وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

ـ « على أنّ آية الشهادة هذه ، وبعد التأمل فيها وفي ما يناسبها من الآيات ، تؤكد على حقيقة قرآنية ، يتكرر التعبير عنها في القرآن. وهي موقف الشهادة يوم القيامة ، وتنوع الشهود فيه على أعمال العباد. فهناك الأعضاء والجوارح ، والملائكة المكرمون ، والأولياء المقربون من النوع الإنساني كالأنبياء والصالحين. فيقول تعالى في الزمر : ( وَأشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ ) (١). بينما يقول في النحل : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ اُمَّة شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ ) (٢) ».

في حين رحت استدرك كما فعلت في السابقة ، بعدما اسعفتني بديهتي العلمية وذاكرتي القرآنية :

ـ « كما في النساء كذلك ، إذ يقول : ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً * فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) ».

ـ « إذن فكُلّ هذه الآيات تتحدث عن ذلك الموقف بصراحة ، ولا سيما الآيتين اللتين ذكرتهما. إذ نفى الظلم أولاً عن اللّه سبحانه في مجال الجزاء ، ثُمّ فرع عليه المجيء من كُلّ أُمّة بشهيد ، واحضار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيداً على الشهداء ممّا يكاد يكون صريحاً في الحديث عن ذلك الموقف العظيم ».

عندها التفت إليه ، وكأ نّي قد تذكرت شيئاً جديداً :

ـ « وأصرح من ذلك .. قوله تعالى في سورة هود : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى

____________

(١) الزمر : ٦٩.

(٢) النحل : ٨٩.

٦١

عَلَى اللّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ). كذلك قوله في عيسى بن مريم : ( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ). وذلك كما ورد في سورة النساء ».

كان يهز برأسه معلناً عن الايجاب ، فقال :

ـ « فإذا تم هذا قلنا : إن من الطبيعي أن لا تتحقّق الشهادة إلاّ بالحضور والاشراف على المشهور عليه ، ثُمّ أداء الواقع بدقة. كما أنّ الشهادة ليست على مجرد شكل العمل وصورته الظاهرة المتقضية ، وإنّما تكون أيضاً على ما هو السرّ في كون العمل طاعة أو عصياناً ، أي النية والسريرة ونوعها. فلا بدّ إذن من أن يكون مثل هذا الشاهد واقفاً على الضمائر ، ومطلعاً على السرائر في النشأة الأُولى ، لكي تتحقق مقومات الشهادة يوم القيامة وفي النشأة الأُخرى ».

فقلت له :

ـ « وهذا المعنى يمكن أن يظهر من قوله تعالى ، حكاية عن عيسى بن مريم عليها‌السلام ، وجوابه للّه سبحانه في ذلك الموقف العظيم يوم الحساب : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) (١) ».

بعدها ، كانت قسمات وجهه تصير إلى التحول حتّى جعلت سحنة بشرته تمتص كُلّ عجب ، فعاد بعدها وهو يقول :

ـ « إنّك الآن تتوقع أن أقول لك .. إن الآية : وكأني بها لم أسمعها من قبل ، ولكن الأمر على غير ذلك ، فإنّي كنت بحاجة إلى مراجعة لنص هذه الآية ، ولما

____________

(١) المائدة : ١١٧.

٦٢

لم يكن تحت يدي المعجم المفهرس لألفاظ القرآن .. بقيت في حيرة من أمري حتّى ذكرتها وعندئذ طفقت إلى مخّي حاجتي إليها وتذكرتها ».

فغرت عن ثغري ، ونطقت بابتسامة مصادقة ، ووافق لساني على استدراك جملاتي :

ـ « طيب .. فما أردت قوله : أن الآية ما كانت تحدث إلاّ عن اقتران شهادة المسيح على أُمته ورقابته عليهم ، بشهادة اللّه ورقابته عليهم حتّى يلوح مدى التشابه بينهما ، ومقدار التجانس بين الحالتين ، وذلك بالرغم من أنّ شهادة المسيح هي ما كانت لتعد إلاّ شعاعاً من تلك الشهادة. وهذا لا يتم إلاّ بالاشراف ، والاطلاع على القلوب ».

فقال طلال :

ـ « وربما يشير إلى هذا قوله تعالى في التوبة : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ). إذ جعلت رؤية الرسول والمؤمنين لأعمال العباد إلى جنب رؤية اللّه تعالى ممّا يشير إلى نوع مسانخة بينهما ».

فقلت :

ـ « وإذن ، بعد هذا كُلّه ، فما المراد الذي يتبيّن من الشهادة في الآية؟ ».

