وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

حتّى يردا عليّ الحوض. ثُمّ قال : إن اللّه عزّ وجلّ مولاي ، وأنا مولى كُلّ مؤمن ، ثُمّ أخذ بيد علي ، فقال : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ... وذكر الحديث بطوله ، ولم يتعقبه الذهبي في التلخيص » (١).

 » إنّ الشيعة متفقون على اعتبار التواتر فيما يحتجون به على الإمامة ، لأنها عندهم من أصول الدين ، فما الوجه في احتجاجهم بحديث الغدير مع عدم تواتره عند أهل السنة؟ وإن كان ثابتاً من طرقهم الصحيحة؟ ».

قالت :

ـ « إنّ تواتر حديث الغدير مما تقضي به النواميس التي فطر اللّه الطبيعة عليها ، شأن كُلّ واقعة تاريخية عظيمة يقوم بها عظيم الأمة ، فيوقعها بمنظر وبمسمع من الالوف المجتمعة من أمته من أماكن شتى ليحملوا نبأها عنه إلى من ورائهم من الناس ، ولا سيما إذا كانت من بعده محل العناية من أسرته وأوليائه في كُلّ خلف حتّى بلغوا بنشرها وإذاعتها كُلّ مبلغ ، فهل يمكن أن يكون نبؤها والحال هذه ، من أخبار الآحاد؟ كلا! بل لا بدّ أن ينتشر انتشار الصبح ، فينظم حاشيتي البر والبحر .. لأنك لن تجد لسنة اللّه تحويلاً ».

قلت لها :

ـ « ماذا تعنين؟ ».

قالت :

ـ « إنّ حديث الغدير كان محل العناية من اللّه عزّ وجلّ ، إذ أوحاه تبارك وتعالى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنزل فيه قرآناً يرتله المسلمون آناء الليل وأطراف النهار ،

____________

(١) كما أخرجه الحاكم في مستدركه ٣ : ٥٣٣ ، والإمام أحمد في المسند ٤ : ٣٧٢ ، والنسائي في خصائصه : ٢١ ، ومسلم في صحيحه ٢ : ٣٢٥ وغيرها من المصادر.

٢١

يتلونه في خلواتهم وجلواتهم ، وفي أورادهم وصلواتهم ، وعلى أعواد منابرهم ، وعوالي منائرهم ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ».

ـ « توقفي .. مهلاً! هل هذه الآية هي مما نزلت بولاية علي يوم غدير خم؟

ـ « إنّه مما لا شك في ذلك! فأخبار أهل السنّة في ذلك وافرة .. وحسبك مما جاء في ذلك من طريق غيرهم ما أخرجه الإمام الواحدي في تفسير الآية من سورة المائدة صفحة : ١٥٠ من كتابه : ( أسباب النزول ) ، من طريقين معتبرين عن عطية عن أبي سعيد الخدري ، قال : نزلت هذه الآية ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يوم غدير خم في علي بن أبي طالب » (١).

ـ « وهل ثمة من القرائن ما يشهد لهذا النزول وهذه الآية .. وبهذا المعنى من الولاية والحكومة لعلي بن أبي طالب؟ ».

ـ « مما يشهد له أن الصلاة كانت قبل نزولها قائمة ، والزكاة مفروضة ، والصوم كان مشروعاً ، والبيت كان محجوحاً. فضلاً عن أنّ الحلال كان بيّناً ، والحرام بيناً ، والشريعة متسقة ، وأحكامها مستتبة. فأيّ شيء غير ولاية العهد يستوجب من اللّه هذا التأكيد ، ويقتضي الحض على إبلاغه بما يشبه الوعيد ، وأيّ أمر غير الخلافة يخشى النبيّ الفتنة بتبليغه ، ويحتاج إلى العصمة من أذى الناس بأدائه ».

____________

(١) كما وأخرجه أبو نعيم في تفسيره بسندين ، والجويني في فرائده ، والثعلبي في تفسيره.

