وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

النيل الحافظ إبراهيم ».

ـ « الشاعر المصري المشهور؟ ».

ـ « أجل ، حافظ إبراهيم هو بنفسه! وذلك في قصيدته العمرية السائرة الطائرة : ».

وقولة لعلي قالها عمر أكرم بسامعها أعظم بملقيها ».

حرَّقت دارك لا أبقي عليك بها إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها ».

ما كان غير أبي حفص بقائلها إمام فارس عدنان وحاميها ».

ـ « عجيب ، لا أصدق؟ ».

ـ « هذه معاملتهم للإمام الذي لا يكون الاجماع حجة عند الشيعة إلاّ إذا كان كاشفاً عن رأيه ، فمتى يتم الاحتجاج بمثل اجماعكم هذا على الشيعة ، والحال هذه؟ أيمانا بعقد البيعة؟ ومصداقا للإجماع المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تجتمع أُمتي على الخطأ ».

فقال مازن :

ـ « إن أولي البصائر النافذة ، والرؤيا الثاقبة ، ينزّهون الصحابة عن مخالفة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في شيء من ظواهر أوامره ونواهيه ، ولا يجوزون عليهم غير التعبد بذلك ، فلا يمكن أن يسمعوا النصّ على الإمام ، ثُمّ يعدلوا عنه أولاً وثانياً وثالثاً ، وكيف يمكن حملهم على الصحة في عدولهم عنه مع سماعهم النصّ عليه؟ وما أراك بقادر على أن تجمع بينهما؟ ».

فقلت :

ـ « أفادتنا سيرة كثير من الصحابة أنهم إنما كانوا يتعبدون بالنصوصّ إذا كانت متمحضة للدين ، مختصة بالشؤون الأُخروية ، كنصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على صوم

٣٨١

شهر رمضان دون غيره ، واستقبال القبلة في الصلاة دون غيرها ، نصّه على عدد الفرائض في اليوم والليلة وعدد ركعات كُلّ منها وكيفياتها ، نصه على أن الطواف حول البيت أسبوع ، ونحو ذلك من النصوص المتمحضة للنفع الأُخروي ».

ـ « وما كان منها متعلقاً بغير ذلك ، فما كانوا يفعلون إزاءه؟ ».

ـ « أما ما كان متعلقاً منها بالسياسة كالولايات والامارات ، وتدبير قواعد الدولة ، وتقرير شؤون المملكة ، وتسريب الجيش ، فإنّهم لم يكونوا يرون التعبد به والالتزام في جميع الاحوال ، بالعمل على مقتضاه ، بل جعلوا لأفكارهم مسرحا للبحث ، ومجالاً للنظر والاجتهاد ، فكانوا إذ رأوا في خلافه ، رفعا لكيانهم ، أو نفعا في سلطانهم ، ولعلهم كانوا يحرزون رضا النّبي بذلك ».

ـ « وكيف يمكن أن يحصل مثل ذلك؟ ».

ـ « لقد كان قد غلب على ظنهم أن العرب لا تخضع لعلي ، ولا تتعبد بالنصّ عليه ، إذ وترها في سبيل اللّه ، وسفك دماءها بسيفه في أعلاء كلمة اللّه ، كشف القناع منابذاً لها في نصرة الحق ، حتّى ظهر أمر اللّه على رغم عادة كُلّ كفور ، فهم لا يطيعونه إلاّ عنوة ، ولا يخضعون للنصّ عليه إلاّ بالقوة ، وقد عصبوا به كُلّ دم أراقه الإسلام أيام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جرياً على عادتهم في أمثال ذلك ، إذ لم يكن بعد النّبي في عشيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. أحد يستحق أن تعصب به تلك الدماء عند العرب غيره ، لأ نّهم انما كانوا يعصبونها في أمثل العشيرة ، وأفضل القبيلة وغير ذلك. ولذا تربص العرب به الدوائر ، وقلبَّوا له الأمور ، وأضمروا له ولذريته كُلّ حسيكة ، ووثبوا عليهم كُلّ وثبة ، وكان ما كان مما طار في

٣٨٢

الأجواء ، وطبق رزؤه الأرض والسماء ».

ـ « كذلك؟ ».

ـ « وأيضا! فإنّ قريشاً وسائر العرب ، كانوا يجدونه على ما آتاه اللّه من فضله ، حيث بلغ به في علمه وعمله رتبة ـ عند اللّه ورسوله وأُولي الألباب ـ قاصر عنها الاقران ، وتراجع عنها الاكفاء ، ونال من اللّه ورسوله بسوابقه وخصائصه منزلة ، تشرئب إليها أعناق الأماني ، وشأوا تنقطع دونه هوادي المطامع ، وبذلك دبت عقارب الحسد له في قلوب المنافقين ، واجتمعت على نقض عهده كلمة الفاسقين والناكثين والقاسطين والمارقين ، فأتخذوا النصّ ظهرياً ، وكان لديهم نسياً منسياً ».

فكان ما كان مما لست أذكره فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر »

ـ « وغير هذا كُلّه؟ ».

