك الارهابات التي اتخذها أعداء آل محمّد وسيلة لفصل الأُمّة عنهم ، فهم من زمان علي بن أبي طالب إلى زمان الإمام الحسن العسكري ، يأخذون عنهم معالم الدين حتّى وقعت الغيبة الصغرى ».

ـ « وكيف كان زمان إمام الشيعة الحادي عشر؟ ».

ـ « كان الإمام العسكري قد جلبه المتوكّل مع أبيه علي الهادي إلى سامراء ، وما زال مع أبيه إلى أن التحق أبوه بالرفيق الأعلى وبقي العسكري مدّة إمامته القصيرة في سامراء ( ست سنين ) في نكد وأذى ، وانفرد بعد أبيه بما يقصده به العباسيون من الإساءة والغض من مقامه ، والتضييق عليه بالسجن إلى أن اغتاله المعتمد العباسي بالسمّ في سامراء لثمان خلون من ربيع الأول سنة ٢٦٠ هـ ».

ـ « أووه ..! ».

ـ « .. ودفن مع أبيه في دارهما حيث قبرهما الآن ، وكان عمره الشريف ثمان وعشرين سنة ».

ـ « وكيف كان انتشار مذهب أهل البيت في ذلك العهد؟ ».

ـ « وفي ذلك العهد ، كان مذهب أهل البيت ينتشر في البلاد الإسلامية ، أصبحت قم من عواصم العلم للشيعة وفيما من رواة حديث أهل البيت عدد كثير ، ومن المؤلفين في الحديث والفقه وفنون العلم جم غفير ، وكذلك الكوفة وبغداد والمدائن وسامراء والشام عاصمة الأمويين كما سيأتي بيانه ».

ـ « أقول : هل تعتقد بأنّ الشيعة التزمت حبّ أهل البيت والتعبد على

٢٣٣

طريقتهم لتعصب ما ومضادة مع الحكومات القائمة على مرّ الدهور والأعصار؟ ».

ـ « إن تمسك الشيعة بمذهب أهل البيت ، لا لتحزب أو تعصب ، ولا لطعن في مذاهب المسلمين أو حط من كرامة أحد من أئمة المذاهب ، ولكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقهم ، لوجوب الأخذ بمذهب أهل البيت لحكم الأدلة القاطعة وتعبداً بسنّة سيد النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولو وجدوا طريقاً للأخذ عن غيرهم لاتبعوه ، ولم يتحملوا المحن في سبيل اتباعهم ، ولكن لا طريق إلى ذلك بل وجدوا الحق معهم والحق أحق أن يتبع ، ولأ نّهم عليهم‌السلام كانوا يمثلون الرسول في خلقه وهديه وورعه وزهده ، فهم عدل القرآن متكاتفين معه يمتثلون أوامره ويسارعون إلى تنفيذه ، واطلعوا على أسرار أحكامه ، ودقائق أطواره والقرآن قد أشاد بفضلهم كثيراً ».

ـ « وكيف كان وقع نشاطات أئمة الشيعة النفسي بين الناس؟ ».

ـ « لقد بذلوا جهدهم في هداية الناس ، كما بذلوا لهم النصح ليرشدوهم إلى طرق السعادة ، وقد نشروا العلم والعدل ، وقاوموا الجهل والظلم ، وليس هذا مجرد فرض وانما هو أمر واقع وحقيقة ظاهرة لا يمكن إنكارها ، ووجد الناس فيهم أئمة هدى : ( لا يخالفون الحق ، ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحق إلى نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية ، فإنّ رواة العلم كثيرة ورعاته قليل ) ».

ـ « وإذن ، كان للامتداد الديني أسبابه في النهوض بمثل هذا التعلق الجماهيري؟ ».

٢٣٤

ـ « أجل ، بالتأكيد! فهم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الوحي ، لم تسمح الأدلة بمخالفتهم والأخد عن غيرهم. وهم عدل القرآن وسفينة نوح باتباع علم الهداية والرشاد. ولقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا دار الحكمة وعلي بابها ، » وقال : « علي باب علمي ، ومبين من بعدي لأمتي ما أرسلت به ، حبه إيمان ، وبغضه نفاق .. « وقال كذلك في حديث زيد بى أبي أوفى : « وأنت أخي ووارثي ، قال : وما أرث منك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ورث الأنبياء من قبلي ». ونص صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث بريدة على أن وارثه علي بن أبي طالب. وحسبك حديث الدار يوم الانذار ، وكان علي يقول في حياة رسول اللّه : « واللّه إنّي لأخوه ، ووليه وابن عمه ، ووارث علمه ، فمن أحق به منّي؟! ».

