وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

وتكسير جمجمته كيما يتحرر ويصل إلى وجوه أهله ويراهم! وذلك حينما كان قد حكم على مثل هذا الشخص بالسجن مدى الحياة مع الاشغال الشاقة ، ومن دون إعطائه الرخصة في أيّما لقاء ، أو مواجهة مع أهله حتّى صار الأخيرون ينأون عنه. فكيف إذا ما كان هذا السجن قد انتصب في قوقعة وطن آخر ، قد امتدت إليه أعناق الغربة كقضبان السجن! تثلم جباه زجاجاته التي انتفخت والموضوعة إلى أعلى من رأس السجين ، ليجدها بالتالي عنقود عنب حتّى يخالها كذلك ، ليبصرها ومن بعد ذلك زجاجة مصباح ، قد جعل ضياؤه ينوس على محياه ، يذكره أضواء مدينته الغائمة ، والغارقة في أُتون الأحراش ، خلف الكثبان المتصارعة إلى ما وراء الطبيعة المنزلقة أوراق شجيراتها من على أعواد أغصانها ، وهي تتجاسر على هدم معاقل تلك الجبال ، وصرح غيرانها ، لأ نّه تحجب ضوء مدينته عن آفاق عينيه ، كيما يستنيم لحظات عند مصباح يتدلى بنوره على عتبة باب بيته ، حيث الأهل والأحبة والرفاق هناك ، فهم ما زالوا ينتظرون مجيئه ، ويشبعون لوح الباب بلمحات من آماق أفئدتهم قبل أعينهم النابضة برحيق ينبع من القلب .. وفجأة ، وإذا بقاسم وكأ نّما كان قد أخبره السجان ، أنّه قد أُفرج عنك! وثمة من بطاقة سفر ، وتأشيرة عودة إلى وطنك ، سيكون بإمكانك الحصول عليهما ريثما ترتدي ملابسك ، وتستعد للسفر ، وتتهيأ للرحيل! وإذا بقاسم الذي حكم عليه بالموت طوال الحياة ، ينقلب إلى إنسان قد حكم عليه بالحياة أبد الدهور .. فلقد غدا قاسم يرتشف من ماء الحياة؟ قد صار يتوضأ وضوء الشيعة ، حتّى خلته قد نال وساماً ، ما كان قد طال نواله والحصول عليه ، ولا حتّى جده ولا أبوه! قد وجدته منح ترخيصة ولوج إلى فردوس الجنان حيث الحور الحسان والولدان المخلّدون ،

١٢١

ونيل كُلّ ما لذ وطاب ، والحصول على كُلّ غرفة وغرفة ، والقعود على كُلّ أريكة وأُخرى .. وكأ نّه قد نبذ الموت ، واقتنى عنصر الحياة ، وحاز على مفعول البقاء ، حتّى منحه الوجود بهجة أبدية .. بينما ما كان منّي إلاّ أن أغامر في التدخل ، وأنا أحاول التصدي لهذا الصنيع ، وأواجه قاسماً بألوان الخطاب الذي يجعل منه يصحو ويتفقد الخطب الذي أوقع نفسه به ، بل المصيبة التي أصابني بها وجرني إلى وهاد فخاخها. قلت في نفسي :

ـ « قاسم! إنك منافق ، تغريني بالشيعة حتّى إذا ما أوغرت صدري عليهم ، التحقت بركبهم ، ونبذت رحلي ، وذروت الرماد في عيني حتّى تركت خيلي تصهل ليلا لوحدها. لاُرِيَنَّكَ ما لم تره عيناك حقاً .. سأكيدك حتّى في يوم القيامة .. ».

وفي لحظة واحدة تذكرت ما كان يحدثني به حتّى جاءني في يوم من الأيام ( ولقد كان ذلك اليوم ... أوه تذكرت .. كانت العلامات قد بدت عليه منذ ذلك اليوم ، وأنا الغافل ، لم أكد أتبين ما ألمّ به ، ولم أشعر أنّه كان يتحرك بإتجاه التشيع والانقلاب على نفسه والتغير .. حتّى إذا ما أصبح كذلك نسيت مثل ذلك اليوم ، وتعاميت بل غفلت حقاً عن أنّه كان قد وقع تحت تأثيرهم ومنذ ذلك الوقت حتّى إذا طلع علي بثوب آخر ، خلته قد أظهر ما لم يبطن وأبطن ما لم يظهر بالفعل! إلاّ أنّه لربما ما كان كذلك لأ نّه في ذلك اليوم وفد علي ) وكأنّ الهمّ قد كاد أن يصرعه حتّى ابتدرته متسائلاً عن سبب تردّي أحواله ، فأجابني :

ـ « هل حقّاً نحن على خطأ؟ هل حقّاً كُلّ أولئك العمالقة من الصحابة كانوا خاطئين؟ هل أنّ أبا بكر ما كان له الحق في أن يتصدر أمر هذه الأُمّة ، أم أنّ

١٢٢

الخليفة عمر بن الخطاب ما كان له الصلاحية في أن يحكم الدولة الإسلامية ، وذلك أنّ في الصحابة من هو أعقل منه ، وأفصح وأعلم .. وهل أنّ عثمان بن عفان كان غير جدير بالخلافة؟ ».

