وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

ـ « كالشيخ عبد العزيز بن سلام المتوفى سنة ٥٧٨ هـ ، والشيخ عبد الكريم بن محمّد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسن القزويني المتوفي سنة ٦٢٣ هـ ، واسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني المتوفى سنة ٤٤٩ هـ ، ومحمّد بن اسحاق صدرالدين القوني المتوفى سنة ٦٧٣ هـ وإبراهيم بن محمّد بن إبراهيم الاسفراييني المتوفى سنة ٤١٨ هـ ».

في حين استطردت في حديثي ، وأنا أقول :

ـ « وناهيك ما للقفال ، وإمام الحرمين الجويني ، والصيدلاني ، والسبخي السرخسي ، والجصاص ، من منزلة في العلم وموهبة في استنباط الأحكام ».

ـ « ولماذا لم تصلنا فتاواهم مثلما وصلت الينا فتاوى الأئمة الأربعة؟ ».

لأ نّهم كانوا قد أُلجموا من قبل العامة الذين رأوا ادعاء الاجتهاد ضلالة ، بل يتلبس مدعيها بتهمة التشيع لأنهم يقولون بذلك ».

فسأل مازن :

ـ « أقول : أين عثرت على كُلّ هذه الأخبار؟ ».

ـ « إنها في كتاب : أشد الجهاد لمدعي الاجتهاد ، ص ٢٥ ».

واستدركت الكلام ، وأنا أقول :

ـ « وكان أبو الحسن الداركي أحد المجتهدين في عصره إذا سئل عن فتوى يجيب بعد تفكر ، فربما كانت فتواه مخالفة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة فينكرون عليه ذلك ، فيقول : ويلكم روى فلان عن فلان عن رسول اللّه كذا وكذا ، فالأخذ به أولى من الأخذ بمذهب الشافعي ومخالفتهما أسهل من مخالفة الحديث ».

٣٦١

ـ «؟!».

ـ « ولقد لقي بقي بن مخلد من الأذى وشدة الانكار لدعوى الاجتهاد ما جعله مهجور الفناء ، مهتضم الجانب ، وكثير من أمثاله ، كابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم ».

ـ «؟!».

ـ « ولست أدري ما هذه الاستحالة وعدم الامكان من حصول درجة الاجتهاد والحكم على الرجال بالقصور والنقص وحصر الكمال في عدد معين بدون دليل؟ ونرى من الخير تعريف الاجتهاد والتقليد عندهم إجمالاً لنعرف مدى تحجير الأفكار ووقوف العقل عن إدراك ذلك ».

بينما قال مازن :

ـ « هل يمكنك أن تحدثنا عن الاجتهاد غير ما كنت قد حدثتنا به : ».

ـ « الاجتهاد لغة : هو بذل الوسع في ما فيه كلفة ، مأخوذ ـ كما نقل ابن أبي زرعة عن الماوردي ـ من جهاد النفس وكدها في طلب المراد ، وفي الاصطلاح على ما في جمع الجوامع : استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم ».

ـ « والفقيه والمجتهد؟ ».

سأل نبيل ، فأجبته :

ـ « والفقيه والمجتهد لفظان مترادفان وهو البالغ العاقل ، أي ذو ملكة يدرك بها العلوم وهذه الملكة العقل ».

فقال مازن :

ـ « هل يمكن أن تستشهد بالكلام؟ ».

٣٦٢

ـ « قال أبو اسحاق : ومن كان موصوفاً بالبلادة والعجز عن التصرف فليس من أهل الاجتهاد ، وفي انكاره للقياس خلاف ، وأن يكون عارفاً بالدليل العقلي وهو البراءة الأصلية ، وأن يكون عارفاً بلغة العرب وبالعربية وعلم النحو اعراباً وتصريفاً ، وبأصول الفقه ليقوى على معرفة الأدلة وكيفية الإستنباط وبالبلاغة ليتمكن من الإستنباط بحيث يميز العبارة الصحيحة من الفاسدة. وأن يكون عارفاً بالكتاب والسنة ولا يعتبر العلم بجميعها ولا حفظها ».

ـ « وغيره؟ ».

