وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

الفصل الرابع

وللموضوع صلة

عدتُ في المساء إلى غرفتي ، اضطجعت على السرير ، نازعتني أفكار متعددة ، شعرت بها متناقضة .. ولكن؟! لِمَ سيطرت علي هذه المسائل حتّى استحوذت على كُلّ فكري ، وسلبتني لبّي وجعلتني أسيراً لها ، لا أفكر في سواها ، طويت كشحاً عن التفكير في كُلّ شيء سواها ، حتّى عن التفكير في الأهل والذكريات ، والطموحات والآمال الجديدة ، وما يمكن أن يعتري كُلّ شاب في مقتبل عمره ، يغزو بروحه فضاء معمورة أُخرى ، لم يكن قد نشأ بين أحضانها وترعرع في كنف أهلها حتّى سكن بين ظهرانيهم ، بل لم يكن قد ولد في ربوعها. نسيت كُلّ شيء ، كنت أسلط شعاع نظر الفكر على دائرة واحدة ، يحدوني الأمل أن أبلغ ومن خلالها إلى ما يمكنه أن يريحني ويوقظني من تعاستي التي شعرت كأن حالي قد غدا كذلك .. لأ نّي بتّ أسائل القلب : ترى لو تبين لي عكس ما أرى ، فما سيكون حكم كُلّ هذه السنين التي مضت؟ وكيف لي أن أعتد بشهادة التخرج التي حصلت عليها من كلية الآداب في الجامعة .. وهل لي بعد ذلك أن أتنافس في التفاخر على أقراني .. أنا الذي كنت وما زلت أبزّ العالمين بزّاً بنهضاتي وسبحات أوطار عقلي التي لا تعرف لنفسها أيّما ظِلٍّ من حدود .. ذلك لأ نّي طيلة هذه الأيام المنصرمة ، وطوال كُلّ هذه السنين المنتفية ما كنت إلاّ غرضاً لمقامع إبليس .. إذ ما كان بي ولو للحظة واحدة أن

٤١

أفكر : ترى ما هو الفرق الحقيقي بيننا وبين الشيعة ، ولم كُلّ هذا الاختلاف؟ ولم كُلّ هذه النعرات الطائفية؟! وهذا ما كان خليقاً به أن يدفعني إلى بحث هذا الموضوع ولو بأبسط وجوهه وأقربها إلى العقل ، ومن دون إثارة أيّما نضال في السعي لإثارة نار موقد النعرات والفتنة الطائفية .. بعيداً عن كُلّ ما له أن يتصل بها لأ نّي كنت أشعر بأ نّي أستحق أن أدخل غمار أيّة مناقشة فكرية وعقلية ، طالما استقر في رأسي شيء اسمه عقل يمكن أن أعتد به ما حييت! لأ نّي شعرت بأ نّه لو لم أخرج بأيما نتيجة ، سأصادر على نفي حصائل كُلّ تلك السنين الماضية .. حتّى على مغامراتي في أيام المدرسة ، وذكرياتي المشبعة بأريج الصبا والشباب وكُلّ صداقاتي المنعكسة في مرآة قلبي .. كما للحظات الطفولة الباسمة أن تنعكس بملء الصفاء والمودة.

سعيت من جديد كيما أفتح طريقاً إلى نقاش يحمل بهاء جديداً ، طرقت باب نفسي ، فسنحت مني فرصة ، اختلست فيها النظر إليها وهي تغذّ السير في سبيل انعاشي بكُلّ ما آتاها اللّه به من قوّة حتّى علمت أن اللّه كان في عوني ، لأ نّه قلّما يوجد أُناس ، تحركهم ضمائرهم سعياً وراء الحقيقة ، أو تهزهم معابد الوجدان صعّداً نحو مفازات لا تسكن إلاّ قنن الجبال العالية والمرتفعات الشاهقة. ومن بعد أن أجازت لي ، عادت إلى متابعتي بعينيها وهي التي ما عهدتها إلاّ ملأى ببديع صور الحنان الذي لا يجود به أيّما طرف إنساني آخر .. فقالت لي :

ـ « أراك عدت أيّها المغامر؟ ».

ـ « بل ، كنت أنتظر سباقاً آخر ، وجولة جديدة! ».

فقالت لي :

٤٢

ـ « لم ننته من الموضوع!

ـ « وهل له صلة؟

ـ « أجل ، فقبل كُلّ شيء ، يجب أن نلاحظ أنّ المقطع الشريف من الآية : ( اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ).

ـ « تمهلي! أيّة آية هذه التي تتحدثين عنها ، إنّها ليست موضوعنا ».

ـ « ألم أقل لك ومن قبل إنّك بعيد كُلّ البعد عن هذه المسائل ، إنّ هذا المقطع هو الأوّل في آية الإكمال التي تستهل كلماتها به ».