٢٢

الفصل الثاني

أنا ونفسي ، وللحديث صلة

كنت ما أزال أحدّث نفسي ، ولقد شغفت بهذا الحديث حتّى طال وطره وتناءت دقائقه بساعاته ، فعدت أسائلها وفي القلب لوعة إلى بلوغ النهاية والخروج من هذه المحنة والأزمة اللتان خلتهما أشبه بالفتنة العمياء ، فقلت لها :

ـ « وآية الاكمال ، كيف كان لها أن تنزل؟ ».

ـ « فلمّا بلغ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ الرسالة بنصّه على علي بالإمامة وعهده إليه بالخلافة ، أنزل اللّه عزّ وجلّ عليه : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ). وإذا كانت العناية من اللّه عزّ وجلّ ، على هذا الشكل ، فلا غرو أن يكون من عناية رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان! ».

ـ « كيف؟ ».

ـ « فإنّه لما دنا أجله ، ونعيت إليه نفسه ، أجمع وبأمر من اللّه تعالى على أن ينادي بولاية علي في الحج الأكبر على رؤوس الاشهاد. ولم يكتف بنصّ الدار يوم الانذار بمكة ، ولا بغيره من النصوص المتوالية. وقد سمعت بعضها ، فأذن في الناس قبل الموسم أنّه حاج في هذا العام حجة الوداع ، فوافاه الناس من كُلّ فجّ عميق ، وخرج من المدينة بنحو مائة ألف أو يزيدون .. ».

فقاطعتها وأنا أحاول أن أفلت من زمام هذا الطوق الذي جعل يشتد على

٢٣

عنقي ، وهو لا ينفك يتعاقب شدة وإصراراً :

ـ « مثلاً ، كم كان عددهم؟ ».

قالت :

ـ « قال السيد أحمد زيني دحلان في باب حجة الوداع من كتابه السيرة النبوية : وخرج معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( من المدينة ) تسعون الفاً ، ويقال مائة ألف وأربعة وعشرون الفاً ، ويقال أكثر من ذلك ( قال ) وهذه عدة من خرج معه ، وأما الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك ... إلى آخر كلامه. ومنه يعلم أن الذين قفلوا معه كانوا أكثر من مائة ألف ولكنهم شهدوا حديث الغدير .. فلما كان يوم الموقف بعرفات نادى في الناس : علي منّي ، وأنا من علي ، ولا يؤدّي عني إلاّ أنا أو علي .. ».

وعندها وجدت أن النصر قد حان أن أقبض على عروته وبيدي الثنتين هاتين ، ومن دون أن أتراجع ولا حتّى قيد شعرة أو أنملة ، فقلت لها :

ـ « وإذن ، كان البخاري محقاً في روايته أنّها نزلت يوم عرفة؟ ».

ـ « ما هي؟ ».

ـ « آية الاكمال! ».

ـ « لا! ليس الأمر كما تتصور قط! ولكن يمكنك أن تقول : إنّ الأمر كان قد اتسق للبخاري كيما يدفعها عن حقيقة تفسير أسباب نزولها الأصلية ، فجاءت مثل هذه الرواية دعماً لادعائه على ما يظن ، وما كان يعتقد أنّها على العكس من ذلك تماماً ».

ـ « كيف لهذا أن يتم؟ ».

ـ « لأ نّه لما قفل رسول اللّه بمن معه من تلك الألوف ، وبلغوا وادي خم ، هبط عليه الروح الأمين بآية التبليغ عن ربِّ العالمين ، فحط صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك رحله

٢٤

حتّى لحقه من تأخر عنه من الناس ، ورجع إليه من تقدمه منهم.

ـ « إذن فثمة ما نزل بحق علي في عرفة ، وثمة ما نزل بحقه كذلك بعده؟ ».

ـ « إنّما ثمة ما كان قد أعلنه رسول اللّه بحقه في عرفات ، وثمة ما نزل بحقه فيما بعد ذلك عند الغدير! ذلك أنّه لما اجتمع المسلمون هناك ، صلى بهم الرسول الفريضة ، ثُمّ خطبهم عن اللّه عزّ وجلّ ، فصدع بالنصّ في ولاية علي .. وقد حمله عن رسول اللّه كُلّ من كان معه يومئذ من تلك الجماهير ، ولقد كانت تربو على مائة ألف نسمة ، أتت وتوافدت من بلاد شتى ».

