وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

الجانب الآخر كيما يكون لأحدنا أن يستغلها ، فيوجه إلى الخصم ( مع إنّه لا يوجد في كلا الطرفين أيّما تسويغ يعين على ترويج مثل هذا المعنى والمصطلح عموماً ) بأقدر لكماته وأفتك صفعاته ، بل يصير إلى إثارته والاستهتار بشخصه وعقائده ، والحط من تعاليمه ، ويصمه بأنواع الخصال المشينة .. وهذا مما كنا قد تعاهدنا على أن تربأ عنه نفوسنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً .. بل أصدق اللّه الحديث ونفسي ، وكُلّ من يسمع مقالتي ويقرأ أحاديثي أنّه ما كان أي من هذا الحديث لتفوح منه روائح مثل هذه التفسخات الخلقية العفنة والسقيمة .. فكان الأمر لا يعدو مسألة علمية ، بل أشبه بأي قضية يمكن أن تعترض أيّما طالبين جامعيين ، فيفزعا إلى حلها بمختلف الطرق ، والتحقيق في أصولها .. بل إنّها أشبه بقضايا جنائية واحداث وجرائم ، فكيف كان يمكن ان يجتمع فريق من المحققين الجنائيين لبحثها والتعاون فيما بينهم للتوصل إلى حلول تنصع فيها النتائج عن صور تبشر بكُلّ خير ونجاح ، فلا تنزع عن كلال ولا عن سأم حتّى ولو كان ثمة اختلاف في الرأي ومفارقات ( ولو كانت جسيمة الهوة وعظيمة الشق ) في وجهات النظر .. فإنّه ما كان لمثل ذلك إلاّ أن يكون نعمة تسوق إلى تلاقح أفكار الرجال من بعد عرضها على محكات مختلفة في الكيفية والكمية ، لسوق حصائلها ومن بعد ذلك الى سوح ترزح بأنواع من النتائج والاحتمالات الكفيلة بإماطة كُلّ لثام عن وجه الحقيقة ، وإضاءة كافة زوايا المسرح الذي كان للأحداث أن تتحرك من خلاله وفوق مساحات أرضيته .. بل إنّ لها أن تعيدها إلى لون النظر بنفس الصيغة التي تطابقت بها مع عين الواقع الذي ليس له أن يتحف نتائج التحقيق الحاصلة من

١٠١

جهود متكاتفة ، بعضها مع البعض الآخر بأيما نقص أو ضعف أو حتّى فشل ولربما عنيت به الصفات المريعة باختيار لطخة ما تقذفه به كيما تنعته بها فيما بعد وتقوض صلاحية تلك الجلسات الفكرية ، والاجتماعات العلمية فضلاً عن تلك الندوات العصرية والحوارات المدنية والملتقيات الحضارية المشعة بألوان الحرية ، ونبذ التعصب ، ونفي الجاهلية الأُولى ، ومواكبة التقدم الفكري والصناعي. إذ أن القضايا العقائدية أولى من غيرها بمواكبة مثل تلك الأنشطة الحضارية الفاعلة ، لأ نّها أساس التحصيل الذي تقوم عليه معايير التقدم وموازين التطور التي يمكن أن تدخل في كافة الأجهزة العلمية والميادين الإدارية والمرافق الصناعية والمنشآت الفكرية لا سيما وحداتها البنائية والمفردة منها على سبيل الآحاد : ذهن الإنسان وعقل المرء التي يمكن لحيوياته المتدفقة عبر سريان قوة العصر ولهيب الحماس الإلهي الذي يضوع برائحته قلب الفطرة الحقيقي لا بد له وبالنهاية أن ينزل عند مثل هذه المناظرات الأخوية ، ويسلّم بنتائجها على صعيد الجلسات المتعددة حتّى التي منها ما يمكن أن لا تنتهي بأيما صورة حل ، إذ أن السعي على قدر الممكنات ، كما هي الأعمال بالنيات ، ذلك أنّه على قدر أهل العزم تأتي العزائم وما التوفيق إلاّ من عند اللّه! كذلك كان حوارنا يهدف إلى رسم صورة حقيقية عن منازل التاريخ ، وصور الأزمنة الغابرة ، وتعرية الحوادث الأليمة ، ومسابقة حركية من أجل وضع الموازين العرفية وصبغ الواجهات التي لم يمسسها إنس ولا جان من قبل من أجل وضع العلامات المرشدة عليها ، وتوجيه البشرية نحو طرق الصواب وإرشادهم نحو سعادة الدارين وأ نّه ليس

١٠٢

ثمة شقي إلاّ من كان قد استبد برأيه ، وما فاز إلاّ الصادقون الذين إذا سمعوا آيات اللّه تتلى عليهم لم يخروا عليها صما وعمياً وبكما .. بل كانت لها أن تزيدهم نوراً وهدى وكرامة من لدن البارئ الأوّل والآخر والظاهر والباطن ..

قال ، وهو يحاول أن ينفحني بما استودع به ذاكرته :

ـ « فيما أخرجه المحدّثون بطرقهم الصحيحة عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودونك : ص ٢٦٥ و ١٦٨ من الجزء ٣ من المستدرك ، تجد الحديث صريحاً في ذلك ، صحيحاً على شرط الشيخين. وقد أخرجه الإمام أحمد أيضاً من حديث علي في ص ٩٨ من الجزء الأوّل من مسنده. وأخرجه ابن عبد البر في ترجمة الحسن السبط من الاستيعاب ، وأخرجه حتّى الذهبي في تلخيصه مسلماً بصحته مع قبح تعصبه وظهور انحرافه عن هارون هذه الأُمة وعن شبّرها وشبيرها. وأخرج البغوي في معجمع وعبد الغني في الإيضاح ، كما في ص ١١٥ من الصواعق المحرقة المحرقة ، عن سلمان نحوه ، وكذلك ابن عساكر ».