ـ « أووه .. كيف هذا؟ ».

ـ « استمع إلى الآية كاملة : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِف لإثْم فَإنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).

ـ « وعليه ، فما الذي تريدين قوله؟ ».

ـ « إنّما أردت القول وقبل كُلّ شيء يجب أن نلاحظ أن المقطع : ( اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ) كان يتعرض لموضوع مستقل عن مطلع الآية وعن ذيله أيضاً ، وذلك سواء قلنا إنّ هذا المقطع نزل في هذا الموضع من أوّل الأمر ، أو قلنا إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي أمر بوضعه في هذا الموضع رغم اختلاف نزوله عن الصدر والذيل ، أو قلت إنّه موضوع بهذا الموضع عند الجمع القرآني ».

ـ «؟!».

٤٣

ـ « وإذا كان هذا المقطع : ( اليَوْمَ يَئِسَ .. ) مستقلاً عن مطلع الآية وختامها ، إلاّ إنّه مرتبط تمام الارتباط بقوله تعالى : ( اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. ) بحسب المضمون والإخبار ».

ـ « كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك ، والمقطع ما يعلن إلاّ عن حقيقة كبيرة وبشارة عظمى للمسلمين بأ نّه قد يئس أعداؤهم من أن يمحوا دينهم. فلا خشية منهم على شيء ».

ـ « وهنا موضع الشاهد ، إذ إنّ اللّه كان قد أكمل دينه وأتم نعمته ورضي الإسلام ديناً للأمّة .. وبذلك .. ».

ـ « دخل اليأس قلوب الكافرين مرحلته العظمى! ».

ـ « تماماً ».

ـ « يمكنك أن تخبريني متى كان هذا اليوم الذي يئس فيه الكفار من الكيد على دين الإسلام؟ ».

ـ « قد احتملت في هذا اليوم عدة محتملات ، فمنها ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره من أنّه كلام جار على عادة أهل اللسان ، ومعناه أن لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار. وذلك كما يقال مثلاً : كنت شاباً بالإمس وعدت اليوم شيخاً. فالمقطع القرآنى كذلك هو الآخر يتحدث عن حقيقة كانت قائمة آنذاك. حيث انتشرت ألوية الإسلام ، وعلت قوّته ، وزال خوف المسلمين من الكفار بعد أن هزموا وغلبوا ، فيئسوا من الغلبة والانتصار على المسلمين ، فقال تعالى : ( اليوم يئس .. ).

ـ « إنّي أراه قابلاً للهضم ».

ـ « ان الأمر ليس كما ترى ، فهذا المحتمل مردود ، لأُمور ، منها : أنّ هذا

٤٤

الاستعمال وإن كان عرفياً لكنه استعمال مجازي لا حقيقي ، وإذا أمكن الاستعمال الحقيقي كان احتماله مقدماً على احتمال الاستعمال المجازي. والآخر : إنّه لو صحّ هذا التفسير للمقطع الشريف ، لكان نزوله يوم فتح مكة أجدر من نزوله في غيره. أمّا الثالث : فإنّه إن كان المراد من كمال الدين هو الإكمال التشريعي ، فإنّه لا بد من إثبات عدم نزول حكم بعد نزول الآية ، مع أنّه قد وردت روايات كثيرة تدلّ على نزول أحكام بعد ذلك اليوم كآية الكلالة ، وآية الربا ونحوهما .. فالإكمال التشريعي أمر تأباه الروايات الكثيرة من قبل الفريقين ».

ـ « وما قال به القفال واختاره الرازي من أنّ معنى الإكمال هو أن الشرائع النازلة من عند اللّه هي في كُلّ وقت كافية ، وذلك فيما يتعلّق بذلك الوقت الذي تختص به. ولكن الشريعة الإسلامية في آخر زمان البعثة صارت كاملة إلى يوم القيامة. فماذا يمكنك أن تقولين بصدده؟ ».

ـ « ما أقول إلاّ أن هذا الرأي هو مما لا محصل له ، ولا يؤبه له. اسمع أما الأمر الرابع الذي يرد احتمال الرازي ، فهو ما كان إلاّ أن هذا المحتمل لا ينسجم مع أي ترابط بين قوله تعالى : اليوم يئس .. وقوله تعالى : ( اليوم أكملت .. ) مع أنّهما منسجمان كمال الانسجام.

وعندها قلت :

ـ « وعليه فإنّ احتمال الرازي غدا باطلاً مردوداً .. فهل ثمّة احتمالات أُخرى ».

قالت :

ـ « أجل ، فثمة احتمال ثان : وهو ما قالت به الشيعة ».

٤٥

ـ « الشيعة؟ ».