ـ « قال العلامة السبكي : المجتهد من هذه العلوم من له ملكة واحاطة بمعظم قواعد الشرع ، ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع ، ويعتبر على ما قيل كونه خبيراً بمواقع الاجتماع كيلا يحرفه ، والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وشرط المتواتر والآحاد ، والصحيح الضعيف ، وحال المرويات وسير الصحابة ، ولا يشترط فيه الكلام ، وتفاريع الفقه ، والذكورة والحرية ، وكذا العدالة على الأصح ».

فعدت إلى كلامي وأنا أرى إلى كُلّ من مازن ونبيل ، وقد سيطر عليهما الذهول من ضعف الاطلاع ، وقلة الباع ، وهزل البصيرة ، وعدم العلم بما يبحثان عنه دقيقاً .. أو يعاندان من أجله ، فقلت مستدركاً :

ـ « هذه هي شروط المجتهد عند أهل السنة ، وأنتما لو نظرتما إلى الواقع ، لم تجداه سبباً لمنعه من أجل قصور عن إدراكه لمن أراده ، وكم من العلماء من عرفنا عنه تمام المعرفة لهذه العلوم وزيادة ، ولكن المانع شيء آخر! ».

فقال نبيل :

٣٦٣

ـ « والتقليد؟ ».

ـ « والتقليد : هو أخذ قول الغير من غير معرفة دليله ، قال ابن أبي زرعة في شرح الجوامع : وقد اختلف العلماء في تقليد المفضول من المجتهدين مع التمكن من تقليد الفاضل على مذاهب ، أحدها وهو المشهور : جوازه ، وقد كانوا يسألون الصحابة مع وجود أفاضلهم ».

ـ « والثاني؟ ».

ـ « والثاني : منعه ، وبه قال الإمام أحمد وابن سريح ، وأختاره القاضي حسين وغيره ، والثالث : يجوز لمن يعتقده فاضلاً ، أو مساوياً لغيره فإنّ اعتقده دون غيره امتنع استفتاؤه ».

بينما مضيت بالقول :

ـ « وكذا اختلفوا في تجويز تقليد الميت على أقوال :.

ـ « أحدها ».

ـ « أما أحدها ، فهو : جوازه ».

ـ « ومن قال به؟ ».

ـ « وبه قال الجمهور ، وعبر عنه الشافعي بقوله : المذاهب لا تموت بموت أربابها ».

ـ « والثاني؟ ».

ـ « والثاني ، هو : منعه ، أي منع تقليد الميت مطلقاً ».

ـ « وإلى من عُزِي هذا القول؟ ».

ـ « عزاه الإمام الغزالي لاجماع الاصوليين واختاره الامام فخر الدين ـ « والثالث؟ ».

٣٦٤

ـ « وهو الأخير : يجوز مع فقد حي ولا يجوز مع وجوده ».

ثُمّ اطنبت في الكلام ، وقلت :

ـ « وقال الشيخ محيي الدين في الباب الثامن والثمانين من الفتوحات المكية : والتقليد في دين اللّه لا يجوز عندنا لا تقليد حي ولا ميت ، انتهى. فتدبر. وقال ابن عابدين الشامي : إنّه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل وبه قالت الحنيفة والمالكية والشافعية وأكثر الحنابلة ، وعن أحمد وطائفة كثيرة من الفقهاء : لا يجوز ».

٣٦٥

الفصل السابع والعشرون

الخلفاء في الميزان : عدم التعبّد بالنصوص الصريحة

كنت أفكر : هذا هو الحق! وهو أتباع كُلّ ما ينصّ عليه الكتاب والسنة ، ويؤكد عليه العقل والاجماع ، ويدلل عليه العرف والفطرة ليس إلاّ ، وتنسج فحوى براهينه أدلة ثابتة ليس هناك إلى إبطالها أيّما طريق .. والأكثر من هذا كله ، فإنّي أنا الآخر صرت لا أدري ما أفعل ، أجدني مرة كذلك استفز نفسي ، وأجدني أُخرى أميل إلى أفكار الشيعة ، لأ نّها كثيراً ما تناسب لون تفكيري وطبيعة تصوري عن الأشياء! وفي لحظات أُخرى ، يصارعني الحنين إلى مذهبي وإلى تعاليمه ، وإلى طبيعة مناسكه ، وأتذكر وكأني وما زلت أذكر صلاة التراويح ، وكلمة آمين : كيف يرددها الجمع في الصلاة ، وغيرها كثير .. وهل يمكنني فراقها والتخلي عنها؟! حتّى كأنّها أصبحت قطعة مني .. وفي لحظة أُخرى أردت فيها أن أصرخ بوجه كُلّ من مازن ونبيل ، لا لشيء إلاّ لأنهما مازن ونبيل اللذين عرفتهما!

