وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

عليه. قال ابن الجوزي : إن الحنابلة دسوا إليه امرأة ، جاءت إليه بصحن حلوى ، وقالت : هذا يا سيدي من غزلي ، فأكل هو وامرأته وولد له صغير ، فأصبحوا موتى. وكان من علماء الشافعية المبرزين! » (١).

بينما أنشأ يتابع كلامه ، وهو يقول :

ـ « وكذلك أبو الحسن بن فورك قتل مسموماً ، وذلك بسبب من التعصب. وأبو علي خادم المستنصر ، كان من أئمة الشافعية في مصر ، وكان يجلس في حلقة ابن عبد الحكم ، ويناظرهم ، فسعوا به إلى السلطان ، وقالوا : هذا جاسوس! فحبسه سبع سنين. واجتمع مشايخ المذاهب في هراة عند الملك الب ارسلان ، يستغيثون به من الشيخ محمّد بن عبد اللّه الأنصاري الحنبلي ، بعد أن جعلوا صنماً تحت سجادته! ويقولون للملك : إنّه مجسّم ، وإنّه يترك في محرابه صنماً ، يزعم أنّ اللّه على صورته ، فتفحص الملك ، ووجد الأمر كذلك (٢) »!

ثُمّ استطرد قائلا :

ـ « يحدّثنا ابن خلكان المتوفى سنة ٦٣١ ، وذلك في كتابه وفيات الأعيان (٣) عن الشيخ الآمدي ، إنّ في أوّل اشتغاله كان حنبلي المذهب ، وانحدر إلى بغداد ، وبقي مدة ، ثُمّ انتقل إلى مذهب الشافعى ، وعاد إلى الديار المصرية ، وتولى الإعادة بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي. فحسده جماعة من فقهاء البلاد ، وتعصبوا عليه ، ونسبوا إليه فساد العقيدة ، وانحلال الطوية ، ومذهب

____________

(١) طبقات الشافعية ٣ : ١٠٩ ، ٤ : ١٨٤.

(٢) تذكرة الحفاظ ٣ : ٣٥٨.

(٣) وفيات الأعيان ٢ : ٣٠١.

٨١

الفلاسفة والحكماء حتّى كتبوا محضراً يتضمن ذلك ، ووضعوا خطوطهم بما يستباح به دمه! ».

ـ «؟!».

ـ « وفي مصر يأمر القاضي المالكي ، وهو الحارث بن مسكين ، بإخراج الحنفية والشافعية من المسجد ، وأمر بنزع حصرهم. وفي سنة ٥٣٨ ، قدم بغداد : الحسن بن أبي بكر النيسابوري الحنفي ، وتحامل على الأشعري ، وعلى الشافعية ، وفيها أخرج أبو الفتوح الاسفراييني من بغداد ، وذلك لما حصل فيها من الفتن بين الأشعرية والشافعية » (١).

جعل يراقب تطلعاتي الطامعة وتشوفاتي الفضولية التي ليس لها أن تشبع قط ، حتّى صار يتابع كلامه وهو يحاول قدر جهده أن يخلص في أداء مهمته ، من أجل أن لا يؤثر على مخيلتي ما له أن يحيلها إلى الوقوع تحت طائلة النتائج السلبية ، فقال :

ـ « ولعل أعظم صورة تتجلّى بها روح العصبية والخلاف بين الطوائف ، هي قضية القفال عند السلطان محمود بن ناصر ، وذلك إنّه كان حنفياً ، وتحوّل شافعياً ، فأحضر علماء الفريقين ، وطلب من القفال المروزي أن يصلّي ركعتين ، طبق المذهب الحنفي. فصلّى القفال على مذهب الشافعي ، وكان شافعي المذهب بوضوء وشرائط معتبرة ، ثُمّ صلّى على مذهب أبي حنيفة ، وما يجوزه في الصلاة ، فصلّى ركعتين بتلك الصورة القبيحة التي ذكروها وأنا أحاول أن أعرض عن ذكرها .. إن أجزتني أن أنصرف عنها ولو تلويحاً لهذه المرّة فقط!

____________

(١) المنتظم ١٠ : (١٠٦) ١٠٨.