ـ « فهو الشهادة على الأعمال ، وإنّ هؤلاء الخواص من الأُمّة جعلوا وسطاً ، ومنحوا هذه الكرامة لارتباط هذه الشهادة بهذا الوصف ، سواء كان المراد بالوسطية كونهم واسطة بين الرسول والناس ، أو كونهم عدولاً غير مائلين إلى الإفراط والتفريط ».

ـ « فهم إذن مُثل عليا للناس؟ ».

وعندها نظر إليّ بإحكام ودقة :

٦٣

ـ « إنّهم حقاً لكذلك؟ ».

ومن دون أن أشعر ، قلت له تعقيباً على لغته تلك الممزوجة بسيل من المشاعر الغالبة :

ـ « مَن هم؟! ».

ـ « هم المؤمنون حقاً! ».

عندئذ ، فهمت ما يرمي إليه. لأ نّه ما عنى إلاّ المعصوم الذي لا يخطئ ، لأنّ شهادته أيضاً هي الأُخرى لا تخطئ ، كشهادة الأنبياء! ولذا ، فإنّ الحاكم يجب أن يكون من المؤمنين الذين لا يخطؤون أيّما خطأ .. كيما لا تخلو شهادته ومراقبته من الدقة ، فضلاً عن أنّه يقوم باتمام الحجة كاملة من دون أيّما غفلة أو سهو أو نسيان أو حتّى خطأ ملموس وغير ملموس! وإذا به يتابع كلامه ، فيقول :

ـ « ويقرب من هذه الآية في الدلالة قوله تعالى في سورة الحج : ( هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ ) ».

فاستعدل في قعدته بعد أن كان قد استرسل على سجيته ، فقال :

ـ « وخلاصة الكلام : إنّ في الأُمّة المسلمة طائفة معينة فازت بمقام الشهادة على الأعمال ، وإنّ هذه الطائفة هي من ذرية إبراهيم عليه‌السلام على ما يقتضيه انطباق آية الاجتباء الأخيرة على آية الشهادة حتّى إنّه كانت قد وردت روايات تؤيد بل تدل على ما استفدناه من نفس الآيات ، وذلك من كون الشهادة هي الشهادة على الأعمال! ».

٦٤

ـ « مثلاً؟! ».

ـ « روى البخاري في صحيحه من الجزء السادس ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يدعى نوح عليه‌السلام يوم القيامة ، فيقول : لبيك وسعديك يا رب. فيقول : هل بلغت؟ فيقول : نعم. فيقال لأُمته : هل بلغكم؟ فيقولون : ما أتانا من نذير. فيقول : من يشهد لك؟ فيقول : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمته. فيشهدون أنّه قد بلغ ( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) ، فذلك قوله : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ). والوسط : العدل ».

فقلت له :

ـ « ائتني بمصدر آخر ».

ـ « وفي الكشّاف : روي أنّ الأُمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب اللّه الأنبياء بالبيّنة. ويقرب منه ما في الدر المنثور ، وروح المعاني ، ومجمع البيان ».

عندها شعرت باحساس يوحي إليّ بأن اللّه ما كان قد عنى بالمسلمين خاصّة إلاّ آل محمّد من الأئمة المعصومين ، لأ نّهم هم شهداء اللّه عزّ وجلّ على خلقه .. كنت قد أحسست بأحدهم ينثر مثل تلك المفردات على وجهي ، كما يرش الماء على مَن أُغمي وغشي عليه ، وفقد حالة الانتباه حتّى غاب عن الوعي والادراك ، وذلك كيما يعود إليه رشده ، ويصحو ويفهم ما يدور حوله! غير أنّي لم أتبين من كان؟ فإنّ من يوفد بمهمة ، فإنّه هو الذي يقدم تقاريره في آخر العملية إلى مسؤوليه. وما كان الموفد اليهم بالذين يرفعون إلى مسؤوليه بالتقارير النهائية .. بالرغم من أنّ لهؤلاء دور ما يمكن أن يلعبوه في الشهادة كذلك .. ولكن خاصّة فإنّي كنت لحظتها قد شعرت أنّها كانت قد اختصت