ومن بعد أن راجعت بعض المصادر وأوكلت بعضها إلى ما بعد انتهاء المجالسة ، فلقد اكتفيت بتلك التي وجدتها مطابقة للواقع الذي ذكره .. بينما عدت إليه أسائله :

ـ « أنت ذكرت أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أراد بهذا تأكيد المشابهة بين الهارونين وتعمى الشبهة بينهما في جميع المنازل وسائر الشؤون؟ فهل أنّه لهذه الغاية نفسها كان قد اتخذ علياً أخاه؟ ».

فقال لي :

ـ « وأكثر من هذا ، فإنّ كان قد آثره بذلك على من سواه ، تحقيقاً لعموم الشبه بين منازل الهارونين من أخويهما ، وحرص على أن لا يكون ثمة من فارق

١٠٣

بينهما. وقد آخى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أصحابه مرتين. فكان أبو بكر وعمر في المرة الأولى أخوين ، وعثمان وعبد الرحمن بن عوف أخوين ، وكان في المرة الثانية أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين ، وعمر وعتبان بن مالك أخوين ، أمّا علي فكان في كلتا المرتين أخا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولولا خوف أن يضيق بنا المقام عن استقصاء ما جاء في ذلك من النصوص الثابتة بطرقها الصحيحة عن كُلّ من ابن عباس ، وابن عمر ، وزيد بن أرقم ، وزيد بن أبي أوفى ، وأنس بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، ومخدوج بن يزيد ، وعمر بن الخطاب ، والبراء بن عازب ، وعلي بن أبي طالب ، وغيرهم. وقال رسول اللّه : « أنت أخي في الدنيا والآخرة » (١).

ولقد كان قد أخذ برقبة علي وهو يقول : « إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا » (٢).

بينما تابع حديثه وآيات التعجب مرسومة في قسمات وجهي الذي صار يترجم كُلّ لحظات الصدق التي صرت أحتسي معانيها في هذا الوقت حتّى صار يقول :

ـ « وخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أصحابه يوماً ووجهه مشرق ، فسأله عبد الرحمن بن عوف ، فقال : « بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي بأنّ اللّه زوج علياً من فاطمة .. « ولقد أخرج الحديث أبو بكر الخوارزمي ، كما في الصفحة : ١٠٣

____________

(١) المستدرك ٣ : ١٤ وصححه ووافقه الذهبي ، الصواعق المحرقة : ٧٢.

(٢) أخرجه كثير من الحفاظ كابن اسحاق ، والطبري ٢ : ٢١٧ ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي في سننه وفي دلائله ، وأبو الفداء ١ : ١١٦ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ٢٦٣ وفي شرح الخطبة القاصعة ٣ : ٢١٨ ، والسيرة الحلبية ١ : ٣٨١ ، كما نقله بعض المستشرقين كالانجليزي جرجس ، وتوماس كادليل في كتاب ( الأبطال ).

١٠٤

من الصواعق. ولما زفّت سيدة النساء إلى كفوئها علي بن أبي طالب ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا أم أيمن ادعي لي أخي ، فقالت : هو أخوك وتُنكحه؟ قال : نعم يا أُم أيمن ، فدعت علياً فجاء .. » (١).

ـ « وهل له إشارات إليه غير التي ذكرت؟ ».

ـ « وكيف لا؟! فكم أشار إليه ، فقال : « هذا أخي وابن عمي وصهري وأبو ولدي » (٢).

وخاطبه يوماً في قضية كانت بينه وبين أخيه جعفر وزيد بن حارثة ، فقال له : « وأما أنت يا علي فأخي وأبو ولدي ومنّي وإليّ » (٣).

وقد عهد إليه يوماً ، فقال له : « أنت أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبرئ ذمتي .. » (٤).

ولما حضرته صلى‌الله‌عليه‌وآله الوفاة ، قال : « ادعوا لي أخي .. » (٥).

وكان علي يقول : « أنا عبد اللّه وأخو رسوله ، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كاذب ».

عندها وقفت عيناي كأنّهما ثبتتا في محجريهما وتسمّرتا ، بينما رجعت إليه وعلى وجه السرعة ، وأنا أقذف إليه بالكلام وعلى مطلق الاسترسال :

____________

(١) المستدرك ٣ : ١٥٩ وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص ، الصواعق المحرقة الباب الحادي عشر.

(٢) كنز العمال ٦ : ٤٠٢ ح ٦١٠٥.

(٣) المستدرك ٣ : ٢١٧.

(٤) منتخب الكنز ٥ : ٣٢ عن الطبراني في معجمه الكبير.

(٥) الطبقات الكبرى ٢ : ٥١ ، كنز العمال ٤ : ٥٥.

١٠٥

ـ « عدها علي ثانية ، أقصد! .. كرر ما قلته .. ، هذه الجملة ، أعد علي ذكر الخبر .. الصديق .. ».

قال :

ـ « قال : .. وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كاذب » (١).