ـ « وهل استشهد علي بن أبي طالب نفسه بهذا الحديث؟ ».

ـ « نعم ، فلقد قام بذلك في أيام خلافته ، إذ جمع الناس في الرحبة ، فقال : أنشد اللّه كُلّ امرئ مسلم سمع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم غدير خم ما قال ، إلاّ قام فشهد بما سمع ، ولا يقم إلاّ من رآه بعينيه وسمعه بأذنيه ، فقام ثلاثون صحابياً ، فيهم اثنا عشر بدرياً! فشهدوا أنّه أخذه بيده ، فقال للناس : أتعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : نعم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه ، فهذا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .. ».

ـ « أتريدين القول بأنّ ثلاثين صحابياً كانوا قد شهدوا بذلك؟ ».

ـ « أجل! مع أنّ الإسلام يقر شهادة اثنين .. فكيف لو كان الشهود ثلاثين شخصاً .. وأنت تعلم أن تواطؤ الثلاثين صحابياً على الكذب مما يمنعه العقل ، فحصول التواتر بمجرد شهادتهم ، إذن هو أمر قطعي لا ريب فيه أبداً. وقد حمل هذا الحديث عنهم كُلّ من كان في الرحبة من تلك الجموع ، فبثوه بعد تفرقهم في البلاد ، فطار كُلّ مطير ».

ـ « وهل كان يوم الرحبة في أيام خلافة علي بن أبي طالب؟ ».

٢٥

ـ « بالتأكيد! إذ إنّه مما لا يخفى على المتبصر في مثل هذه الشؤون أن يوم الرحبة إنّما كان في خلافة أمير المؤمنين ».

عندها اندفعت وأنا أقول :

ـ « إن حمل الصحابة على الصحة يستوجب تأويل حديث الغدير متواتراً كان أو غير متواتر ، لأن لفظ المولى يستعمل في معان متعددة ورد به القرآن العظيم : فتارة يكون بمعنى الأولى ، كقوله تعالى مخاطباً للكفار : ( مَأوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) ، أي أولى بكم ، وتارة بمعنى الناصر ، كقوله عز اسمه : ( ذَلِكَ بِأنَّ اللّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأنَّ الكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) ، وبمعنى الوارث ، كقوله سبحانه : ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) ، أي ورثة ، وبمعنى العصبة ، نحو قوله عزّ وجلّ : ( وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) ، وبمعنى الصديق ، كقوله تعالى : ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً ). وكذلك لفظ الولي يجيء بمعنى الأولى بالتصرف ، كقولنا : فلان ولي القاصر ، وبمعنى الناصر والمحبوب. فلعل معنى الحديث من كنت ناصره ، أو صديقه ، أو حبيبه ، فإنّ علياً كذلك. وهذا المعنى يوافق كرامة السلف الصالح ، وإمامة الخلفاء الثلاثة رضي‌الله‌عنهم أجمعين ».

قالت :

ـ « أنا أعلم بأن قلبك لا يطمئن بما ذكرته أنت نفسك ، بل لا يعتد به ، ونفسك لا يمكنها أن تركن إليه ، وإنك تقدر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكمته البالغة ، وعصمته الواجبة ونبوته الخاتمة ، وأ نّه سيد الحكماء وخاتم الأنبياء ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى ) ».

ـ « أنا أعلم ما تريدين قوله ».

٢٦

ـ « دعني أكمل حديثي .. فلو سألكم فلاسفة الأغيار عمّا كان منه يوم غدير خم فقال : لماذا منع تلك الألوف المؤلّفة يومئذ عن المسير؟ حبسهم في تلك الرمضاء بهجير؟ وفيم اهتم بارجاع من تقدّم منهم ، وإلحاق من تأخّر؟ ولِمَ أنزلهم جميعاً في ذلك العراء على غير كلأ ولا ماء ، ثُمّ خطبهم عن اللّه عزّ وجلّ في ذلك المكان الذي منه يتفرقون .. ».