ـ « وأيضا! فإن قريشاً وسائر العرب ، كانوا قد تشوّقوا إلى تداول الخلافة في قبائلهم. واشرأبَّت إلى ذلك اطماعهم ، فأمضوا نياتهم على نكث العهد ، وجهوا عزائمهم إلى نقض العهد ، فتصافقوا على تناسي النصّ ، تبايعوا على أن لا يذكر بالمرة ، وأجمعوا على صرف الخلافة من أول أيامها عن وليها المنصوص عليه من نبيها ، فجعلوها بالانتخاب والاختيار ».

ـ « ولماذا تراهم يفعلون مثل هذا؟ ».

ـ « وذلك ، ليكون لكُلّ حي من أحيائهم أمل في الوصول إليها ولو بعد حين ، ولو تعبدوا بالنصّ ، فقدموا علياً بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الذي ما خرجت الخلافة من عترته الطاهرة ، حيث قرنها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغدير وغيره بمحكم الكتاب ، وجعلها قدوة لأُولي الألباب ، إلى يوم الحساب ».

٣٨٣

ـ « وأيضا! فإن من ألمّ بتاريخ قريش والعرب في صدر الإسلام يعلم أنهم لم يخضعوا للنبوة الهاشمية ، إلاّ بعد أن تهشّموا ، ولم يبق فيهم من قوة فكيف يرضون باجتماع النّبوة والخلافة في بني هاشم ، وقد قال عمر بن الخطاب لابن عباس في كلام دار بينهما : إن قريشا كرهت ان تجتمع فيكم النّبوة والخلافة فتجحفون على الناس » (١).

ـ « وعليه ، فنسج الناس في تناسي النصّ على منوالهم ، وجاء بعدهم بنو أُمية ولا هم لهم إلاّ اجتياح أهل البيت واستئصال شأفتهم ، ومع ذلك كُلّه فقد وصل إلينا من النصوص الصريحة في السنن الصحيحة ما فيه الكفاية ».

____________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ : ١٠٧.

٣٨٤

الفصل الثامن والعشرون

المذهب الشيعي ما بين المستوى والطموح

بعد مضي يومين ، جاءني نبيل مرة أُخرى .. كان لوحده ، وبعد أن تبادلنا أطراف الحديث ، عرج بي إلى موضوع الساعة ، ومن بعد أن اكتسب ما يناسبه من الأخبار ، كان قد تشوف لأن يفيض علي باستنتاجاته وخلاصة توصلاته .. فقال لي :

ـ « لا أراك إلاّ أنك تحمل نَفَساً ، يتعصب لمخالفي أهل السنة » ».

فقلت :

ـ « وما أراك يا نبيل انك لم تكن إلاّ أبعد الناس عن التفكير في المسائل العقائدية عموماً ، وليس فيما يتعلق بما يرتبط بهذا الموضوع على الأخص ».

فقال :

ـ « وأنا الآخر ، صرت أراك تلجأ إلى القاء سيل التهم ، وتوخّي سبيل الإهانة من أجل أن تدرأ عن نفسك هجمات ، ليس لك أن تجيب عليها ».

فقلت له ، وأنا أمعن فيه جيداً :

ـ « نبيل ، هل تريد أن أطلعك على حقيقة ربما أفادتك في مختلف مرافق حياتك العملية المستقبلية منه على وجه العد .. إنّ حالك يشبه حال الصغير الذي تُلقى إليه لعبة ثمينة ، فلا يهتم بها حتّى إذا ما رأى أحد إخوته الآخرين يحاول الاهتمام بها ، عدا إليها ، وتسابق من أجلها كيما يسلبها منه ، مدعياً أنّه

٣٨٥

يرغب الاحتفاظ واللعب بها! فإنّي أكاد أجزم أنك لم تكن لتهتم بأمورك الدينية ، ولا في أي لحظة من لحظات عمرك الماضية .. وما كنت تدري كثيراً من الحقائق! إلاّ أنّه لما أجتمع الأمر إلى قرين له ، صرت تدّعي وصلاً بليلى ، كما يمكن أن يدعيه البعض حال انتصار إحدى الثورات التي لم يشترك فيها قط ، بأ نّه كان من المتصدين الأوائل ، وأن له أن يحوز على مركز ما ، في السلطة الجديدة مثلاً! ».

ـ « اشكرك على كُلّ هذا الإطراء! ».

ـ « قلت لك ، إن هذا كُلّه ، كان هدية من أخيك ، تأسّياً بقول رسول اللّه : رحم اللّه من أهدى إليّ عيوبي! ».

ـ « إنّ ما أريد أن أذكّرك به ، واذكّر به نفسي هو ضرورة نبذ العصبية ، وما أراها إلاّ كحمية الجاهلية الأُولى التي نرى لها وجودات تجسّم في دواخلنا ، تنطق على الألسن ، حالما تضغط مؤثراتها الأصلية على أسبابها في أعماقنا .. ».

ـ « وبعد ، أما ترى أنك أنت نفسك قد أسرفت ، وبأكثر مما تتوقع نفسك هي بالذات ».