بدت على وجهي علامات الدهشة ، لم أستطع أن أكبح تلك الافرازات التعبيرية التي جعلت ترتسم وببساطة فوق محياي ، لم يكن بوسعي أن أتلافى نظراته ، كان يحسن الالتفات إلي ومراقبتي بحذر ، بيد أنّه ما كان بميسوره الاستمرار بذلك ، كأنّه ما كان يحب التطفل على غلبة مشاعري وحرب عواطفي مع قوى العقل التي جعلت تطحن وبشراسة كُلّ مقاليد الأُمور لتنسحب بعد أن تخلف في القلب كُلّ شاغر من الأماكن التي له أن يحتلها فيما بعد وبكُلّ بطولة وحماسة! قد شعرت بأن كياني كلّه كان يأخذ بالركوع ، بالسجود لكُلّ هذه القيم والمبادئ ، بل لكُلّ هذه المعلومات والأخبار ، إنّها شرسة بقدر ما كانت وفي الوقت نفسه عظيمة ، رائعة ، باردة كبرودة أيام الربيع الطيبة ، ودافئة كدفء أوائل أيام الشتاء! إلاّ أنّي كنت أرتب أوراقي على عدم الانسحاب من جولات الصراع الفكري هذا ، إلاّ وأنا راضي الوجدان ، مرتاح الضمير والبال ، هادئ الأعصاب ، ساكن الخلائج حتّى أركن إلى نقطة أُخرى فأنطلق من عندها بعدما يتيح لي الوقت متسعاً كافياً كيما أختزن ما وجدته هذه المرة! ولقد شعر بضرورة متابعة الحديث ، فعمد إلى المواصلة ، وقال :

ـ « .. وقال كذلك : واللّه إنّي لأخوه ووليّه ، وابن عمّه ووارث علمه ، فمن

____________

(١) الخصائص العلوية للنسائي ، المستدرك ٣ : ١١٢ ، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ٥ : ٤٠.

١٠٦

أحق به مني » (١)؟

وقال يوم الشورى لعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير : « أنشدكم اللّه فيكم أحد آخى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينه وبينه ، إذ آخى بين المسلمين غيري؟ قالوا : اللهم لا »! أخرجه ابن عبد البر في ترجمة علي من الاستيعاب. وغير واحد من الاثبات.

ولما كان قد برز للوليد يوم بدر ، كان قد قال له الوليد : من أنت؟ قال علي : « أنا عبد اللّه وأخو رسوله » (٢).

كما وسأل عليٌّ عمرَ أيام خلافته ، فقال له : أرأيت لو جاءك قوم من بني اسرائيل ، فقال لك أحدهم : أنا ابن عمّ موسى ، أكانت له عندك إثرة على أصحابه؟ قال : نعم. قال ، فأنا واللّه أخو رسول اللّه وابن عمه ، فنزع عمر رداءه فبسطه ، وقال : واللّه لا يكون لك مجلس غيره حتّى نتفرق ، فلم يزل جالساً عليه ، وعمر بين يديه حتّى تفرقوا ، بخوعاً لأخي رسول اللّه وابن عمه! (٣).

كما أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسدّ أبواب الصحابة من المسجد تنزيهاً له عن الجنب والجنابة ، لكنه أبقى باب علي ، وأباح له عن اللّه تعالى أن يجنب في المسجد ، كما كان هذا مباحاً لهارون ، مما يدل ذلك على عموم المشابهة بين الهارونين عليهما‌السلام ، قال ابن عباس : وسدّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أبواب المسجد غير باب علي ، فكان يدخل المسجد جنباً وهو طريقه ، ليس له طريق غيره ».

____________

(١) المستدرك ٣ : ١٢٦.

(٢) الطبقات الكبرى ٢ : ١٥ من القسم الأول.

(٣) أخرجه الدارقطني في المقصد الخامس من مقاصد آية المودة في القربى والهيتمي في صواعقه : ١١٧.

١٠٧

تريثت قليلاً حتّى قلت له ، وأنا أضرب إلى صرف النظر عن كُلّ ما كان قد اعترى أفكارى للحظة ، وذلك كيما أركز على هذه المسألة : ترى أيجوز أن يدع علياً وحده يفعل مثل هذا ، ولا يؤمره بعدها على البلاد الإسلامية من بعد أن يرحل عن هذه الدنيا؟! إنّه أمر ليبعث على الدهشة إن لم يفعل ، ولكن لِم لم تصبح كُلّ هذه الأخبار دلالات قوية لنا نحن أهل السنة ، كيما نتشبث بعلي ونترك التمسك بغيره .. غيره؟! ( عندها التفت إلى نفسي أسألها عين ما ساءلتها من قبل : مع من أنت؟ لاي جانب تنتصرين؟ لا تقولي أنتصر لجانب الحقّ ، فإنّ الحقّ وإن كان له أن يغدو ذات يوم بيّناً ، فإنّي ما أراك إلاّ ضعيفة في اتخاذ القرار حتّى ولو كنت قد اطمأننت إلى نصيبه .. من كُلّ هذه المخاصمات والمحادثات .. ) حتّى إذا ما أردت أن افوه بشيء ما ، كان هو قد أسعفني بالكلام ، وهو يقول :

ـ « هذا الحديث طويل ، فيه عشرة من خصائص علي .. آمل أن تتعرف عليه كاملاً ذات يوم .. ».