٦٥

بالمعصوم .. بمثلما اختصها ومن قبل بالأنبياء .. ولو إنّا لا نعتقد بعصمة الأنبياء إلاّ حين التبليغ ولنا في ذلك قواعد وضوابط نختلف بها مع الشيعة. وما كنت أدري بأنّ الرمية كانت قد أصابت اثنتين من الأهداف ، وبضربة واحدة. حيث تمكن طلال من أن يستدرجني ببساطة ، حتّى صرت أعلن الحقيقة على نفسي .. إلاّ أنّي ما زلت أتخبط كحاطب ليل .. أخاف من الحقيقة أن تبدو لي مساحاتها باهرة ، فلا يبقى علي أيّما فرصة للهرب من الاقرار والقبول .. كذلك كنت قد أقررت ومن حيث لا أدري بضرورة وجود إنسان يبلغ عن اللّه ، لا يخطئ أبداً .. كيما لا يكون لهم حجّة على اللّه الذي أقرّ على نفسه بأنّ الحجّة للّه وحده. فكيف يمكن أن يرسل إلى الناس أنبياء غير معصومين أو أن عصمتهم تخضع إلى التجزئة. هذا فضلاً عن أن الإيمان بمثل ذلك ، يلزم القبول بأنّ اللّه ما كان ليسلم أُمته إلى أهل الخطأ والنسيان من أمّته حتّى يعدهم شهداء على القوم .. حتّى صرت أقنع بضرورة وجود المعصوم في كُلّ زمان ومكان.

التفت إليّ طلال ، وقال :

ـ « فإنّ الأعمال لربّما عرضت على أصفياء اللّه يوم الخميس أو يوم الاثنين! ».

ـ « ..؟! ».

ـ « وهنا لا بدّ وأن أنبه على ما يبدو من الاختلاف بين ما دلت عليه آيات الشهادة ، بل دلت عليه آية الرؤية أيضاً .. ».

قاطعته :

ـ « آية الرؤية؟ ».

٦٦

ـ « نعم! لقد تطرقت إليها قبل قليل ، إنّ بالك في مكان آخر ، أو إن بعض المقاطع في نقاشنا قد استأخذك جل الاستئخاذ حتّى غفلت عمّا ذكرته لك حيث أخبرتك بنصّها القائل : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ».

ـ « أووه! تذكرت ».

ـ « أجل آية الرؤية ، وهي التي اقترنت فيها رؤيتهم لاعمال الخلق برؤية اللّه تعالى. وبين مدلول تلك الأخبار ».

ـ « أي اختلاف تعنيه؟ ».

ـ « فالآيات تدل ظاهراً على اشرافهم المستمر على الأعمال ، بل على أُسسها ومبادئها النفسية التي تصبغ العمل بالطاعة والعصيان. في حين نجد أن الأخبار توهم عدم إشرافهم على الأعمال حين صدورها من الفاعلين. حيث أفادت العرض عليهم والشهادة من قبلهم ».

ـ « فأين هو بيت القصيد؟ ».

ـ « فلماذا يتم عرض الأعمال على رسول اللّه و .. ».

وهنا سكت ، وألمح إليّ بنظرة فيها بعض الاستغراب وقال :

ـ « ألا تجد أن ثمّة شيء ينقص الجملة؟ ».

ـ «؟!».

ـ « والمؤمنون من آل محمّد. فلماذا يتم عرضها عليهم ، إذا كانوا هم المشرفين على الأعمال وعلى مبادئها النفسية؟ ».

ثُمّ صمت برهة من الزمان ، وعاد إلى القول :

ـ « ألا أنّ هذا الاختلاف يرتفع بعد التأمل في مراتب العلم والشهود. ذلك

٦٧

أنّ للعمل مراتب متفاوتة ، والتعبير بالرؤية والشهادة تعبير عن بعض مراتبه. ومن هنا يمكن أن نصحح العرض على اللّه سبحانه وتعالى يوم الخميس ، مع أنّه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ».

أبقاني في حيرة من أمري ، إنّه اعتمد ـ أساساً ـ استخدام بعض الاصطلاحات التي لم أسمع عنها شيئاً في الروايات التي سردها عليّ ، وكأ نّه يطالبني بتحريك عقلي أكثر فأكثر ، والتحري عن مواطن مثل هذه المصطلحات في روايات عدة ، والبحث والدراسة للغور أعمق والتأكد من كُلّ هذه الوثائق العقلية والنقلية واكتشاف المزيد منها. لأ نّه ما غاب عنّا من الروايات ، كان أكثر ممّا حضر بين أيدينا! لكني بقيت كالمتسائل الذي يترجم مبهماته إلى تعابير مسموعة :

ـ « أيمكنك أن تبين لي بعض مقتضيات هذا المقام الرفيع الذي يمكن أن يتمتع به الشهداء على الناس؟! ».