٨٢

وسأطلعك عليها لاحقاً فيما بعد .. » (١).

أما الشيخ علي بن الحسن الملقب بسيف الدين ، المتوفى سنة ٦٣١ للهجرة ، فإنّه كان حنبلياً ، ثُمّ صار شافعياً ، فتعصب عليه فقهاء البلاد ، وحكموا عليه بالكفر والزندقة » (٢).

كنت أراقبه والإلم يعتصر قلبي ، أفتش عن أسباب ذلك ، وهل أنّ أسباب كُلّ هذا يكمن في أحداث السقيفة ، سقيفة بني ساعدة ، أم أن هناك أسباباً أُخرى .. حتّى دعت بأئمة الشيعة إلى الانضواء ، واجبرتهم على القعود جليسي منازلهم ، أو الترحيل ، أو التسفير كما يذكرون ويحدث الشيعة عنهم وعن تاريخهم .. وإلاّ .. بنظري لو تدخلوا! لو كان لهم أن يميطوا اللثام عن أسباب كُلّ هذه الفتن ، وينفحوا الناس بعصير من حقائق الرسالة وطيب النبوة ، لكان .. ( عدت إلى نفسي أسألها مدهوشاً هذه المرة ، لأ نّها بدت كأنّها تحدث على لسان شيعي .. يتوق إلى التشيع أكثر فأكثر .. ) فانصرفت عن هذه التعقيبات ، وآثرت الاستماع إلى ما كان يقوله صاحبي ، وأنا أردد بيني وبين نفسي ، وبين الفينة والأُخرى ، كلمات وجمل ، ليس بوسع أحد أن يسمعها ، أو حتّى يلتفت اليها إلاّ اللّه و .. ».

ـ « وكثير من أمثال من العلماء الذين قتلوا بسيف التعصب بشهادة رجال ذلك العصر ، ولا يستبعد أن ذلك كُلّه ما كان إلاّ افترءاً محضاً يعبر عن شهادات زور وبهتان مرجف! فإنّ أكثر هؤلاء هم بريئون مما نسب إليهم. وقد استساغ أعداؤهم شهادة الزور على من يخالفهم تديناً .. حتّى كان قد استفتى بعضهم في

____________

(١) وفيات الأعيان ٢ : ٨٦.

(٢) أورد هذا الخبر صاحب مرآة الجنان ٤ : ٢٤.

٨٣

شهادة على شافعي زوراً ، فأجابه المفتي : ألست تعتقد أن دمه وماله حلال؟ قال : نعم. قال : فما دون ذلك ، فاشهد وادفع فساده عن المسلمين! ».

ـ «؟!».

ـ « وهذه الأُمور التي ابتلي بها الإسلام إنّما هي من جنايات علماء السوء الذين تزلفوا للدولة ، وتأثروا بسياستها لفتح باب الشحناء ، والنزاع ، والتخاصم ، والبغضاء بين طوائف المسلمين. فتجد الحنابلة يتعصبون على الحنفية ، والحنفية على الحنابلة! ولو أنعمنا النظر في طيات التاريخ ، واستعرضنا حوادث الفتن بين المنتسبين إلى السنّة بعضهم مع بعض ، فإنّنا سنجد من الوقائع ما يؤلم قلب كُلّ مسلم. ( بينما ساءلني ) هل سمعت مقالة الأُستاذ السيد محمّد رشيد رضا ، صاحب المنار؟ ».

قلت :

ـ « لا؟ ».

قال :

ـ « إنّه يقول : ومن أغرب ما تجد أنّ العدوان بين الشافعية ، كان من أسباب حملة التتار على المسلمين ، تلك الحملة التي كانت أول صدمة ، صدعت بناء قوة المسلمين صدعاً ، لم يلتئم من بعده. أدر طرفك في بلادهم اليوم ، وأُنظر حال هذه المذاهب ، على ضعف الدين في نفوس الجماهير ، تجد ( .. وعندها كأنّه تذكر حضوري وكأ نّه كان قد نسيني كليّاً حتّى إذا آنس في وجهي تطلعاً راشداً ، يبحث عن أسباب العلوم وضفاف الحقائق ، تابع كلامه من دون أيّما تردد ورجوع ، لأنّ كلامه كان إدانة حقّة تتوجه إلى كُلّ عمليات سفك الدماء ، والأنشطة التي تدعو إلى حالات من شيوع التخلّي عن المروءة الإسلامية ،