بينما كان له أن يسهب في الحديث هذه المرة ، فجعل يقول وهو يردف الكلام تلو الآخر :

ـ « وقال عمر بن الخطاب من حديث صحيح ورواه عن كُلّ من عمر وابنه عبد اللّه غير واحد من الإثبات بأسانيد مختلفة. حيث جاء فيه قوله ، أعني قول الخليفة عمر بن الخطاب : لقد أُعطي علي بن أبي طالب ثلاثاً ، لأن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم : زوجته فاطمة بنت رسول اللّه ، وسكناه

١٠٨

المسجد مع رسول اللّه يحل له ما يحل له فيه ، والراية يوم خيبر » (١).

فعل رسول اللّه ذلك ولم يعترض عليه أحد من أصحابه؟.

وكيف لا؟ وهم ما كان لهم أن يؤمنوا برسول اللّه إيمان المذعن ، والمسلّم لقوله وفعله وتقريره على أنّها سماوية لدنّية وبشكل مطلق! فلقد ذكر سعد بن مالك بعض خصائص علي ، في حديث صحيح أيضاً ، فقال : وأخرج رسول اللّه عمّه العباس وغيره من المسجد ، فقال له العباس : تخرجنا وتسكن علياً؟ فقال : « ما أنا أخرجتكم وأسكنته ، ولكن اللّه أخرجكم وأسكنه » (٢).

كان يتحدث وينظر إليّ بامعان وحدة ، وكأ نّه كان يفهم قصدي ، وذلك بعد أن سألته قائلاً :

ـ « وهل تكلّم الناس في ذلك ، أعني أنّه هل اعترض عليه آخرون؟ ».

فقال لي :

ـ « نعم! قال زيد بن أرقم : كان لنفر من أصحاب رسول اللّه أبواب شارعة في المسجد ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب علي ، فتكلّم الناس في ذلك! فقام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثُمّ قال : « أما بعد ، فإنّي أُمِرت بسدّ هذه الأبواب إلاّ باب علي ، فقال فيه قائلكم ( وهنا كنت المح في عينيه نظرات ساكنة ، يمكن أن تفي بألف مغزى ومعنى! ) وإنّي ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكني أُمِرت بشيء فاتبعته » (٣).

وكأني أشعرته بأ نّي ما زلت أطالبه بالمزيد من الأخبار عن هذا الحدث ،

____________

(١) المستدرك ٣ : ١٢٥ ، الصواعق المحرقة : ٧٦ ، مسند أحمد ٢ : ٢٦.

(٢) المستدرك ٣ : ١٧.

(٣) مسند أحمد ٤ : ٣٦٩.

١٠٩

فقال وهو يستدرك كلامه :

ـ « كما أخرج الطبراني عن ابن عباس ، حيث قال : إن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قام يومئذ ، فقال : « ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي ، ولا أنا تركته ، ولكن اللّه أخرجكم وتركه ، إنّما أنا عبد مأمور ، ما أُمِرت به فعلت ، إن اتبع إلاّ ما يوحى إلي » (١).

فقلت له عندها :

ـ « كنت كمن أخبرني بأنّ سد الأبواب هذا كان يرتبط بموسى وهارون .. أليس كذلك؟ ».

ـ « أجل ، عن سعد بن أبي وقاص ، والبراء بن عازب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وحذيفة بن أسيد الغفاري ، قالوا كُلّهم .. وذلك فيما أخرجه عنهم جميعاً علي بن محمّد الخطيب الفقيه الشافعي ، المعروف بابن المغازلي في كتابه : المناقب للخوارزمي ، وبالطرق المختلفة ، بينما كان قد نقله الثقة المتتبع البلخي في الباب ١٧ من ينابيعه. حيث قالوا كُلّهم : خرج رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسجد ، فقال : « إنّ اللّه أوحى إلى نبيه موسى أن ابن لي مسجداً طاهراً ، لا يسكنه إلاّ أنت وهارون ، وأن اللّه أوحى إليّ أن ابني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ أنا وأخي علي ».

ـ « إذن قضية موسى وهارون ، وعلي ورسول اللّه ، كان لها ارتباط عميق؟ ».

ـ « جداً وإلى حد عظيم! بينما ليس بوسعي أن أستوفي كُلّ ما جاء بصدد

____________

(١) الصواعق المحرقة : ٧٣.

١١٠

ذلك في النصوص الثابتة عن كُلّ من ابن عباس ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن أرقم ، ورجل صحابي من خثعم ، وأسماء بنت عميس ، وأُمّ سلمة. ».

عندها قلت ، وأنا أقطع عليه سلسلة الكلام :

ـ « أسماء وأُمّ سلمة .. ».

ـ « أجل ، فإنّ لهنّ نصيباً من حمل الأخبار وترويج علوم الرسالة! .. نعم ، فكنت أقول : وأُمّ سلمة ، .. وحذيفة بن أُسيد ، وسعد بن أبي وقاص ، والبراء بن عازب ، وعلي بن أبي طالب ، وعمر بن الخطاب ، وعبد اللّه بن عمر ، وأبي ذر ، وأبي الطفيل ، وبريدة الأسلمي ، وأبي رافع مولى رسول اللّه ، وجابر بن عبد اللّه ، وغيرهم. وفي المأثور من دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « اللهم إنّ أخي موسى سألك ، فقال : ربِّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري ، واحلل عقدةً من لساني ، يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، هارون أخي ، أُشدد به أزري ، وأشركه في أمري. فأوحيت إليه سنشد عضدك بأخيك ، ونجعل لكما سلطاناً ، اللهم وإنّي عبدك ورسولك محمّد ، فاشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أخي » (١).