ـ « أطمح وبذلك إلى أن يكون مثل هذا ، تذكرة لي هو الآخر .. لأنّ الخطر يكمن في هذه المسألة ، فإنّها هي التي تعيق عملية السلام أجمع ، وتشلّ حركة التآخي بين المسلمين ، لأنّ الكُلّ يتخذها ذريعة له ، كما اتخذ المشركون أيام الجاهلية حرب الآخر وابن العشيرة الواحدة ذريعة لا تزال أشد العقوبات بالخصم والغريم ، لأ نّهم ما كانوا ليؤمنوا إلاّ بالرأي القائل : أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، أما الآن ، فإنّك ترفع عقيرتك بنظريتك المستلة من أُصول ذلك الرأي ،

٣٨٦

وما أراها إلاّ أنصر مذهبك ( عقيدتك ) ظالمة أو مظلومة. بينما أعيذك باللّه أن تواصل السير في مثل هذه السبيل الشاذة ، لأ نّي ما أرى مغبة الاستمرار في منوالها إلاّ أن تحمل لها عواقب أقل ما يمكن أن تتمثل فيه هو الحرمان من نعمة الصديق والأحبة ، فلا تجد بعد ذلك ربيباً ولا حميماً ».

تساءل بدهشة ، وكأنه يستفسر عن أمر غاب عنه :

ـ « أتقصد : الأخلاّء؟ ».

ـ « وذلك حين يكون يومئذ بعضهم عدواً لبعض ، فلو أسررت لنفسك أن تبقى على التعبد على مذهبك حتّى ولو امتاز لناظريك أنّه في عداد المبطلات. وذلك عزماً منك على أن تبقى إلى جانب أهلك وإخوانك. ولربما وجدتك تقسم ، أنّه لو دخل أهلك النار للحقت بهم ، يحدوك العزم على عدم الحنث بمثل هذا القسم أبداً .. ولو اطلعت على الغيب لما كان لك أن تفكر كذلك .. ألا ترى أن المرء لو أبتلي بالجنون تنكّر لاهليه .. ولربما حمل عليهم ، وهاجمهم بقصد القتل والاجرام. كذلك لو ابتلي بفقدان الذاكرة لتراه ينسى أباه وأُمه ، وإخوانه وإخواته أجمعين. بل لا يصير يذكر منهم أيّما أحد ، ولو مثلوا بين يديه ، واعتصروا مناديلهم دماً بدل الدموع. أو ما ترى أن المرء يموت فلا يحتمل أهله أن يمكث إلى جوارهم في المنزل حتّى يسارعون إلى قبره ، والعود بعد ذلك إلى حياتهم الطبيعية بعد أن يؤانسوا في أنفسهم مشاعر الوجد التي لها أن تزول بمرور الوقت والزمان .. يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم. وإنّ بوسعي أن أُقسم ، أن ما يستاقك إلى التلبس بمثل هذه المشاعر والأعراب عن مثل هذه الأحاسيس ، ما هي إلاّ شمائل استطاع الآباء ، ومن طريقها أن يخترقوا مستقبل المرء ، ويخترموا جُدُر مصائره ، ومن

٣٨٧

دون ان يشعر هو .. وأنا لا أدّعي أن على المرء أن يتطاول على أهله ، ما دام هو يجدهم على مذهب لا يرتضيه اللّه لهم .. وإن جاهداك على أن تشرك باللّه فلا تطعهما ، وصاحبهما في الدنيا معروفاً ، فلا يجب طاعتهما في هذه المسائل. هذا ، في الوقت الذي لا يجب فيه كذلك أن تقول لهما أُفٍّ .. ولو أنّهما خالفاك في العقيدة ، ولو أنّهما أصرّا على ظلمك .. أُنظر كم هو الإسلام جميل ، لشدّما يرغب المرء في السير إليه ، مع أنّه لا يخسر أيّما عوان يمكن أن يهز كيانه .. وإني لأرى الكثير ممن يختصمون وأهليهم ، لأجل زيجات أرادوا من خلالها أن يمارسوا دورهم الاختياري ، ويزاولوا انتخابهم الشخصي في. الاقتران بمن يحبون ، فتراهم ربما يضطرون إلى مقاطعة آبائهم وأُمهاتهم مدى العمر! نزولاً منهم عند رغبات زوجاتهم مثلاً ، مع أن المذهب الشيعي لا يقر بمثل هذا أبداً ، ويقره من يعترض عليهم! حتّى إذا ما دعوت مثل هذا الشخص إلى المذهب الشيعي ثار بوجهك ، وطفق يتحداك ، معلناً أن الدين دين الآباء ، وليس لنا أن نتجاوز الطريق الذي رسموه لنا ، ملوّحاً لنا وبنفس اليد التي ربما تطاولت ذات يوم على أبيه وأمه ، أو أخته وأخيه ، .. حتّى كانت قد كفرت بأنعم اللّه! ».

فقال نبيل :

ـ « .. ولربما ، وصمْتنا بالكفر كذلك .. ».

