وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

وإلاّ ، فماذا كنّا ننتظر؟ هل كنّا ننتظر من هذا الفريق أن ينسحب من المباراة ، أو أن يتنازل عن التطلع إلى الفوز ، أو أن يتخلى عن اللعب بجسارة وإقدام ، أو أن ينسحب كُلّياً من الساحة من بعد أن يتركها لخصمه ، أو أن يتراجع عن التفكير بالفوز مطلقاً؟ وإلاّ ، فما كان لمثل كُلّ ذلك أن يعد لعباً مثيراً ، ومسابقة مشوقة! أو أنّه ما كان من احتمال ثان لإجراء مثل هذه المسابقات سوى فوز أحد الفريقين أو تعادلهما حتّى يتقرر الحل والعقد في مثل هذا الأخير ، في أثناء نزال آخر ، أو مباراة أُخرى قادمة ، أو معادلات حسابية خاصّة! وإذن ، فلا بدّ من التسليم إلى قاعدة الفوز والخسارة .. والاعتقاد بضرورة حصولها ( خارج اطار التحيزات التي يمكن أن تحصل من بعض حكام المباريات ، أو حدوث بعض الأخطاء غير القابلة للاصلاح من قِبَلهم ، أو عدم جدارتهم بتولي تحكيم مثل تلك الألعاب والمباراة حتّى ينقلب ظالماً ، وذلك حينما تبعث قراراته على خسارة الجانب الأكثر فعالية ، والأكثر جدارة بالفوز والنصر ) .. لأنّ من يقبل بمقدمات الأشياء ، عليه أن يرضى بنتائجها .. فما كان للمشجع أن يقبل على مشاهدة مثل هذه الألعاب ثُمّ يخر مغشياً عليه ، لأ نّه فوجئ مثلاً بخسارة من يشجعه أو يتحزب له ، وإلاّ فما كان ثمة من معنى لحضوره من الأوّل وبالكامل .. وكأ نّه ما كان يتوقع من الخصم أو الفريق المقابل إلاّ أن يتنازل عن الفوز أو اللعب إجمالاً ، أو أن يمنح نفسه خسارة مصطنعة ، لا يمكن التعبير عنها إلاّ كما يمكن التعبير عن أيّما أضحوكة وطريفة! لماذا؟ أما كانت ساحة اللعب ساحة مشرفة ، كُلّ يثبت عنفوان أهبته واستعداده ، ويلقي بأضواء مهارته حتّى يتفنن كيف يلصق براهين حكمته وقدرته وقوته .. دون إيذاء الخصم ، أو الغريم ، إذا ما كان يبتغي من هذه

١٤١

العروض إلاّ ممارسة الشحذ للطاقات الإسلامية واختبار مختلف الطاقات الاستعراضية ، وإلاّ لو كان الأمر يتطلب عصبية ، لكان لكُلّ لاعب أن يحمل معه سلاحاً ، فيقتل خصمه حالما يتمكن منه دون الحاجة إلى نزال وحضور .. وما كان من الأخيرين الالتزام بالتشجيع دون حضور وروية وإمعان .. فالذي يلعب أفضل هو الذي يستحق الفوز ونوال الجائزة ، والمقام الأوّل .. أو احراز حتّى الثاني في المسابقات .. أو الثالث .. وبالتالي ليس له أن يبقى في الظل أو تبتلعه أجواء الكواليس ، مع أنّ هذا الذي لم يحالفه الحظ ، فما كانت لتشكل له مثل هذه المسابقات إلاّ فرصة لاستعادة الثقة ، ومعرفة ألوان الخلد التي يعيشها أو التعرف على جزئيات ما يملك ، أو اختيار كُلّ ما لديه ، مثل ما يحصل في المشاورات الحربية والتمارين الحية والفرضيات غير الحية ..

كذلك شعرت بحالي مع شيعة لأهل البيت .. كذلك هو حال الأديان والمذاهب عموماً .. فما كان للمرء أن يشتق له لون سعادة حتّى ينبذ الشقاء المر الذي لا يتمثل إلاّ في العصبية المستعملة في قبور القلوب البشرية والمتنوعة في ألوانها وضروب تخيلها الطائفي منها والعرفي والعنصري والمذهبي والشعبي وما إلى ذلك .. حتّى كان لها أن تجر الويلات على الأُمّة الإسلامية نفسها ، وتقسم شعوبها إلى دول ومقاطعات وامارات وممالك .. فلماذا لا تتحد البلدان العربية ، وهم ينادون بالقومية العربية؟ ولماذا لا تتحد شعوب الدول الإسلامية ، وهم ينادون بالإسلام ، وذلك الدين وطريقة المذاهب حتّى غدونا جميعاً وقلوبنا شتى ..