٨٤

والتنازل عن الأعراف الدينية ، والتبري من أُسس القواعد الحكمية الأصيلة التي تؤيد جميعها حرمة دم المسلم ، والإذعان إلى أوامر اللّه ، ومحاربة هوى النفس والتغلب عليه ، وكبح جماح الرغبات الشيطانية ، ونبذ الأحقاد ، ونفي الضغائن ) بأسهم بينهم شديد ، تحسبهم جميعاً ، وقلوبهم شتى ، كما قال اللّه تعالى في وصف من لا إيمان لهم ولا أيّمان ».

٨٥
٨٦

الفصل السابع

وإذن! فقد أوصى الرسول بولاية علي بن أبي طالب

ومن بعد حدود الأسبوعين كنت أنا وطلال نذرع الطريق ، بينما كان يجاذبني أطراف الحديث ، ولقد شغلتني همومي الخاصة على طول مدى هذه الأيام. ولقد كنت أعلم إنّ من أهمّ مشكلاتي هي هذا الصراع العقائدي الذي كنت قد سقطت في شباكه ، إلاّ أنّ بعض الناس ما كان لهم أن يدعونا نهتم بأهمّ المسائل حتّى جعلوا يشغلونا بأتفه القضايا وأحط الشؤون .. وما كانوا ليحسبوا أنفسهم إلاّ أنّهم يحسنون صنعاً. فقال طلال :

ـ « إنّي لأجدك مقداماً .. ».

ـ « لا تجاوز بي الحدود ، فتبالغ في الإطراء علينا .. ».

قاطعني :

ـ « حقاً ، وبدون أية مغالاة ، فإنّي لأفخر بك وبأمثالك ، لأ نّك جلد صامد ، تبحث عن الحقيقة ، تتعاطف مع كُلّ ما له أن يضيء لك بصيصاً من نور ، وإنّي لأرى نجمك سيأتلق في ذات يوم! لأ نّك نبذت العصبية وقذفت بكُلّ براثن الجهل بعيداً عنك .. حتّى ولو كان لمثل ذلك أن يكون على حساب مشاعرك الشخصية وعواطفك الأُسرية! ».

سألته قائلاً :

ـ « كيف تشيعت؟ ».

٨٧

ـ « بل قل كيف استبصرت! ».

ـ « فهل عانيت الكثير حتّى توصّلت إلى التصميم والعزم على مثل هذا القرار الخطير؟ ».

ـ « هذا ممّا لا شك به ، ولقد واجهت غالب المشكلات وعظيمها ، بل جمّها من أقرب الأقربين إليّ ، ومن أهل منطقتي ، وأشياعي الذين كنت أعوّل عليهم في الشدّة والعسر ».

ـ « ومن حيث البحث والدراسة؟ ».

ـ « لقد عملت المستحيل من أجل أن أرضي ضميري ، ولقد فكرت في هذا الأمر حتّى وضعته رأي العين ، لا أحيد عنه حتّى أجد منه مخرجاً ، فأمّا أن أبلغ أو لا أنيخ برحلي أينما قدرت لي الظروف .. فما كنت أجد نفسي إلاّ منكباً انكباباً مثيراً ، لا أجد وراءه أيّما متسع يمكن أن يفضي بي إلى الانشغال عنه بأية مسألة أُخرى! حتّى أفرغ منه .. وأقرر مصيري ، ومصير ذريتي التي أسأل اللّه أن يمنحنيها في المستقبل .. فاكون عن أعلام دينها مسؤولاً ، وعلى أسلاك عقائدها محاسباً ».

ـ « وإذن ، فأنت لم تكن لتفكر في نفسك فقط؟! ».

ـ « لا! حتما ، بل كنت أُفكر في أهلي كذلك .. وذلك لأ نّه ما كان لينفر في الدين من كُلّ طائفة إلاّ نفر ، ولينذروا أهلهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون! ».