قال نبيل :

ـ « ما علينا إلاّ أن نذهب إلى مجموعة من علماء أهل السنة! ».

فقلت له :

ـ « ولو أخبرتك ، إنك لو قابلت أحدهم ، لساءك الحال ، ولرجوت اللّه أنّه لم يدعك تفكر بمثل هذه الأفكار ، ولا للحظة واحدة من قبل ».

٣٦٦

ـ « لماذا؟ إلى هذه الدرجة قد تغيرت ، وبلغ بك وجه الاختلاف ».

ـ « لا .. ولكني أعرف جوابهم مسبقاً ، فإنهم سيعارضون .. و .. وسيمنعوننا من التفكير أصلاً بمثل هذا الموضوع ، وسيعملون على إرشادنا إلى التنائي عن النقاش ، وأن ما لدينا هو الصحيح ، وما علينا إلاّ الرجوع إلى ما لدينا من كتب ، وما يكون بين يدي الشيعة فهو ليس إلاّ الضلال المبين. وما كان الأساس الشرعي في حكومة الأول إلاّ إجماع المسلمين ».

وعندها هتف مازن قائلاً :

ـ « صحيح .. الإجماع هو الأساس! ».

وقال نبيل :

ـ « إذا تم كُلّ ما قلتم من العهد والوصية ، والنصوص الجلية ، فماذا تصنع باجماع الأُمّة على بيعة الصديق؟ وإجماعها حجة قطعية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تجتمع أُمتي على الخطأ ، » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تجتمع على ضلال « فماذا تقول؟ ».

فقلت :

ـ « إن المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تجتمع أمتي على الخطأ » ، و « لا تجتمع على الضلال » ، « إنّما هو نفي الخطأ والضلال عن الأمر الذي اشتورت فيه الأُمّة فقررته باختيارها ، واتفاق آرائها ».

ـ « وإذن ، فهذا الذي هو وبنظرك يمكن أن يتبادر من السنن!؟ فكيف؟ ».

ـ « أجل ، فهذا هو المتبادر من السنن لا غير! أما الأمر الذي يراه نفر من الأُمّة فينهضون به ، ثُمّ يتسنى لهم إكراه أهل الحل والعقد عليه ، فلا دليل على صوابه ».

ـ « ليس هناك من إكراه في أيّما أمر كان قد حصل ».

٣٦٧

ـ « وبيعة السقيفة ماذا تقول عنها؟ إنها لم تكن عن مشورة ، وإنما قام بها الخليفة الثاني ، وأبو عبيدة ونفر معهما ».

ـ « أتقصد أنهم اجتهدوا؟ والشيعة؟ ألا يقولون بالاجتهاد ، فلِمَ يحرمونه هنا ويحللونه لديهم ».

ـ « لأنّ اجتهاد الخليفة ومن معه كان خلاف النصّ؟ وهذا مرفوض قطعاً ».

ـ « أقول : إنّك تتكلم وكأنك شيعي ولست بسنّي ».

ـ « دعنا من هذا الكلام .. إن ما أقوله هو ما ظل وجعل يتلجلج في أعماقي ، إنّي أبحث له عن جواب قانع ، فلا أجد ما يبل جوفي ويسكّن فورة فؤادي ».

ـ « وبعد؟ ».

ـ « .. أجل ، وإنما قام بها الخليفة الثاني ، وأبو عبيدة ونفر معهما ».

ـ «؟!».

ـ « ثُمّ فاجأوا بها أهل الحل والعقد ، وساعدتهم تلك الظروف على ما أرادوا ».

فقال نبيل :

ـ « إنّي قد سمعت وقرأت أن بيعة السقيفة كانت قد حدثت عن مشورة وروية ».

فقلت له :

ـ « إنّ الخليفة والصحابي أبو بكر ، هو بنفسه يصرح ويعلن أمام الملأ ويقول : بأن بيعته لم تكن عن مشورة ولا عن روية ».

٣٦٨

ـ « أين؟ ».

ـ « وذلك حيث خطب الناس في أوائل خلافته معتذراً إليهم ».