ولماذا تنوعت المذاهب وتعددت طرائقها .. وأصبحنا دعاة للشافعية والحنبلية والمالكية والحنفية دون أن نمنح الفرصة للشيعة كذلك بأن يُدعوا هم

١٤٢

الآخرون علمياً إلى اتباع مذهب خاصّ؟ فلماذا قصرنا السياسة الديمقراطية والحرية الدينية على هذه المذاهب فقط ، وحرم منها حزب الشيعة؟ فهي الأُخرى تشبه حرية الأحزاب ، نبطل حركة ونعمل بحزب وتقدم أحزاب على أُخرى ، ولا نسمح لأخريات بالمشاركة بالتحرك على صعيد الديمقراطية.

كُلّ هذه التساؤلات صارت تضرب في رأسي حد النخاع ، فأصابت مخي وأجهضت على كُلّ عصبياتي السابقة ، وذلك الطريق أكثر فأكثر للعب في سابقه ، خاصّة بالمذاهب والدخول إلى ساحة الملعب للاشتراك في لعبة نزيهة ، لا يمكن أن تتولى إلاّ من يلعب أفضل بما يمتلك من قدسية وطهارة ، وخلق وعظمة في النفس وتفان في الصدق ونهاية في الإخلاص ، وغاية في التفكر والتخطيط .. غير أنّ تساؤلاً عظيماً ألحّ على مخي حتّى أهلكني ، وطوّح بكُلّ معادلاتي ذلك أنّي حين تذكرت آية المباهلة ، سألت نفسي ، لِمَ لم يباهل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصارى نجران بأبي بكر وعمر وعثمان ، مع أنّهم خلفاءه المستقبليون ، أو أن تاريخنا يحكي لنا كذلك ، فيقص علينا هكذا قصة الخلافة؟! بل إنّه ما كان قد أتى بأهل بيته كذلك ، إلاّ بمن عناهم في الحادثة ، وما كانوا إلاّ علي وفاطمة والحسن والحسين. فقلت لنفسي بعد أن تنبهت إلى بعض المسائل وأنا أحدثها :

ـ « إذن ، فما كانوا هم خلفاءه الذين عينهم ، ولو كانوا لأتى بهم .. إذن منزلة أهل بيته أعلى وأعظم .. ».

أضفت وأنا أحدثها :

ـ « وإلاّ فإنّ آية المباهلة .. ».

قالت :

١٤٣

ـ « آية المباهلة .. ما هي؟ ».

قلت :

ـ « هي الآية ٦١ من سورة آل عمران : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) ».

قالت :

ـ « ما هي المحاجّة؟ ».

قلت :

ـ « المحاجة : هي تبادل الحجّة ، وهى ما يقصد به إثبات المدعى سواء كان دليلا حقاً أو مغالطة باطلة ».

بينما عادت تسأل :

ـ « والإبتهال؟ ».

ـ « أما الإبتهال : فهو الاسترسال في الدعاء والتضرع. وقيل : هي كلمة مأخوذة من البهلة أي اللعنة ».

ـ « ما الذي يسبق هذه الآية؟ ».

ـ « يسبق هذه الآية قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ .. ) ».

ـ « وهل احتج اللّه هنا على النصارى؟ ».

ـ « احتج القرآن على النصارى الذين جعلوا ولادة المسيح عليه‌السلام من غير أب دليلاً على كونه ابن اللّه ، فرد اللّه عليهم بأنّ مثله كمثل آدم عليه‌السلام إذ خلقه من غير أب وأُم ، ولم يكن هذا دليلاً على بنوّته للّه تعالى أو ألوهيته ، وكذلك الأمر

١٤٤

في عيسى بن مريم عليه‌السلام ».

ـ « وهل أن النصارى كانوا لا يقبلون هذه المحاجة؟ ».

ـ « إنّ هذه الحجّة بقطع النظر عن كونها وحياً إلهياً هي حجّة عقيلة لا تقبل المعارضة. إلاّ أنّ النصارى كانوا يجادلون ويبالغون في الجدال ، يصرون على الضلال ، فلم يكن ثمة سبيل إلاّ بارجاع الأمر إلى اللّه تعالى حتّى يحكم بالحق وهو خير الحاكمين. ومن هنا فقد أمر اللّه تعالى رسوله أن يعرض عليهم مسألة الإبتهال إلى اللّه كي يجعل لعنته على الكاذبين ، ويعلن صدق الصادقين ».

ـ « وهل كان تحدياً صارخاً؟ ».

ـ « لقد كان هذا التحدى الحسي الكبير يشكل حداً ومنعطفاً تاريخياً كبيراً للدعوة الإسلامية وموقفها من أعدائها ... لأ نّه الدليل الحاسم الذي لا يمكن تكذيبه ».

ـ « ولماذا طلبت الآية دعوة المتباهلين إلى الحضور؟ ».

ـ « فإنّه ولكي يبدو بوضوح ، اطمئنان صاحب الدعوة المباهل ، بدعوته وصدقه ، طلبت الآية أن يحضر كُلّ من المتباهلين خاصته من أهله وولده ، ليبدو الحق جلياً وينكشف صدق النوايا ، في حين يكون الاحجام عن ذلك دليل التزلزل والارتياب. إذ قد يحسم الأمر قبل الوصول إلى اللحظة الأخيرة ، حيث يرى الخصم اطمئنان صاحب الدعوة بدعوته وتعريض نفسه وإحبائه لمثل هذا الأمر الخطير ، فيكشف له أنّه على الحق ، وقد يستسلم له ويرتدع عن ضلاله ».