ـ « أجل ، فإنّ المنطق يملي علينا الانصياع إلى مقالة ربما ارتضاها العقل والنقل ، وخلدت اليها الروح! وهو أنّ المراد بهذا اليوم هو يوم غدير خم. أي الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة ، وأنّ هذا المقطع القرآني قد نزل في أمر ولاية علي بن أبي طالب ».

ـ « كيف يمكن أن يكون هذا؟ أنّا كنّا نناقش مقطعاً واحداً ، فتبين لنا أنّ المقطع السابق له هو الآخر كان قد نزل بشأن علي ».

ـ « بالضبط! وخلاصة هذا الرأي ، أنّ الكفار ومن بعد أن رأوا حقيقة الانتصار الإسلامي ، واذعنوا لسيطرة الإسلام وتوسعه ، لم يبق لديهم أمل في إيقاف الزحف الإسلامي إلى معاقلهم ، وتفتت القوى الإسلامية النامية ، إلاّ أن يتربصوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ريب المنون ، حيث تموت الحركة بموت قائدها وباعثها .. وذلك بعد أن صورت لهم أوهامهم أن قيادة الرسول للحركة الإسلامية الكبرى هي ما كانت إلاّ شبيهة بالقيادات الدنيوية المادية الأُخرى التي ذهب اتباعها بعد أن مات القائد. وهو ما ينطبق عليه التعبير القرآني : ( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ) ، لأن شانئ النبيّ إنسان لا يحمل هدفاً أو رسالة ».

ـ « أتريدين القول بأنّ أعداء الإسلام ، هكذا كانوا قد تصوّروا واقع الإسلام .. ».

ـ « .. ولكنهم فوجئوا بالقيادة الإسلامية الأُولى تعلن عن القيادة الإسلامية التي ستخلفها في حفظ الدين والقيام على التجربة الإسلامية ، وتوسيع مجالها ، وتعميق الجانب التربوي في حملتها .. ».

ـ « وإذا بالقيادة النبويّة التي ظنّوها ستنتهى تعلن عن الإمامة التي هي

٤٦

الامتداد الطبيعي لها حتّى صارت تلقي الكفار في وهدة اليأس من الظفر والعمل على تحطيم الدين ، وذلك حين رأت القيادة الشخصية تسلم الأمر إلى القيادة النوعية المتمثلة في الأئمة المعصومين؟ ».

ـ « بالضبط! ».

بينما تابعت كلامها وهي تقول :

ـ « ولا ريب في أنّ هذه العملية التاريخية تستحق أن تكون إكمالاً للدين بالضرورة ، وذلك بعد أن انتقلت بالإسلام من حالة الحدوث إلى حالة الاستمرار والبقاء ، ليقوم بدوره التاريخي العظيم في مجال ايصال البشرية إلى كمالها المنشود ».

ـ « إنّك ترمين إلى قول مفاده : إنّ قضية الإمامة والولاية هي الضمان الأوّل لاستمرار التجربة الإسلامية الكبرى ، وبتعيين الإمام تكمل الأُطروحة الإسلامية للحياة الإنسانية ، وبه تتم النعمة ويرضى اللّه الإسلام ديناً خالداً للبشرية ».

ـ « وبالتمام والكمال ، فإنّ محصل معنى الإية هو التأكيد على يأس الكفار من الدين في يوم الغدير ، حيث أكمل اللّه للأُمة دينها بفرض الولاية والإمامة ، وأتم عليها بذلك النعمة ، ورضي لها الإسلام ديناً. ومثل هذا التفسير لا يمكن أن يشكل عليه بأي إشكال ».

ـ « لكن هذا الرأي لا يؤيده أهل السنّة ».

ـ « اذن ، لا بد من الرجوع إلى الآيات والروايات لإثباته ، ونفي أي تفسير غيره. إنّ ما يهمنا هو روايات أهل السنّة ، فإنّ هناك من السنّة من يقول بأنّ المراد بهذا اليوم هو يوم عرفة من ذي الحجة من تلك السنة ، مستدلاً بروايات تنتهي

٤٧

إلى علي ومعاوية وسمرة وعمر ».

ـ « وعليه ، فإنّ الرأي مدحوض ».

ـ « لا تستعجل. فإنّ من الغريب جداً أن نجد البعض من أهل السنّة يعرضون عن روايات مستفيضة لديهم ، تصرح بأنّ الآية نزلت يوم غدير خم في إمامة علي بن أبي طالب. بينما تراهم لا يتعرضون لها ، وكأ نّها ليست بمستفيضة لديهم. وهذا إن دلّ على شيء ، فإنّما يدلّ على عدم موضوعية ، وتحيّز سافر وعناد ليس تحته أي طائل ».

ـ « فهل ثمة من ينقل .. أو هات بعضاً مما لديك من هذه الأخبار التي عبّرت عنها بالمستفيضة؟ ».

