وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

وماءها وأقسام دائرتها الكهربائية ، كيما يطمئن إلى أنّه ليصل دائماً ومن دون أن تعترضه أيّما عوائق ، أو أخطار يمكن أن يسبّبها له عدم اذعانه لمثل هذه التفاصيل من نوبات أعمال الادامة .. أو كمن جعل يتفقد حال بنائه الجديد ، أو حال عمارته القديمة ، ليكون على اطلاع بكُلّ أسباب دوامها وتلافي حصول ايما انهيار يأتي على أدوارها وطبقاتها .. أو كحال ربِّ العائلة الذي عمد الى تفقد أحوال أفراد أُسرته من الصغير إلى الكبير ، ويسبر غور تطلعاتهم ، وما يحتاجون إليه ، ومع من يختلطون؟ وأيٌّ هو الذي يعاشرون ، أو يستقبلون في منزله ، إبّان غيابه ، وفي أثناء عدم وجوده ، وهكذا.

أو كحال أيّما رجل أعمال في أيّما ظرف جعل يراجع جداول أعماله واوراقه الحسابية والمصرفية ، أو طالب علم جعل يتحسس مستوياته العلمية ، وكتبه ومناهجه حتّى طفق يراجع مواد دروسه ، ويعد لاجتياز امتحاناته النهائية وغيرها .. فلم لا أفعل مثل ذلك ، وقد تاق الزمان إلى أن يكحل عيناي برضاه ، علّني أوفق إلى كسب نياشين النصر على نفسي ، كيفما أتفق اليّ حال الدنيا وأمر الزمان .. ذلك انّي قد أدّيت الذي كان علي واجباً أداؤه ، فلو ساءلني أحد الملكين في عالم البرزخ ، من إمامك؟ وما دليلك عليه؟ كان لي. بعدها أن أخبره إلى ما توصل إليه عقلي ، وسعى إليه فكري الإيماني ، واسترسل معه بالحديث حتّى أقضي به إلى طرائق أبحاثي ، وضروب معالجاتي لكُلّ من هذه المشكلات العقلية والآفات الذهنية ، واطلعه على كيفية تحليقاتي المتينة ، وكيف كان لي أن أنشب مخالب نزعاتي الذهبية لأكلّلها بغرزاتها الفضية ، وهي تستكشف ظلم الأيام ، وتستنكف عن المضي دون رفع الهام ، كمن مد بعنقه إلى ما تحت سحائب من أعناق أغصان تبلدت

٢٤١

فوق رأسه .. فايّنما أدار رأسه ، اضطرته إلى أن ينكس برأسه ، ويجنح بعنقه نحو الاذعان ، ويخضع دونما أن يتبين في أثيث هذه الأجنحة المورقة أيّما طريق ، ليس ذلك يعنون بسبب افتقاده لمثله ، إنّما افتقاده لقدرته على التصميم ، واتخاذ القرار باحتفار المجهول ، واخترام البعيد من زوايا الرؤيا ، كيما ينبجس له ضياء ، يعكس له سبلى ظليلة! وليست عسوفة أو خفيضة حتّى يروم لها طريقاً ، كيما يمتحن اقصاءها ، ويرجو ضفاف تخومها حتّى ولو ما كان لنجمه أن يورق بأيما لوح بشارة يمكن ان يغرقه بظلال تسابيح مشرقة ، يؤمله أن يغذو السير في اتجاهه ، ويغريه بالنفوذ إلى باحة سلطانه ، كيما يلتمس الامساك بحبات العنقود والتطاول على معدنه في عليائه .. فإنّه ليس للإنسان إلاّ ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى! ذلك أن الأمر كان قد صدر : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، وما أبرئ أيّما نفس مذهب ، القيام بمهام هذا الواجب ، وهو الفحص عن حقيقة الدين ، واستجلاء معالمه ، والتحقق من صحة الاعتقاد الذي قوّم بنيانه عليه ، كلٌّ من أبيه وأمه ، فهوّدانه أو مجسّانه أو نصرّانه أو جعلاه مسلماً حنفياً ، أو شيعياً ، أو حتّى غيره .. فالكُلّ عليهم أن ينهضوا لملء جرابهم من غدير لا ينضب معينه أبداً ، ولا يفيض ماء جبّه قط! ليسأل اللّه الصادقين عن صدقهم ويعدّ لهم جنّة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، ذلك أن الهدف هو اللّه ، فمن ارتضاه اللّه ، وجب على البشري الخليق به مثل هذه اللفحة أن يختاره ، ولا يكتفي بما اختاره له أبوه وأُمه ، وقع عليه اختيار الأُم ، حتّى لو كثر أفرادها وتعددت فرقها ، وهي تلهج بقول يتيم ، وتعلن عن وحدة قولها. لأ نّي وجدت أن اللّه كان قد ذم الكثرة في مواطن في قرانه ، ربما غدت بعدد المواطن الكثيرة التي نصر اللّه بها