ـ «؟!».

ـ « .. ليبلغ الشاهد منهم الغائب ».

ـ « هذا واضح .. ولكن! ».

ـ « .. وما المقتضي لنعي نفسه إليهم في مستهل خطابه؟ إذ قال : يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ، وإنّي لمسؤول ، وإنّكم مسؤولون ، وأي أمر يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تبليغه؟ وتُسأل الأمة عن طاعتها فيه ».

ـ « إنّه أراد أن يعمل بكُلّ ما تمليه عليه .. ».

ـ « ولماذا سألهم ، فقال : ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأن محمّداً عبده ورسوله ، وأن جنته حق ، وأن ناره حق ، وأن الموت حق ، وأنّ البعث حق بعد الموت ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور؟ قالوا : بلى نشهد بذلك ».

ـ « إنّها أمور أولية .. بل تعدّ من البديهيات لدى الأنبياء .. ».

ـ « ولماذا أخذ حينئذ وعلى سبيل الفور بيد علي فرفعها إليه حتّى بان بياض ابطيه؟ فقال : يا أيّها الناس إن اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ».

ـ «؟!».

ـ « ولماذا فسّر كلمته : وأنا مولى المؤمنين ، بقوله : وأنا أولى بهم من

٢٧

أنفسهم؟ ولماذا قال بعد هذا التفسير : فمن كنت مولاه ، فهذا مولاه ، أو من كنت وليه ، فهذا وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله؟ ولِمَ خصّه بهذه الدعوات التي لا يليق لها إلاّ أئمة الحق ، وخلفاء الصدق؟ ولماذا أشهدهم ومن قبل ، فقال : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا : بلى ، فقال : من كنت مولاه ، فعلي مولاه ، أو من كنت وليه ، فعليّ وليه؟! ».

ـ « .. إن الأمر ...!

ـ « ولماذا قرن العترة بالكتاب؟ وجعلها قدوة لأولي الألباب إلى يوم الحساب؟ وفيم هذا الاهتمام العظيم من هذا النبيّ الحكيم؟ وما المهمة التي احتاجت إلى هذه المقدمات كُلّها؟ ».

ـ « هذا صحيح .. ولكن! ».

ـ « وما الغاية التي توخاها في هذا الموقف المشهود؟ وما الشيء الذي أمره اللّه تعالى بتبليغه ، إذ قال عزّ من قائل : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )؟ وأي مهمة استوجبت من اللّه هذا التأكيد واقتضت الحض على تبليغها بما يشبه التهديد؟ وأي أمر يخشى النبيّ الفتنة بتبليغه ويحتاج إلى عصمة اللّه من أذى المنافقين ببيانه ..؟ ».

عندها شعرتُ أنّه من المحال أن أقف أمام كُلّ هذه الأدلّة والبراهين خصوصاً أن طائفاً طاف في رأسي وأعلن لي لماذا كان الرسول وفي آخر أيام الرسالة يخاف على الدين بأشد وأكثر مما كان يخاف عليه في بداية أيام الدعوة من مشركي مكة وعبدة الأوثان؟ إلاّ أن يكون أولئك أنفسهم قد

٢٨

أصبحوا أعداءً أشد شراسة من ذي قبل ، لأنهم قد غدوا منافقين ، يكتمون الباطل ، ويبطنون النفاق ، ولا يظهرون إلاّ وجوهاً مهللة بالفرح ، مستبشرة بما يقوله الرسول الذي ما كان إلاّ مطلعاً على السرائر. لأ نّه كان يراهم على حقائقهم ، ويعلم ما في قلوبهم .. إلاّ أنّي سكتّ أنتظر فرصة أُخرى أدير فيها طرف محراك النار إلى جهة أُخرى ، كيما أُحرك جمرة أُخرى فأثير نار العلم التي استهواني الاصطلاء بها .. أحدث نفسي : فإنّي ما شعرت بخبث أو حقد أو تعصب يعتريني .. مع ما تنتابني من ألوان كُلّ هذه الخصال بشفافية ليس لها أن تقعد في قلبي ».