ـ « نعم ، نقل صاحب الدر المنثور ، وصاحب روح البيان ، روايتين من الروايات الدالة على أنّ الآية نازلة في الغدير ، ولكنهما وصفا الروايتين اللتين تنتهيان ( وانظر إلى السند ) إلى أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، بالضعف السندي. فأي عجيبة هذه! ».

ـ « وحقيقة الأمر؟ ».

ـ « حقيقة الأمر أننا لو تدبّرنا قوله تعالى : ( يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) ، والروايات الواردة في سبب نزوله ، وتأملنا قوله تعالى : ( اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... ) إلى قوله تعالى ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً ). والروايات الواردة في سبب نزوله أيضاً ، والتعارض الذي يتراءى فيها ، ولاحظنا الروايات الواردة في قضية غدير خم الكبرى ، وركّزنا على الأوضاع الداخلية للمجتمع الإسلامي آنذاك ، أي في أواخر عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودور الكفار ومؤامراتهم وحقدهم الذي تعبر عنه الآية القرآنية في سورة الأنفال ، على

٤٨

لسانهم : ( وَإِذْ قالُوا اللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذاب أَلِيم ) ».

ـ «؟!».

ـ « حيث نجدهم يطلبون العذاب على فرض كون النبيّ على حق ، وهو منتهى العناد ، وعظيم الوقاحة والتحدي للرسول نفسه ومن ثُمّ لوم اللّه ذاته على إنزال مثل ذلك فيما لو كان هو الفاعل ( وحسب ما يتصورون ) وما كان كُلّ هذا التحدي إلاّ مصداقاً لعدم التصديق بالرسول نفسه ، وتكذيباً له ، لأ نّه فيه اقرار بضرورة الرجوع إلى الأصل وهو اللّه وسؤاله عن حقيقة ما يقوله الرسول! لأ نّهم ما كانوا يرغبون بأن يمطر اللّه عليهم حجارة من السماء وذلك على وجه الحقيقة والتأكيد ، إلاّ أنّ مثل ذلك ما كان ليمثل إلاّ لوناً من ألوان التمرد الصريح والتمهيد لعملية انقلابية خفية! ».

ـ « كأنّها آية سأل سائل! ».

ـ « لا ، ولكن هو منتهى الطغيان والتكبر الذي تعبّر عنه آية أخرى ، هي هذه الآية نفسها : ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذاب واقِع ) ، الواردة في سورة المعارج : ١. وذلك على ضوء الروايات الواردة في سبب نزولها .. إذا لاحظنا كُلّ هذا قطعنا وعلمنا بأنّ أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير ، ويكون هذا شاهداً موثقاً لهذا الجمع ».

٤٩
٥٠

الفصل الخامس

وجاء اليوم الذي تعرّفت فيه إلى طلال عبد الواحد

إنّي لا أبحث عن مجد ، ولا كنت أفكر في اعتناقي لمذهب الشيعة ، غرضاً مني للمباهاة والافتخار ، وذلك لأنّي أرغب مثلاً أن أُثبت لأُسرتي وأهلي وأهل نحلتي ، إنّي قد شببت عن الطوق ، واستطعت أن أقرر وأصمم من دون الرجوع إليهم .. كذلك ما كنت قد قررت ومن دون اللبث والتفكير بعدم اتخاذ مثله حتّى أرجع وأشاورهم في الأمر ، وأنظر ماذا يرون؟ وإذا امتنعت عليّ المقادير دون أن أراهم وأساجلهم الحديث ، وأطارحهم بألوان المقال ، كان ليعزم من هو مثلي على ترك الموضوع والوقوف على الأعراف ، ريثما يلتقي بأحد أهليه ، واحد علماء دينه ، كيما يسعفه وينجده ، من بعد أن يدله ويرشده أي الطريقين أصح ، وأي منهما يمكن له أن يسلك!

لقد ناطحتني هذه السنين ، ولعلها أرتني ما لم أره طيلة أيام حياتي. لقد شعرت أنّي أسير في الطريق الصحيح .. إلاّ أن عليَّ أن أواصل المسير كيما يطمئن قلبي .. أشعر بأن للشيعة دور مهم في تصفية مقالة أيامي وكبح جماح تهوراتي العقائدية الماضية .. ولكن كيف؟ ولم؟ ولماذا؟ وهل أهلي وأقربائي وعلماؤنا كُلّهم كانوا عن اللغو غير معرضين .. والآن غدوت أنا الآن عنه معرضاً .. لأنّي صرت أفحص وأمحص الأشياء ، وأحاول تسلق جدران العلوم الحقيقية بعين مدركة ونفس راضية .. إلاّ أنّي بدأت أشعر بتعب مبرح ، وألم

٥١

محرق ، إنّي أشعر بالوحدة ، إنّها مرض لا يطاق ، إنّها حالة يرثي لها صاحبها .. ولكني سعيت إلى الاستعانة باللّه كيما يساعدني على تحملها ، والخروج من هذه المحنة بأفضل نتيجة ، يمكن أن يبشر اللّه بها الصالحين من عباده في الدنيا والآخرة ..

