وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

لا عن جدارة سعي ، أو شدة بأس كانت قد جدّت في طلبه من استقت نورها من حيث استسقته ، وما ظننت عندها إلاّ أنها قد سقيت نور النور ، غير أنّها ما كانت قد سقيت إلاّ إنعكاسه .. وطبيعي أن من يقصد العاكس للنور ، سيقصد الجهة المخالفة للحق بالتأكيد ، وبشكل يقطع بحاصل رياضي ، مئة بالمئة .. لأنك إن اعتقدت أن القمر هو مركز الاشعاع والنور ، فإنّك ما كنت إلاّ لتنفي عن الشمس ضوءها ، وبالتالي تعدم وجودها من أصله .. وإن اعتقدت بمثله ستحذو طريقاً يوصلك إلى جهة القمر. ولما كان القمر يطلع عليك في ليل يرخي سدوله على جانب الأرض التي أشاحت به عن الشمس .. لذا ، فإنّك إن تقفّيت آثار القمر ، ما كنت لتتقفى إلاّ آثار الجهة المخالفة للجهة الحقيقة التي ينصب منها سيل الضوء ، وينبع منها شعاع النور الحقيقي .. ذلك أنّ القمر ما كان إلاّ عاكساً. فما كان آباؤنا إلاّ عاكسين للأضواء الإلهية ، غير أن لنا أن نتساءل ، هل يحق لنا أن نعتبرهم المصدر الحقيقي لهذا الضوء. سيكون الجواب كما صرحت ، فإنّهم وسيلة تعكس ما يتلقونه ليس إلاّ .. ومتى سيكون عليك النهوض بمهام جديدة تختلف عن سابقاتها ، ذلك حين تدلك بأنّ القمر لا يعكس من ضوء الشمس إلاّ بنسبة ٧% من الضوء الذي يتلقاه منها. لذا ما كان ليصل إلى القمر ، فهو لا ينعكس كُلّه ، فإنّ ما كان له أن يصل إليهم ، ربما ما كان لهم أن يعوه ذلك الوعي .. أو كان يقلد لهم فهم على ما ينبغي ، أو يتيسر لهم التقاطه أجمع ، وامتصاص كُلّ ما له أو أنّه يصل إلى سطوح ادمغتهم ، ويلامس حنايا قلوبهم ، لأنّ لهم إمكانيات محدودة وطاقات معينة و .. ».

ـ « إذن ، فإنّي لا ألومك على ما تحمل من أفكار لأ نّي لا ألومك ، كذلك على ما تحمل من عقلية .. غير أنّي أكاد التقط منك ضياءات حسية تكاد

٣٢١

تسعفني في حربي الضروس هذه ، وأكاد أحتمل ما أحتمله وبشق الأنفس حتّى أصير أعبّ من هذه الأنوار المنطقية التي تحملها. ولربما حسب ما تدّعيه من أن ضوء القمر لا يعكس سوى ٧٠% مما يقع على سطحه من ضوء الشمس ».

قاطعته :

ـ « إنّي أنا لا أدعي ذلك ، إنّما العلم هو الذي يحكي هذا ».

أضاف وهو يستدرك كلامه ، ومن دون أن يعلق على تنويهي ، فقال :

ـ « كذلك ، أعتبرت نفسي مثل هذا القمر حينما يتلقط ضوء الشمس الواقع عليه .. فإنّي صرت التقط من لسانك ما يعين عقلي على مجاراة علميتك ومضارعة أسباب أدلتك العقلية واستنتاجاتك المنطقية ».

ـ « لذا ، فأنت تعترف بأنّ آباءنا كانوا يعكسون ما يعكسون بالمقدار الذي تطوفه خلايا مخاخهم ، وما يعد بالتالي عمّا تعكسه قدراتهم التي رزقهم اللّه ومنحهم إياها دون إذن يكون لهم أيّما سبب في عكس هذه الـ ٧% .. ولو كان بوسعهم أن يعكسوا أكثر من هذا ، لكانوا قد فعلوا ، وإن اللّه لا يكلف نفساً إلاّ وسعها .. ».

قاطعته أنا الآخر هذه المرة :

ـ « وإذن ، أنت الآخر صرت تغذوني بالادلة التي صرت أتحسس لونها ، وأتشمم رائحتها ، بل أتفقد طعمها وأستذوقه ، ومن حيث لا تشعر .. فإنّك كذلك تدين نفسك بنفسك .. ولا تريد أن تصبح كهذه الأرض التي تتحرك أنت على سطحها ».

ـ « ولماذا أصبح كهذه الأرض ، إنك تثيرني بهذه الأعاجيب من الأجوبة التي لا أكاد أظن بأنك تعتقد بها داحضة لاغمة .. ».

٣٢٢

ـ « أجل ، وأنا أصدّق على ما تظنه ، وأزيدك وضوحاً ، بأنّ ما لا تشك به إلاّ ظناً ، فإنّي لا أشك به إلاّ محض الحق وعين اليقين ، فإنّي قد رأيتك تصادق على ما أدعيته ضدك ومن قبل ، فلقد سعيت سعيك في المصادرة على كُلّ ما اتهمتك به. ولقد جهدت جهدك الحثيث ، ومن دون أن تشعر لاثبات مدعاي ، وتأييد كُلّ ما أردت إفحامك به ، بل التأكيد على كُلّ ما أدلى به دلوي إليك .. ».