٢٤٢

الإسلام عبر معاركه .. حتّى غرّت المؤمنين كثرتهم ، وجعلتهم يتراجعون القهقرى ، ويفرون من لقاء الأعداء ومواجهة المشركين .. وما كان أكثرهم مؤمنين ، وأن تطع أكثر مَن في الأرض يضلونك عن سبيل اللّه ، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن اللّه .. هذا إن أبحنا لأنفسنا أن نفكر بمطلق العقل السليم وطلاقة سبيل الاعتقاد الحكيم ، ولا تنظر إلى الشيعة على أنّهم شرذمة قليلة ، فلو القى عليهم أسورة من ذهب أو جاؤوا إلينا بالملائكة ، فما كان الرسول إلاّ فرداً لم يكن لينصره ، وفي بادئ دعوته الفئة القليلة. وما كان لنا أن نستهين بعقيدة أُخر حتّى تنجلي عبرة الخوف عن الانتماء إلى عقيدتنا نفسها التي لا نحمل عنها أيّما تصور حقيقي. إذ ما كان لنا أن ننظر إليها ، ولا في يوم من الأيام بعين التمحيص ، ولا كان لنا من الوقت ـ وحسب انشغالاتنا واعتقاداتنا الدنيوية ـ الذي نضيعه في بحث صحة اعتقاداتنا ، ومراجعة كتب الصحاح ، ومجلدات التاريخ والتفسير ، وجمهرة الكتب المؤلفة والغور في أرجاء بطونها ، وسبر ملامحها الأصلية وأعماقها الغئمة حتّى كأنه حرّم على أيما أحد منا أن يدخل في غمارها ، ويدرس أحوال أوطانها ، ويقتحم أقطارها ، ويمشّط مناحيها. فلو فعل أحدنا مثل ذلك ، لتوقع أن يوصل بالعار ، ويحلق رأسه ، ويُطاف به في الأسواق ، ويعلن عنه كفرد ظل الطريق ، وأساء القصد ، وأراد الإقلاع عن دين المعبود ، وتصحيح التاريخ ، وسلب الزمان هويته ، وانتهاك حرمة الصحابة .. ومن هم الصحابة والتابعين سوى أُناس مثلنا ، فليسوا هم بالمعصومين .. كانوا قد تعرضوا إلى اختبار الإله ، وفتنة إبليس أكثر منّا ، لأ نّهم عاشروا الرسول ، ورافقوا الأصحاب ، وتابعوا المتأخرين منهم حتّى غدا أيّما خطأ أو تقصير يبدر منهم يحتمل الأكثر

٢٤٣

والاعظم من العقاب والجزء من قبل الخالق القهار ، ذلك أن الحجة كانت قد القيت عليهم بأعظم مما القيت علينا ، ونحن الذين نأينا في عباب الزمان ، وابتعدنا عن عقارب أيامه حتّى شطّت بنا المساحات ، وصرنا نؤمن بالرسول والأئمة والأصحاب غيبياً ، ومن دون أن نراهم ونقر بالدين ووجود الخالق حتّى آمنّا بالقرآن المنزل من دون أن نبصر للمعاجز مقالة وللوحي رسماً مع أن معجزة الواحد هي القادمة بين أيديناً ، يتحفنا باريج عبيرها واوج عروجها ، بين الفينة والأُخرى ، إلاّ وهي جلالات القرآن وضياء كتابه الحكيم.

اعترتني غربة قاسية ، غافلني سحابها ، وهو لا يزال يتطاول فوق هضاب أنفاسي التي جعلت تعلو وتنخفض كُلّما استرسلت في التفكير بغربتي ، وآلمني نبض الفراق والوحدة .. غير أنّي جعلت أعوّد النفس وأُعلل القلب بضرورة مباغتة الفرص نفسها ، واستباقها واقتناص أيامها ، ومن قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال .. وما كنت لأطيق اقناع نفسي وبهذه السرعة ، وأن أحاول ارغامها على الدخول مدخلا حسناً ، وذلك أنّي كنت أدرك أن هذا التفكير المفرط والمرهف سوف لا يحمّلني سوى وباله الأليم ، وسوف لا يجر عليّ سوى ارهاق تلو الارهاق ، ولاكثر من ذي قبل حتّى ساصير أحتمل رزئه ومن دون أيّما طائل ، وانوء تحت غيظ سيوفه ومن دون أيّما مبرر ، إذ ريثما أهدأ إلى ليوث عريني القابعة في وجار نفسي وعتيق دخائلي ، سيكون بمقدوري عندها أن أحرر النفس من عناق شبِق ، طالما غشيتني به لواعجها الغنية بالبذخ والترف .. فأصبحت أغمرها بسيل من التطويقات رغماً عنها .. وكيفما حال الزمان بالمرء إلى اتجاه ، عقل إنّه أنفس وارفع ، لأنّ أفضل الأعمال كان هو ما اكرهت النفس عليه ، وذلك حسب ما يعنيه قول سول العزة