ـ « لقد رأيت من يكفر باللّه ، ولا أحد يعترض عليه ، ولا أحد ينهاه عما يقول ، ويفده به لسانه ، وأنا أُقسم لو دعونا الشخص نفسه ، وكفرنا إمامه بين جمع حتّى أهل السنّة ـ ببعض الصحابة ، لما كان لمشاعره أن تهتز ولا للحظة واحدة ، ولو دعوناه كذلك في جمع من أهل التشيع ، لكان له أن يثور ويجابهنا

٣٨٨

بلحن القول العتيد ، اتكفرون باللّه ورسوله ، وتشيحون بوجوهكم ، عما أمرنا به .. وليس ذلك فقط ، ولو جئنا بذلك الجمع الذي كفر .. لكان لهم أن يثوروا علينا ، وذلك حالما يجدوننا نحاول قراءة التاريخ من جديد ، ونعرض لاعمال بعض الصحابة بالفحص والتمحيص .. أو يروننا نقدمه لاستحوان ونحن نحمل بين أيدينا الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة .. مع أنّهم يعلمون بأ نّهم ليسوا بمعصومين ، وأن الخطأ له أن يصدر عنهم ، إن لم نقل بصدور الجرائم عنهم ».

ـ « الجرائم؟! ».

ـ « وهذا أمر طبيعي يمكن أن يحصل لأي امرئ ، وينسحب على أي شخص ليس بمعصوم ».

ـ « أي شخص؟ ».

ـ « في حال الاستسلام لأهوائه الشخصية ، ومطامحه النفسية دون أهداف اللّه ».

ـ « أتقصد بأنّ الصحابة المجاهدين مع رسول اللّه ، كان لهم مثل هذه المواقف؟ ».

ـ « ولربما الكثير .. أجل! فإنّي لو أخبرتك ما وقعت عليه في رواياتنا ، لكان لك أن تلطم وجهك وتضرب على الرأس ».

ـ « إنّي لأجد بأنّ الشيعة المتعصبين ، هم الذين أوغروا قلبك على الصحابة ».

لقد وجدت نبيل قد انقلب فجأة ومن جديد ، ولذلك ما كان لي أن أتناقش معه إلاّ لاتمام الحجة ، لأ نّي أعرف نبيل وأمثاله ، فهم كُلّما أُسديت إليهم خدمات العلم وعبّوا من موادّه الكثير الكثير ، كان لهم أن يبتعدوا عن الحقيقة

٣٨٩

العلمية أكثر فأكثر! بل كان لهم أن يزدادوا لجاجة وعناداً ، وتراهم كُلّ يوم على مزاج ورأي خاصين.

فقلت له بعدئذ ، وأنا أجد بأنه من اللازم على شخص مثلي يتعامل مع شخص من مثل نبيل ، أن يعرض عليه ما يلزم عرضه ويبرّئ ساحة الآخرين من إيّما تهمة هو يحمل الدلائل والمستندات على نفيها وإبعادها عنهم خدمة للحقيقة ، فكيف والتهمة كان لها أن تنسب إلى شيعة علي بن أبي طالب :

ـ « إنّهم لا يحملون أيّما تعصب ، وإن وجد فيهم من يحمل نزعات تقليدية فإنّه لا يحسب عليهم ، لأ نّه لا يمكن أن يقاس التشيع بالشيعة أنفسهم ، لأن الشيعة فيهم الصالح وفيهم الطالح ».

ـ « ولكن فيهم الغلاة وفيهم الغلو! ».

وعندها قلت له :

ـ « إن أعظم شيء على الشيعة هو حمل فرق الغلاة عليهم واضافتها إليهم ، وأستطيع أن أثبت بأن تلك الفرق الضالة قد آزرتهم السياسة ، وسهلت لهم الطرق ليصلوا إلى غايات في نفوسهم من الوقيعة في الشيعة ، والحط من كرامة أهل البيت ، إذ كانوا لا يستطيعون أن ينالوا من عقائدهم أو ينقصوهم بشيء ، والأمر واضح كُلّ الوضوح ».

ـ « كيف هو وقد أصبح واضح كُلّ الوضوح ، وأنا أشعر أنّهم يسعون لاضفاء مسحة من الألوهية على أئمتهم؟! ».

ـ « إن مذهب أهل البيت لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتعاليمهم هي المحور الذي يدور عليها نظام الإسلام فكان دخول الغلاة في صفوف الشيعة حركة سياسية أوجدتها عوامل لإثارة الفتنة من جهة ، والفتك

٣٩٠

بالإسلام من جهة أُخرى ».

رأيته قد التمس طريقاً إلى الهدوء ، بعدما كان مثاراً بعض الشيء ..

فقال :

ـ « كيف؟ ».

قلت :

ـ « لأنّ دخول الغلاة في الإسلام كان انتصاراً لمبادئهم ، إذ لم يجدوا طريقاً للانتقام من الإسلام إلا باختراع المغالاة في بعض العقائد الإسلامية عندما عجزوا عن مقابلته بالقوة وجهاً لوجه ، وانهزموا أمام قوم وطأوا أرضهم بأقدام لا تتأخر خطوة إلى الوراء إما الموت أو الفتح ، فأذلّوا عزيزهم ، وأسروا ذراريهم ، وأخذوا منهم الجزية عن يد وهم صاغرون ».