فقاطعني من جديد ، وهو يقول :

ـ « إذن ، أنا في قعر البئر ».

إلاّ إنّي أسهبت في الكلام ومن دون أن أعتني بما قال ، غير أنّي ابتسمت له كأني أطالبه بالتريث ، ريثما أحكي له قصة لوعتي ، وقصيد أشجاني الحقيقي ، لأنّ المسألة ما كانت تحتمل لمسة عناد ، أو مهملة لجاجة .. لأنّ الواقع يفترض بنا أن نكون جادين بقدر ما نكون عاطفيين ، نرتبط بآبائنا ، وبقدر ما لنا أن نرتبط بالعالم من حولنا ، ولو كان لنا أن نثبت لهم وقادن بأكثر مما نثبته للآخرين ، ونكون لهم خير خلف لخير سلف .. فقلت له ، وأنا أُتابع حديثي :

ـ « لأنك كنت قد صورت نفسك كالقمر ، وشبهت حالك بحاله ، عملاً عرضك للظهور كما ظهر آباؤك من قبل ، رجاء أن تدفع عنهم الرِّيَب والتهم ، وتبري ساحتهم بنفس الدليل والبرهان الذي صرت تدفع بهما عن نفسك ، لأنك ما طمحت إلى أن تكون أفضل منهم. ولربما كان اللّه قد آتاك من العلم ما لم يؤتهم هم أنفسهم ، إلاّ أنك مع ذلك رضيت بهذا القدر اليسير ، واكتفيت به ، كما لو أدرت القول بأ نّك ترضى لنفسك من العيش ما رضيه السلف من الماضين ، والسابقون من القدماء ، من حيث سكنى الكهوف ، والاشتغال بالزراعة وبعض الصناعات فقط ، والاكتفاء بضوء الشموع بدلاً عن أضواء

٣٢٣

المصابيح الكهربائية والغازية ، وبركوب الخيل عوضاً عن امتطاء متون العجلات والطيارات والقطارات المتطورة؟! ذلك كُلّه ، لأ نّك ما رضيت بأن تكون كهذه الأرض التي بوسعها أن تعكس من ضوء الشمس ضعف ما يعكسه سطح القمر من ضوء الشمس ».

وعندها صاح ، وكأ نّه قد وقع على أصل الحل ، وربح المعركة :

ـ « وها أنت من جديد ، تعينني على نفسك! ».

ـ «؟!».

نظر إليّ مليّاً ، ثُمّ عاد وهو يستدرك القول :

ـ « ومن أين لي أن اتطلع إلى الأرض وأنا أقف على سطحها ، بل إنّي ما أرى سوى القمر! أرأيت؟ فإنك صرت تطالبني بعلم الغيب الذي لم يطلع عليه أحد .. ».

فعاجلته أنا الآخر :

ـ « أرأيت .. فإنك أنت الذي تعينني على نفسك ، بل إنك ومن جديد تصير إلى فعل مثل ذلك ، وبكُلّ ما توقعته ، نتيجة عما ظننته ظن اليقين أنّه حاصل عن مقدمات كنت قد اعنتك بها على نفسي .. فإنّك حين لم يكن بوسعك أن ترى الأرض ، فإنّه ما كان بميسورك أن تبصر سوى القرم ، وكنت لتجد أنّه يتعين عليك أن لا تأخذ الأحكام إلاّ من القمر ، وتجتزئ بما تراه منه وتعقله .. ».

فساءلني :

ـ « وأنت! أكنت قد رأيت الأرض؟ ».

ـ « لقد صوّروها من على سطح القمر! ».

٣٢٤

ـ « وإذن ، فأنت لم ترها؟ ».

ـ « ولكن غيري كان بوسعه أن يراها ، وذلك بفعل سلطان العلم ».

ـ « إلاّ أنهم ما كانوا مسلمين ».

ـ « ولقد كان من المسلمين من أبصرها بفعل سلطان العلم الإلهي ».

ـ « إنّي أحدثك عمّا يمكنه أن يصلك بأسبابه الطبيعية ».

ـ « وأنا الآخر ، أُحدثك عمّا يصلني بأسبابه الحياتية ، لأ نّه لولا الظلمة ، ما كان لنا أن نفهم معنى لضوء القمر! ».

ـ « إلاّ انّا فهمنا معنى لضوء الشمس ، مع أنّه ما ثمة من ظلمة تغشى السماء ، لأ نّه أصل النور ».

فقال لي ، وكأنه تصور بأنه قد توصل إلى صيدي ، والايقاع بي :

ـ « بل إنّ اللّه هو أصل النور ، ولولا اللّه ، لما كان ثمة من ضوء للشمس ، ولا من قوة نارية يشتعل أوارها في خلالها ، .. وتضيء .. ».

فقلت له :

ـ « وإذن ، فأنت تقر وتعترف بأنّ الشمس هي نفسها ما كانت إلاّ أصل الوجود ».

ـ « وهل كنت تظنني أن أقول لك مثلما قاله قوم إبراهيم لرسول اللّه ، بأنا نسجد للشمس ، ذلك لأ نّها الهنا الحق! ».

ـ « لا أقول هذا ، ولكنك بُحت بشيء ، ربما أقنعني بأن أتلمس الإيجاز في طي مثل هذا الطريق ، كيما يسعني الوصول إلى بغيتي وبأسرع ما يمكن ».

