وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

ـ « أجل ، فهناك شبهات أذكرها ، ثُمّ أعقبها بما يناسب المقام من الردّ ».

ـ « هاتها؟ ».

ـ « فالشبهة الأُولى : هي منافاة السياق لهذا التفسير ، فإنّ هذه الآية وردت في سياق نهي المؤمنين عن ولاية اليهود والنصارى والمسارعة إليهم خشية أن تصيبهم دائرة ، وهذه الولاية هي ولاية النصرة والمعونة ».

ـ « ووحدة السياق؟ ».

ـ « لذا ، فإنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد بولاية اللّه تعالى ورسوله والذين آمنوا هو ولاية النصرة والمعونه أيضاً ».

ـ « والجواب؟ ».

ـ « الجواب عليها يشتمل على : أولاً : فإن وحدة سياق هذه الآية مع التي تسبقها غير محرزة ، ذلك أن ظاهر جل الروايات هو نزول هذه الآية بمفردها لا في سياق ما قبلها ، فلا يمكن التعويل على السياق. على أن الأدب القرآني لا يناسب عدّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناصراً للمؤمنين ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الأصل في كُلّ كرامة ، وكذا من هو في حكم الرسول ».

ـ « وثانياً؟ ».

ـ « أما ثانياً : فإننا إذا تصورنا الولاية طبق ما سبق لم نخرق السياق على فرض وجوده ، لأنّ مخالفة السياق إنّما تأتي إذا افترضنا تعدد معنى الولاية وكونها تأتي بمعنى النصرة تارة ، وبمعنى تدبير الأمر أُخرى بحيث يكون اللفظ مشتركاً لفظياً بين المعنيين ، وقد علمنا سابقاً أنّ الأمر ليس كذلك ».

ـ « وعليه؟ ».

ـ « وعليه ، فإنّ الآيات السابقة لهذه الآية تنهى عن الركون إلى أهل الكتاب

٢٠١

والتقرب إليهم رجاء عونهم وابتغاء العزة من قبلهم وخشية صولتهم ، وتعلن أنّ تولي هؤلاء لا يغني من اللّه شيئاً ، فعسى أن يأتي اللّه بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما فعلوا نادمين ».

ـ « ... ».

ـ « فالعزّة للّه جميعاً ، وها هو قد جعلها لرسوله وللمؤمنين ، وضمن لهم النصر والغلبة ، وأكد على أنّ جند اللّه لهم المنصورون ، وأنّ حزب اللّه لهم الغالبون ، وأنّ أعداءهم هم المهزومون ، لأ نّهم يتولون الشيطان ويسلمونه أزمتهم ، وأنّ من يتولى أهل الكتاب فإنّه منهم ».

ـ « ».

ـ « .. وكيف يمكن تولي قوم اتخذوا الدين هزؤاً ولعباً وقد غضب اللّه عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير؟ وكيف يمكن للمؤمنين أن يتولوهم ويقيموا أواصر المودة ويستنصروهم وهم الأعداء الألداء؟ ».

ـ « فالولي المطلق هو اللّه تعالى؟ ».

ـ « فإذا لم يكن للإنسان بدّ من اتخاذ ولي ينظر في أمره ويصلح شأنه وينصره على أعدائه ، أو فقل : يسد حاجاته إلى القيادة في مختلف الأُمور ، فليكن اللّه تعالى هو الولي : وما لهم من دونه من ولي ولا نصير ، ذلك أنّ اللّه هو المطلق الكامل القادر على تحقيق كُلّ ذلك ومنح الأُمّة النصرة ، ومن هنا كان الدخول في حزب اللّه واعتناق ولايته هو الطريق الوحيد للعزة والكمال ».

ـ « وبعدئذ لتصير حالات اشتقاق من ولايته المطلقة! اليس كذلك؟ ».