قال طلال :

ـ « سأذكر لك بعضها ، أولاً : علمهم بالغيب ، وبسبل تختلف عن سبل غيرهم من الناس ، وهو ظاهر لا بدّ من التصديق به. أما الثاني : فهو أنّهم واسطة الفيض الالهي المعبر عنه بالولاية التكوينية ، فإنّ العلم الحضوري هو حضور المعلوم بوجوده الخارجي عند العالم. وهذا لا ينطبق في المقام إلاّ على علم العلة بمعنى ( ما به ) على المعلول. الثالث : العصمة من الضلال ، فإنّ اطلاق الوسط وعدم تقييده في قوله سبحانه ، يدل على أنّهم في قلب الوسط الحقيقي. ولذا ، فهم معصومون عن الانحراف والإفراط والتفريط. على أنّ قوله تعالى : ( جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) ، يدلّ وكما سبق على أنّ اللّه تعالى قد اصطفاهم

٦٨

من بين الناس ».

ـ « وهذا ما يمكن أن ترمي إليه من خلال أنّه قد نطق عليه قوله تعالى : ( هُوَ اجْتَباكُمْ )؟! ».

ـ « بالضبط! ولقد رأينا كيف أنّ القرآن الكريم جعل ينصّ على اجتباء ثلّة من الأنبياء كإبراهيم ويوسف عليهما‌السلام ».

ـ « أتعني بأنّ الاجتباء لا يتم إلاّ من حيث تتم عملية الاصطفاء؟ ».

ـ « إنّ من الواضح بمكان أنّ الاجتباء ما كان يعني إلاّ اصطفاءهم وجعلهم خالصين من كُلّ ما يدنس الفطرة ، ويشوبها بالاكدار. وبذلك يئس إبليس من إغوائهم حيث قال : فوعزّتك لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين ، وذلك في سورة الحجر! ».

ـ « وليحضرني ما قاله تعالى كذلك في حق يوسف عليه‌السلام : ( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) ».

ـ « وإذن ، فما ظنّك بمن كان اللّه عزّ وجلّ يتولى أمره ، ويصرف عنه السوء والفحشاء؟!

ـ « والرابع؟ ».

ـ « إنّ هؤلاء الشهداء موجودون في الناس ، ولو على سبيل البدل والتدريج ما دام الإسلام قائماً إلى يوم القيامة ، وذلك من حيث مواصفاتهم الخاصّة والواردة في المقتضيات السابقة والتي ذكرتها لك! ».

٦٩
٧٠

الفصل السادس

طلال واستقلالية العلم

وبعد عدة أيام ، كنت قد قضيت أوقاتها ما بين المطالعة والدرس ، والتطلع إلى مناظر الطبيعة ومراقبة كُلّ ما حولي بعين ساهمة ، تشاور كُلّ الوجود كيما تبلغ عنان أفلاك السماء ، وتفهم سر هذه الرحلات الأرضية وهذه التقلبات والتغييرات في سيماء التاريخ ، وألوان الماضي حتّى احالنا الحاضر إلى مثل هذه الاستجوابات الذاتية والتساؤلات المتداعية!

وإذا ما كان طلال قد غاب عنّي لفترة من الزمان ، لعلة شغلته ، وأعمال أخذت منه كُلّ وقته .. فإذا بي أراني ذات صباح ، ومن بعد ما تناولت طعام الإفطار ، أنعم تحت ظلال السماء الباردة ، بشعاع دافئ مسكوب من خصلات نجمة شمس الصباح الشتائية الناهدة .. حتّى كان يطلع علي طلال عبد الواحد بطلعته الناصعة ، بوجه صارم ، لا يخالطه سوى حنان أخوي ، واشفاق عمر ضاع بين صفحات أعناق زجاجات ، رمتها سنوات مطّرحة على ضفاف السواحل التي ما زالت تنأى بالإنسان عن موطنه ومحل صباه ومسقط رأسه! قال لي :

ـ « كيف حالك أيّها الأخ العزيز؟! ».

ـ « على أحسن ما يرام؟ ».

وبعد أن شربنا قدحين من الشاي ، كان يحكي لي قصة حياته ، ويسرد لي

٧١

بعض معاناته ، حتّى أردت أن أجنح به عن جادة مثل هذه الأحزان كيما انتزعه من تحت طائلة الهموم والآلام .. فقلت له :

ـ « نسيت أن أسألك ، إنّي قد طالعت ، ولكن لم أقرأ بمقدار ما قرأته أنت نفسك .. فأخبرني حقاً ، وأصدقني القول .. فإنّي قد سمعت قبل فترة من أحدهم أن التنازع الذي كان قد حصل بين أتباع المذاهب الأربعة أنفسهم هو أشدّ من النزاع الفكري القائم بين الشيعة والسنّة ».