ـ « وإذن ، فلما لم تكن هذه المسألة هي جزء من التشيع والشيعة منها براء ، فلماذا لم يكافحها ويعالج أسبابها .. أقصد نفس المذهب ، لِمَ لم يتصد للقضاء عليها؟ ».

ـ « لقد عالج أهل البيت هذه المشكلة الخطيرة ، وعرفوا الدوافع التي دعت هؤلاء الكفرة إلى الالتحاق بصفوف الشيعة ، واتضح لهم غايات خصومهم الذين يريدون أن يوقعوا بهم ، فكان أئمة أهل البيت يعلنون للملأ البراءة من الغلاة وجاهروا بلعنهم ، وأمروا شيعتهم بالتبرؤ منهم والابتعاد عنهم ».

فقاطعني قائلاً :

ـ « كأنك قد حملت من علوم الشيعة أكثر مما تحمله من علوم العامة ».

ـ « استمع إلى ما أقوله لك ، ودعك من هذه المقالات الاستهلاكية. فإنّ

٣٩١

الشيعة كان لهم أن يتلقوا أوامر أئمتهم .. الأوامر الشريفة بالقول والامتثال ، فاعلنوا البراءة وملأوا كتبهم من التبرئ منهم ، وافتوا بحرمة مخالطتهم ، وأجمعوا على نجاستهم ، وعدم جواز غسل ودفن موتاهم ، تحريم اعطائهم الزكاة. كما أنهم لم يجوّزوا للغالي أن يتزوج المسلمة ، ولا المسلم أن يتزوج الغالية ، ولم يورثهم من المسلمين وهم لا يرثون منهم ».

ـ « وماذا فعل إمامهم جعفر بن محمّد؟ ».

ـ « لقد كان الإمام الصادق رضي‌الله‌عنه يلعن كبار الغلاة أمثال المغيرة بن سعيد ويصرح بكذبه وكفره ، ولعن أبا الخطاب وأصحابه وجميع الدعاة إلى المبادئ الفاسدة ، وكان هذا الإعلان من الإمام الصادق قد أوقف سريان دائها القاتل ، ولم يبق من تلك الفرق إلاّ الاسم في التاريخ وبادت بمدة قصيرة ».

ـ « وكيف لك أن تحدّد مساعيه في هذا الإطار؟ ».

ـ « لقد قال الإمام لمرازم : قل للغالية توبوا إلى اللّه فإنكم فساق كفار مشركون ، وقال رضي‌الله‌عنه له : إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري ، وقل له يقول لك جعفر بن محمّد : يا كافر يا فاسق أنا بريء منك. قال مرازم : فلما قدمت الكوفة قلت له يقول لك جعفر بن محمّد : يا كافر يا فاسق يا مشرك أنا بريء منك ، قال بشار : وقد ذكرني سيدي. قلت : نعم ذكرك بهذا ، قال : جزاك اللّه خيراً. ولما دخل بشار الشعيري على أبي عبد اللّه ».

ـ « أبي عبد اللّه؟ من هو أبو عبد اللّه؟ ».

ـ « هو نفس الإمام جعفر الصادق ، يلقب بأبي عبد اللّه ، كما أن الإمام الحسين يلقب بهذا اللقب أيضاً ».

بينما تابعت كلامي ، وأنا أقول :

٣٩٢

ـ « قال له : أخرج عني لعنك اللّه ، واللّه لا يظلني وإياك سقف أبداً ، فلما خرج قال الإمام : ويله ما صغر اللّه أحداً تصغير هذا الفاجر ، إنّه شيطان بن شيطان ، خرج ليغوي أصحابي وشيعتي يحذروه ، وليبلغ الشاهد الغائب أنّي عبد اللّه وابن أمته ضمتني الأصلاب والأرحام ، وإني لميت ومبعوث ثُمّ مسؤول ».

ـ « أخبرني إذن ، كيف كانت سلوكية غير الإمام ( من الأئمة ) جعفر بن محمّد مع الغالية؟ ».

ـ « فمثلاً ، لقد كتب الإمام الحسن العسكري ابتداء منه إلى أحد موإليه : إني أبرأ إلى اللّه من ابن نصير الفهري وابن بابه القمي فابرأ منهما ، وإني محذرك وجميع موالي ، ومخبرك أنّي العنهما عليهما لعنة اللّه ، يزعم ابن بابا أنّي بعثته نبياً وأنه باب ، ويله لعنه اللّه سخر منه الشيطان فاغواه فلعن من قبل منه ، يا محمّد إن قدرت أن تشدخ رأسه فافعل ».

ـ « وعليه ، فإنهم كانوا يلعنون الغالية ويبرأون منهم كذلك؟ ».