ـ « هات ما عندك؟! ».

ـ « إنّك لا ترى الأرض ، بينما هو بوسعك أن ترى القمر! .. وتبصر للقمر

٣٢٥

تأثيراً ، ولا تبصر للأرض كذلك ، مع أنّك قد وثقت من وجودها وتأثيرها ، بل عظمه الذي تفوق به القمر .. من حيث كنت في البداية ، تقنعني بأن تحول الاجساد في القبور إلى رميم ، هو أمر قد صادقت عليه عقولنا .. مع أنا لم نبصر له حقيقية .. إنّما غيرنا الذي أبصرها ، واكتفى العالم باستدلالهم الذي شمل عيّنات مختلفة حتّى طلعوا على العالّمين بنظرات ثاتبة ، كان قد سبقهم إليها القرآن ومن قبل .. وأنت الآن ، تريد نفي ما صادق عليه العلم ، بحجة أنّهم غير مسلمين! مع أنّك قد صادقت ومن قبل على مثله .. كما أنّك تنفي الآن ما صادق عليه العلم حتّى صرت مستيقنا به استيقاناً ، لا يقبل أيّما شك .. لأنا أنفسنا لم نكن قد ذهبنا إلى القمر ، فاطلعنا على الأرض من فوق سطحه اطلاعة ، فرأينا كم هي تبدو كبيرة ، وكم تبدو مضيئة ، وكم لها أن تعكس من الضوء! ».

سكت ، ولم يحر جواباً .. بينما تابعت حديثي :

ـ « ثُمّ استدللت على بطلان مقالتك ، حينما ناضلت في الدفاع عن نفسك ، وذلك من خلال استذكارك لقوم إبراهيم ، وما أرى إلاّ أنّك تحاول أن تنزل نفسك منزلتهم ، ومن حيث لا تدري! ».

ـ « أتجعلني مشركاً عابداً لصنم؟! ».

ـ « لا ، معاذ اللّه! ولكنك أنزلت نفسك منزلهم ومن حيث إنّك صدّقت بالقمر ، ولم تصدق بالأرض ، ولو كان القمر يستحق العبادة والسجود له ، لكانت الأرض نفسها هي أجدر وأخلق منه بذلك! ».

ـ « .. ولكانت الشمس هي الأخلق منهما أجمع .. لأ نّها أكبر .. غير أنها بعيدة ، فلا نراها إلاّ أصغر ».

٣٢٦

ـ « هذا ، إن كنت تقيم للأسباب غير الواضحة لنا ، والتي ليس بمقدورنا تقصِّيها بالكامل ، ما تقيمه من الوزن الحقيقي لها .. لأنك وبذلك كنت قد غفلت أنت الآخر عن أن ما يعكسه ضوء القمر من نسبة الضوء الساقط على سطحه ، هو ما كان ليحدث إلاّ وقياساً إلى حجمه .. لذا ، فما كان لسطح الأرض أن يعكس كامل الضوء الشمسي الساقط عليه ، إلاّ بما يكون بوسعها أن تعكسه مما له أن يتناسب ومقدار حجمها ، وقياساً لكبر مساحتها وسعتها الكروية. وعليه ، فإنّي لا أكاد إلاّ أن أجزم ، لأنك قد استوعبت حال الأجداد والآباء من السالفين والماضين ، وذلك من حيث إنّهم كانوا قد اكتفوا بما اكتفى به القمر نفسه أن يعكسه من ضوء الشمس! وهذا ما يدلل على أنّهم لم يحصلوا على كُلّ ما يجب الحصول عليه ، أو أنهم حصلوا ، ولم يصل إليك منه إلاّ ما له أن يتعين بمثل هذه النسبة الضئيلة والمحدودة .. أتقبل بهذه البضاعة الهزيلة؟! ولو كان يقبلها اللّه لعباده ، لكان لك أن تقبلها أنت الآخر ، ولكنه لم يرضها لهم ، حتّى كان قد سلط النهار على الليل ، ينسخه! وإذا بنا نعيش في ضياء ، يغشانا النور من كُلّ جانب بفعل طلوع الشمس على سطح الأرض ووصول أشعتها إليها .. تهديها إلينا غدائرها الواشعة .. أفيمكنك بعدها أن ترفض نعمة أنعمها اللّه عليك وتردها؟! فأن قنعت بما قنع به آباؤك ، فالأجدر بك أن تذهب إلى القطب ، حيث لا تطلع الشمس هناك إلاّ لمدة ستة أشهر ، وتعيش في ظلمة دامسة ، لا ينير لك سوى القمر ، وهذا الآخر ليس له أن يضيء لك في كُلّ يوم ، وليس له أن يضيء لك في الشهر ثلاثين ليلة ، فضلاً عن أن طلوعه هناك سيتناسب مع أوضاع خاصّة .. بل إن له أن يعكس لك نوراً لا بأس به ، ولا يعكسه لك إلاّ في ليال قلائل ، ليس إلاّ! هذا إن لم يغيبه الغمام ويكلح وجهه