فقلت له :

ـ « ما الذي تريد قوله؟ ».

قال :

ـ « ما أُريد أن أقول أيّما شيء ، إنّما أردت الإفصاح عن لون الحقيقة ، أيمكن أن يكون لونها أزرقاً ، وهو في الحقيقة أسود ، أو نراه أبيضاً وهو في واقعه على الضدّ من الأوّل؟ ».

بينما تابع وهو يقول :

ـ « إنّي قرأت وجعلت أمعن في دراساتي ، ومطالعاتي حتّى صرت أتقلب ما بين موضوعات عنت أساساً في درء مقاليد الحكومة عن هؤلاء ، وسعت جهدها في ذودهم عن رحابها ، بل كرست كُلّ ما لديها من قوة في إفحام القارئ بأنّ الحق مع الخليفة الرابع فقط لا سواه ».

ـ « علي بن أبي طالب؟! ».

ـ « أجل ، فهذه المسألة مسألة حساسة للغاية ، فهي التي جعلت من دفة الحكومة تستدير إلى أيّما جهة أرادت! ».

ـ « انتبه إلى كلامك؟ ».

ـ « أنا لا أقول بذلك ، إنّهم يعبرون عنه وبكُلّ صراحة .. بل إنّهم قد أحضروا من الأدلة والبراهين ما يمكن أن يحيا به الموتى .. ».

ـ « ماذا تقصد؟ ».

١٢٣

ـ « وهذا الذي أزعجني وأرّقني ، فأجهز على نومي ، وأحاله إلى يقظة في يقظة ، .. إنّهم يستدلون علينا من كتبنا ، بل إنّ الواقع يقضي .. يفيد بأ نّهم ما كانوا ليدينوا أهل السنة إلاّ من أفواههم ».

ـ « من فمك أُدينك! ».

فالتفت إليّ وقال :

ـ « دعني أحدثك بما لدي ، وأفيض عليك مما أترعت به .. فلئن استطعت أن تأتيني بأعظم منه ، فائتني! ».

فقلت :

ـ « هات ما عندك ، ستجدني صابراً ، وكُلّي آذاناً صاغية ».

فقال :

ـ « سأصرح لك بعشرة فضائل لعلي بن أبي طالب ، ليست لأحد غيره .. حسبك من النصوص بعد حديث الدار ، ما ققد أخرجه الإمام أحمد ».

 » قال : عن عمر بن ميمون ، قال : إنّي لجالس عند ابن عباس ، إذ أتاه تسعة رهط ، فقالوا : يا بن عباس إمّا أن تقوم معنا ، وإمّا أن تخلو بنا من بين هؤلاء ، فقال ابن عباس : بل أنا أقوم معكم ، قال : وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى ، قال : فابتدؤوا ، فتحدثوا ، فلا ندري ما قالوا ، قال : فجاء ينفض ثوبه ، ويقول : أف وتف ، ويقول : وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل ليست لأحد غيره .. وقعوا في رجل قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأبعثن رجلاً لا يخزيه اللّه أبداً ، يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه وسوله. فاستشرف لها من استشرف ، فقال : أين علي؟ فجاء وهو أرمد ، لا يكاد أن يبصر ، فنفث في عينيه ، ثُمّ هزّ الراية ثلاثاً ، فأعطاها إيّاه ، فجاء علي بصفية بنت حيي.

١٢٤

ثُمّ بعث رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلاناً بسورة التوبة ، فبعث علياً خلفه ، فأخذها منه ، وقال : لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبني عمه : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ قال وعلي جالس معه فأبوا ، فقال علي : أنا أواليك في الدنيا والآخرة ، قال : أنت ولييّ في الدنيا والآخرة ، قال فتركه ، ثُمّ قال : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة؟ فأبوا : وقال علي : أنا أواليك في الدنيا والآخرة ، فقال لعلي : أنت ولييّ في الدنيا والآخرة. قال ابن عباس : وكان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة.