كنت أفكر أنّها لماذا عندما نختار شريكات أعمارنا ، ونقرّر أمر زيجاتنا ، فإنّا لا ندع لأحد أيّما فرصة كيما يغمرنا بفيض آرائه ، ويقتحم علينا خلواتنا ، نحسب أنّه يضايقنا بنظراته ، حتّى إنّا سنباغته ونعاجله في حينها ، ونخبره بأ نّا قد غدونا أحراراً ، ولسنا نذعن لأيما مراد أُسَري أو غاية عائلية. وأنّ ما نقرره في أمر الزواج هو أمر يتعلق بنا وحدنا ، لأ نّا لا نرتضي أن نخضع إلى اختيارات الآراء في ابنة العم وابنة الخال وغيرها ، ونتزوج من هذه دون تلك وأن أنصرف عن هذه المرأة ، وأبتعد عن تلك الزيجة ، وعليك بفلانة ، وانكح ابنة فلان ، وتزوج من تلك! ولئن لم تقلع لنرجمنّك واهجرنا ملياً .. فما كان إبراهيم ينتظر رأي أبيه العرفي آزر الذي كان يمثل عمّه نسبياً ، حتّى يقرر الإذعان لمن خلقه وخلق أباه كذلك والخلق أجمعين من قبل. ولا كان للسحرة كذلك أن يستأذنوا فرعون في الإعلان عن إيمانهم لموسى ، لأن كلمة الحق أمر ناصلٌ ، ليس من ثبات عندها إلاّ لكوكبة شعاعاتها وخضراء أفلاكها القويمة .. ولا ينتظر بعدها من أيّما امرئ أن يتعرض إلى هجمات الأعداء وسطو الغازين وضرب المعتدين الذين يحملون عليه في حريم ضياعه ، يباغتونه في عقر داره ، يريدون قتله ، وانتهاك حرماته ، وسلبه كُلّ ما يملك حتّى نفسه ونفوس من هم تحته إلاّ أن يهب مذعناً لنداء الجهاد ، ملبياً عنوان الإرادة الحقة التي تسحق كُلّ جبن أبكم وتخرس كُلّ ضعف ووهن في نفسه ، حتّى يهب صارخاً

٥٢

بوجوههم دون الانتظار لأمر الجهاد أو فتوى الدفاع ، لأن الظلم قد وقع عليه ، والاجحاف قد تمكن منه. ولقد ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ .. ) لأ نّهم شهدوا على واقع الحال أكثر من غيرهم ، وقاسوا من ضروب المحن أكثر من غيرهم ، عرفوا منهج الحق أكثر من غيرهم .. أو وقعوا تحت ضغط وقائع غالباً ما كان لها أن تبعث بأحدهم إلى التفكير بضرورة اللجوء دوماً إلى الحق ، وإلاّ ما كان لهم أن يصيروا من ضمن أولئك الذين كانوا في البحر حتّى إذا ما دعوا اللّه مخلصين ، فأنجاهم إلى البر ، إذا هم معرضون من جديد .. فكانت مثل هذه الشهادة خليق بها أن توقع في قلبي آيات الخوف والهول حتّى جاء اليوم الذي كنت قد تعرفت فيه إلى طلال عبد الواحد. كان هذا الأخير شاباً متفتحاً ، ذا هيبة ووقار ، يملؤه الاعتزاز بما يعتقد ، بل إنّ من مثله كان ليكون أقرب إلى الآخرين من نفسه ، لأنّي شعرت به كان يحاول أن يقرّب مثل هذه المسائل إلى أذهان العموم .. وليس هو من أولئك المتحجّرين الذين لهم أن يُملوا أفكارهم على الآخرين عنوة ، ويغرونهم بكُلّ وسيلة واُخرى ، كيما يتلقوها عن إذن وهم صاغرون .. وبالرغم من كُلّ تطلعاتهم الخاصة ونواياهم الشخصية ..