٣٢٧

السحاب. وما كانت لسائر الليالي إلاّ لتضّرّع متهجدة إلى بارئها ، بأن يقضي مواهنها ، ويصرّم أوطارها ، حتّى يطلع عليها نهار الأيام المقبلة. فلا الهلال هو بالذي سيمكنك الاستعاضة به عن نور الشمس ، ولا القمر الغائب المختنق في عباب الظلمات وحنادس المحاق .. بمقدوره أن يجلي لون عتمة الليل ، ويضيء لك القلب! بل إن عليك أن تقنع بما أقتنع به اللّه واختاره لك. فلا تختار إلاّ ما اختاره لك! .. وإذن ، فما عليك إلاّ أن تبحث حتّى تقتبس من الأرض لمسات الضوء ، وتقف في نفس المكان التي وقفها آباؤك ، لتصبح كالقمر نفسه ، ولتنظر ساعتها إلى الأرض ، لترى مقدار ضوئها الذي تعكسه ، وعظمة حجمها! مع أنّك تنزل نفسك منزل آبائك ، وتصور نفسك كالقمر حتّى إذا ما طالبتك برواية الأرض أدعيت أن غير المسلمين هم وحدهم الذين تسنى لهم رؤيتها ، وما كنت إلاّ قمراً لا يميل إلى سوى الأرض .. ».

ـ « والشمس كذلك .. ».

عاجلني بهذه الجملة المقتضبة ، وكأنه كان قد شعر أنّه قد أمطرني بحجة تفي بالغرض ، وتدعوه إلى الوقوف على قدميه ، وذلك بعد أن أوقع طول الحجاج الوهن في ساقيه ، وأنزل ضربات الهول في أعصاب قدميه الضعيفتين .. فغدا لا يقوى على الوقوف ، فاطّرحهما أرضاً حتّى تهاوى جسده ، مريحاً بدنه المتعب ، بينما جعلت أقول له :

ـ « إنّي لم أدع نفسي تكمل فحوى العبارة حتّى جعلتك أنت الذي تقرّ على ما أردت ادانتك به ، ومن قبل أن أعلن عليك فساد نظرتك السابقة .. فأثبتّ ومن حيث أقررت بتشبيه نفسك بالقمر كحال آبائك من قبل حتّى قنعت بما قنعوا وجعلتني من بعد ذلك ، أثبت لنا خطأ دعواك ، فإذا بك تبصر الأرض

٣٢٨

كذلك ، وتخفي الاعلان عن حقائق أُخرى حتّى تركتك تعلن عن هذه الأخيرات بفمك نفسه! ».

ـ « وما هي هذه الحقائق الأُخرى؟ ».

ـ « وهي إن آباؤك ، كان لهم أن يروا ضوء الشمس وكانوا يتلقونه ، مثلما تتلقاه الأرض ، إلاّ أنهم ما كانوا ليعكسوا سوى ٧% ، مع أنهم كانوا يتلقون ١٠٠% ، وما كان السبب في ذلك إلاّ نفس السبب الذي تراه في القمر ، لعجز عقولهم وضعف إراداتهم ، فرضوا بما رضي به القمر ، وفاتهم أن للقمر دوراً سماوياً ، لا يتعدى هذا ، وليس لكُلّ أحد أن يتعدى الدور الذي رسم له إلاّ باذن اللّه ، وإذن هذا هو الآخر كان يمثل لك الجواب عن سؤالك في البداية ، حينما عرضت لي بالقول إن الشيعة ، هم الآخرون لم لا يتوجهون إلى هذه المسألة مثلما نتوجه نحن إليها .. فأقول لك إن حالهم في هذا المضمار كحال القمر المسخر ، لأن يعكس هذا القدر ، لا لضعفه ، كما وجدناه لدى آبائنا كلانا .. وليس آباؤك فقط ، وذلك حينما وجدناهم كالقمر. ذلك أنّهم يرون الشمس ، ولا يعكسون إلاّ ٧% ، فلا يخبرونا عنها إلاّ بهذه النسبة. كما أنهم لا يمدّونا من ضوئها ودفئها ، إلاّ بهذه النسبة! غير أنّ الشيعة كان لهم أن يجدوا من الأدلة والبراهين ، ما يغنيهم عن تتبع ما يجب أن نتبعه نحن ، لانّا لا نمتلك الأدلة التي يمتلكونها ، وليس الذي كان بأيديهم هو واقع بين أيدينا ، ولذلك كان لأفرادهم أن يكتفوا بالبحث في أُصول عقائدهم وبمقدار ٧% من نسبة الضوء الساقط عليهم ، ضوء الحياة. مع انّا لا نشعر بأنهم وكُلّما اكتفوا بذلك ، فإنهم لا يعكسون إلاّ بمقدار ما تعكسه الأرض نفسها ».

ـ « وكيف هذا ، إنها قسمة ضيزى! ».