بينما كانت ماضية سراعاً في حديثها حتّى جعلت تقول :

ـ « أكنت لو سألك أيّما أحد عن هذا ، تجيبه بأن اللّه عزّ وجلّ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّما أراد بيان نصرة علي للمسلمين ، وصداقته لهم ، ليس إلاّ! وفي مثل ذلك الحرّ وتلك الرمضاء .. والذي هو ما كان إلاّ سهلاً أريحياً ، لا يحب أن يكلف المسلمين ما هو فوق طاقتهم ، تخلق بأخلاق القرآن الذي ما نزلت آياته إلاّ تناسباً مع نفوس المسلمين كيما لا تنفر طباعهم منه .. فكيف به يحاول تنفيرهم من علي وهو يبغي اعزازه في قلوبهم أكثر وأكثر؟ بل ما كنت أراك ترتضي مثل هذا الجواب : إنّه أراد بيان نصرة علي للمسلمين. ولا أخال أنك تتوهمني بأني أراك قد اقتنعت بأنّ مضمونه وبهذه الصورة وهذا الظرف هو بالذي يجوز على ربِّ الأرباب ، أو على سيد الحكماء ، وخاتم الرسل والأنبياء ، بل لا يمكن أن يصدر منهم وعلى هذه الشاكلة ولهذه العلة .. أبداً. بل ما أراك إلاّ أجلّ من أن تجوّز عليه أن يصرف هممه كُلّها ، وعزائمه بأسرها إلى .. ».

٢٩

قلت عندها :

ـ « حتماً إنّي لا أجوّز مثل ذلك أبداً ».

قالت ، وهي تستدرك كلامها بدفق رضى ، ممزوج بشيء من الألم ، لربما استشعرتُه لاذعاً في بعض الأحيان :

ـ « .. إلى تبيين شيء بيّن ، لا يحتاج إلى بيان ، وتوضيح أمر واضح بحكم الوجدان والعيان. ولا شك أنك تنزه أفعاله وأقواله عن أن تزدري بها العقلاء ، أو ينتقدها الفلاسفة والحكماء ».

ـ « صحيح بالضبط ، ولكن! ».

ـ « .. بل لا ريب في أنّكم تعرفون مكانة قوله وفعله من الحكمة والعصمة ، وقد قال اللّه تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيم * ذِي قُوَّة عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين * مُطاع ثَمَّ أَمِين * وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون ). فيهتم بتوضيح الواضحات ، وتبيين ما هو بحكم البديهيات ، ويقدم لتوضيح هذا الواضح مقدمات أجنبية ، لا ربط له بها ولا دخل لها فيه. تعالى اللّه عن ذلك ورسوله علواً كبيراً ».

ـ « أؤيد هذا الكلام! وأن هذا لا يناسب المقام الإلهي ولا المقام الرسالي ، ولكنه أمر مثير حقاً .. ».

ـ « إنّك لتعلم أنّ الذي يناسب مقامه في ذلك الهجير ، ويليق بأفعاله وأقواله يوم الغدير ، إنّما هو تبليغ عهده ، وتعيين القائم مقامه من بعده ، والقرائن اللفظية ، والادلة العقلية ، توجب القطع الثابت الجازم بأ نّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما أراد يومئذ إلاّ تعيين علي ولياً لعهده ، وقائماً مقامه من بعده ، فالحديث مع ما قد حفّ به من القرائن نصّ جلي .. ».

أقسم باللّه إنّي كنت أعتقد لحظتها بصدق هذه الكلمات ، ولكنّي لا أدري ما الذي حصل وأحالني إلى البحث عن حلول لمسائل أُخرى تتعلّق

٣٠

بالموضوع من بعيد أو قريب .. بينما كان لها أن تسترسل في حبور وانطلاقة عزم ، لا تعرفان الانثناء والالتواء أبداً :

ـ .. في خلافة علي بن أبي طالب! لا يقبل التأويل. فليس إلى صرفه عن هذا المعنى من سبيل. وهذا واضح لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد ».