ـ « وماذا قال؟ ».

ـ « لقد قال للناس : أن بيعتي كانت فلتة ، وقى اللّه شرّها وخشيت الفتنة ».

ـ « من أخرج هذه الخطبة؟ ».

ـ « أخرجها أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، في كتاب السقيفة ونقلها ابن أبي الحديد ص ١٣٢ من المجلد الأول من شرح النهج. والصحابي عمر بن الخطاب نفسه ، يشهد بذلك على رؤوس الأشهاد في خطبة خطبها على المنبر النبوي يوم الجمعة في أواخر خلافته ، وقد طارت كُلّ مطير ».

ـ « وهذه الأُخرى من كان قد أخرجها؟ ».

ـ « لقد أخرجها البخاري في صحيحه ».

ـ « البخاري؟ ».

كان نبيل هو الذي يتداول الحديث معي ، ومازن يصغي ، فقلت لهما :

ـ « يمكنكما أن تراجعا من الصحيح باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت ـ وهو في ص ١١٩ من جزئه الرابع. وأخرجها غير واحد من أصحاب السنن والأخبار كابن جرير الطبري في حوادث سنة ١١ من تاريخه ونقلها ابن أبي الحديد ص ١٢٢ من المجلد الأول من شرح النهج ».

وعندها ابتدرني مازن ، وهو يقول :

ـ « هل يمكن أن تنقل الي محل الشاهد؟ ».

ـ « وإليك محل الشاهد منها بعين لفظه ، قال : ثُمّ إنّه بلغني أن قائلاً منكم يقول : واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترن امرؤ أن يقول إنّما كانت بيعة

٣٦٩

أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن اللّه وقى شرها ( إلى ان قال ) : من بايع رجلاً من غير مشورة فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ».

ـ «؟!».

ـ « أتدرون من كان هو القائل؟ ».

ـ « من كان؟ ».

قال ذلك نبيل ، فقلت :

ـ « والقائل هو ابن الزبير ونصّ مقالته : واللّه لو مات عمر لبايعت عليا فإن بيعة أبي بكر إنما كانت فلتة وتمت ، فغضب عمر غضبا شديداً وخطب هذه الخطبة ».

ـ « ومن صرح بهذا كُلّه؟ ».

ـ « صرح بهذا كثير من شرّاح البخاري ».

ـ «؟!».

ـ « راجع تفسير هذا الحديث من شرح القسطلاني ص ٣٥٢ من جزئه الحادي عشر ، تجده ينقل ذلك عن البلاذري في الأنساب مصرحاً بصحة سنده على شرط الشيخين ».

بينما التفت اليّ نبيل ، وهو يقول :

ـ « إن لدينا من المفسرين والمؤرخين ما بمستطاعهم أن يثبتوا أن بيعة السقيفة كانت قد وقعت عن مشورة وعن غير استبداد في الرأي! ».

ـ « مثل مَن؟ ».

ـ « مثل ابن الأثير! ».

٣٧٠

وعندها ابتسمت وقلت له :

ـ « استمع إلى ما أقوله لك : قال ابن الأثير في تفسير هذا الحديث ( الحديث الخاص بعمر ) من نهايته ، تغرة ، مصدر غررته إذا ألقيته في الغرر ، وهي من التغرير كالتعلة من التعليل ، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره خوف تغرة أن يقتلا ، أي خوف وقوعهما في القتل ، فحذف المضاف الذي هو الخوف ، وأقام المضاف إليه الذي هو تغفرة مقامه ، وانتصب على أنّه مفعول له ، ويجوز أن يكون قوله إن يقتلا بدلاً من تغرة ، ويكون المضاف إليه محذوفاً كالأول ، ومن أضاف تغرة إلى أن يقتلا فمعناه خوف تغرة قتلهما ».

ـ « ما معنى ما تقول؟ ».

ـ « .. ( قال ) ومعنى الحديث : إن البيعة حقها أن تقع صادرة عن المشورة والاتفاق ، فإذا استبد رجلان دون الجماعة فبايع أحدهما الآخر ، فذلك تظاهر منهما بشق العصا واطراح الجماعة ، فإن عقد لأحد بيعة فلا يكون المعقود له واحداً منهما وليكونا معزولين من الطائفة التي تتفق على تمييز الإمام منها ، لأ نّه إن عقد لواحد منهما وقد ارتكبا تلك الفعلة الشنيعة التي احفظت الجماعة من التهاون بهم والاستغناء عن رأيهم ، لم يؤمن أن يقتلا ».