بينما تابع كلامه وقد شعرت بأنّ التعب قد استبد به هذه المرة ، وكأنّ آثار المرض لم تكن قد زالت عن جسمه بعد وبشكل كامل! حتّى كان له أن يكمل ما أراد البوح به ، فقال :

ـ « ومثله ما أخرجه البزار من أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان قد أخذ بيد علي ، فقال : « إنّ موسى سأل ربّه أن يطهر مسجده بهارون ، وإنّي سألت ربّي أن يطهر

____________

(١) تفسير الثعلبي عن أبي ذر.

١١١

مسجدي بك .. ».

عندها انتابتني رعدة هزت أوصالي ، وعصفت بكياني .. لا أدري لماذا ، وكأن قشعريرة ثلجية استبدت بكامل أعضاء بدني ، وهي لا ترى أن تغادره ، حتّى أسعفتني دفء كلماته ، وذلك حينما شعر بأنّ وطء القضية قد أبهضني حتّى عدت لا أحتمل تصوّر الموقف .. تُرى مع من أكون الآن؟ أو مع من أنا حقاً؟! فقال وهو يكمل حديثه :

ـ « نعم! كنت أقول .. وإنّي سألت ربّي أن يطهر مسجدي بك ، ثُمّ أرسل إلى أبي بكر أن سدّ بابك ، فاسترجع! ».

ـ « استرجع؟! ».

سألته ، وأجابني بنفس السرعة التي بادرته بها :

ـ « أجل! ثُمّ قال : سمعاً وطاعة ، ثُمّ أرسل إلى عمر ، ثُمّ أرسل إلى العباس بمثل ذلك ، ثُمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي ، ولكن اللّه فتح بابه وسدّ أبوابكم ».

١١٢

الفصل التاسع

مخالفة الشيعة حتى ولو كان ذلك على حساب الشريعة

كنا أشبه بالمغتربين إلاّ أنّ حالة الاغتراب هذه تضاعفت حالما وجدنا أنفسنا خلواً من أيّما هدف أو شعلة يتوخى المرء من خلالها تبيان مقاصده واستجلاء طرائقه. غير أنّ نسيج الزمن الذي جعل سلخ تباعاً كان له هو الآخر أن يفقد وبمرور الأيام وكرور الساعات شيئاً من بريق وجهه الذي صار يلتهب حتّى صار يضحي بلآلئ لمعانه .. فكيف لها أنْ تذوب دون أيّما إذلال للون من إمعان النظر وإنعام البصر لأ نّها بدت باهتة الألوان .. لم يكن كُلّ هذا ليعني لي أنّي قد غدوت دون هدف حتّى وجدت نفسى البث دون حراك أمام مساءلات عقائدية وتاريخية ، ظلت تمور في دواخلي ، وهي ما تزال تنبثق وتنمو كأنّها سحب دفنتها الدهور في أغوار الأرض ، فإذا ما عتقت الأيام زال التراب إثر الإنجراف وحملات التعرية الطبيعية ، لتبدو بعدها تلك السحب الأرضية واضحة حتّى صار لها أنْ تنتفخ لعد لفحة حبس دامت طويلاً ، كانت قد قضتها محتجزة في داخل الأرض عبر سلاسل وقيود مختلفة ، إذ كانت ترسف في ربقة اغلالها كُلّ تلك الأيام حتّى إذا ما استتب لها الوضع انتفخت وطارت إلى أعلى ، لتمكث هناك وهي تلوّح للجميع بقرب نثر التقدمات والهبات على رؤوس الخلائق كافة .. غير أنّي ما كنت أشعر بأ نّي لا أمتلك أيّما هدف ، يمكن له ان يتحرك في عباب أعماقي ، بل إنّي ما كنت لأفيق من سكرة

١١٣

حتّى أشعر بأنّ نبضاً جديداً قد صار يدفق إلى مسامعي ، كيما ينسخ ويصحح ويرقى بي بالتالي صوب أعلى قنة ، لأصير بعدها أتطلع ومن علو دون الحاجة إلى أن أدفع بعنقي هذا إلى أعلى ، علّه يشرئب بي فاصير أشرف على فوهات تلك الأحلام الجديدة والأهداف القصية. ولذلك ، فما كان مني إلاّ أن أعيد جردي لكُلّ حساباتي السابقة ، وأوراقي التي مضى عليها زمان ليس بالبعيد ، فأنا الذي كنت وما زلت أشتغل في كتابة القصة ، وأنهمك في مجلاتها وخصائصها حتّى صرت أعاقرها كما يعاقر مدمن المشروبات الخمرة حتّى صار مدلهاً ببنت العناقيد!