٣١
٣٢

الفصل الثالث

نفسي وحصر الخلافة في أئمة العترة

أحسست بصعوبة ألمّت في حلقومي ، استصعبت حتّى ازدراد أنفاسي ، فضلاً عن ابتلاع رطوبة بلعومي حتّى شعرت بأنّ جوف فيهي قد أصابه اليباس وجفت عصاراته من أيّما لفظ ندى ، يمكن أن يصارع جدرانه ليمتزج فيها بعد ذلك ..

كنت منطرحاً فوق سريري ، فشعرت بضرورة النهوض ، رحت أذرع الغرفة جيئة وذهاباً ، خرجت إلى الفناء ، عدت بعدها إلى الغرفة ، لأ نّي ما كنت قد وجدت ثمّة ما يسلّيني ، فالفيت نفسي بعدها ، تجاذبني وما أراها إلاّ قد جعلت تناكدني ، بل تقود بي إلى فصول لا تختتم إلاّ بالنصر لها .. فقلت عندها ، وأنا أتساءل من جديد متابعاً حديثنا السابق :

ـ « ولربما جعلت القرينة على إرادته من الحدث ، أن بعض من كان مع علي في اليمن ، كان قد رأى منه شدة في ذات اللّه ، فتكلم فيه ونال منه. وبسبب من ذلك قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يوم الغدير بما قام فيه من الثناء على الإمام ، وأشاد بفضله تنبيهاً إلى جلالة قدره ، وردّاً على من تحامل عليه ، ويرشد بذلك أنّه أشاد في خطابه بعلي خاصّة. فقال : من كنت وليّه ، فعلي وليّه ، وبأهل البيت عامة. فقال : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي. فكان كالوصية لهم بحفظه في علي بخصوصه ، وفي أهل بيته عموماً ،

٣٣

وإذن ، فلربما ما كان في الأمر شيئاً مما تفضلتِ به ، وليس فيها عهد بخلافة ، ولا دلالة على إمامة ».

قالت ، وهي لا تحاول أن تركم تعابيرها ، وكيفما يشاء للمرء أن يفعل :

ـ « أمّا القرينة التي زعمت فجزاف وهي بعيدة عن الواقع كُلّ البعد! بل هي لباقة في التخليط والتهويل. لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد بعث علياً إلى اليمن مرتين. أما الأُولى : فكانت سنة ثمان للهجرة ، وفيها أرجف المرجفون به ، وشكوه إلى النبيّ بعد رجوعهم إلى المدينة ، فأنكر عليهم ذلك حتّى أبصروا الغضب في وجهه ، فلم يعودوا لمثلها. والثانية : كانت سنة عشر للهجرة ، وفيها عقد النبي له اللواء ، وعمّمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده ، وقال له : امض ، ولا تلتفت! فمضى لوجهه راشداً مهدياً حتّى أنفذ أمر النبي ، ووافاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع ، وقد أهل بما أهلّ به رسول اللّه ، فأشركه بهديه. وفي تلك المرة لم يرجف به مرجف ، ولا تحامل عليه مجحف ، فكيف يمكن أن يكون الحديث مسبّباً عما قاله المعترضون؟ أو مسوقاً للرد على أحد كما تزعم ».

ـ « وهل التحامل على علي في السابق هو ليس خليق به أن يكون سبباً لثناء النبيّ عليه وهو يشعر بدنو الأجل وضرورة التوجه إلى رعاية أهل بيته لاسيما كبيرهم علي بن أبي طالب ، لأنّ بضعته الزهراء هي في بيته .. كحال المرء حينما يوصي بصهره رجأة أن يرفق الناس بأهله من قبل أن يرفقوا به؟ ».