٢٤٤

محمّد بن عبد اللّه ، مما له أن يندرج في سيل الطاعات ، ولا ينجرف نحو مشارف المعاصي وحافات الهاوية .. حيث إن حالي جعل يصرح لي بعيون وجلة ، كُلّ ما كان للوحي الروحي ان ينطق به ويقوله ، ويحدث به ، .. وأنا الذي ما زلت أُحاول تسلق جبل عاتي ، لكيما يتسنى لي معرفة آمالي بحق ، وحقيقة! أهو أبو بكر؟ أم علي؟ أم كلاهما! أم الخلفاء الراشدون أجمع؟ وهل أن الأصح هو اتباع أبي حنيفة ، أو الشافعي أو ابن حنبل أو مالك ، أم جعفر الصادق؟! .. وإن أخترت أحدهم ، فما الذي سيصير إليه مصير تلك الأزمنة التي حكمتها البلاد ، وفي عهود كلٌّ من حكام بني أمية وبني العباس؟! أيمكن أن يكونوا على حق؟ ولِمَ لم يأتِ أبو حنيفة في زمان أبي بكر ، ولو فعل ، ما كان ليقوله له أبو بكر نفسه؟ وهل كان الزمان الذي سبق وجود الأئمة خلواً من التقليد؟ ولو كان لأحدهم أن يعتريني بفصيح القول إن الخلفاء كانوا يعوضون عنهم ، فهل أن معاوية بن أبي سفيان ، كان قد أعرض عنهم حين حكمه هو الآخر ، وهو الذي جعل حكومته قيصرية يورّثها أولاده بعد أن يغير على حدود العراق ، ويقتل الاطفال ، ويسبي النساء ، ويهتك حرمات المسلمين .. ويغزو كما كان يغزو أبوه وأجداده من قبل في أيام الجاهلية ، فيذر البقاع عاليها سافلها ، ويدع المضارب بلقعاً قفراً من سكانها ، هشيماً تذروه الرياح حتّى إذا ما استتب الحكم لولده يزيد ، جعل الأخير يتمرن على كيفية حصاد الرؤوس البشرية ، وفري الاوداج ، وحز أعناق كُلّ فلذة وفلذة لكبد رسول اللّه التي ما ذلّ العالمين لحكمه إلاّ عن طريق إيمانهم بما جاء به!

ولما كان الزمان في عصور بني أمية ، يخلو من أئمة المذاهب هؤلاء .. حتّى إذا ما أتى حكم العباسيين ، جعل الدهر يفصح عن حاجته إلى أئمة .. ينشغل

٢٤٥

الناس بتقليدهم .. فمن كانوا يقلدون هؤلاء ومِن قبل يا ترى؟ .. وهل يعد تعبّد الناس الذين سبقت أزمنتهم أزمنة أئمة المذاهب الأربعة ( فيما لو اعتقدنا بأنّ عدم تقليد أحد هؤلاء الأئمة غير جائز ) لم يكن سليماً ، أو لم يكن صحيحاً .. إن قلت لاصحابي إنّ الناس كانوا قد اكتفوا بمن كان موجوداً في عهد الخلفاء الراشدين ، فهل كان لهم أن يعينوا لنا بمن اكتفوا .. وهل كان لهم ان يشخصوا لنا لِمَ لم يستمر مثل هذا الاكتفاء .. فإن انتفى فيما بعد ، فما كان له إلاّ أن ينتفي فيما سبق .. لأنّ لمثل ذلك أن يطلق عليه قاعدة لا تقبل التوالي ولا التواصل .. غير أن الإسلام ما كان ليقبل إلاّ التواصل وعلى المدى وإلاّ لساخت الأرض بمن فيها .. لأ نّه لو خليت لقلبت! وهل كان للبشرية المسلمة أن تكتفي كذلك في عهد الأمويين .. ، وإن عبرنا عن ذلك بالاثبات ، فمن كان هؤلاء الذين يكتفي بهم البشر آنذاك؟! كذلك ، ما كان لينفي هذا الاثبات إلاّ كُلّ حادث كان له أن يحصل ويستجد في العصور العباسية مما له أن يمثل عدم الاكتفاء .. مع أن خطوط هذا الآخير وحسب ما يمكن أن يعنيها من يعتقد بها كان لها أن تتواصل ، .. فلماذا يعرض عنها الخلفاء العباسيون وينشدون سياسة إحداث فقهاء جدد؟! وصناعة علماء لم يسمع بهم أحد من قبل؟ وإن عبرنا عن ضرورة احتياجات الناس الملحّة وذلك لتعاظم ظروف الزمان ، واختلاط الدهور ، وانبساط المستحدثات من المسائل وكثرة الفتوحات وحاجة الأمصار والأعمال الجديدة إلى تدوين لقوانين الشرع وأحوال الدين ، كيما يتبصر بها ذوي النهى والحجى ، ويعقلها أصحاب الأذهان ، ويفهم ظاهرها عوام الناس وعموم البشر والعباد من خلق الرحمن .. فكان لي أن أتساءل عندها ، فهل كان الناس ومن قبل يتعبدون ومن دون تقليد ، وإن كانوا يقلدون

٢٤٦

الرسول ، فما كان الرسول إلاّ الحاكم الشرعي .. والخليفة العام المتسلط على شؤون الدولة الإسلامية ، وإذا سلمنا بشرعية الخلافة الإسلامية ، فما كان المرجع آنذاك إلاّ الخليفة .. لكنا نلحظ بأن الخليفة ما كان يمثل المرجعية آنذاك .. لأنّ الخليفة أبو بكر والخليفة الثاني عمر بن الخطاب ما كانا ليعبرا عن نفسيهما بذلك حتّى كان للآخير أن يعبر عن حاجته إلى مرجع .. وما كان هذا إلاّ علياً .. فقال : لولا علي لهلك عمر! إن هذه المسألة تحتاج إلى توقف عظيم ، لأنّ الخليفة الحق يجب أن يلم بمسائل السياسة والدين جامعة.