فقال لي :

ـ « ليس علينا أن نوسع من هوة الصراع ، أو نقوي من أطرافه ، للعمل وبالتالي على تضخيم شق النزاع .. إن الأمر كُلّه يخضع إلى تعصبات لا حساب لها ، لأ نّه لا طائل تحتها. وإنّما كان يمكن أن يتمّ التفاهم في ظل أيّما صيغة عقلية ومنطقية يرتضيها أصحاب الحل والعقد ، وأولي الأفهام والمدارك ، فضلاً عن التوصل إلى حلول يصادق عليها الصلحاء من أُولي الحجى ».

ـ « أخبرني ، أين يكمن صلب النزاع العقائدي؟ وما هو سرّ النزاع بين مقلّدي المذاهب الأربعة. فإنّي ما كنت أتصور أنّ مثل ذلك له أن يحصل؟ ».

ـ « إنّ ما سأقصه عليك يحمل عين الحقيقة التي لها أن تدمي القلوب ، وتنسج ستائر المأساة في قلوب كُلّ مسلم ومسلمة .. لقد كان النزاع بين طوائف المسلمين ، نزاعاً علمياً ، واختلافاً لا يتعدى حدود القول في النقض لبعض ما ينهجه الآخر ، وسارت الأُمور على هذا المنوال. ولكن حركة الانشقاق كانت قد بدأت تتسع ، وروح الاختلاف قد صارت تسري في المجتمع وبسرعة ، وذلك لقوة الدافع السياسي الذي كان يحاول أن لا تتفق الأُمّة على رأي واحد ، والذي كان في نفس الوقت يعمل على إحياء العصبية ، إذ لا حياة للنظام الملكي إلاّ بها ».

٧٢

ـ « وبعد أن مضى عصر أئمّة المذاهب ».

ـ « فإنّه كان قد جاء دور أتباعهم ، فشغل كُلٌّ بمذهبه الذي يرتضيه ، وتأصلت روح الخصومات ، وانحاز كُلّ إلى جهة ، بدون التفات إلى ما وراء هذا التحيز من خطر على العلم ، في ضياع حقيقته ، وسلب منافعه التي أراد الإسلام أن تسير الأُمّة على ضوء تعاليمه القيمة لاكتساب السعادة ».

ـ ومتى كان قد وصل الأمر إلى تحديد الأخذ بمذهب معين لا غير ، والزام الناس بالأخذ عن المذاهب الأربعة فحسب؟ ».

ـ وهذا لم يتم إلاّ بعد مدة من الزمن! ».

ـ « أتقصد بأنّ الناس ما كانوا قد اجتمعوا على التقليد في مذهب واحد بعينه؟ ».

ـ « بل كان الناس على درجتين ، هذا ما أخبرنا به الشاه ولي الدهلوي في كتابه رسالة الانصاف ، حيث كتب يقول وهو يتبع مقالته السابقة : العلماء والعامة ، وكانوا في المسائل الاجتماعية التي لا خلاف فيها بين المسلمين ، أو بين جمهو رالمجتهدين ، لا يقلدون إلاّ صاحب الشرع ، وكانوا يتعلمون صفة الوضوء والغسل ، وأحكام الصلاة والزكاة ونحوه ، من آبائهم ، أو معلمي بلادهم ، فيسيرون على ذلك المنوال. وإذا وقعت لهم واقعة نادرة استفتوا فيها ، ومن غير تعيين مذهب! ».

ـ « والعلماء؟ ».

ـ « وأما العلماء ، فكانوا على مرتبتين : منهم من أمعن في تتبع الكتاب والسنة والأثار حتّى حصل له بالقوة القريبة من الفعل ملكة تؤهله لفتيا الناس ، يجيبهم في الوقائع غالباً ، بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه ، ويخص باسم

٧٣

المجتهد! وهذا الاستعداد يحصل تارة باستفراغ الجهد في جميع الروايات ، فإنّه ورد كثير من الأحكام في الأحاديث ، وكثير منها في آثار الصحابة والتابعين ».

ـ « ثُمّ من بعد ذلك! ما الذي حصل ، أخبرني؟ ».

ـ « ثُمّ بعد هذه القرون ، كان ناس آخرون ، ذهبوا يميناً وشمالاً ، وحدث فيهم أُمور منها : الجدل والخلاف في علم الفقه وتفصيله ».

ـ « نسيت أن أسألك ، فمن بعد انتهاء عهد الخلفاء الراشدين ، ماذا كان الحال؟ ».