ـ «؟!».

بينما عدت إليهما ، وأنا أقول :

ـ « أما أنا فأقول : كان من مقتضيات العدل الذي وصف به عمر أن يحكم بهذا الحكم على نفسه وعلى صاحبه كما حكم به على الغير ، وكان قد سبق منه ـ قبل قيامه بهذه الخطبة ـ أن قال : إن بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه شرها ، فمن عاد إلى مثلها فأقتلوه ، واشتهرت هذه الكلمة عنه أي اشتهار ونقلها عنه

٣٧١

حفظة الأخبار ، كالعلامة ابن أبي الحديد في ص ١٢٣ من المجلد الأول من شرح النهج ».

ـ « عد إلى حديث ابن الأثير ، وأخبرنا ماذا يقول؟ ».

ـ « ( قال ) : وإنه قد كان من خبرنا حين توفى اللّه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الأنصار خالفونا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنا علي الزبير ومن معهما ، ثُمّ استرسل في الإشارة إلى ما وقع في السقيفة من التنازع والاختلاف في الرأي وارتفاع أصواتهم بما يوجب الفرق على الإسلام ، وان عمر بايع أبا بكر في تلك الحال ».

فقال نبيل :

ـ « ولقد تخلف علي بن أبي طالب واصحابه عن بيعة السقيفة ، أليس كذلك؟ ».

ـ « ومن المعلوم بحكم الضرورة من إخبارهم أن أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة لم يحضر البيعة أحد منهم قط ، وقد تخلفوا عنها في بيت علي ، معهم سلمان ، وأبي ذر ، والمقداد ، وعمار ، والزبير ، وخزيمة بن ثابت وأبي بن كعب ، وفروة بن عمرو بن ودقة الأنصاري ، والبراء بن عازب ، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي ، وغير واحد من أمثالهم : فكيف يتم الاجماع مع تخلف هؤلاء كُلّهم ، وفيهم آل محمّد كافة وهم من الأُمّة بمنزلة الرأس من الجسد ، والعينين من الوجه ، ثقل رسول اللّه وعيبته ، وأعدال كتاب اللّه سفرته ».

ـ « ثانية وثالثة أنّا نقول إنك تتحدث بلسان يفرط أكثر مما يفرطه لسان شيعي؟ ».

٣٧٢

ـ « إنّ هذا لا يضر ، طالما اجتمعنا هاهنا لأجل أن نخرج بنتيجة معينة ، وسواء أخرجنا بها اليوم أم في غد! ».

بينما عدت إلى الكلام :

ـ « إن ما وجدته في الروايات وجعل يدوّخني ويصرعني أكثر فأكثر ، هو أن آل محمّد ما كانوا إلاّ سفن نجاة الأُمّة وباب حطتها ، وأمانها من الضلال في الدين ، وأعلام هدايتها ».

ـ «؟!».

ـ « .. على أن شأنهم غني عن البرهان ، بعد أن كان شاهده الوجدان ».

بينما رجع مازن ، يشكّك في تخلف علي بن أبي طالب عن البيعة ، وهو يقول :

ـ « لا أظن بأنّ علياً قد تخلف عن بيعة السقيفة؟ ».

ـ « لقد أثبت البخاري ومسلم في صحيحيهما وغير واحد من أثبات السنن والخبار ، تخلف علي عن البيعة ، وأنه لم يصالح حتّى لحقت سيدة النساء بأبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك بعد البيعة بستة أشهر ، حيث اضطرته المصلحة الإسلامية العامة في تلك الظروف الحرجة إلى الصلح والمسالمة » (١).

فقال نبيل متراجعاً عن نظراته وحدّته :

ـ « إنّ أهل السنّة لا ينكرون أن البيعة لم تكن عن مشورة ولا عن روية ، يسلمون بأنها إنّما كانت فجأة وارتجالاً ، ولا يرتابون في مخالفة الأنصار وانحيازهم إلى سعد ».

____________

(١) صحيح البخاري ٣ : ٣٩ باب غزوة خيبر ، صحيح مسلم ٢ : ٧٢ من كتاب الجهاد والسيرة.