ـ « وكيف كان للآية أن تعبّر عن ذلك؟ ».

١٤٥

ـ « لقد عبّرت الآية بتعبير موجز عن هذه الدعوة فقال تعالى : ( تَعالَوْا نَدْعُ .. ) بمعنى تعالوا كي ندعو نحن وأنتم خاصتنا وأهلينا للمشاركة في الإبتهال. ولعله لبيان شدّة الاطمئنان قدمت الآية ذكر الأبناء ، ثُمّ ذكرت النساء ، ثُمّ ذكرت الخاصّة ، باعتبار أنّ عناية الإنسان بحفظ ولده الصغير والغيرة على نسائه أشد منها بالنسبه لسائر خاصته ».

ـ « وهل أكدت الروايات على وقوع مثل هذه الحادثة قطعياً؟ ».

ـ « لقد اتفقت الروايات وأطبق المفسرون والمؤرخون على أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا وفد النصارى إلى المباهلة ، وأحضر بنفسه أهل بيته علي وفاطمة والحسنين عليهم‌السلام ، إلاّ أن النصارى أحجموا عن المباهلة عندما شاهدوا هؤلاء الصفوة ، واقترحوا أن يعطوا الجزية ، فقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك منهم ».

ـ « وهل يمكن أن تعود الآية بالفضل الكريم على صاحب الرسالة؟ ».

ـ « إنّ مما لاريب فيه أنّ الآية تدلّ على فضل عظيم وكرامة باهرة لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أمر اعترف به أعاظم المفسرين والمحدّثين من السنّة ، بعد أن اعترفوا باتفاق الرواة وصحة رواياتهم في ذلك فقد قال العلامة الجصاص في أحكام القرآن : نقل رواة السير ونقلة الأثر ـ لم يختلفوا فيه ـ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة ـ رضي‌الله‌عنهم ـ ثُمّ دعا النصارى الذين حاجوه إلى المباهلة ، فأحجموا عنها ، وقال بعضهم لبعض : إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً ، ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة » (١).

____________

(١) أحكام القرآن ٢ : ١٤ ، وأُنظر تفسير الرازي لذيل الآية ، الكشاف الزمخشري ١ : ٣٧٠ ، روح المعاني للآلوسي ٣ : ١٦٧.

١٤٦

ـ « هل لك أن تخبرني : كيف أنّ للآية أن تدل على فضل أهل بيت رسول اللّه؟ ».

ـ « الآية تأمر بدعوة الأبناء والنساء والأنفس ـ بصيغ الجمع في الجميع ـ وامتثال هذا الأمر يقتضي احضار ثلاثة أفراد من كُلّ عنوان لا أقل منها ، تحقيقاً لمعنى الجمع. لكن الذي أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام امتثال هذا الأمر على ما يشهد به صحيح الحديث والتاريخ لم يكن كذلك ».

ـ « وإذن ، فإنّك تعني أنّ لفعله كان ثمة وجه انحصار؟ ».

ـ « ليس لفعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجه ، إلاّ انحصار المصداق في ما أُتى به. فالآية بالنظر إلى كيفية امتثالها بما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدلّ على أنّ هؤلاء هم الذين كانوا صالحين للاشتراك معه في المباهلة وأ نّهم أحب الخلق إليه ، وأعزهم عليه ، أخص خاصته لديه ، وكفى بذلك فخراً وفضلاً ».

ـ « وما الذي يؤكد دلالتها على ذلك؟ ».

ـ « يؤكد دلالتها على ذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له عدّة نساء ولم يأت بواحدة منهن سوى بنت له ، فعَلامَ يحمل ذلك إلاّ على شدّة اختصاصها به ، وحبه لها ، لأجل قربها إلى اللّه وكرامتها عليه؟ ».

ـ « كذلك؟ ».

ـ « كما إنّ انطباق عنوان : النفس على علي بن أبي طالب ، لاغير يدل على أعظم وأكرم مزية ، حيث نزل منزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

ـ « ويؤيده ما رواه الفريقان عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال لعلي بن أبي طالب : « أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ».

ـ « وقوله : « أنت مني وأنا منك ».