ـ « إنّه لما مضى عهد الخلفاء الراشدين ، كانت الخلافة قد أفضت إلى قوم تولوها بغير استحقاق ، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام ، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء ، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم. وكان بقي من العلماء من الطراز الأول ، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا! فرأى أهل تلك الاعصار ( من غير العلماء ) إقبال الأئمة عليهم مع إعراضهم ، فاشتروا طلب العلم توصلاً إلى نيل العز ».

فقلت عندئذ :

ـ « فترك الناس الكلام وفنون العلم ، وأقبلوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص! ».

ـ « أجل! ولسنا ندري ما الذي قدّره اللّه تعالى فيما بعده من الأعصار؟ ».

ـ « هل لك أن تتحفني بمقالات من أهل ذلك الزمان؟ ».

ـ « وكيف لا! هاك ما يقوله الخطابي في كتابه : معالم السنين ، صورة عن الخلاف الذي حصل بعد المئة الثالثة بين فقهاء المسلمين ، واتباع المذاهب ، إذ يقول : رأيت أهل زماننا قد انقسموا إلى فرقتين : أصحاب حديث وأثر ، وأهل

٧٤

فقه ونظر. ووجدت هاتين الفرقتين إخواناً متهاجرين! ».

ـ « ..؟! ».

ـ « .. أمّا أهل الحديث والأثر ، فإنّ الأكثر منهم ، إنما كدّهم الروايات ، وجمع الطرق. وطلب الغريب والشاذ من الحديث الذي أكثره موضوع ، أو مقلوب! لا يراعون ولا يفهمون المعاني ».

ـ « إلى هذا الحد؟! ».

ـ « وربما عابوا الفقهاء ، وتناولوهم بالطعن ، وادعوا عليهم مخالفة السنن .. ».

ـ « والطبقة الأُخرى؟ ».

ـ « وأمّا الطبقة الأُخرى ، وهم أهل الفقه والنظر ، فإنّ أكثرهم لا يعرجون الحديث إلاّ على أقله ، ولا يكادون يميزون صحيحه من سقيمه. وذلك إذا وافق مذاهبهم التي ينتحلونها ، ووافق آراءهم التي يعتقدونها. وقد اصطلحوا على موضوعات بينهم في قبول الخبر الضعيف والحديث المنقطع ، إذا كان قد اشتهر عندهم ، وتعاورته الألسن فيما بينهم من غير تثبت فيه أو يقين علم به. ولو حكي لهم عن واحد من رؤساء مذاهبهم وزعماء نحلهم قول يقوله باجتهاده من قبل نفسه ، طلبوا فيه الثقة ، واستبرأوا له العدة ».

ـ « وهل يمثّل لمثل ذلك؟ ».

ـ « إنّه بالفعل يستشهد ببعض الأمثلة عن ذلك .. فتجد أصحاب مالك لا يعتمدون في مذهبه إلاّ على ما كان من رواية ابن القاسم وأشهب. فإذا جاءت رواية عبد اللّه بن الحكم وأضرابه لم يكن عندهم طائلاً. وترى أصحاب أبي حنيفة لا يقبلون من الرواية عنه إلاّ ما حكاه أبو يوسف ومحمّد بن الحسن. فإن

٧٥

جاءهم عن الحسن بن زياد اللؤلؤي وذوي روايته قول بخلاف لم يقبلوه ، ولم يعتمدوه ».

ـ « وبصدد أصحاب الشافعي ، هل يقص شيئاً ما؟ ».

ـ « استمع .. وكذلك تجد أصحاب الشافعي : إنّما يعولون في مذهبه على رواية المزني والربيع بن سليمان المرادي. فإذا جاءت رواية خزيمة والجرمي ، وأمثالهما .. لم يلتفتوا اليها ، ولم يعتدوا بها في أقاويله!

ـ « .. والخطب الأعظم أن يتواكلوا الرواية والنقل عن إمام الأئمة ورسول ربِّ العزة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواجب حكمه ، اللازمة طاعته ، الذي يجب علينا التسليم لحكمه والانقياد لأمره ، من حيث لا نجد في أنفسنا حرجاً مما قضاه ، ولا في صدورنا غلاًّ من شيء أبرمه وأمضاه ، ولكن أقواماً عساهم استوعروا طريق الحق ، واستطابوا الدعة في ذلك الخط ، وأخبوا عجالة النيل ، فاختصروا طريق العلم ، واقتصروا على نتف وحروف منتزعة من معاني أصول الفقه ، سموها عللاً ، وجعلوها شعاراً لأنفسهم في الترسم برسم العلم. وأخذوا جُنّة عند لقاء خصومهم ، ونصبوها ذريعة للخوض والجدال ، يتناظرون بها ، ويتلاطمون عليها. وعند التصادر عنها قد حكم الغالب بالحذق والتبرير ، فهو الفقيه المذكور في عصره ، والرئيس المعظم في بلده ومصره ».