٣٢٩

ـ « ذلك أن حالهم ، وحينما وجدوا بين أيديهم من الأدلة والبراهين التي زوّدهم بها آباؤهم وأجدادهم ، كان ينطبق على حال التلميذ النبيه الذي حصل على معلومات كافية للدخول إلى قاعة الامتحان ، والإجابة وبكُلّ بساطة حتّى إذا ما سوئلوا في الحياة الدنيا قبل حساب البرزخ ، في ظلمات القيامة الصغري ، كان لهم أن يضيؤوا دياجيها بفنون العلوم والإجابات ، ما كان قد أتحفهم به آباؤهم وأجدادهم من قبل .. غير انّا لسنا كذلك ، فإن أدلتنا ضعفية ، وما بين أيدينا مما خلّفه لنا آباؤنا وأجدادنا ، ليس له أن يسمى إرثاً عظيماً ، ولا حتّى أن يسمى بالارث ، لأ نّه لا يسدّ جوعتنا ، ولا يطفئ ظمأنا ، ولا يغني من جوع .. حالنا كحال الطالب الذي لم يدرس درسه ، ولم يحضر لاداء الامتحان ، فإنه لما سيلج قاعة الامتحان ، فما كان سيكون عليه بالميسور الإجابة ، ولو تيسر له الاضطلاع بها ، فما كان له أن يجيب إلاّ إجابات مغلوطة ، لا يقنع بها المنكر والنكير في قيامة البرزخ. ولذا كان حالهم ومن ناحية ، كحال القمر ، حينما لا يحتاجون إلى تقصّي أسباب الحقائق إلاّ بنسبة ٧% ، اسقاطاً للتكليف ، ذلك .. إنّ الحقائق قائمة بين أيديهم وبالكامل! مثبتة ، واقعة! كما هو ثابت قرص الشمس واضح شعاعها للعيان ، كذلك كان حالهم ، ومن ناحية أُخرى ، كان كالأرض التي لا نبصرها نحن ، بينما يبصرونها هم! ذلك أن مقدار الضوء الذي يعكسونه حال كونهم كالقمر يعادل مقدار الضوء الذي تعكسه الأرض ، لأ نّهم كانوا في غنىً عن العناء الذي نطوي نحن الطريق من خلاله حتّى يجب أن نعكس مقدار ما تعكسه الأرض من الضياء ، لنعدل ما يعكسونه هم من ضياء القمر الذي لا يعكس سوى ٧% ».

ـ « وهل تقول إنّهم يفهمون أكثر منا .. ».

٣٣٠

ـ « أنا لا أقصد ذلك أبداً ، وقطعاً ، إن ما حصلوا عليه هو الذي جعلهم يفهمون ويعلمون أكثر منا. فهل حال التلميذ الذي يقرأ في كتاب يجده بين يديه للتحضير للامتحان. هو له أن يشبه أو يعدل حال التلميذ الذي لا يجد بين يديه كتاباً يقرؤه لمن يطالَب بالحضور في قاعة الامتحان ، كيما يُمتحَن بكتاب المنهج المقرر عليه ، والذي لم يكن ليتسنى له الحصول عليه. فهل هذا التشبيه كان يمثل قسمة ضيزى أم العكس حقاً ، لأنّ الشيعة بين أيديهم من الكتب والأدلة والبراهين والمراجع ، ما يجاوز حدود هذه النسبة من انعكاسات الضوء .. إلاّ أنّي أردت جهد الامكان أن أقرب الصورة .. وإلاّ فان كلانا لتطلع علينا نجمة الكون الشمسية ، ونراها ونبصرها واضحة جلية حتّى إذا ما ساهم آباؤهم وأجدادهم في إيضاح أسرارها لهم ، ولم يفعل آباؤنا وأجدادنا مثل ذلك .. ما كان علينا إلاّ أن نتطلع نحن إلى حيث تلقي الشمس بضيائها ، فنتطلع إلى أسباب قدرة وعظمة اشعاعاتها ، وحينئذ سيكون لنا بالامكان ، أن نرى في الأرض آثاراً وايات عديدة ، فنتبين من خلالها طبيعة الحقائق .. ».

ـ « ولذا ، سيكون بإمكاننا أن نتبين من الحقائق أكثر مما يتبينها الشيعة أنفسهم ».

ـ « هذا لا أخالني أخالفك به .. لأنا سنكون كمن يكتشف أرضاً جديدة فيتقصى كافة الحقائق عنها ، ولما سنصير نحن عرضة للسؤال أكثر من الشيعي نفسه من قبل أهلينا وعشيرتنا الأقربين .. والناس والاصدقاء والخلان. هذا ، فيما لو قدر لنا أن نتشيع ، كان علينا إذن أن نتحصن بمختلف المعلومات ، ونكثرمن الاستفاقات والصبّ من عيون المعالم ، وسيوف المعارف. كيما لا

٣٣١

نصير جهلة ، نبدو كالمغرورين أمام أعين علماء أهل السنة والمثقفين منهم ، لأنّ أولئك سيواجهون بكُلّ ما لديهم من إرث وميراث ديني! ولذا ، فان المسؤولية التي ستلقى على عاتقنا .. ».

قاطعني :

ـ « إن استبصرنا .. ».

ـ « أجل ، فهي ستصبح جداً قاسية عظيمة ، لأن علينا أن ندرس ومن جديد غالب ما لدينا في كتبنا ونعارضها بفنون الوحي العقائدي الموجود لدى الشيعة ».

ـ « أو لم يدّعي البعض أن الشيعة تحتج علينا نحن أهل السنّة من نفس كتبنا التي بين أيدينا ».

ـ « وهذا صحيح جداً ».

ـ « فلماذا تخبرني بمعارضتنا لكتب السنّة بالعلوم الشيعية ».

ـ « ذلك بعد أن نسقط أدلة الطرف ، نعمد إلى الاستدلال ثانية ، وعلى ما عند الشيعة من نفس كتب السنة ».

ـ « وإذن ، ما قلت لي ، سوى ما أخبرتك به ، فلم تجبني ما هو الوحي العقائدي الشيعي ».