١٤٧

ـ « وقوله : « علي نفسي » فمن رأيته يقول في نفسه شيئاً؟! ولقد احتج مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي‌الله‌عنه ـ بهذه الفضيلة يوم الشورى ، واعترف القوم بها ولم ينكروا عليه ، وقد بلغ الأمر من الوضوح مبلغاً لم يبق فيه مجال للإنكار .. واعترف ابن تيمية بصحة الحديث القائل بأن نفس رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية هو علي عليه‌السلام ، إلاّ أنّه جعل ملاك التنزيل هو القرابة. ولما التفت إلى انتقاضه بعمه العباس حيث إنّ العم أقرب من ابن العم قال : إنّ العباس لم يكن من السابقين ، ولا كان له اختصاص بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كعلي. فاضطر إلى الاعتراف بأنّ مناط تنزيل علي ـ رضي‌الله‌عنه ـ منزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليس هو القرابة فقط ، بل سبقه إلى الإسلام واختصاصه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهل يكون اختصاصه بالأمر من قبل اللّه إلاّ لأجل أفضليته من غيره ، وأقربيته إلى اللّه سبحانه كما أن في قوله تعالى : ( نَدْعُ أبْنَاءَنَا .. ) إشارة إلى أنّ لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شأناً في الدعوة إلى المباهلة ، حيث أضاف الأبناء والنساء إلى ضمير المتكلم مع الغير مع أنّ المحاجة كانت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة ، كما يدل عليه قوله تعالى : ( فَمَنْ حَاجَّكَ ). وهذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى في سورة هود الآية : ١٧ ، حيث جاء فيها : ( وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) ، كذلك قوله تعالى في الآية ١٠٨ من سورة يوسف : ( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ). كما يؤيده ما ورد فيها من الروايات ، وهو مقتضى اطلاق التنزيل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلى ـ كرم اللّه وجهه ـ : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ». كما أنّ قوله تعالى : ( فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) ، ليؤيد بأنّ المراد بالكاذبين هنا ، ليس كُلّ من هو كاذب في كُلّ أخبار ودعوي ، بل المراد هم الكاذبون المفروضون في أحد طرفي المحاجة والمباهلة ، فلا محالة يكون

١٤٨

المدعي في كلا الجانبين أكثر من واحد ، وإلاّ لكان حقّ الكلام أن يقال مثلاً : فنجعل لعنة اللّه على من هو كاذب ، حتّى يصح انطباقه على الفرد أيضاً. فالمشتركون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المباهلة شركاء في الدعوى.

وإنّ من الواضح البيّن أنّه مع الاعتراف بصحة الروايات لا يبقى مجال لإنكار دلالة الآية على فضل أهل البيت ».

١٤٩
١٥٠

الفصل الثاني عشر

عبد الرزاق وتداعيات الأيام وذكرى الأنصهار في الإمامة

وفي ظهيرة أحد أيام الشتاء الماطرة ، كانت خطوط المطر تسترسل متوالية وهي تنصب دونما توقف. ظلت صفحات سيبها تمارس ضغطها المتناوب يتراشق على صفحات زجاج النوافذ المحيطة بي ، وهي التي صرت أراها تواصل رشقاتها الصارخة حتّى تستكين قطراتها المنطبعة بأمواهها على سطوح ذلك البلّور الذي رأيته يزداد صفاء شيئاً فشيئاً ، فأخذت الأصوات تزدحم حتّى اكتظت جدران النوافذ بقطرات منتفخة سرعان ما كانت تصير إلى الانبعاج ، حتّى كانت قد استباحتها كيما تعض على سحبها ، وهي تنشد الوصول إلى ميقاتي عبر هذه الألوان المتفتقة في رأسي. فصرت أهوى الانسحاب الانعكاسي إلى منتجع أطوّف عنده بكُلّ مراتع الماضي ، وأروقة الفائت من الليالي والأيام حتّى طلت التشوف إلى مطالع الشمس القريبة من خيال الوهم الذي لا يسبح عند ضفافه سوى شوق الذكريات والغرد وصوت الأشجان العذب ، حينما طِرت إلى دفق الرؤى المتصارخ عند غدير تلك الأوقات المنصرمة لأعود أرتل في ظلال أمواجها ، أرّق أنواع القصيد! إذ حانت منّي التفاتة حتّى تمثلت لي أشباح أهلي ورنوت إليها ، فما كانت لألوان رسومها أن تروم التزيّل إلاّ أن تمور في خاطري ، وبلج إلى محيط سمائي وأنواء آفاقي المتعبة بتفكرات ظلت أوداجي تنوء بهضمها كمن قد صارت

١٥١

تتعرض إلى الاغراء والمخاتلة ، وذلك في إثر وقع ما برحت أعلّق عليه أهمية وأُخرى.

تذكرت أبي ، واستذكرت أحاديث أُمي ، ورنوت إلى أُختي ، وعدت أنظر في وجه أخي ، وأخي الآخر ، وظللت أحاور قسمات وجه أُختي الكبرى حتّى عدت أتطلع إلى سحنة بشرة أُختي الصغرى. وهناك قفزت مقلتاي لتداعب معالم وجه أخي الآخر والآخر ، كما لو كنت أجوب أطراف السماء حتّى صرت أجوب شوارع وأزقة مدينتي .. وذلك بعد أن طوّفت في أروقة المنزل ، وانقلبت أتلو لحن الشغف الحثيث بكُلّ لون جدار وصورة ، وذكرى ولحن حركة ، ونوع أثاث وصبغة ملاءات واضفاءة مريلة حتّى دلفت إلى مستودع أسرار وجودي التي استكان عندها خاطري ، وسما في وجد أطرافها عنق آمالي الذي ما غادرت ولحد الآن سحبه ، تلك الزوايا التي ارتقت جدران غرفتي ، إذ ما فتئت أرقب أطياف الأمس فيها ، وأعيد أغذو سماء حاضري الجدباء بكُلّ ما احتملته ذاكرتي العجفاء ، وانطلقت به فوق ظهورها وهي تجلو الغمام ، وتنوي الاسراع دون التوقف ، ريثما أصل إلى نقطة تضيء لي كُلّ المقاصد ، أرضف من حنينها أضواء سحب عائمة فوق ظلال المجرات التي أثقلت كاهلي ، وأعيت خاطري حتّى شدهت بالي ، وتولهت بأيامها كالمتدلّه بغنجها ودلالها ..