أصبحت أتخلى عن كُلّ اهتماماتي ، وأطوي كشحاً عن كُلّ اتجاه ، ريثما أعثر على طريدتي ، وأضع اليد على ضالتي التي أطاردها ، أو بالأحرى ، فإنّي كنت أحس أنّها قريبة مني جداً وإلى حد يصعب معه أن أبصرها أو أقنصها بحدقتي الثنتين. فلئن جعل الربّ ينسخ دينه وبعضاً من شريعته ، وحسبما يقتضيه لسان حكمته ، وثوب الصلاح الذي يراه لعباده ، فإنّي شعرت بأنّ الأجواء حولي تثير زوبعة من الزوابع تثبت أن البشر قد غدوا ينشطون وبانفسهم من أجل نسخ شرائعه ، ومن دون الرجوع في ذلك إلى اللّه نفسه ، واستحصال الإذن منه بذلك ، ومن دون أن يختارهم هو لهذا الأمر ، أو يأمرهم به ويندبهم لأجله! والأشد والأقسى من هذا كُلّه ، هو أنّ الربوة التي تسنم قنّتها هؤلاء الأشاوس من الذين أذهلتهم إمكاناتهم الدنيوية واستعداداتهم المادية ، قد ظنوا أنّ بوسعهم أنْ يكايدوا على الدين ، وبلون عصري منمق ، ومن دون إشعار يمكن أن يثير الأُخرى ، ويستوفزهم بشيء من أطراف هذه المناكدة حتّى إذا ما برق البصر ، وذهلت كُلّ مرضعة عمّا أرضعت ، كان للوافدين عندها

١١٤

أن يحسوا بما فعله الغابرون من البشر ، ويشعروا بما أجرمه الماضون من السلف! ذلك أن الأخيرين ما كانوا إلاّ ناسخين لشرعة الرحمن ومن دون الإعلان عن نسخ الآيات القرآنية من قبلهم ، فإن كان الرسول يعلن أمام الملأ أنّ اللّه قد دفع إليه بوحي من لدنه يقضي بنسخ الحكم الفلاني ، وبعث الحكم الآخر ، فإنّ هؤلاء ما كانوا ليعلنوا كذلك! بل شرعوا ينسخون ومن دون التصريح بأ نّهم هم الناسخون أصلاً ، إنّما جعلوا يلصقون كُلّ ما وسعهم إلصاقه بجد كُلّ متقي : رسول الأُمّة! وإنّ وحيه كان قد نسخها. وهذا ما يمكن أن يذكره فلان وفلان من الرواة ، حتّى صاروا يحدثون بأ نّه لو كان لديكم أيّما شك فأتوا بهم على أعين الأشهاد من الملأ ، كيما يقرؤونكم ما سمعوه من رسول الإسلام حتّى مثل بين يدي الناس عشرات من هؤلاء الذين ألهبت بطونهم حرارة الدراهم حتّى جعلوا لا يفهمون كيف يكذبون على سيد الرسل انصياعاً لغايات هؤلاء المتنفذين .. وإذا ما ضاق بهم الحال والانتظار ، ريثما يحلّ الصيف والشتاء ، ويغدو عليهم من ينتحل لهم الروايات ويؤسس لهم نظرية إبداع وخلق الحكايا عن أقوال الرسول الأكرم ، طفقوا يعلنون عن تحريمهم لفلان سنة ، وكذا شريعة لأنّ المصالح تدعو إلى نبذها في الوقت الحاضر ، ذلك أنّ الماضى ولّى وولّت معه كُلّ مواريثه التي كان يحتاج معها إلى مثل هذه الأحكام .. ظناً منهم أنّ الطريق إلى كسر شوكة الهاشميين هي أقرب طريق إلى تدعيم شوكة حكوماتهم من حيث مخالفة كُلّ ما جاء به عميدهم علي بن أبي طالب! ليغدو بعدها كُلّ راو حتّى ولو لم يكن قد رأى الرسول أو آمن بالإسلام إلاّ حين كان لرسول اللّه أن يرحل إلى الرفيق الأعلى ، أو من قبل أن يتوفاه اللّه بعدّة شهور أو بسنة أو اثنتين مثلاً ، فإنّ لقول مثل هذا أن

١١٥

يصبح يضاهي قول عَلَم الهواشم من آل الرسول ، ويقف ندّاً له في تصويب الرواية وتصحيح مقالة رسول اللّه!

لقد طرأ كُلّ هذا على نفسي في لحظة واحدة من اللحظات ، أحسست في أثنائها أنّي قد أصبت بلوثة ما ، ترى هل يصح ما جعلت أفكر به ، هل يمكن أن يحدث مثل هذا ، أم أنّ ما حصل ومن قبل ، هو عين ما كان له أن يلتمع في ذهني حتّى اعشوشبت أزاهيره وأخضرت مزاهيره في مخيلتي ، فبدت مغروسة في عروقي ، مزروعة في نفس تلك الحدائق التي ظلت أصص الأوراد تداعب تخومها بألوانها المتراقصة ما بين عذب الإنسان وأريج العبائر الفواحة من أقاصيها المنتصبة ببهجة وسعادة.

وفجأة تناءى إلى سمعي الخبر! فإنّ قاسماً قد استبصر ، ويحه! ألم يعش دهراً معي ومن قبل ، وهو ما يشغله سوى ذم هؤلاء الشيعة ، والتفكير في أيّما وسيلة للقدح عليهم والتقريع على عقائدهم .. لقد كنت عنه في شغل شاغل كُلّ هذه الفترة ، وما كنت حين أفكر كيف أنّه لم يفتقدني كُلّ هذه المدّة ، أو لِم لا يضيره ما يراه من لقاءاتي المتكررة وحواراتي المتعددة مع طلال عبد الواحد .. بل أين كان كُلّ هذه المدّة ، وكأ نّي حقيقة كنت عنه في شغل شاغل .. إلاّ أنّه هو الآخر لربّما كانت تشغله عنّي أغراض مختلفة .. بيد أنّه هو نفسه الذي ما كان قد طال به الأمد حتّى شعرت به وكأ نّه كان قد استغل أيامه أجمع كيما يسقيني كُلّ نفثات العلوم المضادة لهؤلاء ، بل كأنّه كان قد جعل أيام عمره وقفاً على مناوأة الجمع الشيعي. ولقد كنت أجالسه وأماشيه .. ولعل كُلّ منّا كان له أن يتوكأ على آراء الآخر ، ويستند إليها! بينما كان لنا أن نستقيم كُلّما وجدوا أنفسنا تحيا بفعل حيوية كلام الآخر وأنفاس عباراته. وما كان