ـ « ما يمكنك أن تذكره ، كخلاصة حديثية عمّا دنت بالولاء لهم! وانتميت إلى منهجهم العقائدي؟ ».

ـ « لقد صرّح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوب اتباعهم ، والتمسك بهم في مواطن عديدة ، واشتهر حديث الثقلين كالشمس في رابعة النهار ، وحديث : « مثل أهل

٨٨

بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وهوى ». من الأحاديث الثابتة التي أيدها الرواة وتناقلتها كتب التاريخ ».

ـ « وهل كنت تتعقب مثل هذه الأحاديث .. وتفتش عن طرقها واسنادها ، وتتحرى الحقائق عنها؟ ».

ـ « إنّ هذا الأمر كان يعد بالنسبة لي من المسلمات ، .. ولكن ليس بمثل ما تتصور ، إذ إنّ لكُلّ امرئ مجاله الذي يعمل فيه ويختص به ، ولربما قليل من هذه البديهيات والمعارف يغنيك عن تتبع سبيل الباحثين وتقمص عملهم واحتراف مهنتهم. فأمر آل محمّد ، وبقدر ما هو بيّن وواضح ، فإنّه ليكفيك عن تجشم مشاق البحث الأكاديمي وتحمل أعباء عمل المحقق الأُصولي .. لا وألف لا! لأنّ مثل هذا الأخير قد كفاك! وأعد لك كُلّ ما تحتاجه وما عليك إلاّ التأكد من توصلاته واستنتاجاته ليس إلاّ! وهذه نعمة أنعمها اللّه على عباده من خلقه .. فما عليهم إلاّ أن يهتموا بشكرها والإنهماك في المحافظة عليها والعناية بها ، لأ نّها حصيلة .. بل حصائل أبحاث ودراسات قرون عديدة ، لم تنقضي أعمارها حتّى انقضت معها أوطار مناظرات أصحابها العتيدة ، وتحقيقاتهم العلمية المضنية. ولقد كنت أتابع هذه الأخبار وهذه الدراسات والكتب متابعة الأسد لفريسته! إلاّ أنّ الفارق أنّي ما كنت أجمعها لكي التهمها وأسعد بها وحدي أو أفراد أُسرتي .. بل إنّي كنت أفكر وأعد العدّة كيما أقدمها إلى الآخرين في غد ، وأفيد بها ، وادع الناس والعالمين تستفيد منها أجمع! ».

ـ « هل تذكر من هذه الأحاديث الشيء الكثير؟ ».

ـ « إليك نبذة وجيزة منها : فلقد أخرج أحمد في مسنده ، والطبراني في مسنده كذلك بالإسناد إلى ابن عباس ، حيث قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من

٨٩

سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنّة عدن غرسها ربي ، فليتول علياً من بعدي وليوال ولّيه ، وليقتد بأهل بيتي من بعدي ، فإنّهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي ، فويل للمكذبين بفضلهم من أُمتي ، القاطعين صلتي لا أنالهم اللّه شفاعتي ».

ـ « وغيرهما؟ ».

ـ « كما أخرج ابن حجر في صواعقه ، حيث قال : « في كُلّ خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمتكم وفدكم إلى اللّه فانظروا من توفدون ». كما أخرج جماعة من الحفاظ عن أبي ذر الغفاري ، قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تقصروا عنهم ». وقال كذلك : « اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرأس ولا يهتدي الرأس إلاّ بالعينين ».

ـ « وهل أوصى الرسول شيئاً تذكره؟ ».

ـ « لقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب ، فمن تولاه فقد تولاني ، ومن تولاني فقد تولى اللّه ، ومن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب اللّه ، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض اللّه ». كما قال : « اللهم من آمن بي وصدّقني فليتول علي بن أبي طالب ، فإن ولايته ولايتي وولايتي ولاية اللّه ». وأخرج أبو نعيم (١) ، عن أبو حذيفة ، قال : قالوا : يا رسول اللّه ألا تستخلف علياً؟ قال : « إن تولوا علياً تجدوه هادياً مهدياً يسلك بكم الطريق المستقيم ». وأخرج بطريق آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن تستخلفوا علياً وما

____________

(١) الحلية ١ : ٦٤.