فقالت :

ـ « إنّ مجرد التحامل على علي لا يمكن أن يكون سبباً لثناء النبيّ عليه ، وبالشكل الذي أشاد به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على منبر الحدائج يوم خم ، إلاّ أن يكون ( والعياذ

٣٤

باللّه ) مجازفاً في أقواله وأفعاله ، وهممه وعزائمه ، وحاشا قدسي حكمته البالغة ، فإن اللّه سبحانه يقول : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيم * وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِر قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كاهِن قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ .. ) ».

ـ؟! ».

ـ « .. ولو أراد مجرد بيان فضله ، والرد على المتحاملين عليه ، لقال : هذا ابن عمي ، وصهري ، وابو ولدي ، وسيد أهل بيتي .. فلا تؤذوني فيه ، أو نحو ذلك من الأقوال الدالة على مجرد الفضل وجلالة القدر. على أنّ لفظ الحديث ، ولاسيما بسبب ما أشرت إليه من القرائن العقلية والنقلية التي لا يتبادر إلى الأفهام منها ، إلاّ ما قلته. فليكن سببه مهما كان ، فإنّ الألفاظ إنّما تحمل على ما يتبادر إلى الأفهام منها. ولا يلتفت إلى أسبابها كما لا يخفى ».

ـ « وما كان يمكن لذكر أهل بيته في حديث الغدير أن يعنيه؟ ».

ـ « أما ذلك ، فإنّه على العكس مما يمكنك أن تتصوره ، لأ نّه ما كان ليعد إلاّ من مؤيدات المعنى الذي قلته. حيث قرنهم بمحكم الكتاب ، وجعلهم قدوة لأولي الالباب. فقال : إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا ، كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي. وإنّما فعل ذلك ، لتعلم الأُمّة أن لا مرجع بعد نبيّها إلاّ إليهما ، ولا معول لها من بعده إلاّ عليهما. وحسبك في وجوب اتباع الأئمة من العترة الطاهرة اقترانهم بكتاب اللّه عزّ وجلّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ».

ـ « ... ».

ـ « فكما هو لا يجوز الرجوع إلى كتاب يخالف في حكمه أئمة العترة ،

٣٥

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّهما لن ينقضيا أو لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، دليل على أنّ الأرض لن تخلو بعده من إمام منه هو عدل الكتاب ».

ـ « كيف؟ ».

تساءلت وكأ نّي لم الحظ مثل هذا المعنى إلاّ اللحظة ، فقالت :

ـ « لأ نّه من تدبر الحديث ، فما كان ليجده إلاّ أنّه يرمي إلى حصر الخلافة في أئمّة العترة الطاهرة ».

ـ « هاتِ دلائلك؟!

ـ « ويؤيد ذلك : ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده (١) وذلك عن زيد بن ثابت ، قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي تارك فيكم خليفتين ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ».

ـ «؟!».

ـ « وهذا نصّ في خلافة أئمة العترة عليهم‌السلام! ».

ـ « أئمة العترة عليهم‌السلام ».

شعرت بأنّ مثل ذلك كان تحدياً من نفسي التي تسكن خلجاتها في أعماقي ، وتعيش كُلّما وثبت في أرجائي جرعات من الحياة ، كفيلة بأن تنتزعني من وهدة سنتي ، وترمي بي إلى حيث تتسابق تطلعات جديدة لها أن تكسب رونق المستقبل بكُلّ بهي من الحدوث! بينما كان لها أن تسترسل في الكلام ، فتتحدث وهي تقول :

____________

(١) المسند ٥ : ١٢٢.

٣٦

ـ « وأنت تعلم أنّ النصّ على وجوب اتباع العترة ، نصّ على وجوب اتباع علي ، إذ هو سيد العترة لا يُدافَع ، وإمامها لا يُنازَع! ».

ـ « وإذن؟ ».

ـ « فحديث الغدير وأمثاله! يشتمل على النصّ على عليّ تارة ، من حيث أنّه إمام العترة المنزلة من اللّه ورسوله منزلة الكتاب ، وأُخرى من حيث شخصه العظيم ، وأ نّه وليّ كُلّ من كان رسول اللّه وليّه ».