٣٧٣

قاطعه مازن وهو يستدرك كلامه ، ولقد كان هو الآخر يتنازل مذعناً ، بعد أن وجد نبيل يعلن صاغراً عن مثل ذلك ، فقال :

ـ « .. كذلك ، فإنهم لا يرتابون ، ولا حتّى في مخالفة بني هاشم واوليائهم من المهاجرين والانصار ، وانضوائهم إلى الامام ، لكنهم يقولون : إنّ أمر الخلافة قد استتب أخيراً لأبي بكر ، ورضيه الجميع إماماً لهم ، فتلاشى ذلك الخلاف ، وارتفع النزاع بالمرة ، واصفق الجميع على موازرة الصديق والنصح له في السر والعلانية ، فحاربوا حربه ، وسالموا سلمه ، وأنفذوا أمره ونهيه ، لم يختلف منهم عن ذلك أحد ، وبهذا تم الاجماع ، وصح عقد الخلافة ».

فقلت :

ـ « أصفاقهم على مؤازرة الصديق ، والنصح له في السر والعلانية شيء وصحة عقد الخلافة له بالاجماع شيء آخر ، وهما غير متلازمين عقلاً ولا شرعا فإنّ لعلي والأئمة المعصومين من بنيه مذهباً في مؤازرة أهل السلطة الإسلامية معروفاً ، وهو الذي ندين اللّه به ، وأنا أذكره لك جواباً عمّا قلت ».

فقال نبيل :

ـ « وحاصله؟ ».

ـ « وحاصله : هو أن من رأيهم أن الأُمّة الإسلامية لا مجد لها إلاّ بدولة تلم شعثها ، وترأب صدعها ، وتحفظ ثغورها ، وتراقب أُمورها ، وهذه الدولة لا تقوم إلاّ برعايا تؤازرها بأنفسها وأموالها ، فان أمكن أن تكون الدولة في يد صاحبها الشرعي ».

ـ « صاحبها الشرعي؟ ».

٣٧٤

ـ « أما صاحبها الشرعي : فهو النائب في حكمه عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نيابة صحيحة ».

ـ « طيب! ».

ـ « .. فهو المتعين لا غير ».

ـ « وإن تعذر ذلك ، فاستولى على سلطان المسلمين غيره؟ ».

ـ « وجبت على الأُمّة مؤازرته في كُلّ أمر يتوقف عليه عز الإسلام ومنعته ، وحماية ثغوره وحفظ بيضته ، ولا يجوز شق عصا المسلمين ، وتفريق جماعتهم بمقاومته بل يجب على الأُمّة أن تعامله ـ وإن كان عبداً مجدع الأطراف ـ معاملة الخلفاء بالحق ».

ـ « فتعطيه خراج الأرض ومقاسمتها ، وزكاة الأنعام وغيرها ».

ـ « أجل! ولها أن تأخذ منه ذلك بالبيع والشراء ، وسائر أسباب الانتقال ، كالصلات والهبات ونحوها ، بل لا إشكال في براءة ذمة المتقبل منه بدفع القبالة إليه ، كما لو دفعها إلى إمام الصدق ، والخليفة بالحق ، هذا مذهب علي والأئمة الطاهرين من بنيه ».

ـ « هل لك أن تثبت مثل ذلك من السنة النبوية؟ ».

ـ « وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ستكون بعدي إثرة وأمور تنكرونها ، قالوا : يارسول اللّه كيف تأمر من إدرك منا ذلك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون اللّه الذي لكم » (١).

ـ « ولقد كان أبو ذر الغفاري رضي‌الله‌عنه ، يقول : إن خليلي رسول

____________

(١) صحيح مسلم ٢ : ١١٨.

٣٧٥

اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مجدع الاطراف » (١).

ـ « وقال سلمة الجعفي ( فيما أخرجه عنه مسلم وغيره ) : يا نبي اللّه أرأيت إن قامت علينا أُمراء يسألوننا حقهم ، ويمنعوننا حقنا ، فما تأمرنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسمعوا وأطيعوا ، فإنّما عليهم ما حمّلوا ، وعليكم ما حمّلتم ».

ـ «؟!».

ـ « وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث حذيفة بن اليمان رضي‌الله‌عنه : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ، قال حذيفة : قلت : كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال ، تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ، فاسمع له واطع » (٢).