ولي أن اتساءل ثانية : فهل كان الفتح العباسي يفرض صنع أئمة يتعبد الناس طبقاً لفتاويهم؟ وهل أن الفتح الأموي ما كان يستلزم صنع مثل هؤلاء؟! وهل كان الاختلاف يدعو إلى التعبد على فقه إمام من هؤلاء الأئمة الأربعة دون آخر؟ وكيف استدعى ظهور الشافعي وأبي حنيفة ، وبروز المالكي والحنبلي دون غيرهم من أصحاب المذاهب؟ ولماذا كان ثمة اختلاف بين هؤلاء الأربعة ، ان كان لهم أن ينهلوا من دين واحد؟ وإن رفع هذا الاختلاف ، فما كان ثمة من داع يبرر الانتقال من مذهب إلى آخر ، في داخل نطاق هؤلاء الأربعة .. وإن لم يرفع مثل هذا الاختلاف ، فإنّه يمكن أن ينتزع نوع تبرير هو أصعب من كُلّ ما يمكن تصوره ، وهو أنّه ما كان مثل هؤلاء إلاّ مجتهدين .. وعليه ، فلماذا لا ينضم اليهم جعفر الصادق ، وهو الأولى ، لأ نّه ابن رسول اللّه ، وعليه ، فما كان تقدمّه وتؤخره إلاّ السياسة ، لأ نّه ما كان ليركن إلى أصحابها قط ( حتّى ولو كان لأصحاب المذاهب من له أن لا يركن إلى السياسة في بعض الأحيان ، فإنّهم لربما كانوا ورقة ممتازة أحسن العباسيون توظيفها ضد الشيعة والاستفادة منها لتمشية أُمورهم ودحر مناوئيهم ) وليس للمعايير الكونية

٢٤٧

والدينية دخل في ذلك .. وإلاّ لكان لجعفر الصادق أن يكون هو الآخر أولهم وليس خامسهم لأن أبا حنيفة كان تلميذه! ولم يتتلمذ جعفر على يدي أي منهم بل هم الذين تتلمذوا على يديه ، وإن لم يتتلمذ الشافعي على يديه مباشرة ، فقد تتلمذ على يدي أحد تلامذته! وإن كان الشافعي نفسه مثلاً ، قد سار على نهج من سبقه من الفقهاء ، فما كان لنا أن نعتبر له فقهاً مستقلاً ، وإن خالفهم ، فما هو وجه الخلاف؟ وإن رضينا بذلك ، نعم لا نقبل بامتداد خطوط الفقه حتّى صرنا نقف عند حدود هؤلاء الفقهاء الأربعة ، وإن تعذر على البعض اكتشاف ذلك حينما صار لا يكفّ الآخرون عن الاهتمام به ، وهم لا يفتأون يلقمون فمه الاعذار تلو الأُخرى ، وهي أنّه قد ظهر فقهاء آخرون ، ونبغ كثير غيرهم ، سواء في أزمنة هؤلاء الفقهاء الأربعة أنفسهم ، أو قبلهم أو حتّى بعدهم ، إلاّ أنّهم لم يلقوا أذناً صاغية بمثلما لقيها هؤلاء الأربعة .. وإذن ، فان السؤال سوف يتهدد أعناق هؤلاء ، فأيما أُذن صاغية لكان لهم أن يلقوها ، وهم الذين ما كانت لتختلف انتماءاتهم أو مقادير علومهم ، بل تباينت ألوان قدراتهم ، وتناؤءت لديهم بعض النظرات العلمية وتصادمت بعض آرؤاهم الفقهية مع البعض الآخر؟! لذا ، فهل كانت السلطات وراء ذلك ، وهي التي ما كانت لتترجم سوى معاني الحنق العباسي ، ومقادير الحذقة والدهاء اللذين كان ينغمس في اطارهما البلاط العباسي نفسه ، ذلك أنّه وجد نفسه في صراع عظيم مع فقه الشيعة حتّى جعل يكيل له الضربات تلو الأُخرى ، حيث صرت إلى مطالعة ما وجدته ثابتاً في المصادر المعتبرة والموثقة لديّ كذلك.

٢٤٨

الفصل العشرون

مذهب أهل البيت ما بيع القمع والنشر

كنت أفكر كيف أن نجم المذهب الشيعي كان له أن يصير إلى الائتلاق أكثر فأكثر ، ومع كُلّ هذه التأثيرات والضغوط المتواصلة عبر التاريخ! إنّها حقاً لمعجزة ليس يقدر عليها سوى اللّه ، وما كان يريده اللّه ، فخليق بالبشرية وحري بأبناء آدم أن يطلبوه ولو حبواً على الثلج! لقد انتهز العباسيون فرصة اندحار الأمويين عن طريق اعلاناتهم الخفية لبني العباس واعلاناتهم الموهمة عن أن حكومتهم ما قامت ، وثورتهم ما اشتعلت إلاّ للرضا من آل محمّد .. فكيف لهم أن يعلنوا عن ذلك ، ويعملوا على تقتيل أبناء علي ، ومطاردة أولادهم ، بدلاً من مودتهم؟! وإذا ما كانوا قد تجاوزا هذه الفترات ، فإنّه كان لهم ان يشعروا بضرورة الافصاح عن مآربهم الحقيقية ، والاستطال والتيه في سوابح السلطنة والدنيا ، وذلك بعد أن استتب لهم الأمر ، ونفذت رماح حال الوأد السياسي إلى كُلّ الارجاء ، وعزموا على الأمر والنهي دون أكتراث ، بعدها صنعوا ما صنعوا ، ووظفوا ما وظفوا حتّى صاروا يحاربون آل علي ، ويقتّلون أبناءه ، ويصرعون أحباءه من بعد أن جعلوا يجهزوا على أئمة الشيعة من ولد علي وفاطمة .. أسباط الرسول محمّد! إلاّ أنهم ما كانوا لتمكنوا من ذلك حتّى كان جعفر الصادق قد تمكن من نشر تعاليم عقائده وترجى مذهبه الذي ليس لاحد أن يفكر بأنه كان لفقهه أو عقائده ، أو أيّما مقدار من مقاديره ، له أن

٢٤٩

يفارق ، أو يخالف المذهب الذي ذهب إليه جده وأبيه من قبله ، أو نحاه علي بن أبي طالب ، أو انتهج نهجه من قبل ».