ـ « هل هذه الكلمة بعين لفظها ثابتة عن علي بن أبي طالب؟ ».

ـ « أجل ، إنّها ثابتة! ».

ـ « كيف تثبت إنّها كذلك؟ ».

ـ « أخرجها الحاكم في صفحة ١٢٥ من الجزء ٣ من المستدرك بالسند الصحيح على شرط البخاري ومسلم ، واعترف الذهبي في تلخيصه بذلك ».

ـ « حقاً! ».

ـ « وقيل له مرة : كيف ورثت ابن عمك دون عمك؟ فقال : جمع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني عبد المطلب وهم رهط ، كُلّهم يأكل الجذعة ، ويشرب الفرق ، فصنع لهم مدّاً من طعام ، فأكلوا حتّى شبعوا ، وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يمس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني عبد المطلب إنّي بعثت إليكم خاصّة ، وإلى الناس عامة ، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي ، وصاحبي ، ووارثي؟ فلم يقم إليه أحد ، فقمت إليه وكنت من أصغر القوم. فقال لي : اجلس ، ثُمّ قالها ثلاث مرات

٢٣٥

كُلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي : اجلس حتّى كان في الثالثة ، ضرب بيده على يدي ، فلذلك ورثت ابن عمي دون عمي » (١).

ـ « وإذن ، فكذلك كان قد ورث عليٌّ رسولَ اللّه؟ ».

ـ « استمع إلى هذا ، لقد سئل قثم بن العباس فقيل له : كيف ورث عليٌّ رسولَ اللّه دونكم ، فقال : لأ نّه كان أولنا به لحوقاً وأشدنا به لزوقاً. قلت : كان الناس يعلمون أنّ وارث رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هو علي ، دون عمه العباس وغيره من بني هاشم ، وكانوا يرسلون ذلك إرسال المسلمات كما ترى ، وإنّما كانوا يجهلون السبب في حصر ذلك التراث بعلي وهو ابن عم النبيّ دون العباس ، وهو عمه ، ودون غيره من بني أعمامه وسائر أرحامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك سألوا علياً تارة ، وقثماً أُخرى ، فأجابهم بما سمعت ».

ـ « وعليه فثمة جواب آخر ، أو إجابات أُخرى غير هذه؟! ».

ـ « ولقد كان ذلك كُلّه غاية ما تصل إليه مدارك أولئك السائلين ، وإلاّ فالجواب : إن اللّه عزّ وجلّ اطلع إلى أهل الأرض فاختار منهم محمّداً فجعله نبياً ، ثُمّ اطلع ثانية فاختار علياً فأوحى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن يتّخذه وارثاً ووصياً ، قال الحاكم (٢) ـ بعد أن أخرج عن قثم ما سمعته ـ : حدثني قاضي القضاة أبو الحسن محمّد بن صالح الهاشمي قال : سمعت أبا عمر القاضي ، يقول : سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول : وقد ذكر له قول قثم هذا ».

____________

(١) الضياء المقدسي في المختارة ، وابن جرير في تهذيب الآثار ، كنزل العمال ٦ : ٤٠٨ ح٦١٥٥ ، الخصائص للنسائي : ١٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ٢٥٥ ، مسند أحمد ١ : ١٥٩.

(٢) المستدرك ٣ : ١٢٥.

٢٣٦

ـ « فما الذي قاله؟! ».

ـ « .. فقال : إنّما يرث الوارث بالنسب ، أو بالولاء ، ولا خلاف بين أهل العلم أنّ ابن العم لا يرث مع العم ( قال ) فقد ظهر بهذا الاجماع أن علياً ورث العلم من النبيّ دونهم ».

ـ «؟!».

ـ « والأخبار في هذا متواترة ، ولا سيما من طريق العترة الطاهرة ، وحسبك الوصية ونصوصها الجلية! ».