ـ « ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حديث أُم سلمة : « ستكون أُمراء عليكم ، فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم » (٣).

قاطعني :

ـ « وما معنى قوله : فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم؟ ».

ـ « والمراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن عرف برئ ، أن من عرف المنكر ولم يشتبه عليه ، فقد صار له طريق إلى البراءة من إثمه وعقوبته بأن يغيّره بيده أو بلسانه ، فان عجز فليكرهه بقلبه ».

ـ « تابع ذكر الحديث؟ ».

____________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق ٢ : ١٢٠.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ١٢٢.

٣٧٦

ـ « .. قالوا : أفلا نقاتلهم؟ قال : لا ما صلّوا ».

ـ « وإذن ، فأنت تدعي أن الصحاح في ذلك هي متواترة؟ ».

ـ « أجل ، فالصحاح في ذلك متواترة ، ولا سيما من طريق العترة ، ولذلك صبروا وفي العين قذي ، وفي الحلق شجي ، عملاً بهذه الأوامر المقدسة وغيرها مما عهده النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم بالخصوص ، حيث أمرهم بالصبر على الأذى ، والغض على القذى ، احتياطاً على الأُمّة ، واحتفاظا بالشوكة ، فكانوا يتحرون للقائمين بأمور المسلمين وجوه النصّ ».

ـ « وكيف كان منهم مثل ذلك؟ ».

ـ « ولقد كانوا كذلك من استئثارهم بحقهم على أمر من العلقم ، ويتوخون لهم الرشد مناهج ، وهم ـ من تبوئهم عرشهم ـ على آلم للقلب من جز الشفار ، تنفيذا للعهد ، ووفاء بالوعد ، وقياماً بالواجب شرعاً وعقلاً من تقديم الاهم ـ في مقام التعارض ـ على المهم ».

ـ « وهل كان لعلي أن يواجه الخلفاء الثلاثة في أيام خلافتهم؟ ».

ـ « ولذا ، فإنّه كان قد محض أمير المؤمنين كلاًّ من الخلفاء الثلاثة نصحه ، واجتهد لهم في المشورة. ومن تتبع سيرته في أيامهم ، على أنّه بعد أن يئس من حقه في الخلافة عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بلا فصل ، شق بنفسه طريق الموادعة ، وآثر مسالمة القائمين بالأمر فكان يرى عرشه ( المعهود به إليه ) في قبضتهم ، فلم يحاربهم عليه ، ولم يدافعهم عنه احتفاظا بالأُمة واحتياطاً على الملّة ، وضنا بالدين ، وإيثاراً للآجلة على العاجلة ».

ـ « وإذن ، فأنت تصادق على ما تقوله الشيعة؟ ».

ـ « إني أمامكم أصرح بما يصرح به قلبي ، ولربما لم أُصرح به أمام أحد من

٣٧٧

الشيعة أو المستبصرين ، أو أن صرحت به ، أو لم أصرح ، فما كنت لأصرح به على مثل هذه الصراحة والصدق! ».

ـ « لماذا؟ ».

ـ « لأني قد تحقّقت ، وتحريت أُمور التاريخ ، فوجدت علياً كان قد مُنِي حقاً بما لم يمن به غيره ، حيث مثل على جناحيه خطبان فادحان ، الخلافه بنصوصها وعهودها إلى جانب ، تستصرخه وتستفزه اليها بصوت يدمى الفؤاد ، وأنين يفتت الأكباد ، والفتن الطاغية إلى جانب آخر ، تنذره بانتفاض الجزيرة ، وانقلاب العرب ، واجتياح الإسلام ، وتهديده بالمنافقين من أهل المدينة ، وقد مردوا على النفاق ، وبمن حولهم من الأعراب ».

ـ «؟!».

ـ « وهم منافقون بنصّ الكتاب ، بل هم أشد كفراً ونفاقاً ، وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله وقد قويت بفقده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شوكتهم ».

ـ « لماذا؟ ».