وأخذ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثوبه ، فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين ، وقال : ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ). قال : وشرى علي نفسه ، فلبس ثوب النبيّ ، ثُمّ نام مكانه. وكان المشركون يرمونه ، إلى أن قال : وخرج رسول اللّه في غزوة تبوك وخرج الناس معه ، فقال له علي : أخرج معك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا. فبكى علي ، فقال له رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه ليس بعيد نبي ، إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي » (١).

وقال له رسول اللّه : « أنت وليّ كُلّ مؤمن بعدي ».

وسد رسول اللّه أبواب المسجد غير باب علي ، فكان يدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريق غيره. قال : وقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كنت مولاه ، فإنّ مولاه علي .. ».

ـ « إنّ الأمر محير ، هل تعتقد أنّ كُلّ هذا له أن يعد دليلاً قاطعاً على

____________

(١) صحيح البخاري ٣ : ٥٨ باب غزوة تبوك ، صحيح مسلم ٢ : ٣٢٣ وغيرها من المصادر.

١٢٥

حكومة علي بعد الرسول؟ ».

ـ « إنّه لا يخفى ما في ذلك أجمع من الأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة ، التي تؤكد أنّ علياً ولي عهده ، وخليفته من بعده ، إلاّ ترى كيف جعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليّه في الدنيا والآخرة؟! ».

ـ « تعني حينما آثره على سائر أرحامه؟ ».

ـ « أجل لقد آثره! ».

ـ « أو تعتقد بأنّ مثل ذلك يعد دليلاً؟ ».

ـ « وكيف لا ، وقد أنزله منه منزلة هارون من موسى ، ولم يستثن من جميع المنازل إلاّ النبوّة ، واستثناؤها دليل على العموم ».

بينما أردف كلامه ، وهو يقول :

ـ « وأنت تعلم أن أظهر المنازل التي كانت لهارون من موسى وزارته له وشد أزره به ، واشتراكه معه في أمره ، وخلافته عنه ، وفرض طاعته على جميع أُمته بدليل قوله : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ). وقوله : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) ».

ـ « إلاّ أنّ هارون مات في زمان موسى؟ ».

ـ « إن هذا لا يدفع ذلك ، بل إن لمثل مؤاخذتك هذه أن ترفع بآيات النقص إلى رسول اللّه موسى .. وإلى اللّه بالتالي ، ذلك أنّه قد آتاه سؤله في شخص له أن يرحل إلى جوار ربه ، ومن قبل أن يرحل موسى نفسه! وهذا مدفوع بنفسه! لأنّ قوله عز وعلا : ( قَدْ اُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ) لا يمثل إلاّ كُلّ حقيقة واقعية في السؤل. لأنّ موسى عليه‌السلام كان قد أفضى بأسرار التوراة والألواح إلى يوشع بن نون

١٢٦

وصيه وفتاه ، والقائم بالأمر من بعده ، ليفضي بها إلى أولاد هارون ، لأنّ الأمر كان مشتركاً بينه وبين أخيه هارون عليهما‌السلام. إذ قال تعالى حكاية عن موسى في دعائه حين أوحى إليه أولا : ( وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) ، وكان هو الوصي. فلمّا مات هارون في حال حياة موسى انتقلت الوصية إلى يوشع بن نون وديعة ليوصلها إلى شبير وشبر ابني هارون قراراً. وذلك أنّ الوصية والإمامة بعضها مستقر ، وبعضها مستودع ».

 » ولا ننس قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الحديث : « أنت ولي كُلّ مؤمن بعدي » ، فإنّه نصّ في أنّه ولي الأمر ووليه والقائم مقامه فيه ».

ـ ومثله الحديث الوارد في قضية بنت حمزة حين اختصم فيها علي جعفر وزيد ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا علي أنت منّي بمنزلة هارون » (١).

ـ « وكذا الحديث الوارد يوم كان أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح عند النبيّ وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متكيء على علي فضرب بيده على منكبه ثُمّ قال : « يا علي أنت أوّل المؤمنين إيماناً ، وأوّلهم إسلاماً ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى » (٢).

ـ « وثمة الأحاديث التي وردت يوم المؤاخاة الأولي ، وكانت في مكة قبل الهجرة حيث آخى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين خاصّة ».

ـ « ويوم المؤاخاة الثانية ، وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر ، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار ».

ـ « وفي كلتا المرتين كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصطفي لنفسه منهم علياً ، فيتخذه من دونهم أخاه ، قال ابن عبد البر في ترجمة علي من الاستيعاب : آخى

____________

(١) الخصائص للنسائي : ١٩.

(٢) الجزء السادس من الألقاب للشيرازي.