وما كان كُلّ هذا التفكير ليعلن لديّ عن استبصاري ووضوح ميلي الى التشيع وأهله ، إلاّ أنّي صرت أدرس التاريخ ، وأقرأه باذن .. ربما وعت ( ومن دون أيّما غرور ) الأُمور وتبصرت في المسائل أكثر من أذان كُلّ من وجدتهم حولي ، وربما أدهشتني نفسي أنا الذي خلت نفسي بأ نّها صارت تفهم أكثر من أفهام الشيعة أنفسهم ، أو أن تصارع حرب الأفكار والنفس ولاكثر مما جعل تتصارع في خضم وتحتدم في غمارها كُلّ من عقول المستبصرين من حولي .. حيث كان قد تحدث اليّ عمر بن الحاج أحمد الدباغ الذي كان قد استبصر قبل خالد وسلام وطلال.

قال عمر :

ـ « ما رأيك بمذهب أهل البيت ».

لم أجب وانتظرت منه أن يحكي لي عنه .. فقال ، من بعد أن فهم لحن نظراتي ووجهة سلوكي :

ـ « هو مذهب أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ».

ـ « وهو أقدم المذاهب نشأة أليس كذلك؟ ».

ـ « .. وأقواها عاملاً ، يستمد تعاليمه من الينبوع الإسلامي الفياض : القرآن الكريم وسنة نبيه ».

اعتدل في جلسته ، وأنشأ يتابع الحديث :

ـ « وقد غرس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذرته ووجه الناس إليه بتعاليمه وارشاداته ،

٢٥٠

وعمل به في زمن الصحابة ».

ـ « ومن قام بنشره؟ ».

ـ « لقد قام بنشره جماعة من الصحابة الافذاذ ، كأبي ذر الغفاري ، وسلمان ، والمقداد ، وعمار بن ياسر وغير هم ».

ـ « ولماذا أختص المذهب بالإمام جعفر الصادق؟ ».

ـ « أما اختصاصه بالإمام الصادق ، فإنه يرجع إلى الأسباب التي عصفت بتلك الفترة التي امتدت ما بين شيخوخة الدولة الأموية ، وطفولة الدولة العباسية ، وفيها اتسع المجال للإمام الصادق لنشر العلم وبث الأحكام الإلهية ، ونشر التعاليم النّبوية التي استقاها عن أبيه عن جده عن رسول اللّه ».

ـ « تقصد عند رفع تلك الرقابة التي جعلها الأمويون ».

ـ « أجل ، تلك الرقابة التي وضعت أساساً للحيلولة بين الأُمّة وبين أهل البيت ، فاشتهر في ذلك العصر ذكر جعفر بن محمّد واتسعت أمامه حرية القول ، وحرية النقض والابرام في شأن الحقائق الدينية من جهة ، الموضوعات على غير أساس صحيح من الأحاديث والسنة من جهة أخرى ».

ـ « والطلبة؟ ».

ـ « لقد ازدحم طلاب العلم على أبواب مدرسته ، وكثرت الهجرة إليها ، فنسب المذهب إليه في عهد ازدهار العلم ، لأن كُلّ ما ذهب الإمام الصادق إلى تصويبه والوثوق بصحته من الأحكام أصبح بجملته يسمى : مذهب جعفر الصادق ».

ـ « وهل كان مذهب جعفر الصادق هذا ، كسائر المذاهب الإسلامية في تطوره؟ ».

٢٥١

ـ « لم يكن المذهب الجعفري كسائر المذاهب الإسلامية في تطور نشأته وعوامل انتشاره ، بل امتاز باستقلاله عن مقومات الماده ومؤازرة السلطة ، واستطاع بمؤهلاته الذاتية اخضاع الزمن ، واجتياز العقيات التي تقف في طريق نشره ».

ـ « وإذن؟! ».

ـ « فإنّه لولا فيض من القدسية في مبادئه ، وقوة روحية في تعاليمه ، وعناية قبل كُلّ شيء من الخالق الحكيم رحمة بهذا الخلق المتعوس ، لقضت عليه السلطات بمحاولتها القضاء عليه ولكن ذهبت تلك المحاولات ضد المذهب دون جدوى ، فكان نصيبها الفشل ونصيبه النجاح ».

ـ « وبذلك كان للظروف دورها الخطير في انتشار المذاهب الإسلامية ، مع وجود كُلّ تلك الممارسات القمعية ضد غير الموالين للسلطات الحاكمة؟ ».

ـ « لقد اتضح بالبحث عن المذاهب الإسلامية ودراساتي للظروف التي تكونت فيها ، والعوامل الرئيسية لنشر البعض وخمول البعض الآخر ، إنّما هو لتدخل السلطة التنفيذية ، فقد أخذت على عاتقها نشر ما ترتضيه منها ، ومعارضة المذهب الذي لا يروق لها نشره ، وكانت الأسباب التي أدت إلى محو تلك المذاهب البائدة بعد شهرتها بين المسلمين هي عدم المؤازرة والترغيب من قبل الدولة ».