ـ « هو المرحلة الثالثة بعد اسقاط أدلة الخصم وتفنيدها من كتبه ، والاستدلال على ادعاءات الشيعة من كتبه كذلك ، ومن ثُمّ بالاستعاضة من عيون المعارف الشيعية وبشكل مفصل .. لأ نّي أخبرتك أن استدللنا على الشمس بآثارها في الأرض ، بعد أن فنّدنا عناصر الظلمة وأدلتها. إلاّ أنا لو أردنا وحي الشيعة العقائدي الأصلي ، كان لنا أن نقصد الشمس نفسها ،

٣٣٢

فنستقطب وحيها اصالة ، لنجد ما يخبرنا به أئمة الشيعة وبالتفصيل. ونستمد منهم التعاليم الصحيحة والأحكام الدينية والحياتية التي لها أن تختلف اختلافاً حقيقياً عن تلك التي كنا نتلقاها حينما كنا مثلاً سنّة ».

ـ « إنّا ومن خلال حديثنا هذا قد أصبحنا شيعة ، ونحن لا ندري! ».

ـ « وإنك لتتكلم كما لو أنّا قد عزمنا على الاستبصار كلانا و .. وليس أنت وحدك ».

ـ « ما الذي يدعوك إلى الظن كذلك ، أو ما الذي يحملك على مثل هذا التفكير؟ ».

ـ « هذا الذي تقوله! ».

ـ « وهذا عظيم المصاب ، لقد أقرحت جروحي ».

ـ « لماذا؟ ».

ـ « لأنك تسألني عن علّتي ، فأقول لك ما صرّحت لك به ومن قبل! مع أنّي ما زلت سنّياً ، ولم أستبصر! بل لم أفكر به خطأ ، إلاّ أنّي بحثت في أدلتنا ، فوجدتها ضعيفة نسبياً ، فيما لو قيست إلى أدلته الشيعية ، ثُمّ بحثت مرات ومرات أُخر ، فوجدتها ضعيفة جداً ، وسطحية للغاية! ».

ـ « ..؟! ».

ـ « .. وبحثت ، وبحثت! فوجدتها شيئاً ، ليس بوسعه أن يخالف مذهب الشيعة ، حيث وكأن التأريخ كان قد صنع صنعه! فوظف المأجورين لمخالفة كُلّ ما جاءت به أُصول الأئمة ، وجاء به فقه الشيعة ، وذلك من أجل صنع أُصول جديدة وفقه جديد! .. أُنظر ، ما أسهل المهمة ، وأعظم الأثر! ».

ـ « ولكنك تقول إنّي لم أستبصر؟ ».

٣٣٣

ـ « وهذا أعظم من الاستبصار نفسه ، فلو استبصرت ، لكان لي أن ارتاح ، ولكني سنّي ، وأتعبد على عقيدتي. مع أنّي أجدها ضعيفة ، لا تصمد ولا أنتقل ، مع كُلّ ما أجد من ضعف وخلل فيها إلى عقيدة أُخرى ».

ـ « هل أنك لم تجد من الجرأة ما يعينك على اتخاذ مثل هذا القرار؟ ».

ـ « حقاً! تريد مني الجواب الشافي؟ ».

ـ « أجل ».

ـ « أصدقك القول ، صحيح هو ما تقوله ، لأ نّي غدوت كما هو الحال لدى الشيعة من مسألة التعليم. فإنّه وحينما يتوفى مرجع التقليد عليهم إن لم يُجز لمقلديه البقاء على تقليده العدول إلى غيره من الأحياء .. فغدوت كما لو ظل هكذا ، ومن دون تقليد ، لأ نّه وبعقيدتكم تبطل عبادات الشخص الذي لا يقلد ، وإذا ما مات مرجعه ، ولم يعدل ، غدا كأنه يتعبد ومن دون تقليد! ».

قال :

ـ « وهكذا ، فإنّ عقيدتنا هي أفضل ، بعيدة عن وجع الرأس وهذا الفقيه قد مات ، أو لم يمت ، والبحث عن غيره .. ».

٣٣٤

الفصل الخامس والعشرون

ردود فعل نبيل ومازن حيال تشيّع قاسم

وإذا ما كنت قد تحدّثت إلى سمير كذلك ، وكان القوم من حولنا ممن أقاموا بين ظهرانينا ، هم من أهل السنة ، وحيث كانوا قد علموا باستبصار قاسم وطلال من قبله ، وخالد وعمر ، وفلان وفلان وغيرهم .. فكانوا قد انتبهوا إلى أمر وجب عليهم النهوض به وفي الحال. هكذا تصورت حالهم!

وفي ظهيرة اليوم الذي أعقب آخر يوم من أيام محادثاتي العلمية مع سمير ، جاءني مازن ، حتّى ترادف اليّ سمع فصول حديثي مع سمير وبالتفصيل. حيث كان مازن هذا ، شاباً كثيراً ما كنت أجده متقلب الافكار ، متغير الشمائل ، لا يحسن سوى الانقياد نحو ذات اليمين وذات الشمال ، ومن دون التفكير بمغبة ما يفعل. لا أقول ذلك مغالبة ، إنّما عنيت حقيقة دون الامعان في مذهبه وطريقته في الحياة. إلاّ أنّي كنت أجده وكأنه لم يشبّ عن الطوق بعد ، ولحد الآن! إلاّ أنّه بادرني بتحيته ، وكأنه يغالب في نفسه شوقاً إلى القاء مرثية أو نعي يتفقد من خلالهما روحي المريضة ، وحسبما وجدته يلفيها كأنه أخذ يفكر كيف أن لهذا الشاب ( أعني نفسي ) سيبدد لحظات عمره ، ويتلف أوراق مستقبله هذا ، إن عمد الى الاستبصار ، وأراد أن يتشيع .. فقال وكأنه يلتقط عصا لحديثه ، يتوكأ عليها ، علّه يدرج ومن خلالها نحو فضاء يستلقي وفي أرجاء مرجته اليانعة بازهارها ، كيما يخبرني بأ نّي سأكون

٣٣٥

أتعس مخلوق ، لو كنت أفكر فيما أحاول أن أقدم عليه ، فسألني مازن ، وهو يقول :

ـ « أسمعت بالخبر المشؤوم؟! ».