٩٠

أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يحملكم على المحجة البيضاء ». وأخرج النسائي في الخصائص من طريق عمران بن حصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ما تريدون من علي؟ إن علياً مني وأنا منه وهو ولي كُلّ مؤمن من بعدي ».

ـ « وما أراك إلاّ إنّك تحفظ المزيد منها كذلك؟ ».

ـ « كذلك ، فلقد أخرج في الخصائص أيضاً من طريق أُم سلمة ، قالت : سمعت رسول اللّه يقول : « من سبّ علياً فقد سبّني ». وأخرج عن حبشي بن جنادة السلولي ، قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليّ مني ، وأنا منه فلا يؤدّي عني إلاّ أنا أو علي ». وأخرج الحاكم من طريق أبي ذر عن النبي ، أنّه قال : « من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن عصاني فقد عصى اللّه ومن أطاع علياً فقد أطاعني ومن عصى علياً فقد عصاني ».

وإذا ما سكت لحظات ، كنت بين يديه كالملهوف المتعطش إلى العبّ من معينه الثر الذي ما كنت أراه ينضب أبداً .. حتّى بادرته قائلاً كمن يبادر الساقي بمزيد من الماء :

ـ « لا أرى الوقت قد ضاق بك ».

ـ « لا .. ليس لدي اليوم أية مشاغل .. ».

ـ « وإذن ، فما عليك إلاّ أن تتحفني بما يكفيني لهذا اليوم .. هات المزيد؟ ».

فقال :

ـ « كما أخرج الحاكم أيضاً من طريق أبي ثابت مولى أبي ذر عن أم سلمة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « عليّ مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتّى

٩١

يردا علي الحوض » (١).

وعن ابن عباس ، قال : كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب.

وعن أبي هريرة ، قال : قال عمر بن الخطاب : لقد أُعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال ، لئن تكون لي خصلة منها أحب إليّ من أن أُعطى حمر النعم. قيل : وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال : تزويجه فاطمة بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسكناه المسجد مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحل فيه ما يحل له ».

ـ « وهل لك أن تحدثني بحديث فيه إشادة بعلي ، يشتمل كذلك على ذكر للخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب؟ ».

ـ « أخرج الحاكم في المستدرك أيضاً ، قال : كنّا مع رسول اللّه فانقطعت نعله فتخلف علي يخصفها فمشى قليلاً ثُمّ قال : « إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر عمر. قال أبو بكر : أنا هو؟ قال : لا ، قال عمر : أنا هو؟ قال : لا ، ولكن خاصف النعل ». يعني علياً فأتيناه وبشرناه فلم يرفع رأسه كأنّه سمعه من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولهذا الحديث وما سبقه طرق أُخرى كثيرة ذكرها الحفاظ ، فيمكنك مراجعتها!.

كما أخرج الحاكم عن الكناني ، قال : سمعت أبا ذر يقول ، وهو آخذ بباب الكعبة : من عرفني فقد عرفني ومن أنكرني فأنا أبو ذر. سمعت رسول اللّه يقول : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تأخر عنها غرق ».

وأخرج الطبراني في الأوسط عن عمار بن ياسر ، قال : وقف على عليّ سائل وهو راكع في تطوع فأعطاه خاتمه فنزلت : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ

____________

(١) المستدرك ٢ : ١٢٢.

٩٢

آمَنُوا .. ). الآية. وأخرج السيوطى عن ابن عباس أّنّها نزلت في عليّ ، وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس مثله ، وأخرج أيضاً عن عليّ ، وأخرج ابن جرير مثله ، ولهذا شواهد كثيرة لا يمكن إنكارها ».

ثُمّ توجه إليّ وهو يقول :

ـ « ألم تقرأ نهج البلاغة ، سواء الذي كان قد جمعه ابن أبي الحديد أو الشريف الرضى أو غيرهما؟ ».

فقلت له :

ـ « حقاً إنّي لم أقرأ منها إلاّ القليل! ».