١٢٧

رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين ، ثُمّ آخى بين المهاجرين والأنصار ، وقال في كُلّ واحدة منها لعلي : « أنت أخي في الدنيا والآخرة ». وقال : وآخى بينه وبين نفسه » (١).

ثُمّ قال :

ـ « إن الأُخوة الذين جعلوا يستبصرون في هذه الأيام ، فإنّه ما إن يستبصر حتّى يعاجل إلى إفراغ كُلّ ما حفظه ودرسه ، بل يقفز وبكُلّ سرعة في وسط الميدان ، كيما يغرق أذهان العالمين من حوله بكُلّ ما توصل إليه ، ويعبئ عقولهم بكُلّ استنتاجاته ومغامراته الأبحاثية ، ودراساته .. بل إن الطريف أنّه يحكي لهم قصة تشيعه ، ويستذكر أيامه في هذا المجال ، وكأ نّها مذكرات النضال السلبي .. ».

ـ « وليكن .. فإن مناقشة هذه المسائل بالنسبة إليّ هي ما كانت إلاّ أمراً عادياً بحد ذاته ، بشرط أن تقوم بين أهلها ، لا بين رعاع الناس وهمج القوم ، ولتغمر مجالسها أذواق الخلق الطيب ، وتعمّ جلساتها أوراد الحب والوئام .. فإذا لم نبحث فيها اليوم ، فمتى سنبحث في شؤونها ، أننتظر أحفادنا أن يقوموا بذلك أم نتطلع متّى تحل سنوات البرزخ فنعمد إلى تدارسها فيما بيننا؟! ».

بينما التفتُّ إليه ، وأنا أقول :

ـ « وأنا الآخر ، فإنّه بمستطاعي أن أوظف القرآن للدفاع عن مصالحي وأرائي واصطنع منه أداة تشارك في الذود عن مسار الأهداف التي أُريد اقناع الآخرين ومن خلالها بضرورة صحتها ، وذلك عن طريق الاسترسال في

____________

(١) السيرة الحلبية ٢ : ١٢٠ ، كنز العمال ٥ : ٤٠ ، ٦ : ٣٩٠.

١٢٨

استخدام آية آية ، وحسب ما أري ، واعتقد بأ نّها تعني كذلك ، وتوحي إلى هذا المعنى ، أو تدلّ على ذاك ».

ـ « إنه يخبرني عن أسباب النزول حتّى يجعلني أشك في أن القرآن هو كُلّه ما نزل إلاّ لأجل علي وأولاد علي .. ».

ـ « أجل إن كتبهم هي حتماً لتعج بمثل هذه الإفاضات .. ».

ـ « أية إفاضات يا هذا؟ ».

وعندها كأني كنت قد وقعت على أسباب تكدره ، وذلك عند أول لحظات رأيته فيها وهو حانق مغضب ، مغبر الطلعة ، قاتم اللون ، داكن البشرة ، مكظوم الهيبة ، معقود الحاجبين ، ساهم في فراغ ليس يعب منه حتّى ينصرف إلى إطراقة أُخرى يفرغ لها ، عندما يصير يبحر في أواذي موضوعها .. لحظتها توقفت عن الكلام ، وواخذت أدير الفوهة ، وأبعدها عن مجالنا كلانا ، لأتمكّن بعدها من سبر غور أعماق وباطن أفكار هذا الأخ العزيز ، والذي غام في الدخول في لحجج وعباب موج البحث ، متوغلاً ما بين طيات هذه القضايا ، مسترسلاً في الأبحار عبر تيار لا يكتنفه سوى غمار مثل هذه المسائل والابحاث .. تابعت كلامي من جديد ، وأنا أحاول أن أجلي غمام الحزن من أمام عينيه ، فقلت له :

ـ « أقول : دعك من كُلّ هذا ، وانصرف عن الخوض في هذه الأبحاث العقيمة. قل لهم لكم دينكم ولنا ديننا ، فأنتم في وادي ونحن كذلك في واد آخر. ولنكن أصحاباً ، ولتذهب كُلّ هذه الأسباب بعيداً عن محاوز مناقشاتنا وأوقاتنا التي نقضيها مع أصحابنا من الشيعة ، لتزهر علائقنا معهم وهي تنطق بأريجها تحت وقع نبضات الأفئدة المسلمة ، كُلّ منا يود الآخر ، ويهوى أن

١٢٩

يسير أو يحيا على شاكلة استساغها ضميره ، ودرج عليها فؤاده ، دون أن يعكر ذلك صفو مودتنا ووئام صحبتنا جميعاً .. أليس الحق معي يا هذا؟! ».