ـ « كيف نشطت الحركة العدائية لأهل البيت ولمذهبهم بالتالي؟ ».

ـ « أما مذهب أهل البيت فقد بذلت السلطات كُلّ امكانياتها لعرقلة نشره واتساع دائرة أتباعه ، وكان لكُلّ دولة غايات تعمل على تحقيقها في مقابلة أهل البيت ، والوقوف في طريق انتشار مذهبهم في البلاد الإسلامية ، أما الدولة

٢٥٢

الأموية فكانت مدفوعة للمعارضة بأمور ثلاثة : ».

ـ « ما هي؟ ».

ـ « أما الأمر الأول ، فهو : العداء للبيت النّبوي عداء ذاتياً متأصلاً ، توارثه الأبناء عن الآباء ولم يغير الإسلام من وجهة نظرهم هذه أي شيء بل يزداد حقدهم كُلّما زاد انتشار الإسلام بالصورة التي أرغمتهم على الدخول فيه استسلاماً لقوته ».

ـ « والأمر الثاني؟ ».

ـ « إنّ مذهب أهل البيت بانتشاره في عهدهم وعدم معارضتهم له ، معناه الضربة القاضية على الدولة ، للتفاوت العظيم بين سياسة أهل البيت وسياسة الامويين في إشاعة العدل والمساواة بين الطبقات ، ونشر التعاليم الإسلامية ».

ـ « والأمر الثالث؟ ».

ـ « إنّهم بدون شك لا يجهلون أنفسهم ومؤهلاتها للخلافة الإسلامية يعرفون الأمة واتجاه أنظارها لآل محمّد ولا توجد أي نسبة بين الأمويين وبين أهل البيت فإذا تركوا الأُمور تسير بمجراها الطبيعي يوشك أن يتأخر فوز الأمويين بالخلافة ( حتّى يلج الجمل في سم الخياط ) وهم يعلمون هذا فاتخذوا تلك التدابير لنجاح أمرهم وإن كان في ذلك تأخر المسلمين عن التقدم السريع حيناً من الدهر ».

ـ « هل يمكنك أن تتحدث لي عن معارضة معاوية بن أبي سفيان؟ كيف كانت وبماذا أتسم طابعها؟ ».

ـ « وعلى أي حال فقد واجه محبّو علي بن أبي طالب وأنصاره في عهد معاوية أنواع الأذى وضروب المحن ، وقد استعمل شتى الوسائل في معاقبتهم

٢٥٣

ومنع الناس من الرواية عن علي .. فكان المحدثون يكنون عنه بأبي زينب خشية العقوبة من التصريح باسمه ».

ـ « وإذن ، لقد أهتم معاوية بمحو اسم علي بن أبي طالب؟! ».

ـ « إنّ اهتمام معاوية في محو ذكر علي ، ليصور لنا ولاية زياد على الكوفة ، وتتبّعه لشيعة علي تحت كُلّ حجر ومدر ، حتّى حملهم على البراءة من علي عليه‌السلام ولنا في قتل حجر بن عدي واصحابه رحمهم‌الله أكبر دليل على محاولة معاوية على ذلك ».

ـ « كيف وصل معاوية إلى تلك الغاية؟ أو ما هي الجهود التي بذلها في سبيل ذلك؟ ».

ـ « لا أطيل عليك الحديث حول الجهود التي بذلها معاوية في الوصول لتلك الغاية ولكنها أتعاب لم تثمر الفائدة التي كان يسعى لتحصيلها ».

ـ « ومع ذلك كُلّه ، كان قد لقي المسار الدافئ لانتشاره؟ ».

ـ « مذهب أهل البيت؟ ».

ـ « أجل لا غيره! ».

ـ « إنّ أول من نشر المذهب في الديار الشامية هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري ، فقد قام بدوره في نشر تعاليم الإسلام ، واظهار الانكار على معاوية لسوء سيرته ، وتصرفه بأمور الأُمّة بما لا يتفق ونظم الإسلام ».

ـ « والذي أعلمه أنّه عاش في زمان معاوية حينما كان والياً على الشام ، فهل تصدى الآخير له؟ ».

ـ « لقد استغاث معاوية بالخليفة عثمان لإخراج أبي ذر من الشام ليصفو له

٢٥٤

الجو ، فكان نصيب أبي ذر التبعيد عن دار الهجرة ، وموته وحيداً بالربذة ».

ـ « وهل استطاع معاوية ايقاف فعل الآثار التي ترتبت على نشاطات أبي ذر الحركية؟ ».

ـ « لم يقض معاوية على تلك الحركة الاصلاحية التي قام بها أبو ذر ، بل توسعت بصورة أرغمته على إثاره العصبية بين القبائل ، وبث روح التفرقة بين الناس ، وبذل كُلّ ما في وسعه في مقابلة علي وأنصاره كما تقدم ».

ـ « والكوفة .. كيف كان دورها مع هذه الأحداث والأزمنة؟ ».