جلسنا إلى المائدة سوياً .. تناولنا طعام الغداء ، تكلمنا حول أشياء مختلفة ، شغلتنا أُمور عديدة ، كان منها ملذاً للسامع وكان غيرها مثيراً للضجر .. هكذا أحسست ، وإذا بي أنا نفسي أقود به إلى ما كان يريد أن يستمعه منّي. ففجأته وراح يتفرس في تقاسيم وجهي ، وكأ نّه يحاول أن يكتشف أيّما رجل أنا؟ أنا الذي أحاول تلقاء نفسي أن أبحر في مثل هذا البحر ، بينما كان غيري ربما فرّ من المجازفة أو المغامرة في الخوض عبر عباب مثل تلك

٥٣

الأمواج المتلاطمة .. ولما آنس في نفسي كُلّ طلاقة وشغف .. اتسق له المقام ، وسهل عليه المقال ، نظر إليّ بإمعان. كان ناظراه جعلا يطوّفان في ماضي وجودي كلّه ، إذ لم يتوقع منّي كُلّ هذا الاصرار ، حتّى ظننت أنّي أطوف في مروج كُلّ أيّامي .. لأ نّي أحسست أن مثل هذا الشخص يمتلك من العزم ما يرسخ في جبين الذاكرة .. لا لأ نّه كان قد استبصر في السابق ، بل لأن خلقه كان له أن يذكرني بما يطالبه أئمة الشيعة من مواليهم أنفسهم أن يكونوا عليه ويتخصلون به من خلق ولياقة .. حتّى يكونوا زيناً لهم ، ولا يصيرون بعد ذلك شيناً عليهم ، ليتمكن الرائي أو أيّما جليس يقاسمهم ساعات النهار أو الليل ، أن يقول في نفسه رحم اللّه جعفر الصادق ، إنّه قد هذّب شيعته فأحسن تهذيبهم. ومن بعد مناقشات عدّة وفدت إلى واحة أُخرى من هذه المباحثات حتّى طفق يبتدرني بالسؤال :

ـ « هل يمكنك أن تخبرني عن الأمّة التي جعلها اللّه وسطاً ، من يا ترى تكون هي؟ ».

تمهلت قليلاً قبل الإجابة ، حاولت الاحتراس أكثر من توطين النفس على العجلة دون التريث لغاية تحمد عقباها ، هجست أنّي قبالة سؤال لا يحتمل كُلّ هذا الاجفال بل هذا الترديد ، فسارعت إلى التعبير :

ـ « وما يمكن أن نكسب من هذه المعادلة؟ ».

ـ « ما يمكننا أن نكسبه من القرآن نفسه! ».

سارعت إلى مساءلته وأنا أحاول استفزازه أكثر من أيّما لحظة سبقت :

ـ « إلى مثل هذا الحد يمكنك أن تجازف في القول! ».

سألني كأنّه يحاول انتهاز الفرصة تلو الأُخرى ، كيما يسلقني بلسان ذرب ،

٥٤

تفنن في التقاط عجزه وشطره ، كيما يوجه دفة مركبه نحو جهة لم يسبق أن أعلن عنها حتّى حين استدارتها أو أنّه صار يحرك بمقبض عجلته الدوّار ، لينقل عربته إلى أيّما نقطة يحب أن ينقل إليها ناظري قعيده الذي غامر باجلاسه إلى جانبه .. ومن دون أن يدري هذا الجليس كيف فعل كُلّ ما فعل ، لأ نّه كُلّما أراد منه شيئاً انتزع منه رؤوس حلول مغرم كان هو بسماعها حتّى إذا ما تناولها عاجله بالانتقال إلى واحة أُخرى لا تتيح للجانب الآخر أن يستمع إلى جواب سؤاله التقليدي :

ـ « هل يمكن لك أن تتلو عليّ آية الشهادة؟ ».

استغربت هذا السؤال ، وعجبت من مفاده بل من منطوقه .. فأيّة شهادة هذه التي يزعمها ، وأيّة آية هذه التي يروم البحث في موادها .. إنّه يغريني بالعبث بكُلّ أرصدة ذاكرتي العلمية .. بل يتحرى كُلّ قواعد اللعبة. سألته أنا الآخر ، انشأت أحب أن أواجهه بنفس أسلوبه .. فإذا ما سألني عمدت أنا الآخر إلى توجيهه نحو المعلم الذي ما أُريد لعدسات أحداقه أن تبارحه حتّى أُجيز لها مثل ذلك ، قلت له :

ـ « لم أسمع بهذا التبويب والتسميات من قبل؟ ».

قال وإثر ابتسام في محياه ، لم يكن ليختمر بعد في صدره :

ـ « أعود أسائلك أنا الآخر : ما كنت قد سألتك عنه قبل لحظات ، فهلا عرفتني بهوية الأمّة التي يمكن أن نطلق عليها أُمّة وسطاً ».

قلت في نفسي :

ـ « إما أن تكون الأمّة الإسلامية أو تكون غيرها .. ولكن يبدو أنّه يراوغ في سؤاله .. بل إنّ مثل هذا الجواب ليثير أفكاره حتّى يعتقدني أبلهاً ليس

٥٥

يدري سوى أن يجيب بكُلّ الأجوبة على سؤال واحد لا يتطلب سوى جواب واحد. فقلت له :

ـ « لا أدري! ».