ـ « إذن نبضات هذه الأفئدة المسلمة ، لها أن تنطق بأريجها ، طالما أصحابها صم عمي بكم .. ».

فانقلبت غاضباً :

ـ « أنا لا أعني هذا؟ ».

بينما تابع كلامه ، وكأنه لم يسمع اعتراضي :

ـ « أو إننا أحبة ، طالما نلجم عنان ألسنتنا ، ونكبح فينا حالة التطلع إلى أمام .. أمرك كأمر الذين يقولون للآخرين : دعونا من أمركم لنا بالمعروف ، ونهيكم لنا عن المنكر من معاقرتنا للخمر والنساء و .. ، فإذا ما فعلتم فإنّا إخوانٌ على سرر متقابلين .. وما كان للدين أن يهادن على مستقبله أو يساوم على مصيره أبداً .. أجل يمكن مراعاة الخلق القويم ، وبسط المعروف إلى الآخرين ، وانشاد المودة لهم ، وتقصي ودهم ، وابداء حسن الطوية ، ولين العريكة ، ورفق الأريحية ، والتدرج في مسالك العرض والطرح .. وما إلى ذلك .. ولكن .. ليس قبل أن أعبر عن رأيي .. وإلاّ فأنا غير موجود ، ولما كان العكس واقعاً .. فإنّي ما كنت لأكون إلاّ قاتلاً لنفس يتحرك لهيبها بين أضلعي ، ذلك انّي ما كنت إلاّ قد قتلت نفسي وأدّعي أنّي موجود حي وأنا لا أحاول إثبات ذلك أبداً! ».

ـ « إنّك قد ذهبت بعيداً .. بعيداً جداً .. إنّي لا أطالب بخنق الحريات ومصادرة حرية الرأى من أجل .. أو على حساب الاحتفاظ بحسن علاقاتنا مع بعض ، أو بغية للتوصل إلى محاربة كافة الأسباب التي تحول دون استتباب مثل هذه الروابط الأخوية بين المسلمين ، وعدم تواصلها حية دائمة من دون

١٣٠

أن يمسها أيّما خلل وخفقان ، أو أن تتهددها أيّما إصابة وخطر! ».

في تلك اللحظة ، صرت أستشعر منه فضاضة في النظرة ، بل استعلاء في الترقب ، ولربما عنجهية في الرأي ، ضجرت منها إلى حد غلب حتّى على عواطفي ومشاعري تجاهه .. أصبح الآن هدفاً لسهامهم وهو لا يدري ، ولقد أضحى يريد المغامرة والتصدي لهم ، والدفاع عن حياضه العقائدية ، وإذا به يطلع عليّ بطرق من القول ، غاضتني صبغة الظرافة التي كان قد توسل بها حتّى صار يطبع بها رسالة حديثه ، ومقالة أُطروحته ، وهو يقول :

ـ « إنّ المسألة ليست مسألة عناد ، إن عليك أن تشغّل فكرك ، وتحرك ذهنك! إنّ القضية لا تتصل بمعاشرة الإخوان من أهل التشيع ، والأنس بهم .. دون التحرك صوب مسائل الدين ، وبحث قضايا العقيدة وبشكل معاصر جذاب ، فضلاً عن المجادلة في أحداث ومجريات التاريخ. فكلانا مطالب بالبحث والفحص ، والدراسة والتقصي لأنّ ثمة مسائل خطيرة كان للتاريخ أن يرزح تحت وطأتها .. فإنّه لو حصلت حادثة ما .. الآن .. الآن! في عصرنا الحاضر ، فإنّك لترى إنّ وكالات الأخبار تتناقل موضوعاتها وبالكيفية التي تحلو لها أن تفسرها بها ، كلٌّ منها وحسبما يستسيغه طلب ميله ، ونزعة غرامه! بل ربما حذفوا منها وأضافوا إليها .. ولماذا نذهب بعيداً .. فلو حدث حادث ما .. هنا بيننا .. فلترى بعد فترة وجيزة ، ولربما كانت جدّ قليلة .. أن الجميع ، كلٌّ منهم يفسرها ويحكي مشاهدها حسبما يروق له وتملي عليه مخيلته وضرورات تفكره وتأملاته الخاصة ».

وعندئذ قلت له ، بعد ان تذكرت مسألة مهمة ، كانت قد شغلت مخّي فترة من الزمن :

١٣١

ـ « نسيت أن أسألك .. هل لمثل هذا التكدر الذي يلوح في ظلال نظراتك أن يتصل بشكل أو بآخر بقضية كنت قد سمعت عنها قبل فترة ، ولم أتحقق منها ، بل لا أُريد الخوض فيها أبداً ، ولو أنّي لا أشك بأ نّك ستجبرني على الخوض في مطاوي قضاياها ، وألولوج إلى غيابات مسائلها .. ».