١١٦

ليريبني أيّما إحساس قط حياله ، إلاّ ما كان قد نبغ الآن ، وجعل ينجم في لحن فراستي من أوهمني أنّه قد غدا فريسة لملاعب تلك الغربة التي أن تضحو سمّاً يطارد الأفعى نفسها بفرية لا تعرفها سوى هذه الفرقة! ولا أعدو إلى هذا الكلام إلاّ لأ نّه طالما كان يذكرني بأمثال هذه الجمل والألفاظ حتّى خلته ما كانت أُمه قد أولدته إلاّ وهي تلحن بمثل هذا الكلام! بينما ما كانت تغدو أفعى لسانه إلاّ ممن صار عليها ومن المحتم أن تخاف على نفسه من لدغة نابها هو وبحد ذاته .. فهل أن قاسماً هذا ، كان قد ملأه الغرور وإلى حد ضجت به الأيام حتّى صار يجنح إلى تعمد أغاضتي ، وإشباعي بكلمات ليس لي أن أصحو بعدها ومن تلقاء نفسي إلاّ أثر وخز يتعاهد أحدهم صنعه. ولئن فعلت ، وصرت أصحو وبحسب بدَهيتي ، فهل لي أن أنسى وقع الأسى الذي اختفى لحنه في داخل كُلّ أعضاء بدني ، وصار يفيض الماء من كُلّ مسامات جلدي حتّى له أن يتقشر ويتفصد بعد ذلك عرقاً .. وهو الذي انتقلت جدرانه إلى حالة مشبعة باليباس وذلك إثر نوبات من الجفاف. وها هو ينبت قطرات مالحة ، ليس لها أن تعتاش إلاّ على تمرير أكف أغضبها الأقربون قبل الأباعد ، تساءلت في قرارة نفسي ، والألم يعتصر فؤادي :

ـ « كيف لك يا قاسم أن تفعل فعلتك ، أو تقدم على مثلها ، لقد آمّنا بضرورة التنفس تحت سماء واحدة ، فإذا ما أردنا الاقلاع عن التدخين ، أقلعنا سوية ، أليس كذلك؟! أووه! ».

هل كان قاسم يمثل لي ضوء الحلبة التي يتنافس في داخلها المصارعون المهووسون بنتائج نزالاتهم تلك؟ وهل كان وجود قاسم إلى جانبي يمثل لي سلوى تسرّي عن آلامي ومآسي أوجاعي ، أم كان له أن يعبر لي عن دواء

١١٧

ناجع ، يمكن له أن يشفي قروحي ، ويرقأ جروحي التي ظل الزمان يتعاهد نكئ جروحها كُلّما غارت في عمر الأيام وخلتها قد اندملت؟ أم أنّ حضوره في نفس المكان ، كُلّ هذه الأوقات ، كان يعد بلسماً ينسيني أسقام غربتي هذه التي ما زلت أعيشها وعلى مضض ، لا أنهض بأعبائه إلاّ كما أنهض بلون من ألوان العناء ، كان قد أبهضني تحمل طول رسوخه وعدم زواله .. ، بل إنّ الانتماء إليه كان قد شدد بضرباته إليّ حتّى أورثني الكثير من الندم وألحق بي ومضات الحزن الواحدة تلو الأُخرى ، وكأ نّي قد صحوت فجأة على حقيقة مفادها فهل يمكن لقاسم أن يؤثر على طبيعة الاتجاه الذي أتحرك في خلاله ، أم هل له أن يطغى بأفعاله أو سلوكياته على كُلّ تصرفاتي ليصل الحد إلى أنّي لم أتشيع أو أستبصر ، ذلك أن قاسماً لم يفعل .. إن مثل ذلك ما كان ليمثل بالنسبة لي إلاّ كُلّ هراء وتهريج ليس أكثر. فكان قاسم يعبر عن عزائي في غربتي ، وسلواي في عزلتي ، ومن بإمكانه أن يسري عني آيات الحزن ، وذلك عندما كنت قد نأيت عن مسقط رأسي ، وحلاوة تغذي أعصار أيامي التي نزحت عن موطن آبائي .. ولكن ، ما جعل يعتصرني أكثر فأكثر ، هو أنّه كيف بدت منه الجرأة ، كُلّ هذه الجرأة وأعلن عن استبصاره ، وصرح بتشيعه؟ إلاّ إنّي عللت النفس بأنّ قاسماً هو إنسان سرعان ما يؤخذ بالمظاهر حتّى إذا ما استحل غياض مرتع ما ، من بعد أن وجده خصباً ، وذلك حينما لا يكون ثمّة من مروج غناء تفوق في الحسن فيكْلف بها ويشغف .. حتّى إذا ما وجد الآخر عدل عن رأيه في الأوّل ، وانتقل إلى الثاني. فهل أقصد من ذلك أنّه يمكن أن يعود يوماً ما إلى مذهبه السنّي أم أنّه ينتقل ربّما وفي ذات ليلة إلى حضن مذهب مسيحي ، يصير يرعاه ويغذوه بفنون الأقانيم الثلاثة حتّى تجعل منه يشهد المراسيم