ـ « جميل جداً. والآن هل يمكنك أن تتلو عليّ آية الشهادة؟ ».

ـ « عدنا من جديد! ».

ـ « اذن دعني أتلوها عليك أنا : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً .. ) ».

قاطعته وأنا كالمستغرب :

ـ « قد سمعت هذه الآية إلاّ أنّي لم أسمع باسمها .. ».

ـ « حالك كحال من رأى الشخص الفلاني ولم يسمع باسمه ، فلمّا يحدثه أحدهم ، ألم تر فلاناً ، يقول : لا أعرفه. غير أنّه ما كان ليعرفه إلاّ بسيماه وما عرفه باسمه ».

ـ « كذلك فإنّ الأمّة الوسط لم تخطر ببالي أبداً كذلك .. مع أنّي قد قرأت الآية عدة مرات ».

ـ « وهذا هو حالنا مع المذهب .. والاعتقاد ».

ـ « ماذا تعني ..؟! ».

ـ « إنّنا عندما نتعرف على الحقيقة ، نحدث أنفسنا بأ نّه وكأ نّا كنا على معرفة بها في السابق ، إلاّ أنّ للذاكرة ساعات وهن ، وللابصار اكتحال فرص في غير أوانها ».

ـ «؟!».

ـ « فإنّك حينما ستتعرف على المذهب الشيعي أكثر فأكثر ، ستقول : هذا ما

٥٦

أطالب القوم بالإيمان به ، أنّي من حيث أشعر ولا أشعر ، كنت أُهيب بكُلّ من حولي أن يحمل ما يحمله الشيعي .. وما كنت أظنه يحمل مثل ذلك ».

ـ « كشخص لم تتعامل معه من قبل ، إلاّ أنّك دائماً تصادفه في الطريق ، ومن دون أن يحصل أيّما تماس لغوي بينكما .. إلاّ أنّك كنت تحمل عنه صورة وانعكاساً قبيحاً حتّى إذا ما تعرفت إليه وجدته على عكس ما تخيلته وبالضبط. وبالطبع ، لا تنسى .. فإنّ لمثل هذا أن يكون بمعزل عن القاعدة التي يمكن أن يلوح مفادها كذلك : فما تآلف من القلوب في عالم الخلق الأوّل تآلف في عالم الخليقة ، وما تنافر منها ثمة تنافر كذلك في الدنيا ».

بينما شرع يتابع الحديث ، وبمطلق إرادته ، وكأ نّه قد أصر على أن يربح جولة يسائله اللّه عن نتائجها فيما بعد :

ـ « لقد قيل : إنّ ظاهر المراد من قوله : ( وكذلك .. ). ( أقصد : الواردة في آية الشهادة ) أنّه تحويل القبلة لغاية الهداية إلى صراط مستقيم .. فجعلناكم أُمّة وسطاً ، لتحقق الشهادة. لكن لا يبعد أن تكون الواو هنا للاستئناف ، وأن تكون ( كذلك ) : كلمة يراد بها تثبيت الخبر على عكس ما تفيده لفظة : كلا ».

ـ « لا بدّ أنّك قد درست علوم اللغة ».

ـ « ليس بالضرورة أن أشغل عمري بها ، إلاّ أنّي أعتبرها ضرورة لازمة بالفعل ، حتّى إنّه وحين يئين لك أن تطالع أبحاثاً في كتب المفسرين التي لا تقوم أوّل ما تقوم إلاّ على فهم اللغة فهماً دقيقاً ، والإمعان في ألفاظها حتّى يتحقق غرضهم في إنشاء تفاسيرهم الصحيحة ، ولا يختلط عليهم ميدان العمل بمفردات الآيات » ..

ـ « والوسط ماذا تعني؟ ».

٥٧

ـ « الوسط : ما له الطرفات أو الأطراف ، ويستعمل بمعنى العدل ، لأنّ الوسط هو أعدل ما يكون من الشيء وأبعده من الانحراف. وبعبارة أُخرى : لأنّ العدل متوسط بين التفريط والافراط. ويقرب منه استعماله في معنى الخيار. وكيف كان فهو صفة للشيء بالقياس إلى الغير ».

ـ « والشهادة؟ ».

ـ « الشهادة والشهود : الحضور مع المشاهدة بالبصر أو بالبصيرة. يقال : شهد المجلس : حضره واطلع عليه. والمستفاد من موارد استعمال هذه المادة اشرأب معنى التطلع والاشراف فيها في كثير من الموارد. فيفيد معنى الرقابة والنظارة ، فيستعمل مع لفظة ( على ) الاستعلائية. ومنه ما تكرر في القرآن الكريم من اطلاق الشهيد على اللّه تعالى ، مثل قوله سبحانه في سورة البروج الآية ٩ : ( واللّهُ عَلى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ ) ».