قاطعني :

ـ « وما هي؟ ».

ـ « حركة الوضع .. ».

وعندئذ بادرني بسرعة ، وقاطعني بفنية ماهرة ، وكأنه كان ينتظر مثل هذا السؤال ، وبفارغ من الصبر :

ـ « اتسع نطاق الكذب على اللّه وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتلاطمت أمواج الافتراء وتصدر قوم لا أمانة لهم ، ولا دين يردعهم ، ولا عهد لهم بالصدق ، فحدثوا الناس بالأكاذيب ، ونمّقوا وزوروا ، ووضعوا من الأحاديث كيفما شاءت رغباتهم ، إرضاء لسلطان لا يرعى للصدق حرمة ، ولا يرى للدين قيمة ، فدرج الناس على ذلك وتلقنوا تلك الأحاديث بلا تمحيص ولا تتبع ».

ـ « هل تقصد أنّ مثل ذلك ، كان قد حصل في عهد الصحابة؟ ».

ـ « ولا أرُيد أن أتعرض لعهد الصحابة وما حدث فيه من أحاديث ، فإنّ يد الوضاعين انتحلت سلسلة تتصل بهم في الحديث ، لأنّ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجلّ قدراً وأعلى منزلة من تعمّد الكذب عليه ، إلاّ من صارعته الدنيا فصرعته ، وباع آخرته بدنياه فكان نصيبه الخسران ، وما هو من مصداق الصحبة في شيء كسمرة بن جندب وغيره ، الذي كان يساومه معاوية في وضع الأحاديث أو تحريف ما أنزل اللّه بمئات من الآلاف من الدنانير كما هو عنه ».

١٣٢

ـ « أي عصر تريد التعرض إليه بالضبط؟ ».

ـ « ولكن نريد أن نتعرض لعصر اشتداد الفوضى والخروج على حدود الأمانة في النقل ، يوم دار الزمان دورته ، ودب داء الحسد والتنافس على حبّ الرئاسة والتقرب إلى السلطان ، عندما اشتدت حاجته إلى مرتزقة يجعلهم قنطرة إلى غايته ، ليبرر مواقفه المخالفة لأحكام الدين ، فكان ما كان من تشجيع للكذابين والوضاعين ، فكانت هناك سلسلة أحاديث موضوعة رغبة في نواله ، وطلباً لاستصفاء ودّه ، وقد فتحت باب التقرب إلى السلطان بمفاتيح الأكاذيب ، فدخل الكثير منهم ».

ـ « فهذا غياث بن إبراهيم يدخل على المهدي ، وكان المهدي يحبّ الحمام ، فطلب منه المهدي أن يحدثه ، فيأتي بحديث عن أبي هريرة لا سبق إلاّ في حافر أو نصل ، وأضاف إليه أو جناح ، فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم ، فلمّا قام غياث قال المهدي : أشهد أنّه قفا كذاب على رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال رسول اللّه جناح ولكنه أراد أن يتقرب إليّ » (١).

____________

(١) تاريخ بغداد ١٣ : ١٩٣.

١٣٣
١٣٤

الفصل العاشر

قاسم وفنون وسياسة وضع الحديث

بينما مضى يضيف ، وهو يقول :

ـ « ويدخل أبو البخترى وهب بن وهب قاضى بغداد على هارون الرشيد ، وهارون يطير في الحمام فقال هل تحفظ في هذا شيء؟

فقال : نعم ، حدثنى هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطيّر الحمام ، فنرى القاضي هنا سريع الارتجال بوضع الأحاديث رغبة لنوال السلطان وتحبّباً إليه ، بدون التفات الى مؤاخذة أو خوف من اللّه تعالى ».

ـ «؟!».

ـ « وكان شاه بن بشر بن ماميان معروفاً بالوضع في الدولة العباسية. ومن أحاديثه عن جابر بن عبد اللّه مرفوعاً :

ـ « أتاني جبرئيل وعليه قباء أسود ومنطقة وخنجر ، فقلت ما هذا؟ فقال : يأتي زمان يكون لباسهم كهذا قلت : يا جبرئيل من يكون رئيسهم؟ قال : من ولد العباس ».

ـ « واستجلب الرشيد إسحاق المعروف بأبي حذيفة المتوفى سنة ٢٠٠ وهو معروف بالكذب ومشهور بالوضع ، فأمره الرشيد أن يجلس في مسجد ابن رغبان ويحدث الناس ، فأخذ إسحاق يحدث بالأكاذيب ، يروي عن خلق من

١٣٥

الثقات أكثرهم ماتوا قبل أن يولد » (١).