قال :

ـ « اسمع ما يقوله علي بن أبي طالب : « فأين تذهبون ، وأنّى تؤفكون ، والأعلام قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون؟ وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق ، فانزلوهم منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاشى. أيّها الناس خذوها من خاتم النبيّين إنّه يموت من مات منّا وليس بميت ويبلى من بلي منّا وليس ببال ، فلا تقولوا بما لا تعرفون فإنّ أكثر الحق فيما تنكرون ، واعذروا من لا حجّة لكم عليه وأنا هو ، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر ، وركزت فيكم راية الإيمان؟ ( كما قال أيضاً ) أُنظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم ، واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى ، فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا ».

قلت له :

٩٣

ـ « أسألك سؤالاً ، أُطالبك فيه أن تجيبني بكُلّ صراحة ، ومن دون أيّما قيد أو شرط؟ ».

ـ « تفضل؟!

ـ « لو وجدت أن ثمة عقيدة أُخرى ، تبطل أدلتها انتماءك إلى مذهب أهل البيت .. أو بالأحرى : فهي ببراهينها وأخبارها أقوى استدلالاً على نفسها من استدلالات الشيعة على مذهبهم ، فهل كنت تحتم على نفسك البقاء على ما أنت عليه الآن ، وتصرّ بعدها على عدم التخلي عن اتباع مذهب أهل البيت؟ أرجوك لا تداهن في الجواب ، أُريد منك الإفصاح عن جوهر الحقيقة ، لأنّ في سماعها ، وبالنسبة لي الكثير من المكاسب والمعطيات ، فضلاً عن أنّ مثل ذلك سيوفر عليَّ عناءات عدّة لا قِبَل لي بها ».

قال :

ـ « أقول لك شيئاً ، وأُريد منك أن تلتفت إليه بدقّة ، ومن دون أيّما ترديد. فإنّي ومع احترامي للمذاهب الأربعة ، لا أستطيع أن أتخطى أوامر الرسول في اتباع آله ووجوب الأخذ عنهم ، ولنا بحديث الثقلين وحديث الغدير وآية التطهير ، وآية الموالاة كفاية لبراءة الذمة وصحة العمل بمذهبهم عليهم‌السلام! ولو سمحت لنا الأدلة بمخالفة الأئمة من أهل البيت ، أو تهيأ لنا إيثار غيرهم عليهم أو تمكنا من تحصيل نية القربة في مقام العمل على مذهب غيرهم لاتبعناه. على إنّه لا دليل للجمهور في رجحان شيء من مذاهبهم ، فضلاً عن وجوبها ».

ـ « الآن ارتاح بالي .. وهدأ فكري ».

عاد بعدها ، والتفت إلي قائلاً :

ـ « أقرأت الخطبة الشقشقية؟ ».

٩٤

ـ « ولمن هذه الخطبة؟ وما هي؟ ».

ابتسم بدعة ولطف ، وقال :

ـ « إنّها لعليّ بن أبي طالب ».

ـ « اووه! ».

ـ « إنّها تشتمل على ما تريد البحث عنه كاملاً وبشكل موجز ملخص ، يغنيك .. بل ليس لك عنه أيّما غنى .. وما عليك إلاّ أن تثق بعلي ، وتطمئن الى ما قال .. ذلك إن كنت تتعبد على مذهبك ، أقول : إن كنت تعتقد بالخلفاء الراشدين ، فإنّ علياً ما كان إلاّ رابعاً! أليس كذلك؟ ».

ـ « أجل .. أجل! ».

ـ « وإذن ، فما عليك إلاّ أن تبر به! ».

ـ « هذا من الحتمي ».

ـ « وهذا يدعوك إلى التصديق بما يقوله .. هل تصدق بما يفوه به؟ ».

ـ « معاذ اللّه ، وكيف لا؟ ».