ـ « والأهم من كُلّ هذا ، هو : الأمّة الوسط؟ ».

ـ « وغير خفي على الناظر في الآية ، إنّ وصف الأُمّة بالوسطية تكريم لها ، وتعظيم لشأنها ، ومنّة من اللّه سبحانه عليها ، وأن غاية هذا الجعل كونهم شهداء على الناس ، وكون الرسول عليهم شهيداً ».

ـ « هل تعني أنّ الشهادة المذكورة هي ما كانت إلاّ علة غائية للجعل المذكور ، متفرع عليه نحو تفرع الغاية على ذيلها ».

فقال لي وهو ينظر بحبور وابتسام :

ـ « هذا كُلّه مما لا ريب فيه ، وإنّما الكلام هو في ما هو المراد من كونهم وسطاً وفي ارتباط الشهادة به. فقد قيل : إنّ المراد هو كون هذه الأُمّة على النهج الأوسط المعتدل ، فلا إفراط ولا تفريط ».

٥٨

ـ « وهل يمكن أن يرجع إلى هذا القول ما قيل من أنّ اللّه سبحانه أقام في دينه توازناً بين متطلبات الروح ومتطلبات البدن تحقيقاً للواقعية الكاملة ».

ـ « بالضبط! ولذا ، فإنّ هذه الأُمّة تشكل النموذج الكامل الذي يشهد على الماديين المفرطين بأ نّهم عطّلوا الجانب المعنوي الراقي في الوجود الإنساني ، وأخلدوا إلى البهيمية ».

ـ « كما يشهد على أولئك الذين أغرقوا في الجانب الروحي ، فخرجوا عن صراط الاعتدال وراحوا إلى الرهبنة المقيتة ».

ـ « وعليه ، فتكون هذه الأُمّة مثلاً أعلى للناس ، كما أنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المثال الأكمل لهذه الأُمّة.

ـ « ولي أن أرى أنّه ليقرب من هذا الرأي ، ما تفيده آية أُخرى ».

ـ « أجل ، فإنّه قد قيل بأنّ هذه الآية تؤدي ما بينته الآية الكريمة الأُخرى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ) (١) .. فهذه الأُمّة المسلمة هي أسمى أُمّة وأكملها ، وهي واسطة العقد بين الأُمم ».

ـ « وهل ثمة آراء أُخرى حول هذا المطلب؟ ».

ـ « لقد قيل بأنّ المراد هو جعل هذه الأُمّة حجّة ومناراً للخلق ، فهي تبلغ أحكام الإسلام ، وتعلم الناس سبيل الكمال. كما أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة عليها ، إذ تؤخذ معالم الدين منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بينما يأخذ الناس منها هذه المعالم السامية ، فتكون حجّة عليهم حتّى تصير وسطاً بينهم وبينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّه وسط بين الأُمّة وبين اللّه تعالى ».

____________

(١) آل عمران : ١١٠.

٥٩

ـ «؟!».

ـ « وقيل : إنّ هؤلاء المخاطبين جعلوا في منزلة الوسط والاعتدال تكويناً ، ليقوموا بمهمة الإشراف على الناس ، ومراقبة أعمالهم وأقوالهم ، بل والإشراف على مبادئ نياتهم. وبذلك يتحملون الشهادة ليؤدوها يوم القيامة ».

فتابعت حديثه ، وكان يهتم بما أقول ، وكأ نّه يشعر كيف أنّي قد صرت أُجاذبه الحديث في آية كنت أجهل اسمها :

ـ « إلاّ إنّي أرى أنّه ومهما كان مبلغ ما قيل ، أو يقال من الصحة ، فإنّه من غير المشكوك فيه أن وصف : الوسطية السامي ، إنّما هو للخواص من الأُمّة ، دون من ينتحل الإسلام ، ولا يفهم منه إلاّ لماماً. أو هو أشقى من غير المسلمين ، بل قد يكون أشقى الآخرين كما جاء في بعض الروايات ».

ـ « صحيح ، فإذا وصفت الأُمّة بأ نّها : الأُمّة الوسط ، فإنّ ذلك على أساس وجود من يتصف بهذا الوصف العالي فيها ، وذلك على حد قوله سبحانه وتعالى موجهاً الخطاب إلى بني اسرائيل : ( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) (١). وقوله تعالى : ( وَأنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ ) (٢). رغم أنّ الملك كان واحداً في كُلّ عصر ، وأنّ الأفضلية على العالمين كانت لخصوص فئة متفردة منهم ».

عندها استدركت كلامه ، وأنا أقول :

ـ « ومثله قوله تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (٣) .. بالرغم أنّ فيهم المنافقين والفاسقين ».

____________

(١) سورة المائدة : ٢٠.

(٢) البقرة : ٢٧.

(٣) الفتح : ٢٩.

٦٠