قلت :

ـ « أي خبر؟ ».

قال :

ـ « قاسم! ».

قلت :

ـ « أووه ، نعم ( ثُمّ التفتّ إليه مستغرباً وأنا تملأني روح ضاحكة في داخل نفسي ، لشدما خفت أن أفجرها دون وعي منّي. كنت أمازح ذاتي في دخائلي ، وبقدر ما كنت أسائلها مغضباً في ظاهري ، أغالب ابتساماتي المفرطة التي ربما انفتلت وانقلبت ضحكات صارخة ) ما به؟ ».

سألته ، وأنا أكاد استصرخ دموع الفرح في قلبي للأسلوب نفسه ، والذي ابتدرت به متسائلا ، بعد ان ساءلني هو وبدوره ، فجعلت أكابد شوقاً يعتمل في صدري ، يسوقني نحو الرغبة اطلاق كركرة ليس لها نظير ، ولا أقول ذلك وأنا أشعر بالرثاء لمازن ، أو قاسم ، أو كأني أحاول أن أسدّد فعل قاسم ، لا ، وكلا .. إنما والحقيقة لا أكاد أخفيها ، لم يكن لدي أيّما تعصب يمكن أن يصطلح عليه كذلك ، ولو كنت أتعصب شيئاً ما ، إلاّ أنّي ما كنت أعتبره كذلك ، فيما لو قايسوه مع تعصب مازن أو نبيل ، فإنّ لمثله أن يختلف عن نسب كلاهما ، بمقدار المسافة التي تفصل ما بين السماء والأرض ، .. هكذا اعتقدت .. والأدهى من ذلك صرت ، أفكر في التغاضي عن ابتسامة ، وضحكة أرادت ، أن

٣٣٦

تعتريني ازاء كلام نبيل وأسلوبه ، فضلاً عن أسلوبي أن الآخر حياله ، فإذا بي أجد نبيل ييمّم بوجهته صوبي .. وذلك لما رأى مازن قد تحلّق حولي حتّى جعل يحاذيني ، وكأنه عرف الموضوع الذي يريد مازن أن يطرحه بين يدي .. ولذلك ، أراد أن يؤكد حصيلة مازن ، ويكرر كلامه ، بل لما سيكون هو الآخر وراء مثل هذا الموضوع. فإن بوسع ذهنه أن يخمن أين سأنصاع أكثر ، وسيضع مثل هذا التحذير ، صنعه في نفسي ، وبذلك أكون قد نأيت بنفسي عن التفكير بمثل هذه الترهات ( حسب ما يظنون وصدق ظني ) فاجأني مازن بالقول :

ـ « إني ما كنت أظنه ( قاسم ) ليجرؤ ذات يوم على الاقدام على مثل هذه الترهات .. ».

وهنا صارعت نفسي ، فلم أجدها هذه المرة ، تتمثل حتّى انفجرت بكُلّ ما وسعني المجال خلاله أن أضحك .. وعندها بدأ يفتح قلبه لي حتّى شعرت بأن ضحكتي هذه قد آتت أكلها ، وصنعت صنعها ، إذا ما اطلقتها حتّى كنت أرى مازن ، قد انفتحت قريحته للكلام ، وهو يعبر عن حزنه الغالب ، وبؤسه الشاحب ، وكأني قد شاطرته في مجال التعبير عنه ، وهو يقول :

ـ « أجل ، فإنه ليستحق الضحك بدلاً من الشعور بالأسى ، لأنّ شرّ المصائب ما يضحك ، وما أراك إلاّ انك أنت الآخر ، لا بدّ وان كنت قد استغربت منه مثل هذا الصنيع. فقاسم الذي كان يقول إنّ هؤلاء مزقوا حتّى الصلاة ، وأرادوا أن يتخلصوا من عنائها ، فجعلوا يصلوها مجموعة ، كيما ينتهوا منها ويستريحوا ، فيصلوا الظهر والعصر معاً ، والمغرب والعشاء كذلك ».

ـ « وهذا الأفضل ، أليس كذلك؟! ».

وما كنت لأفوه بذلك حتّى رماني بنظرات شزراء ، وكأن الشرر قد جعل

٣٣٧

يتطاير منها .. فقال ساخراً :

ـ « باللّه عليك ، إن الوقت ليس وقت هذر وتندّر ».

ـ « وماذا في ذلك؟ ».

ـ « أي ذلك؟ ».