ـ « فمن ظلال ولاية اللّه تعالى ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلفائه ، لأ نّهم المعينون للقيام بأمر الناس بإذن اللّه ، وهم الذين يهدون بالحق ويحكمون بالقسط ، وبهم

٢٠٢

يجمع شمل الأُمّة ، وتتحد كلمتها ، وتقوى أواصرها ، وباتباعهم تسير الأُمّة سيراً سجحاً نحو الغاية والعزة بالدخول في حزب اللّه ( أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ».

ـ « والحاصل؟ ».

ـ « لهذا ، فحتّى لو قبلنا وجود سياق من هذا القبيل فإنّه لا يعني ولا يلزم بأن يكون القرب الواجب تحصيله من الذين آمنوا هو نفس القرب المنهي عنه من أهل الكتاب ، بحيث لا يتصور أي اختلاف بحسب المراتب والمزايا ».

ـ « فيكفي إذن ـ للاحتفاظ بوحدة السياق ـ أن يكون المعنيان مشتركين في أصل القرب والاتصال الذي يستتبع نوعاً من التصرف والتدخل في الأُمور ».

ـ « بالتأكيد ، وهذا المعنى المشترك متوفر في ولاية الكفار بنحو بسيط ، في ولاية اللّه تعالى بنحو حاد شديد : ( هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلّهِ الْحَقِّ ) ».

ـ « وخلاصة الأمر؟ ».

ـ « خلاصة الأمر ، هي أنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين عن التقرب إلى الكفار التودد إليهم وأمرهم بالتقرب إليه تعالى وإلى رسوله ومن هو بمنزلته. وليس التقرب إلى الكفار إلاّ بعقد المعاهدات الودية وتوثيق العلاقات المتبادلة ».

ـ « أما التقرب إلى اللّه تعالى فكيف يكون؟ ».

ـ « إنّه لا يكون إلاّ بالتسليم المطلق لقضائه التكويني وأوامره التشريعية والعمل بها ، والاتكال عليه وطلب العزة منه ، كما أنّ التقرّب إلى الرسول يتم بقبول رسالته واطاعته في ما بلغه عن اللّه وما أمر بإذن اللّه ، هكذا يكون التقرب إلى ولاة الأمر بطاعتهم والانضواء تحت لوائهم ، عدم الاستقلال في الأُمور

٢٠٣

دونهم ».

ـ « وكُلّ هذه الأُمور تطبيقات للولاية؟ ».

ـ « نعم! ».

ـ « واختلاف الأحكام في هذا التطبيق عنه في غيره؟ ».

ـ « هو ناتج من اختلاف من تكون له الولاية ».

ـ « ومن يمكنه أن يعيّن هذه الخصوصيات؟ ».

ـ « إنّ الذي يعيّن هذه الخصوصيات هو الفهم العرفي لما تقتضيه المناسبات والقرائن ».

ـ « وما هي الشبهة الثانية؟ ».

ـ « أمّا الثانية فهي : أنّ التعبير عن الواحد بلفظ الجمع خلاف الظاهر ، وهو أمر يستلزمه هذا التفسير المذكور ».

ـ « وجوابها؟ ».

ـ « جوابها : أنّه يجب أن نميز بين استعمال لفظ الجمع في المفرد وبين انطباق العنوان الجمعي على الواحد الذي تحقق من أفراد العنوان الجمعي مع إمكان انطباق هذا العنوان على أفراد آخرين يفرض تحققهم ».

ـ « كيف؟ ».

ـ « فلقد ورد في الآية السابقة لهذه الآية قوله تعالى : ( يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) .. مع أن القائل ـ على ما رواه القوم ـ هو عبد اللّه بن أبي ، ولم يقع هذا التفسير موقع الإشكال من قبل أحد. كما أنّهم رووا في قوله تعالى : ( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ). إنّ القائل هو عبداللّه بن أبي أيضاً ، وكذلك في قوله تعالى : ( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ). إنّ

٢٠٤

المراد هو حاطب بن أبي بلتعة وقد ذكر في ( الغدير ) عشرين مورداً من هذا القبيل ، فيمكنك مراجعة ( ج ٣ ، ص ١٦٣ ـ ١٦٧ ) ».