ـ « نعم! فلقد قال أبو عبد اللّه الصادق يوماً لاصحابه : لعن اللّه المغيرة بن سعيد ، لعن اللّه يهودية كان يختلف اليها ، يتعلم منها الشعر والشعبذة والمخاريق ، إن المغيرة كذب على أبي ، وإن قوماً كذبوا علي ما لهم! أذاقهم اللّه حر الحديد ، فواللّه ما نحن إلاّ عبيد خلقنا اللّه واصطفانا ، ما نقدر على ضرّ ولا نفع إلا بقدرته ، إن رحمنا فبرحمته ، وإن عذبنا فبذنوبنا ، ولعن اللّه من قال فينا ما لا نقول في أنفسنا ، ولعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا ».

ـ « ومع كُلّ هذا التصدّي ، فإنّ الغالية كانوا ذوي جهود متواصلة ، فكيف

٣٩٣

تناسب ذلك مع كُلّ هذا التحدي من أئمة الشيعة وتصديهم لهم ».

ـ « إن للسياسة دور هام في إزدهار وتطور مثل هذه الحركات ، فما كان من أئمة أهل البيت إلاّ أن يحصدوا ما يزرع هؤلاء ، فحسبك ما قاله الإمام جعفر بن محمّد : إن أبا منصور كان رسول إبليس ، لعن اللّه أبا منصور ، قالها ثلاثاً .. كذلك قال : إنا أهل بيت صادقون لا نعدم من كذاب يكذب علينا عند الناس يريد أن يسقط صدقنا بكذبه علينا ، ثُمّ ذكر المغيرة وبزيغ السري وأبا الخطاب ، ومعمر وبشار الشعيري وحمزة اليزدي وصائد النهدي ، فقال : لعنهم اللّه أجمع وكفانا مؤونة كُلّ كذاب. ومع كُلّ هذا ، فبقدر ما كانوا يسعون لاستئصال شأفة هؤلاء المجرمين ، كانت السلطة تزرع غيرهم في مختلف الأمكنة ».

ـ « حقاً؟! ».

ـ « وعن حمدويه قال : كنت جالساً عند أبي عبد اللّه وميسرة عنده فقال له ميسرة : جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون إلى هذا الموضع فانقطعت أخبارهم وآثارهم وفنيت آجالهم. قال الامام : ومن هم؟ قلت : أبو الخطاب وأصحابه ، فقال ( وكان متكئاً ورفع بنظره إلى السماء ) : على أبي الخطاب لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين ، فاشهد باللّه أنّه كافر فاسق مشرك وأنه يحشر مع فرعون في أشد العذاب ».

ـ « وإذن ، فكانت قد صدرت التعليمات الخاصة بهؤلاء الغلاة وذلك من قبل الأئمة إلى شيعتهم؟ ».

ـ « نعم! ولقد ذكر عنده أصحاب أبي الخطاب والغلاة فقال : لا تقاعدوهم ، ولا تواكلوهم ، ولا تشاربوهم ، ولا تصافحوهم ، ولا توارثوهم.

٣٩٤

وقال عليه‌السلام : إنّ من الغلاة من يكذب حتّى إنّ الشيطان يحتاج إلى كذبه ».

ـ « عجيب .. وإذن ، كانوا هم قد تصدّوا لهم كافة .. حتّى خلعوا عنهم صفات الانتماء إليهم! ».

ـ « بالضبط! فلقد قال الإمام : إنّ قوماً يزعمون أنّي لهم إمام ، واللّه ما أنا لهم بإمام مالهم لعنهم اللّه! أقول كذا ويقولون كذا ، إنّما أنا إمام من أطاعني ، ومن قال بأننا أنبياء فعليه لعنة اللّه ، ومن شك في ذلك فعليه لعنة اللّه ».

ـ «؟!».

ـ « وهذا ما وجدته جميعاً في كتاب الشيعة في التاريخ ، لمحمّد حسين الزيني ص ١٧٨ ».

ـ « وبذلك ، فإنّ الشيعة لا تؤله أئمتها .. ولكني أحسب أنهم يفعلون مثل ذلك ومن حيث لا يصنعون ما تصنعه فرق الغلاة .. ومن حيث لا يشعرون كذلك ».

قلت له :

ـ « كيف؟ ما الذي تقصده؟ ».

ـ « إنّ ما يصنعونه في بعض المناسك والشعائر ليدلل على وجود تأليه وشرك خفي .. حتّى إن بعض الممارسات والعادات الحياتية هي الأُخرى ، لتنسحب على مثل هذا الأمر! ».

فقلت له :

ـ « إنّ ما أخبرتك به ، هو بعض ما ورد في الغلاة الذين حاول خصوم آل محمّد الحاقهم بالشيعة ، لغاية الحط من كرامة المبدأ ، وليظهروهم للملأ بابشع المظاهر وأشنعها ، ويعلنوا للعالم أنّ الشيعة يعتقدون في الأئمة الألوهية ، فلا

٣٩٥

يصلح عدهم من المسلمين فتراق بذلك دماؤهم وتنهب أموالهم ، ولما أصبح من الصعب عليهم تواصل مثل هذه السياسات كان لهم أن ينسلوا في الشيعة أنفسهم ، فيجعلوا منهم أسواراً يتسورون العوام منهم حتّى إذا ما استطاعوا النفوذ إلى كيان الشيعة ، أخذوا يخترعون ويبتدعون ما طاب لهم وحلا من مناسك وشعائر ادخلوها ودسوها حشراً في داخل مناسك وشعائر الشيعة والمذهب العادية .. ولا أُريد الدخول في عموم التفاصيل ، ولكن خلاصة الأمر أن الاستعمار هو نفس الاستعمار إلاّ أن سياساته بدأت تختلف ، وأساليبه صارت تتمدن وتتطور أكثر من ذي قبل ووفقاً لما يتناسب مع ضرورات الأزمنة ومتطلبات العصر الذي يعيشونه! ».