ـ « فلو قصدت أنّ الولي والمولى في حديث الغدير إنّما هو الأولى ، فما رأيك بما يقوله جماعة من العلماء كالإمام ابن حجر في صواعقه ، والحلبي في سيرته ، إذ قالوا : سلمنا إنه أولى بالإمامة ، فالمراد المآل ، وإلاّ كان هو الإمام مع وجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تعرض فيه لوقت المآل ».

قالت :

ـ « ماذا تخال وبنظرك أنهم يقصدون من خلال ذلك الادعاء؟ ».

قلت :

ـ فكأنّ المراد حين يوجد عقد البيعة له ، فلا ينافي حينئذ تقديم الأئمة الثلاثة عليه ».

ـ « أنت طلبت مني أن أقنع بأنّ المراد من حديث الغدير يلخص في أنّ علياً أولى بالامامة حين يختاره المسلمون لها ، ويبايعونه بها. فتكون أولويته المنصوص عليها يوم الغدير مآلية لا حالية. وبعبارة أُخرى تكون أولوية بالقوة لا بالفعل .. لئلا تنافي خلافة الأئمة الثلاثة الذين تقدموا عليه. فهل في وسعك أنت نفسك ، وبينك وما بين اللّه أن تقنع بهذا حتّى احذو حذوك ، وانحو فيه نحوك؟ وهل ترضى أن يؤْثر هذا المعنى عنك ، أو يعزى إليك لأقتص أثرك ، وأنسج فيه

٣٧

على منوالك؟ فما أراك تقنع بهذا. بل ما أجدك لترضى به قط! ».

ـ « لِمَ تتعجبين ممّن يحتمل إرادة هذا المعنى الذي أرى أنّ بإمكان لفظ الحديث أن يدل عليه. بل يمكن أن يُفهم منه ».

ـ « وهل كان الرسول محقاً في تأخير كُلّ هذا الحجيج وايلامهم بحر الشمس ورمضاء الصحراء ، كيما ينعشهم بمثل هذا الخبر وهذه التذكرة؟ وهل أنّ الحارث بن النعمان الفهري ما كان قد فهم من هذا الحديث سوى هذا المعنى .. وإن اشتبه عليه ، فهل كان يشتبه على رسول اللّه الذي أكّد للحارث ما ذهب إليه ذهنه من اعتقاد وفهم؟ ».

ـ «؟!».

ـ « كما أن الأولوية المآلية لا يمكنها أن تجتمع مع عموم الحديث ، لأنها تستوجب أن لا يكون علي مولى الخلفاء الثلاثة ، ولا مولى واحد ممّن مات من المسلمين على عهدهم كما لا يخفى. وهذا خلاف ما حكم به الرسول ، حيث قال : ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى ، فقال : من كنت مولاه ( يعني من المؤمنين فرداً فرداً ) فعلي مولاه من غير استثناء كما ترى. وقد قال أبو بكر وعمر لعلي حين سمعا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقول فيه يوم الغدير ما قال : أمسيت يابن أبي طالب مولى كُلّ مؤمن ومؤمنة ، فشرحا بأ نّه مولى كُلّ مؤمن ومؤمنة على سبيل الاستغراق لجميع المؤمنين والمؤمنات منذ أمسى مساء الغدير ».

ـ « وما تقولين في قولهم أن أولوية علي بالإمامة ، لو لم تكن مآلية ، لكان هو الإمام مع وجود النبيّ؟ ».

ـ « ما أقول إلاّ أنّها تمويه عجيب! بل تضليل غريب ، وتغافل عن عهود كُلّ

٣٨

من الأنبياء والخلفاء والملوك والأمراء إلى من بعدهم ، وتجاهل بما يدل عليه حديث : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، وتناس لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الدار يوم الانذار : فاسمعوا له واطيعوا .. ونحو ذلك من السنن المتضافرة ».

٣٩
٤٠