إلاّ أنّي وقعت وبالتالي على مرادى الخفي ، فكانت تسترسل ألحاني مع أوراق تلك الأيام ، بينما جعلت ذاكرتي تنوء بذكر الشيعة وأهلها ، وألوان الخوف من كُلّ ما يميل إلى التطبع بصيغهم البحتة ، والتأقلم في أجواء انطباعاتهم المترامية فوق أديم لا أجهل منه سوى جلّه ، ولا أعلم عنه سوى

١٥٢

خلّه الذي جعل يسقيني الزعاف من حموضته التي ظلت تصادر على مكابدة معدتي لها ، واحتراق جوفي ، وتغضّن بشرتي ، واختلاف قسماتي وانقلاب رسمي ، وانسلاخ محياي الذي ظل يعايش الكبت والغثيان من مجرد التفكير بشيء اسمه التشيع. لماذا؟ لأ نّي ما كنت لأسمع عنهم ، ولا عن اعتقاداتهم إلاّ ما يسيء إليهم ويزري بها! وما كنت لأُبحر في خضم تيارات عقائدهم أو أركب كتف أمواج تعاليمهم الدينية والهج بالسقاية من ركب معالمهم الشرعية وأفانينهم القدسية .. فلا أطري ، ولا أبالغ ، بل لا أراهن ولا أغبن .. إنّما الحقيقة هي التي غدت رائجة ، ترعف بكل غيثها المسموم وريعها الزعاف ، كأنّ المطر قد غدا قانياً ، ولون السحاب قد صار داجياً ، وألوان الذهب قد انقلبت صاغرة ، وهي تنكب على الولوع في احتساء ما تبقى من كأس أيامي المرهقة دون انقضاء ولا ملل. فهل يمكنني أن أشعر بالندم على ما ضيعته في أمسي وكُلّ ما انقضى من وطر في البارحة من الزمان ، أو ما زهدت به في أُمي ، إذ لم أكن أتوسل بأحدهم ، كيما يجيبني على أسئلتي ، وكيف لي أن أسائلهم ، وهم الذين ظلوا يجهلون كُلّ ما يمور في عقول وفكر علماء الشيعة. بل ما يجول في مخيلة وصدور أقل الشيعة قدراً ومستوى .. بل عوام الشيعة! لأ نّا جميعاً كنّا وما زلنا ، نلهو بين أعطاف الحياة ، ونبذل أثمن الأوقات في سبيل اجتلاب أرخص معادن النزهات ومقامات السعادة .. ولو كان في رحالنا الشيء عنهم ، فإنّه ما كان ينقضي إلاّ بالتندر على تعاليمهم والازدراء لعقائدهم ، فضلاً عن امتهان مشاربهم الدينية وصولاً إلى الطريف من القول والاستمتاع بنوادر ما يحكى عنهم ، عبوراً إلى الظريف من الاشاحة بالوجوه عن كُلّ ما يرن جَرْسه طبقاً لهذه الألحان الشيعية أو يتناسب ذوقه مع نزعات تلك الضروب من

١٥٣

الصنوج العاتية ..

ولو كنا قد منحنا ثنتين من الأخوات لاثنين من الأُخوة الشيعة ، فإنّه ما كان لنا أن نشغل أوقاتنا ، ولا نتعب أفكارنا ، ولا للحظة واحدة ، في اسهاب الحديث ، ونأخذ بأطرافه ونعمل على مجاذبتهم ألوانه أو التعرف على نوع عقائدهم ، ولون تلك المساحيق والمعاجين التي تنضح بها معالم مذهبهم وروح عقيدتهم .. بل إنّهما هما الآخران كانا في شغل شاغل عن مثل هذا الحديث حتّى صرت أدور في حلقة قادتني بالتالي إلى الوقوع على دائرة أسباب تردي أوضاع الشيعة وانقلاب أحوالهم مع أنّهم ينطوون ـ وبتصورهم ـ على أعظم العقائد الدينية في العالم ، ذلك أنّهم ضنّوا بما لديهم على الآخرين ، بل إنّهم زهدوا بما احتوته نفوسهم ، وضمته خلائجهم على أنفسهم ، وفلذات أكبادهم حتّى جعلت أرواحهم تفارق لسعة الاتّقاد المذهبية ، لتختلط بعدئذ بمباهج الحياة ومتارف الدنيا المزدهية بالألوان الخلابة ، وأفنان الفنون الجذابة التي بدت أنّها تُنسي الكثير منهم وزن المهام الملقاة على عواتقهم في إعلاء الرسالة المحمدية الأصيلة.