ـ « طيب ، فما عليك إلاّ أن تقرأ الخطبة الشقشقية ، ومن ثُمّ بعدئذ سنلتقي ثانية .. أو بالأحرى ، فما أن تقرأ هذه الخطبة حتّى تنتهي منها ، فحاول أن تعيد قراءتها ثانية وثالثة ، وتركز على جملاتها ، وتتأمل في معانيها ، ولا تضجر منها ، ولا تسأم من مفرداتها ، ولا تشعر بالارتياب من قول خليفتك أمير المؤمنين .. بل لا تحيلك الأوهام إلى مختلف أنواع التأويل ، بل لا يستاقك المنتهزون إلى حلبة صراع ليس فيها أية مساحة علّك تخرج من باب يؤدي بك إلى خارج صالة اللعب .. وتفرغ من هذا الامتحان ، فيعربون لك عن ضرورة التخلي عن دراسة هذه الخطبة ، أعني الخطبة الشقشقية ، وأن تحرّي حقائقها كفيل بالإهانة إلى

٩٥

عظام التاريخ ، وما كان في التاريخ ، فلندعه للتاريخ نفسه ، وما كان قد انقضى ، فإنّه قد انقضى وولى .. إذن ، فليس لنا نحن الضعفاء أن نقلب في أوراق التاريخ ، ونقيّم أبطاله ونستدرج أمجاده ، فنتقصاها حتّى نستهدفها بالتقريع ، ونطالها بالتنديد ونحن نحسب أنّا نحسن صنعاً ، بل أنّا سنكون وكُلّما اقتربنا من الحلول وحسب توهمات تصوراتنا ، فإنّا سنكون أقرب إلى الخروج من دين اللّه ونحن لا نشعر .. ».

صرت انتقد نفسي ، ما الذي حصل! ما الذي حدث؟ إنك تنتصر لهم ، فأين تقف الآن أنت ، مع من؟ بأي دين تدين ، هل تقف على الأعراف ..؟ كُلّ هذه الأسئلة كانت تحوم في ذاكرتي ، وليس لها أن تبارح مخيلتي ، بل ليس لها أن تزايل حلقات أفكاري ، كما ليس لها أن تغادر ذهني والتعلق في زواياه كافة. وهل عليّ أن أتحقق من الأمر بنفسي وأنبذ القول السائد والعرف الشائع : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، فأنتصر لمذهبي سواء كان ظالماً أو مظلوماً ، وأُدافع عن أئمتي غاصبين كانوا أم لم يكونوا .. وإذن سأدخل مدخل أولئك الذين كانوا لا يقولون إلاّ : ( إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّة وَإِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ). ليأتيني الجواب بعدها : ( أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ .. ). ولماذا نؤمن بالتطور ، وإنّ آباءنا كانوا يعيشون في زمان لم نخلق نحن لأجله ، ونعيش اليوم نحن الآخرون في زمان لم يخلقوا هم الآخرون لأجله ، فكيف يمكن أن نناقشهم بمثل هذه المسائل ونعرض عن مناقشتهم واتخاذ قراراتنا النهائية وبأنفسنا في أعظم المسائل وأخطرها وهي الإمامة والاعتقاد ، ولبّ الأُصول وأساس وجودنا في هذه الحياة لأ نّه لو لم نكن موجودين ، لكنا في طي العدم! ولما لم نكن كذلك ، فكان علينا أن نشكر المنعم على ما أولانا به من عنايته ،

٩٦

فأخرجنا من حدود العدم وقيود الظلمة إلى فضاء الوجود وضياء النور ، فما كان علينا واجباً إلاّ شكره والامتنان له ، وما يكون ذلك إلاّ في اختيار ما اختاره لنا ، والامتثال لأوامره ، لأ نّه لولاه لما كان لنا من وجود أصلاً. لذا ، فلمّا كان علينا أن نتمثل قوله : من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق ، كان علينا أن نتمثل مصاديقه المعكوسة أيضاً وليس عكس مفهومه ، وذلك من مثل : لا يطاع المخلوق من حيث يعصى الخالق! لذا ، ما كان علي إلاّ طاعته ، لأنّ المحب لمن أحب مطيع! حتّى بقيت في مثل هذه الدوامة .. وكنت أُريد أن أنتهي منها ، بيد أنّها ما كانت لتنتهي هي الأُخرى مني!