ـ « وبماذا يمكن أن يتميز هؤلاء الذين رووا تلك الروايات؟ ».

ـ « إنّ ما يمكن أن يلاحظ وبوضوح ، هو أنّ الذين رووا تلك الروايات التي مرت كان جلّهم من العرب العرباء الذين لم تختلط لغتهم بعد ، وأ نّهم نقلوا تلك الروايات بدون أي ارتياب في انطباق عنوان ( الذين آمنوا ) هنا على الإمام علي عليه‌السلام .. مما يجعلنا نعرض عن تشكيكات البعض ممن اختلطت لغتهم العربية أو من حذا حذوهم من غير العرب ».

ـ « وما هو السر في الاتيان بلفظ الجمع في هذه الموارد دون تعيين الشخص؟ ».

ـ « هه ، فلعل السر في الاتيان بمثل هذا اللفظ الجمع ، وفى كُلّ هذه الموارد دون تعيين الشخص ، هو التنبيه على عدم انحصار الملاك في القائل الخاص أو الفرد المتحقق بالفعل ، وإمكان تحقق أفراد آخرين معه أو بعده ».

ـ « والوضع العام هل يحكم بمثل ذلك؟ ».

ـ « على أنّ من يدرس الوضع العام والجوّ الذي نزلت فيه الآية يمكنه أن يلاحظ أنّ تخصيص الذكر بالإمام عليه‌السلام يتضمن ـ في ما يتضمن ـ تهييجاً للاضغان الكامنة وإثارة للحمية الجاهلية وللتقولات الباطلة ، بخلاف ما لو ذكر بعنوان جمعي يرجى معه تحقق أفراد كثيرين له ».

ـ « والشبهة الثالثة؟ ».

ـ « كيف اعتقدت أن ثمة شبهة ثالثة؟ ».

ـ « ... ».

٢٠٥

ـ « أجل ، فأمّا الثالثة ، فإنّ ما يظهر من الآية عند اطلاقها وصف : أُولي الأمر ، هو فعلية هذا الوصف ، مع أنّ علياً عليه‌السلام لم يكن في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولي الأمر فعلاً ».

ـ « والإجابة عليها؟ ».

ـ « أما الإجابة على هذه الشبهة ، فهي تكمن في ملاحظة إثبات الآية الشريفة للولاية بلفظ المفرد ( وليّكم ) للّه تعالى ولرسوله ولمن يليه ، وذلك يعني أنّ هناك ولاية أصيلة واحدة هي للّه تعالى ، أما ولاية الرسول وأُولي الأمر من الأُمّة فهي من توابع تلك الولاية الإلهية ، ومع هذا فتكفي أن تكون الولاية الأصيلة فعلية ».

ـ « وكيف لنا أن نستظهر الفعلية؟ ».

ـ « إننا ، وإنّما نستظهر الفعلية فيما إذا كان الحكم قد جيء به على نحو القضية الخارجية ، أي يراد اثباته لموضوع خارجي متحقق بعينه فعلاً. أما لو كان الحكم قد جيء به بنحو القضية الحقيقية التي لا ينظر فيها إلى تحقق الموضوع خارجاً وإنما يفترض وجوده ، فلا تستظهر الفعلية من ذلك الحكم في هذه الآية على نحو القضية الحقيقية لا الخارجية ».

ـ « وهل من رابعة؟ ».

ـ « أجل فالشبهة الرابعة هي تلخص في أنّ اطلاق لفظ ( الزكاة ) على الصدقة المندوبة هو خلاف الظاهر ».

ـ « ».

ـ « وهذه الشبهة هي أهون الشبه فإنّ الزكاة المصطلحة في عرف المتشرعين إنّما هي اصطلاح مستحدث ، في حين استعملها القرآن بمعناها اللغوي العام

٢٠٦

جرياً على ما يقتضيه عرف المحاورة ».

ـ « ولكن وحسبما يحتفظ به ذهني ، فإنّ الزكاة قد استعملت كثيراً ومن قبل أن تشرّع! أليس كذلك؟ ».