ـ « لقد كان للكوفة التي هي أهم مراكز الإسلام ويعترف الأمويون بخطرها على الدولة ، أن تقف موقف المعارضة والانكار للاوضاع الشاذة التي ارتكبها ولاة الأمر ويترأس المعارضة الصحابي الجليل حجر بن عدي خلصاء أصحابه ، فقاموا يطالبون بالحق ، وينتصرون للعدل ، يتألمون لهجر تعاليم الإسلام والخروج على نظامه المقدس ، وينبهون الأمويين على تلك الأخطاء التي ارتكبوها ، والمخالفة لأحكام الإسلام بصورة واضحة بما لا مجال للدفاع عنهم ».

ـ « وكيف كان موقف الولاة الأمويين؟ ».

ـ « فكان موقف أُمراء الأمويين في الكوفة كالمغيرة بن شعبة موقف تريث وتأنيب واستعمال طرق الاقناع لزعماء هذه الحركة عسى أن يتحولوا عن هذا الرأي ، ويسالموا معاوية ويكونوا في جملة المؤيدين لسياسته ، ولكن الأمر يزداد شدة يوماً بعد يوم ، ويكثر الناقمون ».

ـ « مثال على ذلك؟ ».

ـ « وبالأخص عندما أعلن الوالي زياد بن سمية على المنبر الزام الناس

٢٥٥

بالبراءة من علي ابن أبي طالب وشتمه ، وهم يرون أن علياً (رض) هو بطل الإسلام وناشر دعوته ، وأ نّه أقرب الناس إلى رسول اللّه وأشدهم تمسكاً بسيرته واحياء سنته ».

ـ « وولاية زياد بن أبيه ، كيف كان دورها في هذه المجريات؟ ».

ـ « لما ولّي زياد الكوفة استقر رأيه ورأي معاوية على الوقيعة بهم ، فزوروا شهوداً ـ وما أكثرهم في ذلك العهد ـ من الذين استخدمهم معاوية بصلاته فشهدوا على حجر بن عدي ».

ـ « حجر بن عدي؟! ».

ـ « أجل .. فشهدوا على حجر بن عدي بن معاوية بن جبلة بن الأدبر الذي كان من فضلاء الصحابة ، ومن شيعة علي عليه‌السلام وحضر معه حروبه وكان على كنده يوم صفين ، وعلى الميسرة يوم النهروان ، حمله زياد بأمر معاوية في إثني عشر رجلاً موثقين في الحديد ، فقتل معاوية ستة منهم ، واستحيا ستة. وأوصى حجر من حضر من أهله ، أن لا تطلقوا عنّي حديداً ، ولا تغسلوا عني دماً ، فإني ملاق معاوية غداً على الجادة ».

ـ « وأين قتل؟ ».

ـ « كان قتله في مرج عذراء سنة إحدى وخمسين للهجرة هو وأصحابه بما يستطيعون أن يردوا بعض الانكار عنهم ، فكانت خاتمة مطاف حياتهم في مرج عذراء بتلك الصورة المؤلمة ».

ـ «؟!».

ـ « وبذلك كانت الأُمّة قد لقيت وفي سبيل الانتصار للحق والانضمام لجانب

٢٥٦

أهل البيت وهم أهله ، أنواع العذاب ».

ـ « وأهل البيت أنفسهم ، هل كان لهم أن يتعرضوا لألوان القمع والمطاردة؟ ».

ـ « بل التقتيل كذلك .. فأهل البيت أنفسهم ، كانوا في الدور الأُموي : دور الارهاب والظلم ، يلاقون أشكال المصائب وصنوف الاضطهاد على أيدي تلك الفئة التي تضمر العداء لآل محمّد وتحاول القضاء عليهم بكُلّ وسيلة ، بل تلقوا منهم ضروب التهم واغروا بهم كُلّ من هب ودبّ! ».

ـ « فللوسط الجماهيري كان الدور الفاعل في الانتصار للحكم الأُموي؟ ».

ـ « لقد تزلّف الناس إليهم ، بالعداء لآل محمّد عليهم‌السلام ، وتطوع آخرون بضرب الأحاديث المكذوبة على صاحب الرسالة ، استجابة لاقتراح معاوية ، واتباعاً لاومراه التي أصدرها بلاطه الجائر ، فكانت هناك مجموعة أحاديث كلفت بيت المال مئات الآلاف من الدنانير ، وقليلاً ما يبذلون ، فإنّ أولئك الدجالين يبيعونهم دينهم ، وأنهم يريدون أن يجعلوا من الفارة جملاً ، ويحاولون إدخال الأسد في البيضة ».

ـ « وهل أعظموا في هذه الأحاديث الموضوعة أعضاء الحكم الأُموي؟ ».

ـ « لقد جعلوا ممن حارب الإسلام ، هو وأبوه من قبل ، شخصية تعترف الأُمّة الإسلامية بأ نّها شخصية روحانية طاهرة مطهرة ، تمنحه الأُمّة ثقتها وتنقاد له بدافع العقيدة وهذا أمر لا يكون ».

ـ « تقصد معاوية وأبيه؟ ».

٢٥٧

ـ « أجل ، إنّهم يريدون أن يجعلوا لمعاوية حق وراثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتولّي سلطانه ، وهو عدوّه الألدّ ، إنّهم يريدون أن يجعلوا من أبي سفيان شخصية إسلامية تتفانى في نصرة الدين ، وهو الذي لا يجهل أحد حاله ».

ـ « ربما يثير هذا الكلام البعض؟ ».

ـ « وأنت؟ ».

ـ « إنّما أنا باحث عن الحقيقة ، وليس لي أن أجرأ وأتعرض لما تقدمه لي لأني قد وصلت إلى مرحلة ، لا يسعدني أبداً النظر إلى الوراء! ».