ولو يسمعني أحدهم أحكي بهذا ، لقال عني أنّي قد ولدت شيعياً ، أباً عن جد ، ولست سنّياً ، بل لست أتعبد على نسج المذهب الحنفي والذي ما كنت لأعلم أنّي أتعبد على سياقه ، واستقي من تعاليمه إلاّ بصورة غير مباشرة ، بل إنّي أذكر عن تعاليم وقواعد مذهب أبي حنفية إلاّ ما كنت أجد أبي يفعله حتّى صرت إلى تقليده ، ومن دون مراجعة رسالته أو شيئاً ممّا كُتِبَ عنه أو نُقل ، ولم أجشّم النفس ولا حتى التعرف على حياته أو أعليمته. وكان هذا كُلّه يشككني في طبيعة الدين وثقل تعاليمه على العقل ، وقلة نبوغ علمائه ، وعدم

١٥٤

جدوى تحركاتهم من أجل إثبات أنّهم قادرون على إدارة زمام أُمور الدولة ، وتولي المناصب الحكومية واعتلاء دفة الحكم والتربع على سدّته .. كنت أشك في اقتدارهم ، لا يخالجني أيّما تفكير في مقدرتهم وعنفوان صلابتهم .. لذلك كنت أجد نفسي في غنى عن تعاليم نفس مذهبي ، أو بالأحرى ما كنت أدري بضرورة تقليد أحد أصحاب هذه المذاهب. بل كنت أتعبد على ما أجده لدى أبي وإخوتي حتّى إنّي ما كنت أرى الإسلام ليعدو فهم معانيه أكثر من نيل هذا الحظ اليسير وحسب! أما المذاهب فهي الدين وحده وليس سوى الدين أي دين يعلو اختلاف الرأي في حناياه أو تصطفق أبواب الافتراق في الفتوى ما بين مصاريع بواباته ومطاوي عضادات دعاماته .. فإذا كنت أجدني أقف حيال ديني مثل هذا الموقف ، فما كان ليراني أدهش أي شخص ، وذلك حينما يلفيني لا أحفظ عن الشيعة ، إلاّ ما يعلق في مخيلتي من صور رهيبة ومحجة ليس إلاّ .. كأنّي لا أحمل منهم سوى التنفر من وجوداتهم ووجوههم ، وطريقة معيشتهم ، وكيفيات عباداتهم وألوان طقوسهم ومناسك أيامهم ، ورحلات مجالسهم ، وأصوات مناقبهم وكبحات مثالبهم.

كنت لا أعلم سوى أنّي أحيا في ظل حياة تنتظر منّي المزيد من تقضّي الأيام حتّى تكشف عن جدوى الانتظار وحب القيلولة المتمرس على مغالبة ضروب النعاس ، وصنوف الوسن الحاد .. لذلك كدت أصير إلى ضفاف مذهبي من فلسفة ديني. ، فكيف لا أقف ولأعتى وأقوى من هذا ، حيال مذهب الشيعة حتّى أواكب مسيرة أمواج المياه الضحلة عند الشواطئ والضفاف الراجفة بلسعات المدّ والجزر ليس إلاّ .. فأما الابحار في معاني المذهب الحنفي والغوص في عباب مياه المذهب الشيعي واستخراج لآلئه ، واستنفاد خرائده.

١٥٥

فهو ما كان يجديني أيّما نفع ، لأ نّي ما كنت قد وقفت على أُضحية التعلّق بأهداب الدين كُلّ هذا التعلق ، ولو كنت أحس أنّي في قبالة تعاليمه منتظماً كالعقد في الجيد ، والحبة في السلسلة ، متوالياً مع النظم الأعرافية ، ولو كان لي أن أشذ عن تقبّل الكثير مما له أن يندرج في المحرمات حتّى كأنّي أشبّ عن طوقها دون المراعاة لها ، وأنا أصير إلى الجذلان أقرب مني إلى التعبان الذي له أن يعاني من غبن الأيام وعقد الزمان البالي ، والمتراكمة في محو ظهيرته كُلّ ازدراء للتعاليم التي كنت لا أشك أنّها تنبت في صدري كيراع الشوك المتقافز إلى عين المرء دون سواها من أعضاء بدنه. كنت لا ألوي على شيء سوى تنكب زمان الحرية دون أيّما قيد ووازع ديني. فكيف كان لي أن أركن إلى تفصيل المذاهب السنية ، أو كان لأحدهم أن ينبهني إلى طرائق الدين ووحي المذهب الشيعي الذي ما كنت أسمع عنه إلاّ باسم المذهب الجعفري ، وما كنت أتصور أصحابه إلاّ متزمتين ، أكثر مما أجد أصحابنا يُشعرون المرء بروح التزمت القاهر والتعصب القاتل! حتّى إن أحدنا ليستشعر التقزز من وحي الدين أصلاً ، وكأ نّي كنت أحيا في عهود متناقضة ، تحتلب ألوان السقيم من دون أن أجرأ على محاسبة نفسي واستجوابها .. كيف لي أن أعيش ، هل أعيش في خضم دين ، يفرض عناوين القاءاته عليّ ، ويرسم وجوه علائقه في أطياف مقلتي حتّى يترعهما بالانقياد لكُلّ ما أعلن عنه ، والاستباق صوب كُلّ ما ثابر لأجله ، والانصياع لكُلّ ما جاء به؟ وما كان لمثلي أن يقارن بين النعم التي غدا يجدها تتقلب هي بين أذرعه ( ومن قبل أن يتقلب بين طياتها ، ويتقافز بين مطاويها .. ) وبين مصاديقها الدينية ومطلقاتها الشرعية ، هل هي وفيما لو عرضت على عقائد الدين ، وتعاليم الشرع ، ستخضع إلى الاختيار والفحص