ـ « أقول ، أخبرني بدقة ، هل نتج عن مثل هذه الاختلافات صدامات دموية مثلاً ، أو مطاحنات أودت بالأنفس والأموال؟ ».

ـ « لقد بلغ الحال عبر الخلافات التي أدت وشيئاً فشيئاً وبتوالي السنين ، وتقلّب الدهور والأوضاع ، إلى حدوث الارتباكات وحصول الصراعات الطاحنة والتي أطاحت بمفهومه النظري ، ليطّور الحال عندئذ إلى حالات

٧٦

مؤلمة وصور مأساوية .. ».

ـ «؟!».

ـ « .. أدت إلى الطعن في المعتقدات حتّى نتج من وراء ذلك ثورات دموية ، ذهبت بكثير من النفوس والأموال ، وبشكل يبعث على الأسف الشديد ، لما حل من التطاحن بين المذاهب ».

ـ « إذن لقد أصبحوا أعداء متخاصمين؟ ».

ـ « أجل! فلقد غدا بعضهم يناوئ البعض الآخر في المعتقدات .. وقد عامل بعضهم بعضاً معاملة الخارجين عن الدين حتّى قال محمّد بن موسى الحنفي ، قاضي دمشق المتوفى سنة ٥٠٦ للهجرة : لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية. بينما قال أبو حامد الطوسي المتوفى سنة ٥٦٧ للهجرة : لو كان لي أمر ، لوضعت على الحنابلة الجزية! ».

ـ « وما هي أسباب تلك الفتن؟ ».

ـ « إن أسباب تلك الفتن التي حلت بالمسلمين ، كُلّها تعود لمسايرة بعض العلماء للدولة ، يشايعها ويؤيد وجهة نظرها ، فاغدقت عليه العطاء ، وبذلك أصبح العلم مسايراً للدولة ».

ـ « إذن ، لقد وقع الصدام فيما بينهم؟ ».

فقال طلال ، وهو يتابع حديثه :

ـ « وعلى أي حال ، فقد اصطدمت الطوائف اصطداماً عنيفاً ، وخلقت كثيراً من المشاكل التي هي في نهاية التعقيد ، ولا يمكن حلّها مادام علماء الدولة هم المحور لتلك الأُمور. ومنهم تنبعث تلك الأفكار التي يتحرك بها شعور الأُمّة ، لتقع من وراء ذلك حوادث مؤلمة! ».

٧٧

ـ « فهل هذا كُلّه ، يمكنه أن يعلن وبكُلّ صراحة أو بجرأة عن نفي القول باتفاق أتباع المذاهب الأربعة وعدم خلافهم فيما بينهم؟ ».

ـ « إذا نظرنا إلى الحوادث المؤلمة التي حصل فيها التشاجر والتطاحن بين معتنقي المذاهب الأربعة فإن ذلك يبعث في نفوسنا الألم ، مما وصلت إليه الحال السيئة بين جماعات الأُمّة الواحدة. ويدلنا ذلك بكُلّ وضوح على إبطال مَن يدّعي لهم الاتفاق وعدم الخلاف. وهو بذلك يستدل على أحقية مذاهبهم ، وصدق معتقداتهم. كما ذهب إليه صاحب كتاب التبصير وغيره ، ممن يطلقون الأقوال بدون تدبر ، ويحكمون بدون تثبّت ».

ـ « هل يمكنك أن تخبرني عن بعض الوقائع التي تمت بصلة إلى مثل هذه المصائب المحزنة؟ ».

ـ « ماذا أقول ، بل ماذا أحكي لك؟ ليت شعري أخفيت تلك الحوادث التي وقعت بين الحنفية والحنابلة ، وبين الحنابلة والشافعية ، يوم قام خطباء الحنفية يلعنون الحنابلة والشوافع على المنابر ، والحنابلة يحرقون مسجداً للشافعية بمرو! بينما تقع هناك فتنة ذهب تحت هياجها خلق كثير. ويعظم الأمر والخلاف بين الحنفية والشافعية في نيسابور ، وتقع فتنة مبعثها التعصب المذهبي ، فتحرق الأسواق والمدارس ، ويكثر القتل في الشافعية ، فينتصرون بعد ذلك على الحنفية ، ويسرفون في أخذ الثأر منهم ، وذلك في سنة ٥٥٤ للهجرة. ومثلها تقع بين الشافعية والحنابلة ، وتضطر السلطة إلى التدخل في حسم النزاع وبالقوة ، وذلك في سنة ٧١٦ للهجرة حتّى كثر القتل ، وحرق المساكن والأسواق في أصبهان ، وكان منشؤه التعصب .. ».