ـ « واستقدم المهدى أبا معشر السندي ، وأشخصه إلى بغداد ، وقال : تكون بحضرتنا تفقه من حولنا. وكان أبو معشر ماهراً بوضع الأحاديث والقصص ».

ـ « قال ابن جزرة : أبو معشر أكذب مَن تحت السماء ، وصنّف كتاب المغازي » (٢).

ـ « وروى عنه الواقدي وابن سعد ، وقد نعم في بغداد برضا كثير من رجال البلاط العباسي ، وقد استمد منه الطبري معلومات عن التاريخ الانجيلى ومن تاريخ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما استمد منه بنوع خاصّ معلومات تاريخية تنتهى إلى عام وفاته ».

ـ « لقد كان خطر أولئك الدجالين عظيماً جداً ، فإنّهم تزلفوا لولاة الأمر بوضع الأحاديث ، فاتخذوا منهم أعواناً على حل مشاكل يعجز هم حلّها بالقوة ، ولكنهم جعلوا ما يضعونه وسيلة لتعزيز مركزهم أولا ، مقابلة خصومهم ثانياً واشغال الرأي العام ثالثاً ، وكان الأمر الذي يهمهم قبل كُلّ شيء هو أمر الشيعة الذين آثروا تضحية النفس .. ».

كنت أُصغي إليه ، وأنا أراه يتحدث بشكل أقوى مما يتحدث به الشيعة أنفسهم ..

ـ « .. على الاذعان للخصم ، ولم تربطهم معهم رابطة ، ولم يعترفوا بصحة تلك الولاية الجائرة ، فلا يصح لهم السكوت عن معارضتها وهم غاصبون لهذا المنصب ، لذلك اتخذت السلطة معهم طرق المكر والخداع والتمويه على

____________

(١) تاريخ بغداد ٦ : ٣٤٦.

(٢) المصدر السابق ٤ : ٤٣١.

١٣٦

الناس ، حتّى بلغ بهم الأمر إلى وضع الأحاديث بخروج الشيعة عن الإسلام كما أوضحت لك ، وهي تدل بمنطوقها على استباحة دمائهم ومعاملتهم معاملة الكفرة ».

ـ « وقد كان أولئك الدجالون على أنواع في الوضع ، واختلاف في الغاية. فمنهم من يضع الحديث طمعاً في الدنيا وتزلّفاً لولاة الأمر وهم الذين نعبر عنهم بلجنة الوضع ، وأوّل من اتخذ ذلك معاوية بن أبي سفيان » (١).

ـ « وهل كان ثمة وضع للحديث في باب نصرة المذهب الشخصي؟ ».

ـ « وكيف لا؟! فإنّ منهم من كان له أن يضع الحديث في نصرة مذهبه ، وهؤلاء كانوا وما يزالون يرون أنّ الانتصار لمذهبهم ما كان ليمثل إلاّ انتصاراً للحقّ ومقاومة للباطل ، وذلك من بعد أن زيّن لهم الشيطان أعمالهم فراحوا يضربون الأحاديث بمهارة في الضرب ، ويخلقون الحكايات والقصص ».

ـ « وقد وجدت في تلك الموضوعات ما يقارب الأربعمائة في الفضائل والمناقب وفي بعضها أساطير لا أحاديث ، وحكايات يصنعها القصاصون بمهارة ، ويبثونها بين الناس ».

ـ « فمن أعظم تلك الافتعالات هي أُسطورة ابن سبأ .. ».

ـ « أُسطورة ابن سبأ؟ ».

ـ « أجل ، هذه الأسطورة التي ما زالت تحتل مكانتها فوق صفحات التاريخ ، وتأخذ وقتاً من كتاب عصرنا الحاضر. وواللّه ، إنها محنة قاسية لكن كيف المخرج؟ وهل يتسنى لنا تصفية الحساب لنعالج هذه المشاكل؟ كيف وقد

____________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ : ٢٥٨.

١٣٧

سرى داؤها في المجتمع ، وأخذها المهرجون مأخذ القبول وجعلوها بمحل الاعتبار ، وراحوا يؤيدون تلك الموضوعات إذ وافقت أغراضهم ، وجعلوها في منهاج الاحتجاج ، ولم يلتفتوا لحالها وحال رواتها ممن أعماه التعصب ، فضعفت مواهب إدراكه ، ولم يستطع تمييز الحقّ من الباطل ، وقد خانه الاتزان والتعقل ، فهوّس وهرّج وموّه وافترى ، وحاول إخفاء حقيقة لا يمكن إخفاؤها ».