١٥٦

والامتحان ، ليختزل الدين منها ما أراد ، ويشطب منها ما لا يريد حتّى كأنّه يصادر على عقابي ، واستجلاء كُلّ شبابي المتطرف ، ليصنع منه وقفاً على صور اشباع كُلّ أهدافه ، والامتلاء حتّى الرأس بكُلّ ضيق يمكن له أن يصدني عن بلوغ سعاداتي المادية أو حتّى استمتاعاتي المغالية .. إذ ما كنت أدقق في الأُمور ، ولا كنت أتعقب كُلّ ما أفعله ، أو أراه يجري ، فأبلغ بنفسي درجة تحاول فيها أن تسأل : كيف لها معالجة فلان قضية؟ أو كيف لها أن تدرج على هضم تلك المسألة؟ أو هل لها أن تطوي كشحاً عن فعل كذا من الأُمور ، أو أن ترى إلى الحسان يتحركن في الطرقات ، أو أن تسترسل في الاستماع إلى كافة أنواع الأغنيات ، وهي تبالغ في أن تترع سمعها ، أو أن تدعني أسائل الربّ والخالق : ترى هل يسمح لي أن لا أهتم بالدين إلاّ بظاهره؟ وما كان غير ذلك هو لا يحفل إلاّ بصدق النية ، فإن طهرت ، طهر ما سواها ، وما كان اللّه ليحاسب عباده على ما يفعلون ، إن صادقت نياتهم على كُلّ طريق من كؤوس البراءة .. ولو أنّي كنت أجد نفسى فقيراً إلى علوم الدين ، ولستُ بالذي انطوى على عقلية فتاكة في هذا المضمار ، إذ ما كان لي أن أفهم الكثير من المسائل ، ولا كان لمثلي إلاّ أن يجهل العديد من اقدار الشرع وأقوات العقيدة الحقة .. ومداخل التاريخ الإسلامي.

فلم أسمع عنه إلاّ القليل ، فضلاً عمّا كان يتلى على مسامعنا في قاعات الفصول الدراسية ، وما كنت أحفظه واتتبع قراءته في دروسي المنهجية .. كما أنّي ما كنت لأشرع في التاريخ أيّما لون من المرارة والمأساة ، وأنّ كُلّ ما سطّر في كتب التاريخ هو الصحيح ، ليس إلاّ ، وأنّ كُلّ ما عبرت عنه أوراقه وصحائفه ولو احتملت كُلّ الأذى والقهر للشعوب والأنفس ، فإنّها لتعد من

١٥٧

ضمن الافعال التي ليس لها أن تغضب الربّ ، وتثير حفيظة أملاك السماء ، لأنّ للحاكم المسلم مطلق الصلاحية في التصرف بأحوال رعيته ، والتحكم بسائر شؤون أفراد شعبه ، وليس لعوام الجمهور إلاّ أن يتحلقوا حول تعاليمه ، وينطقوا بما يقول ويردد ، من بعد أن يقبلوا بها كما يقبلوا بمتن ونصوص المعصومين من الرسل والأنبياء .. فضلاً عن الإذعان لمقالاته. كما تدغن قلوبهم إلى كلام الخالق وآيات قرآنه ..

إذن فما كان لي أن أقف موقف الباحث عن أُسس دينه ، ويتحقق من صحتها ، فلقد تكفل بها الآباء عنّا ، ولو أنا لم نكن نمنّي النفس في سؤالهم عن ذلك ، أو نكلف الرأس عناء الاستفهام عن ذلك ، لأنا كنّا نحس أنّهم يشاهدون علماء مذهبنا ، وما كان من أولئك إلاّ أن يتنكبوا كُلّ المعاجم والمراجع الكتبية ، ولا ينطقون على المنابر العالية إلاّ بما حفلت به صدور آبائنا ، وحفظته أذهانهم ، عن ظهر قلب ، من كُلّ ما وجدوه محفوراً في الكتب .. فما كان لنا بالتالي أن نلفي أيّما ضرورة تنبلج لزهوات أرواحنا حتّى تصارعنا وتستاقنا إلى ضرورة التنقيب عن كُلّ شيء والكشف والبحث في كُلّ ما أودع وفات الكتب ورصّت حروفه في داخل صحائفها ، وانتعشت عبائره بين أسطر مخضرمة في ألوان طباعاتها القديمة والجديدة ، عبقة بكُلّ أفانين الروايات التي كنت أخالها مقدسة. وما كان لنا إلاّ أن نتعقب ، وكما له أن يحصل لأبي كذلك حين يكون له أن يتفحصه من أحاديث الدعاء وطلب الرزق ، وروايات الأخلاق في بعض الكتب التي كان قد ابتاعها بطريق الصدفة ، أو أتفق لنا أن حصلنا عليها كهدية كنا قد تلقيناها من أحدهم ، أو جعلنا أطراف الحظر تنال منها ما يناله منها غيرنا حينما يبتاعها رغماً عنه ، وذلك عندما تركبه لحاظ