ـ « ألا ترغب أن تصلّي أيضاً ، وتنتبه كذلك إلى أوضاعك الأُخرى في سائر الأوقات الأُخرى ، وتسعى في مناكبها ، فلا نصير كحال ذلك الذي جعل يقضي عمره كُلّه في المسجد ، ومن ثُمّ وجدوا أن آمر الجحفل قد صار إلى التفكيك والتشتت .. لأ نّه أهمل العناية بشأنه! وجعل يقضي عمره كُلّه في المساجد .. ».

سكتّ ، وعدت بعدها إلى الكلام :

ـ « ألا يكون علينا أن نفكر ، ولا للحظة واحدة في حسن ما نجده لدى هؤلاء الشيعة ، فنستفيد منه نحن الآخرون .. ألا تجد أننا قد أسرفنا في مسائل عفّ الشيعة عن الوقوف عليها ، بمثل هذا المقدار الذي نقف نحن عليها .. فإن اللّه لا يدعو إلى التهلكة ، بل لا يكلف الإنسان فوق طاقته ».

ـ « إذن ، لقد صدق سمير؟ ».

ـ « ما الذي أخبرك به؟ ».

ـ « إنه هو الآخر قد تغير ، ولم يتغير قد كنت قد شاركته الحديث في يوم أمس ، إنّه قد انقلب على عقبيه ».

ـ « أتقصد أنّه أنقلب ظهراً لبطن أم .. ».

ـ « لا أعني ما قلت .. هل يثبت ذلك أنك أنت الآخر سائر في الدرب ، أم أنك تقف على الأعراف ، وتضع نفسك في جملة دول عدم الانحياز ».

٣٣٨

ـ « هذا كلام معقول ».

وإذا بنبيل الذي ظل يحوم حول أطراف مجلسنا ، وهو يراقب انعكاسات حديثنا ، كالدجاجة التي تريد أن تضع بيضها ، حتّى إذا ما وجد الفرصة مؤاتية ، قفز إلى حلقتنا هذه ، ليقلبها مأتماً نعزي فيه بعضنا البعض الآخر. فقال :

ـ « .. وأكثر من ذلك ، فإن معسكري الشرق والغرب ، يعلن كلٌّ منهما عن مبادئه ، ويعلن بين الفينة والأُخرى ، أنهما على أهبة الاستعداد لعقد أية مفاوضات ، تضمن صلحاً بعيد المدى .. مع أنّهما لم يكونا وليدي الاعصار القديمة ، إنما هما قد أولدتهما الاحقاب المعاصرة. إلاّ أن هذا الأمر الذي بيننا وبين الشيعة ما أراه إلاّ أنّه يغور في أعماق التاريخ حتّى سيجر بأسبابه نحونا ، ويصير بنا صوب التسليم إلى حقيقة مفادها أن الميراث التاريخي لا بدّ وان يحلم بين شدقي العصور والدهور كُلّ حرارة وتعاسة ».

قلت له :

ـ « لا بدّ أنك أنت الآخر تشعر بالحزن تجاه ما فعله قاسم؟ ».

ـ « ولِمَ لا ، فإنّي ما كنت أجد أحداً أكثر تعصباً منه لدينه ومذهبه .. وإذا بي ألفيه في ليلة وضحاها يغيّر ، ليتغير لدينا قالب الحياة ولونها ».

ـ « لماذا ، أكنت تتعبد على مذهبك لأجل قاسم؟ ».

ـ « لا ، ولكني كنت أثق به ثقة عمياء جداً ، فلا يمكنك أن تتصور إلى اي حد كان له أن يؤثر على كافة قراراتي ».

ـ « أجده واضحاً لا شك ».

ـ « أتمزح؟ ».

٣٣٩

ـ « ولِمَ لا؟ وها أنت تثبت أنّه ليس له سلطان عليك ولقد أفردته وحده ، دون صاحب وصديق ، إلاّ من تراهم حولنا من إخواننا الشيعة. إنّه لا يمكن للعقيدة أن تتلاعب بعواطفنا ، فمهما كان لقاسم من تأثير على شخصيتي ، إلاّ أنّي ما كنت لا سمح له ولا لمقدار ذرة من الوقت أن يفحم عقيدتي في عرض مثل هذه الصداقة ، فيعرضها إلى الخطر لأجل أن لا يكون بميسوري مثلاً التضحية بمثلها .. هيهات! ».

ـ « أقول ، لو أن قاسماً انتقل من المذهب الحنفي إلى الشافعي وإلى الحنبلي ، أو إلى المالكي. أكان يستبد بك كُلّ هذا الشك والقلق بمشاعر ، وأحاسيس قاسم ، بل أكان لك أن تقلب الصورة التي تخيلتها عن قاسم ، واحتفظت بها له في داخل سويداء قلبك ».

ـ «؟!».

وبعد قليل من الصمت ، عاد إلى التأكيد :

ـ « فلو أنّه اختار أي مذهب آخر ، .. حقيقة! فلو أنّه اختار أي من .. وتحرك في اطار هذه المذاهب ، لما كان لي أن أنسف رأسي بمثل هذا اللون من التفكير أو حتّى بالتفكير به ».

فقلت له :

ـ « كفّ عن هذا ، يا أخ! إنك لتقلقني ، فإنّي لأراك كأبي لهب! ».

وعندها أمتقع لونه ، وذابت وجنتيه ، حتّى خلته سيضربني أو يهوى على رأسي بفأس يخفيها في أعطاف ملابسه!

ـ « أبو لهب؟! ».

ابتدرني بعصبية ، فقلت له :

٣٤٠