ـ « وهل حدّث التاريخ عن فجائع الغلاة في تلك الأزمنة الغابرة؟ ».

ـ « وكم حدّثنا التاريخ عن تلك الفظايع السود ، ومن أراد أن يعرف موقف الشيعة من طوائف الغلاة فليرجع إلى كتاب روض الجنان للشهيد الثاني المتوفى سنة ٩٩٦ للهجرة ، ونهج المقال للميرزا محمّد الاسترآبادي المتوفى سنة ١٠٢٦ هـ والانتصار للسيد المرتضى المتوفي سنة ٤٣٦ ، التهذيب للشيخ الطوسي المتوفى سنة ٤٦٠ ، والسرائر لابن إدريس المتوفى سنة ٥٩٨ ، والمنتهى ، ونهاية الأحكام ، والتذكرة ، والقواعد والتبصرة للعلامة الحلي المتوفى سنة ٧٢٦ ، والبحار للشيخ المجلسي المتوفى سنة ١٠١١ هـ ، والدروس للشهيد الأول المتوفى سنة ٧٨٦ ، وجامع المقاصد للشيخ علي الكركي المتوفى سنة ٩٤٠ هـ والشرائع والمعتبر ، والمختصر النافع للمحقق أبي القاسم الحلي المتوفى سنة ٦٧٦ والجواهر للشيخ محمّد حسن المتوفى سنة ١٢٦٦. وغيرها من آلاف الكتب الفقهية التي تنصّ بالاجماع على كفر

٣٩٦

الغلاة ونجاستهم وبعدهم عن الدين ، ولا رابطة بينهم وبين الشيعة ».

لحظتها ، كان نبيل يتنبه الي بدقة ، ويرقبني كنظر المتفحص .. فقال :

ـ « إنّي لأراك شيعياً في الأصل .. فها أنت تحفظ أسماء الكتب ، وتجيب عن الشيعة وبالنيابة ، إنك صرت تعلم عن الشيعة والتشيع وأئمة المذهب أكثر مما يعلمه الشخص الشيعي الأصل ».

ـ « ولربما هذه نعمة من نعم اللّه .. يترتب عليّ النهوض بشكرها ».

بينا عاد يقول :

ـ « لذا! فالذي يحصل الآن ، وحصل في الماضي هو محاولة تطبيع الشيعة أنفسهم ونسلهم كذلك على ما أوصاهم به أئمتهم ، أليس كذلك؟ ».

ـ « بالضبط! كما أن كتب الرجال طافحة بذم الغلاة والتبرؤ منهم ومن معتقدائهم ، ويلعنونهم بلغة واحدة. فأمل الشيعة إذن هو بأبناء المستقبل ، كيما لا يركنوا إلى الأوهام والاباطيل ، وأن يطلبوا الحقيقة ، فالعلم يطلب منهم أداء رسالته ، والحق يدعو هم إلى مؤازرته ، فقد آن أن تماط عن العيون غشاوات التعصب التي منعتها من رؤية الحق وأبرزت الواقع معكوساً إذ هي كعدسة المصور! ».

ـ « ولكن في التشيع مشكلة أُخرى وهي مشكلة الكتّاب المفرطين في الحديث عن عقائد الشيعة ودراسة أخبار مدوناتهم! ».

ـ « وهذا هو الذي يطلبه أئمتهم منهم ، وذلك كيما يسلم العوام من الافراط والتفريط ، فثمة ضرورة مراقبة المشتغلين في قطاعات الأُدب والعلوم ، كيما تنعكس آثار مثل هذا على الطبقات الدنيا من جماهير الشيعة ».

ـ « وهذا سيساعد الآخرين وعلى الأخص المثقفين من هؤلاء الآخرين ،

٣٩٧

سيساعدهم على فهم عقائد الشيعة ومحاكات علومهم وتعاليمهم ، وربما مناظرتهم ومحاججتهم ، وفي نفس الوقت سيفوّت الفرصة أمام المتعطشين للّعب في المياه العكرة والخوض في المياه الآسنة ».

ـ « بالطبع ، فيعتدل بعدها الكتّاب عن هذه السيرة الملتوية ، ويضطروا إلى تغيير خططهم ( إلاّ من شقي منهم ) وتبديل لغتهم المستخدمة في ذكر الشيعة ، فلا يلتفتوا لأوضاع تلك العصور المظلمة التي جنت على الإسلام جناية لا تغتفر ، وملأوا القلوب بالاحقاد والضغائن ، ونسبوا مبدأ التشيع إلى عبد اللّه بن سبأ اليهودي ».