١٥٨

هوس جارف ، ما كان هو إلاّ أشبه بسيل عرم لا يبغي منه سوى شراء هذا الشيء أو الكتاب ، لأنّ نفسه كانت قد علقت بالحصول عليه ليس إلاّ .. وإذن ، فلقد غدت علوم الدين وبالنسبة لي كعلوم الفلسفة! إذ لا يسعني الوقوف إلاّ عند شواطئ سواحلها ، وبذلك ما كنت إلاّ لأخطئ الطريق ، فكيف كنت أجد لزاماً علي وفي مثل تلك الظروف أن أنظر في عقيدة الشيعة ، وأبحر في عباب أمواج علومهم وعقائدهم ، كيما أستجلي غيوم الحقيقة ، وأقع على كأسي المترع عزة وجلالاً! وأنا ما زلت لم أقدم على فعل مثله في إزاء ديني ومذهبي. فلم أكن عندها لأحفل بإنفاق مثل هذا الوقت لمثل هذه الأعراف .. بل ما كنت أجد من يسرف في مثل ذلك إلاّ مهذاراً ، مبدداً لوقته الثمين ، مضيّعاً لاحلى أيام شبابه وأجمل سني عمره! وذلك حينما كنت أرى منه ما أرى من إبحاره في غمار مطالعاته المكثفة لمختلف لكتب الجامعية والدراسية ومراجعها العلمية ، وانكبابه على غيرها في داخل ردهات وقاعات المكتبة العامة في الجامعة نفسها .. تحلقاً منه حول مجال استنطاق أقصى ما يكون من دقائق العلوم والاستحواذ على أكثر ما له أن يناله في اختصاصه .. وذلك حينما كنا في الجامعة إذ ما كان لنا إلاّ أن نلهو ، ولا نتبع آثار المطالعات الخارجية. فكيف كان لي أن أتبع أثر المطالعات والأبحاث العقائدية؟ وكيف كان لي أن أتميز أثر مثل هذه القراءات والمتابعات الدينية والخاصة بمذهب هو غير مذهبي. بل إنّ له أن يشوب فكري بأكثر من شائبة وأخرى إلى أن واجهني صاحبي عبد الرزاق في ذات يوم ، وهو الذي كان زميلي على مقاعد الدراسة الجامعية .. وذلك حينما انتابت ذهني مسألة الاصطلاح حول إمامة علي بن أبي طالب .. حتّى استرعتني كُلّياً! وهل أنّه إمام حقاً؟ وهل أنّ الإمام

١٥٩

شيء غير عادي حتّى أصاب بالرعب من اسمه ، وكأ نّه لا يجدر إلاّ باللّه وحده! وكيف يمكنه أن يلتصق باللّه؟ أي ماذا سيكون معنى هذه الكلمة حينما يكون لها أن ترتبط بكلمة اللّه؟! إذ إنّه ما كان منّي أن أسمع كلمة الإمام حتّى اُرعب ، وأقول : إنّ الشيعة قد جنحت إلى الكفر. وإن كنت اسمع عنهم ، بأ نّهم يلصقون كلمة عليه‌السلام بأسامي أئمتهم حتّى يصيروا يلحقونها بها كواحدة من المستلزمات المسلّمات ، فإنه كان يستبد بي لهب الفزع حتّى أحدث نفسي بأ نّهم قد غلوا ، وتجاوزوا حدود الكفر بأقصى معانيه وأبعد حدوده .. إلاّ أنّي الآن ما كنت لأستنطق حجب المجهول وأستار الماضي ، إلاّ بشيء يبحث له عن متنفس من الجواب الناجع ، والذي له أن يلحق بأضواء أسئلته التي جعلت تترى دون هوادة ، وهل لأيما أحد أن يشك بعد ذلك في مثل هذا الأمر؟! حيث كان صاحبي هنا الآخر الذي زاملته في هذه البناية قد صرح لي ، بأن هذا السلام هو أبسط المؤهلات التي يمكن أن تحترم بها الآخرين. فهل لك أن تدع السلام على من تعرفه ، وذلك حينما تراه ، أو على جمع خاصّة عندما يكونون من المعارف ، وذلك حينما تدخل عليهم؟ كذلك هو الحال مع .. السلام هذا ..

١٦٠