٩٧
٩٨

الفصل الثامن

الأخبار النبويّة تعلن عن خلافة علي ومن دون منازع

وبعد مضي ثلاثة أو أربعة أيام كان قد تعرض فيها طلال إلى نزلة برد ، لم يستطع في خلالها مغادرة الفراش ، وكنت أنا أعوده وأزوره بين الفينة والأُخرى ، واتفقد حاله حتّى إذا ما تماثل إلى الشفاء عدنا ومن جديد إلى مناظراتنا العقائدية .. ولقد كان هو متلهفاً إليها أكثر مني .. بينما جعل يقول لي :

ـ « إنّي أحس تجاهك وتجاه سائر إخواني بواجبات شرعية ، وذلك حينما يطالبونني هم بعقد مثل هذه الجلسات العلمية. بيد أن مثل هذا ما كان ليمنع فكري من أن يبحر عبر المسافات ، فيجتاز بأفكار الآخرين ، ويسابق الموج لديهم من دون أن يثير أيّما زوبعة أو مد وجزر اصطناعيين بحيث يضايق أذواقهم ، ويصادر حرياتهم ، أو يعمل على تفتيت روح تحركاتهم الفردية ، وبالتالي يناكد سياحات اختياراتهم العقائدية .. إذ إنّ لكُلّ فرد تلك الحرية الخاصّة ، وذلك النبوغ الفني المعتد به ، والذي من خلاله يمكن أن ينتقي لنفسه طريقاً يعتبره ومن خلال تمتعه بكامل شرائط ومقومات الانتخاب الذاتي منهجه العقائدي وإنتماءه العلمي ليس إلاّ. ومن بعد ذلك فكُلّ منّا سيكون مسؤولاً عن مقالته! ».

وإذا ما كنا قد انتخبنا هذه المرة مكاناً يحاط بمجموعة لا بأس بها من الكتب والمجلدات ، فإنّا كنّا قد غدونا حينها على كامل الاستعداد لكي نبدأ

٩٩

محادثاتنا العلمية ومناظراتنا الفكرية .. قال لي :

ـ « ألا ترى إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف أبى أن تكون أسماء بني علي إلاّ كأسماء بني هارون ، فسماهم حسناً وحسيناً ومحسناً. وقال : « إنّما سمّيتهم بأسماء ولد هارون شبر وشبير ومشبر » حتّى أراد بهذا تأكيد المشابهة بين الهارونين وتعميم الشبه بينهما في جميع المنازل وسائر الشؤون » (١).

مع كُلّ هذا شعرت بأنّ عليَّ أن أواصل مجال هذه المناظرات ، ووفقاً لكامل ما تنطبق عليه شروط عقد مثل هذه الجلسات العلمية حتّى ولو كانت على مستوى شابين من الشباب ، يحدوهما الأمل للوصول إلى نتائج مشرّفة ترضي كلا الطرفين .. ليكون الاطلاع على فصولها وفي المستقبل حائزاً على الرسمية ، وعنواناً لكُلّ مصداقية لها أن تحمل قالب القانونية وتتزيا بثوب وحلة الصيغة الأكاديمية أو النظرية .. بعيداً عن أيّما تعصب يمكن أن تثيره الاجواء ، وبمنأىً عن أيّما حساسيات ليس لها أن تغني أو تسمن من جوع ، بل إنها كانت في جو يسوده الحب الإلهي ويملؤه الود الكريم حتّى كنا نتمنى لو كان كُلّ أفراد العالم يلجأون إلى حل مشكلاتهم العلمية والعقائدية والسياسية بنفس الطريقة التي كنا قد انتخبناها وعولنا عليها كُلّ نجاح وآخر .. فضلاً عن التزامنا بصور كافة الطموحات التي لا تنزع إلاّ إلى بلوغ شواطئ الاطمئنان وضفاف الهدأة من كُلّ عناء .. فما كانت تلك الأبحاث لتحيلنا إلى إنزال كُلّ غيظ ولعنة على الطرف الآخر ، أو تربص أيّما حالة نكوص أو ضعف من قبل

____________

(١) المستدرك ٣ : ١٦٨ ، ٢٦٥ وصححه على شرط الشيخين ، مسند أحمد ١ : ٩٨ ، الصواعق المحرقة : ١١٥.

١٠٠