ـ « إذ صار المسلمون بعده كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية ، بين ذئاب عادية ، ووحوش ضارية ، ومسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خويلد الأفاك ، وسجاح بنت الحرث الدجالة ، وأصحابهم قائمون ـ في محق الإسلام وسحق المسلمين ـ على ساق ، والرومان والأكاسرة وغيرهما ، كانوا بالمرصاد ، إلى كثير من هذه العناصر الجياشة بكُلّ حنق من محمّد وآله وأصحابه ، بكُلّ حقد وحسيكة لكلمة الإسلام تريد أن تنقض أساسها ، وتستأصل شأفتها ، وأنها لنشيطة في ذلك مسرعة متعجلة ، ترى أن الأمر قد استتب لها ».

ـ « .. ماذا تقصد؟ ».

٣٧٨

بينما واصلت حديثي ، وكأني لم أسمع منه أيّما تعليق أو سؤال :

ـ « .. وان الفرصة ـ بذهاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلى الرفيق الأعلى ـ قد حانت ، فأرادت أن تسخر الفرصة وتنتهز تلك الفوضى قبل أن يعود الإسلام إلى قوة وإنتظام ».

ـ « وعليه ، ما الذي كان قد صنعه علي بن أبي طالب .. أقصد بنظرك أنت شخصياً؟ ».

ـ « لقد وفّق أمير المؤمنين بين هذين الخطرين ، فكان من الطبيعي له أن يقدم حقه قرباناً لحياة الإسلام ، وايثاراً للصالح العام ، فأنقطاع ذلك النزاع ، وارتفاع الخلاف بينه وبين أبي بكر ، لم يكن إلاّ فرقا على بيضة الدين ، واشفاقا على حوزة المسلمين ، فصبر هو وأهل بيته كافة ، وسائر أوليائه من المهاجرين والانصار ، وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، كلامه مدة حياته بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريح بذلك ، والأخبار في هذا متواترة عن أئمة العترة الطاهرة ».

ـ « لكن سيد الأنصار سعد بن عبادة لم يسالم الخليفتين أبداً ».

ـ « أجل إنّه لم يسالمهما ، لأ نّه لا يتحمل ما يتحمله علي ، فلم تجمعه معهما جماعة في عيد أو جمعة ، وكان لا يفيض بافاضتهم ، ولا يرى أثراً لشيء من أوامرهم ونواهيهم ، حتّى قتل غيلة بحوران على عهد الخليفة الثاني ، فقالوا : قتله الجن ».

ـ « قتله الجن؟! ».

ـ « وأنت الآخر تعجب من كلامهم ، ولك الحق جداً في عجبك ، فإنّي أنا الآخر كنت قد عجبت من مثل هذا الكلام المطحون! ».

٣٧٩

ـ « ولقد تحدث هو في يوم السقيفة وبعصبية؟ أليس كذلك؟ ».

ـ « نعم ، فإنّ له كلام يوم السقيفة ، وبعده لا حاجة بنا الآن إلى ذكره ».

ـ « وأصحاب علي بن أبي طالب ، ماذا كانوا قد فعلوا؟ ».

ـ « فأما أصحابه كحباب بن المنذر ، وغيره من الأنصار ، فإنّما خضعوا عنوة ، واستسلموا للقوة ، فهل يكون العمل بمقتضيات الخوف من السيف ، أو التحريق بالنار ».

ـ « أو التحريق بالنار؟ ».

ـ « أجل! أو التحريق بالنار! فتهديدهم علياً بالتحريق ، هو ثابت بالتواتر القطعي ».

ـ « تهديدهم علي بالتحريق؟ ».

ـ « وحسبك ما ذكره الإمام ابن قتيبة في أوائل كتاب الإمامة والسياسة والإمام الطبري في موضعين من أحداث السنة الحادية عشرة من تاريخه المشهور ، وابن عبدر به المالكي في حديث السقيفة من الجزء الثاني من العقد الفريد ، وأبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة كما في ص ١٣٤ من المجلد الأول من شرح النهج الحميدي الحديدي ، والمسعودي في مروج الذهب ».

ـ « وماذا جاء فيما ذكروه؟ ».

ـ « .. نقلاً عن عروة بن الزبير في مقام الاعتذار عن أخيه عبد اللّه ، إذ هم بتحريق بيوت بني هاشم حين تخلفوا عن بيعته ، والشهرستاني نقلاً عن النظام عند ذكره الفرقة النظامية من كتاب الملل والنحل ، وأفرد أبو مخنف لأخبار السقيفة كتاباً فيه تفصيل ما أجملته ، وناهيك في شهرة ذلك تواتره قول شاعر

٣٨٠