كنت أستمع إليه ، وأنا أشعر بأنّ شيئاً ما في داخلي يضطرب .. ولقد آن له

٧٨

أن ينفجر حتّى ما كان ليبقى منه أيّما شظية يمكن أن تعود عليَّ بنفع!

ـ « .. بل إنّه ولشدّة وقوع الفتن ببغداد ، فقد نادى منادي السلطان بمنع الفتن ، وعدم ذكر المذاهب والخصومة فيها .. » (١).

تابع حديثه وهو يقول :

ـ « وكان الحنابلة يخلّون في أعمالهم بالأمن ، ويرهجون ببغداد ، ويستظهرون بالعميان على الشافعية الذين كانوا يأوون للمساجد. فإذا مرّ بهم شافعي المذهب أغروا به العميان ، فيضربونه. وكان رئيس الحنابلة وزعيمهم الديني البربهاري يتولى إثارة الفتنة ، وذلك في سنة ٣٢٣ للهجرة. ولما تولى القشيري الوعظ بالمدرسة النظامية عظم ذلك على الحنابلة ، فحطّوا منه. وكان ينال منهم ، فوقعت بينهم فتنة ، ذهبت بكثير من النفوس. كما اشتد تعصب محب الدين بن محمّد الهندي الحنفي ، المتوفى سنة ٧٨٩ للهجرة على الشافعية ، وكان يظهر التدين والنسك ، ويرى تعصبه عليهم تديناً ، والدين بريء من ذلك .. » (٢).

بينما استدرك كلامه المتأخر بما ألحقه به ، فقال :

ـ « بينما تجتمع في يوم من الأيام بقية المذاهب على الحنابلة ، غضباً على أعمال ابن تيمية حتّى نودي في دمشق وغيرها : من كان على دين ابن تيمية ، حلّ ماله ودمه ، بمعنى أنّهم كفرة يعاملون معاملة الكافرين. على أنّ الشيخ ابن حاتم الحنبلي كان يقول : من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم ».

فقلت معقباً :

____________

(١) البداية والنهاية ٤ : ٧٦ ، مرآة الجنان ٣ : ٣٤٣ ، المنتظم ١٠ : ١١.

(٢) الكامل في التاريخ ٨ : ٢٢٩ ، مرآة الجنان ٣ : ٩٧ ، شذرات الذهب ٦ : ٢٦٠.

٧٩

ـ « إذن هو يكفّر جميع المسلمين؟ ».

قال :

ـ « أجل ، وعكسه الشيخ أبو بكر المقري الواعظ ، حيث كان قد ذهب في جوامع بغداد إلى تكفير الحنابلة أجمع (١)! ولقد لقي الشيخ عبد الغني المقدسي ، المتوفى سنة ٦٠٠ للهجرة ، من التحامل عليه ، والتكفير له ، وللحنابلة بدمشق ، ما يطول ذكره حتّى هجر دمشق ».

ـ « إذن التكفير كان قد أصبح عرفاً حاكماً على تلك العصور؟ ».

ـ « لقد غدا تكفير الفرق بعضها البعض أمراً شائعاً ، يحز في صدر الحق ، ويؤلم التاريخ وقعه ، ويتبرأ الإسلام منه. فهذا أبو سهل بن زياد القطان ، وكان من الحفاظ والثقات عندهم ، يذهب إلى تكفير المعتزلة ، مستدلاً بقوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ .. ) الآية. وثارت فتن عمياء ، وقعت حوادث مؤلمة ، ما كان مبعثها سوى التعصب الأعمى ».

ـ « ..؟! ».

ـ « .. فهذا الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزابادي المتوفى سنة ٤٧٩ للهجرة ، وكان شيخ الشافعية ، وعالمهم المبرز ، تعصب الحنابلة عليه ، فتكلّموا فيه ، وبالغوا في الأذى بألسنتهم ، فثارت فتنة عظيمة ، أدت إلى ذهاب نفوس من الطرفين. وانتصر السلطان لأبي إسحاق ، فسجن شيخ الشافعية. وهذا الفقيه أبو منصور ، المتوفى سنة ٥٦٧ ، قتله الحنابلة بالسم تعصباً

____________

(١) تذكرة الحفاظ ٣ : ٣٧٥ ، شذرات الذهب ٣ : ٢٥٣.

٨٠