ـ « ومن هذا وذاك فإن قبول مثل هذه الأُمور تحتاج إلى قوة تسيطر على العقل ، وتطفئ شعلته ، ولا يستبعد ما للمال من عوامل مؤثرة ، فهي في الواقع أقوى من السيف ، ولذلك أصبحت لتلك المفتريات أثرها ، وطالعها الخاص ، وإذا بمعاوية تحاك له أحاديث المدح ، فيصبح ( أمين هذه الأُمّة ) وخصماً لأمير المؤمنين على بن أبي طالب حتّى عد علي بن أبي طالب ذلك من أعظم مصائبه فقال : أنزلني الدهر حتّى قيل علي ومعاوية ».

ـ « علي بن أبي طالب قال ذلك؟ ».

ـ « أجل خليفة المسلمين الراشد وخليفتهم الرابع الذي لم يقم له المسلمين أيّما أهمية ، ولو سبّ أيّما خليفة من الخلفاء الثلاثة على المنابر كما سبّ وشتم علي بن أبي طالب لوقع الحابل بالنابل .. والآن حينما يتم التعرض لتاريخ معاوية وأنه قد أجرى سنة سبّ وشتم الخليفة الراشد الرابع. لم يكن من أحد أن يحرك ساكناً ولا حتّى قلماً أو مبضع فكر يجس في خلاله منطق الضمير الإسلامي ، ويحرك عبره سكنات الحس الإنساني .. بل يمكن أن يصبح الحديث عن معاوية والتطرق إليه ، يلحق السوء بمبادئ الإسلام وشرف وعزة الحكم الالهي في

٢٥٨

أرضه .. ونسوا وتناسوا أن كرامة الخليفة الرابع قد انتهكت .. وكيف أن حروب الردة أيام الخليفة الأول مسحت على كافة الخارجين على حكومة أبي بكر لون الاستكبار والعصيان بينما لا يمكننا أن نلاحظ مثل ذلك على الخوارج الذين خرجوا على حكومة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب .. وما أكثرهم .. فهم الخوارج في حرب الجمل والخوارج في معركة صفين والخوارج في وقعة النهروان .. وإلاّ فإنّهم أجمع خوارج .. كما خرج المرتدين حسب الادعاء أيام أبي بكر ».

ـ « حسب الادعاء ».

ـ « أقول ذلك .. وستعلم في حينه أو لربما حملت إليك الأيام لوناً من ألوان العلم بذلك لأنّ بعض الذين أعلن عنهم كذلك أيام الخليفة أبي بكر .. كانوا قد أعلنوا أنهم لا يبايعون إلاّ من أقرت به آيات القرآن وصادر على ولايته وحكمه رسول اللّه .. وعليه .. فلقد أصبح أبو سفيان ».

ـ « انتظر ».

ـ « قلت لك ستأتيك الأيام بطائفة من معالم هذا الموضوع ، وذلك في وقت آخر .. ولو كنت قد حزت على بعضه ، فإنها ستأتيك بالمزيد منه لاحقاً .. وبذلك فلقد أصبح أبو سفيان ، بمقتضى تلك الأوضاع المقلوبة مسلماً صحابياً له مكانته ومناقبه ».

ـ « أسألك .. ما هو وضع عم الرسول وأبي علي الإيماني .. أبو طالب؟ ».

ـ « أبو طالب هو مؤمن قريش وناصر الإسلام الأول ، وحامي دعوته ومن بذل جهده لنصرة دعوة الحق ، وتفانيه بالدفاع عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدافع العقيدة والعاطفة وموجات الحق ، تردد أناشيده وترسمها على لوحة الخلود :

٢٥٩

ولقد علمت بأنّ دين محمّد من خير أديان البرية دينا »

ـ « وإذن؟! ».

ـ « لقد ساند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته ، وبذل أقصى جهده في حمايته ، وأعز اللّه جانبه فيه ، وألجم أعداءه عن مقابلته ».

ـ « فكيف يسمى كافراً ».

ـ « وأنا الآخر أسأل ».

ـ « فكيف يسمى كافراً ولا ينطق بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وتذهب أتعابه سدى وتسند إليه كلمة الكفر؟! ».

ـ « هل تقصد أن السبب ».

ـ « أجل ، وما ذلك كُلّه ، إلاّ رغبة لنوال من لا رغبة له ، إلاّ أن ينال من ولده علي ، وارث حكومة الرسول. فيحاول أن يخمل ذكره ».

ـ « فكان ثمة دور لا يستهان به لمعاوية في ذلك؟ ».

ـ « كان له كُلّ الدور الخطير الذي ساهم في إحيائه الظالمون من بعده ، لأ نّه ما كانت لترضى نفس ابن ابي سفيان ان تكون لعلي تلك السلسلة الطاهرة التي لم تنجّسها الجاهلية بارجاسها ، وهو والرسول الأعظم ركيضا رحم رضيعا لبن ».

ـ « وتمكن من ذلك؟ ».

ـ « إنّ معاوية نفسه ليعلم من هو وابن من ، ولكنه تمكن بمكره وخداعه ، جلب ما استطاع بخيله ورجله ، في تركيزه هذه الفكرة ».

ـ « وما ذنب أبي طالب ».

ـ « إنه لا ذنب له إلاّ أنّه لم يبق في كنانته سهما ، إلاّ وكان قد رماه في نصرة الدين ».

٢٦٠