١٣٨

الفصل الحادي عشر

نفسي والسؤال الملحّ : لِمَ لَمْ يُباهل الرسول بالخلفاء؟

ظللت أتساءل :

ـ « ما هو المقياس لتشجيع الفرق؟ وما هو المعيار لاتخاذ مثل هذه السياسات؟ .. فهل المقياس هو يتحدد في أنّ هذا الفريق هو فريق وطني؟ إذن الحس الوطني يملأ نفسي ، وليس من حس إيماني يغمر قلبي ، هذا مع أنّ حب الوطن من الإيمان ، وما كان ذلك إلاّ بشرطه وشروطه! غير أنّ سباقات الأندية التي تجري في داخل نطاق القطر ، كيف لها أن تجرّ الويلات والمصائب على مشجعي مثل هذه الفرق حتّى تنقلب مثل هذه التناحرات إلى تأليبات ماكرة وعصبيات شيطانية ثائرة ، ليس الغرض منها إلاّ صرف الوقت الثمين ، وتبديد مقومات وأهداف الحرية الفردية ، واختلاق جملة من التهم ، وحبّ ألوان الأباطيل ، وإثارة النعرات والفتن والمشاحنات ، وضروب المحاربات والقتال! دون سبب سوى أنّي أشجع فلان والآخر يشجع غيره؟ ».

ولكن! لكلٍّ منّا غرضه ، وعقيدته! ولو فاز فلان ، أو غلب كذا أحد ، فليس من حقّ آخر أن يعترض ، لأنّ كلاًّ منهما قد قدم ما عليه ، وساهم بجلاء في حربه المقدسة والغنية ، وبكُلّ خلق ومهارة مثلاً! فالكُلّ يعرض مهارته ، والآخر هو الذي يغلب ، حتّى يصير هو المؤهل لتصدر مثلاً بطولة المصارعة أو الملاكمة ، أو الصعود إلى الدوري النهائي. فلماذا نغضب؟ بينما لا نغضب حتّى

١٣٩

نكون قد استقنا عصبياتنا الفانية إلى طرق مسدودة ما كان أساسها إلاّ التعصب لفريق الوطن .. حتّى انسقنا إلى فرق المحافظات ، والمدن ، والأندية المتعددة داخل هذه الأمصار والتحزب للمدن والمحافظات نفسها ، وإثارة النعرات المذهبية من خلال ذلك ، وابراز نقاط الضعف التي يمكن أن يتصف بها أهل فريق تلك المدينة الفائزة ، للنيل من فوزه واحباط كُلّ مساعي ابتهاجه بهذا النصر! حتّى ينجر ذلك إلى طرق متعددة ليس لها من نهاية سوى الانغلاق على النفس المريضة ، ومن ثُمّ الانفجار ، حينما تؤدي إلى طريق مسدودة ، ينحصر فيها المجموع ، حتّى يلهبه الانتظار ، ويضجره الملل من التفكر في سياق واحد ليس إلاّ ، .. حتّى تنفجر نفوس هذا الجمع البشري الهائل ، كما تنفجر الطرق المسدودة ، وذلك بعد أن تؤدي بالآهلين في المساكن والبيوت التي تشرف عليها إلى الفناء والاقتتال! وثانية ، فلماذا نغضب؟ أنغضب لأ نّه لم يتخلّ المنتصر عن مهارته ، أو أنّه جسّد كُلّ قابلياته ، وأظهر كُلّ لياقته ، وأبدع في مختلف الأوضاع حتّى أبرز كُلّ فنونه ، وعرض كُلّ أخلاقياته ، وأبدى كُلّ استعداداته في اللعب .. بينما ما كان كُلّ ذلك إلاّ مدعاة ضرورية ، وسوقاً ملحاً يدعو بكُلّ من يبصر مثل هذه الحقائق ، إلى التعجب والانشداه ، ذلك أنّه قد اطلع إلى قدرات ومهارات مثل هذا الفريق ، وإنّ مثل ذلك هو خليق به أن يدعه يتطلع إلى أن يكون لفريقه من هذه المهارات حظ ونصيب! لا أن يحسده ، فيترجم حسده إلى مظاهر من العنف والصخب والحقد الضروس ، لتنقلب أثار كُلّ ذلك إلى ألوان من الفوضى الشخصية ، وأشكال من الهوس العام ، لتنحسر أضواء هذه الانغمارات الفارهة عن غضبة شيطانية مهووسة ، ولعنة إبليسية موبوءة؟!

١٤٠