١١٨

الكاثوليكية ، ليخلط بعدها بين عزاءات الكنائس البروتستانتية والأرثوذكسية ، ويتيه بناظريه قبل أن تضطرب دقائق الهواء ، وتهتز صفحات الفضاء في داخل مناحي أذنيه ، فيصوب عندئذ بناظريه إلى أعلى ، حيث يصير يرى إلى تلك الأجراس التي تصير تعمل أصواتها في كُلّ الأرجاء .. ليفيق بعدها من سباته ، ويعود إلى حياض مراتعه الحقيقية ، ويعلم أن الدين ليس ألعوبة ، وأ نّه ليس لكُلّ من يضرب على الطبل ، ويغري بالأصوات ، ويعلي بصرخاته ، أن يكون هو الأصح! وهو صاحب الطريقة اللأحبة والمنهج الواضح. فلو كان الأمر كذلك ، لو أنّ كُلّ سوفسطائي هو بحق أوّل من له أن يتربع على عرش البطولة ، ويتصدر مقامات الدرجة الأُولى ، لأ نّه يغلب الخصم بلجاجته وثوراته التهويمية وتغريباته الغامقة في مظاهرها الخاوية في دخائلها .. كحال هذه الاجراس التي تدوي ، مع أنّه لو حقّقنا في ذلك ، لكان لنا أن نفهم صوت هذه الأجراس إنّها تدعو حقاً إلى نبذ النصرانية ، وتوحيد الخالق ، والدعوة إلى دين التوحيد ومنهج الإسلام الحنيفي الحق؟!

إذن قد فعلها قاسم! غير أنّ ما يثيرني ، ويوجع صدري ، ويقرح فؤادي ، ويوغر في عمق دخائلي حتّى لكأنّ جدارات وجودي قد تصدعت ومن الداخل دونما أن تنسل إلى الخارج أيّما قطرة دم .. لأنّ النزيف كان له أن يسري مفعوله داخل البدن ومن دون أن أشعر حتّى صرت أهذي وأبدي مظاهر المرض ، وعلامات الحمى التي تثير من حولي ، وتدعوهم إلى الاهتمام بي غير أن هذه الأوجاع ما كنت أخالها إلاّ آثاراً ترتبت على حالات مسبقة لم يبد للعيان رسمها أو معنى دائها حتّى التبس الأمر على الجميع. وما كان يحس الأخيرون بما أحس به من أن أيامي هي أيام معدودات .. لأنّ المرض قد

١١٩

تمكن منّي! وهم يتصورون أنّ المرض قد بدأت علاماته تظهر على جسمي وللتو .. ولما يستيقن المرء من أن الموت هو قد لحق به ، وصار يهز بجناحيه عند رأسه ، وهي ترفرف خفاقة ، وتصفق أطراف الهواء ، وتعجن ألوان أفكاري بضروب من القيح الذهني .. ذلك أنّي آنست ناراً لعلي آتي نفسي أول ما آتي بقبس منها ، ثُمّ أدفع به إلى أهلي وعشيرتي. لأ نّه لا يمكن أن أمنحهم نفحة من هذا القبس حتّى أعتنق عقيدة الإنسياق وراء أضوائه ، لتشع بعد ذلك فيوضه على جنبات وجهي ، وتشمل فوديّ ، وتطبع صدغيّ بلمسات إنارة مصحوبة بفنون كُلّ الإنعكاسات .. فليس لي أن أدعو أهلي إلى التشيع ، وأنا ما زلت أكابد حرّ أوجاع أفكاره ، وكيف صار لها أن تنادمني كُلّ ليلة ، وتقارع أهوائي ، وتخلد إلى كُلّ ما يخلد إليه فكري ، وصارت تؤانسني ، وتلح علي بالكلام ، وبالضبط بعد أن شعرت أنّ قاسماً قد تغيّر ، ليس هو قاسم الأمس الذي كنت أعرف. وما كنت لأعني أنّه انقلب تنيناً إلاّ أن قاسماً الذي كنت أعرف ، كان يتهجم على الشيعة ، وذلك عندما تتيح له الفرصة مثل ذلك ، حينما يطرق سمعه حديث عنهم أو مقالة تتقصد البحث في معتقداتهم وأئمتهم! بينما كان قاسم الذي كنت أعرف ، يعمل على مطاردة أخبار الشيعة ، ويتسقط ألوان حكاياهم ، ويتندر على فعالهم ، ويتعقب أحداثهم بلهجات ملؤها السخرية ، حتّى كان يعبّ منها دائماً ، بل ظل يسقيني من زعافها الحرّيف حتّى أثملني حد الشبع ، وبلغ بي عنفوان التخمة. فإذا ما زايلني وأنا على هذا الوضع وهذه الحال ، فإذا به يفجأني في ظهيرة أحد الأيام ، حينما رأيته مستبشراً ، واضح الأسارير ، منبلج المحيا ، وقد سيطر عليه شعور هو أشبه بشعور من قد عانق أعمدة السجون ، وصارع نوافذها المعقضبة حتّى غامر في إختراق الجدر

١٢٠