٢٣٧
٢٣٨

الفصل التاسع عشر

أئمة المذاهب ما بين المرجعية والخلافة

كنت أذكر كافة أفراد عائلتي وأصدقائي ومن معي ومن غاب عني .. وكافة أقاربي .. ومن كان معي في الجامعة .. لقد ابتغيت الولوج إلى ساحة التحدي واتخاذ القرار ، لكن الخوف صارعني ، ومالأتني أيامه النكدة حتّى جعلت أنواع التحديات لا تألف سوى مناهضتي والالتحام في صفوف غريبة ورهيبة كيما تقفو أثاري وتمنعني من أيّما تحرك أخاله مثبتاً لأ نّها خالته غير ذلك .. فصارت ألوان احداق كُلّ من أعرفهم تناشدني كُلّ مراحل التأمل وعدم التسرع ، وهم الذين صاروا يتفرسون في مطالع رؤياي ، وكأنما جعلت تنبئهم بأصوات هلعة ، ومستقبل خارق للعادة مع أنّه لم أكن لأشعر أنا بأي من هذا ، وأنا الذي صرت أحس بكُلّ ما يزيدني هماً وخوفاً من اتخاذ أيّما خطوة أو الإقدام على أيّما حركة دون تحسب بأسبابها ، أو تحرٍّ لمجرياتها وتنقيب من آثارها المستقبلية ، فلا استشيع وأعود بعدها إلى مذهبي ، ولا اظل هكذا متسنناً ، وأنا لا ارتضي بمذهبي قلما يتسلط على وقع نبضاتي راصداً شطآن دخائلي ، كيف يغدو عليها الموج بمده وجزره ويروح .. إنّما كنت أريد وبنفسي أن أفحص الأُمور ، وانقّب عن الذهب والفضة ، واكشف جزائر اللؤلؤ والمرجان ، كيما لا أكون بآلاء ربي كاذباً حتّى يسائلني : فبأي الاء ربك تكذب يا هذا ، كما أردت أن أطوي كشحاً عن التفكير بأي عالم من علماء

٢٣٩

مذهبي الذين لا أتشرف بلقياهم الآن البتة ، طلبت من اللّه النصرة ، وعزمت على أن اقرأ لوحدي وبنفسي ، فأنا العالم وأنا القارئ ، وأنا الباحث ، دون الحاجة إلى إرشاد الآخرين. فلا أنتظر الموت يأتيني تزورني رحائله ، وأنا لم أرس بسنين ، ولم ألق بمرساتها إلى ضفاف السواحل المغرقة بالنعاس والمثقلة بأحلام البحارة القدماء .. مبرراً مثل هذا ، ومعللا أنفاسي باعذار هي أوهن من خاتمتها وهي أنّه يجب أن القى علماء مذهبي وأسألهم لأنّ اللّه أمرني : ( فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ) .. فمع أنّ هذا الحال هو لا يعدو الأمر الإلهي إلاّ أن لكُلّ حالة شرط وشروط ، ولكُلّ مقام مقال.

فما كان هذا كُلّه ، إلاّ ليستاق رحى أيامي نحو قطر سام ، كيما أغرزه في وقعة تبيح لي أن استرق الفرص الغنيمة ، كيما أسأل أهل الذكر من فوهات عيون الكتب وأُمهات المجلدات والمعاجم ، لاصير بعدها إلى سؤال القلب الأمُ الذي وضعه اللّه إماماً على سائر جوارحي .. حيث ما زالت عالقة في بالي هذه الرواية التي ظللت أتأمل عندها عشرات المرات ، وأنا أسائل الفؤاد علّني أبصر ما لا يبصره ملايين الناس من هؤلاء البشر .. فما كان لينتابني أيّما ذعر لاستشياع الآخرين من أصحابي أو بقاء العديدين على مذهبهم. إذ خلت أن المجد لا يزحزح طود نصبه ، ولا يهزهز عروش أركانه إلاّ فيحاء الرقيّاء وميساء الافاحي والعوذات التي لا يختلس مهلة النهوض بها إلاّ قلب شرح اللّه صدره للإسلام. فما يضير بالمرء أن يتعرف على ما لدى الشيعة ، ويدرس ما يجده عندهم ، ، ويطلع على عقائدهم وتعاليمهم. وبذلك سيتم له أن يدرس قواعد وأُسس دينه هو الآخر ، كالذي جعل يحيط عربته التي تقلّه بكُلّ مراقبات النظر والفحص بعجلاتها وماكنتها ومحركها ، وتفقد زيتها ونفطها

٢٤٠