ـ « عبد اللّه بن سبأ اليهودي؟ ».

ـ « أجل ، عبد اللّه بن سبأ اليهودي ، فطعنوا بذلك على أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين عُرِفوا بتشيعهم لعلي ، ويتجاوز عددهم المئات وغيرهم ممن تكتم جريا مع الظروف ومتابعة الأحوال ، على ان كلمات اللغويين والمفسرين قد أجمعت على أن معنى الشيعة هي الموالاة لعلي إذ أصبح علماً في ذلك ».

ـ « ماذا تقصد بعبد اللّه بن سبأ ، ومن هو هذا الشخص؟ ».

ـ « أما عبد اللّه بن سبأ ، فهو ذلك الشخص الوهمي الذي وصفوه بصفات البطولة والاقدام ، وهو صاحب السلطة المطلقة في المجتمع الإسلامي ، قالوا عنه : أنّه استطاع أن يسيطر على أهل مصر ويقود منهم جيشاً لقتل الخليفة عثمان ، وأن أبا ذر تعلم منه ، وعماراً أخذ بآرائه ، وحرب الجمل من دسائسه ، ووقعة صفين من صنعه ، ومبادئ التشيع من تفكيره ... وقد ورد ذكره في كثير من الكتب حتّى أصبحت قصته وكأ نّها حقيقة ملموسة قضية واقعية ».

٣٩٨

ـ « أووه ، ما الذي أسمعه ، إن هذا لشيء عجاب حقاً! ».

ـ « والذي يلفت النظر هو أن بعض الشيعة ترجموا له ، وذكروه للتبرؤ منه ، أخف عبارة يقولونها في ترجمته : عبد اللّه بن سبأ العن من أن يذكر ».

ـ « ما هو واقع هذه الشخصية؟ ».

ـ « أما إذا أردنا أن نرجع لواقع هذه الشخصية ، وما لها من صلة في الواقع ذلك على ضوء البحث الدقيق ، فإنّ النتائج العلمية تثبت لنا عدم ثبوت هذه الشخصية ، وأ نّها أُسطورة وحديثها حديث خرافة ، وهي من مبتكرات التعصب الطائفي ، ودسائس ، للحط من قيمة مذهب أهل البيت ، والوقيعة في شيعتهم ».

ـ « وكيف يمكن تحديد مصدر هذه الأُسطورة؟ ».

ـ « إنّ هؤلاء الذين ذكروا عبد اللّه بن سبأ بتلك الصورة المدهشة ، وذلك من أجل أن يكون بميسورهم النيل من مقام الشيعة ، فلو أنّهم وقفوا قليلا أمام مصادر هذه الأُسطورة ، ومنحوا لها بعض الوقت من التأمل ، لانكشف لهم الواقع وظهر أنّ المصدر الوحيد هو الطبري ».

ـ « الطبري! .. الطبري؟! نفس الطبري؟ ».

ـ « أجل نفس الطبري والمتوفى سنة ٣١٠ هـ ».

ـ « كيف؟ ».

ـ « لأ نّه لم يسبقه أحد في ذكرها ، والكُلّ رواها عنه وهو يرويها عن سيف بن عمر بسلسلة مظلمة مجهولة ، وسيف هذا! قد أجمع علماء الرجال على أنّه كذاب ».

ـ « وماذا يعلق الأدباء والمفكرين على هذه القضية؟ ».

٣٩٩

ـ « ولنصغي الآن إلى حديث الاستاذ كرد علي حول مذهب التشيع وعلاقة ابن سبأ به ».

ـ « وماذا يقول هذا الأُستاذ؟ ».

ـ « يقول الأُستاذ كرد علي في خطط الشام : عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل سلمان الفارسي القائل : بايعنا رسول اللّه على النصح للمسلمين والإئتمام لعلي بن أبي طالب والموالاة له. ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول : أمر الناس بخمس فعلوا باربع وتركوا واحدة ولما سئل عن الأربع ، قال : الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج ، قيل فما الواحدة التي تركوها؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب. قيل له : وإنها لمفروضة معهن ، قال : نعم هي مفروضة معهن ».

وإذا ما سكتّ لحظات ، سألني المزيد من مقالة هذا الأُستاذ ، فعدت إلى حديثي :

ـ « .. ومثل أبي ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت ، وأبي أيوب الأنصاري ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وقيس بن سعد بن عبادة. وأما ما ذهب إليه بعض الكتاب من أن مذهب التشيع من ابتداع عبد اللّه ابن سبأ المعروف بابن السوداء ، فهو وهم ، وقلة معرفة بحقيقة مذهبهم ، ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة ، وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله ، وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم فيه ، علم مبلغ هذا القول من الصواب ، ولاريب في أن أول ظهور الشيعة كان في الحجاز بلد المتشيّع له. انتهى كلام الاستاذ ».

ـ « قلت : .. مصدره ، كتابه ، ماذا كان اسمه؟ ».

٤٠٠