قال :

ـ « صحيح ، ولقد استعمل لفظ الزكاة كثيراً قبل أن تشرع الزكاة المصطلحة عندنا ، فقال تعالى : ( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيّاً ) مريم : ٣١. قال تعالى : ( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ ) الأنبياء : ٧٣ وغير ذلك. ولا شك في أنّ المراد بها هو مطلق الإنفاق لوجه اللّه تعالى ».

ـ « ».

ـ « والشبهة الخامسة؟ ».

ـ « الشبهة الخامسة! ..؟ ».

ـ « وهي أنّه : لماذا لم يحتج الإمام علي عليه‌السلام بها؟ ».

ـ « صحيح؟ ».

ـ « انتبِه قليلاً ثُمّ تبيّن! فلقد قال الرازي بعد كلام طويل له خرج فيه عن حد الخلق والانصاف : ولو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتجّ بها. ليس للقوم أن يقولوا إنّه ترك للتقية ، فإنّهم ينقلون عنه أنّه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير والمباهلة وجميع فضائله ومناقبه ، ولم يتمسك البتة بهذه الآية ».

ـ « والجواب؟ ».

ـ « وجواب هذه الشبهة : أنّ علياً كان قد احتج بهذه الآية مراراً ، فقد روى أصحابنا ـ رضي‌الله‌عنهم ـ في حديث مناشدته لأبي بكر أنّه قال : فأنشدك باللّه ألي الولاية من اللّه مع رسول اللّه في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال : بل لك ، وفي

٢٠٧

حديث مناشدته يوم الشورى : فهل فيكم أحد آتى الزكاة وهو راكع فنزلت فيه : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ ) .. غيري؟ قالوا : لا ».

ـ « أين ذكرت مثل هذا الأخبار؟ ».

ـ « لقد ذكرت في غاية المرام : ص ١٠٨ ».

ـ « عمّن وردت؟ ».

ـ « عن ابن بابويه بإسناده عن أبي سعيد الوراق ».

عندها قلت له :

ـ « عبد الرزاق؟ والفقه ماذا تقول عنه؟ ».

قال :

ـ « سأعرض لك الفقه ، وأحاججك منطقياً ، والتمس عندك ومن بعد ذلك معرض الحل والنتيجة ، وأخبرني بعدها : ما الذي ستعثر عليه خلال حديثي؟ أو أية نتيجة يمكن لك أن تستلها وتستخلصها منه؟! ».

ـ « لم أفهم ما الذي تريد عرضه عليّ؟! ».

ـ « سأعرض عليك شيئاً مما يمكن أن ينمّ على وضوح ما في بعض الأخبار من خصوصيات التفسير التي تنعكس نتائجها بالتالي على سياقات الفقه الحية ».

ـ « من أي المصادر .. السنية أم الشيعية؟ ».

ـ « سأخاطب فيك الحس الداخلي وأعالج فيك لمسات القلب الصادقة ».

ـ « وإذن ، فالأخبار تتعدى حدود المذهبية ، وتتجاوز حدود الطائفية ».

ـ « فمثلاً .. عن عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) قال : العمل الذي أقربه ، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل ».

٢٠٨

ـ « وهل كان ثمة محاكاة لمعان متعددة أو إشارات لدلالات أُخرى من خلال توظيف ألفاظ لا تقصدها بالذات؟ ».

ـ « لقد سمى اللّه تعالى الصلاة إيماناً في قوله : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) البقرة : ١٤٣ ولعله عليه‌السلام خصها بالذكر لذلك ».

ـ « وأين ولاية علي بن أبي طالب في هذا المضمار؟ ».

ـ « من آمن ثُمّ أطاع أهل الشرك. وعن أبي حمزة قال : سألت أبا جعفر عن قول اللّه تبارك وتعالى : ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) قال : تفسيرها في بطن القرآن : ومن يكفر بولاية علي وعلي هو الإيمان ».

ـ « وتفسيرها؟ ».

ـ « أما تفسيرها فهو من البطن المقابل للظهر بالمعنى الذي ينطبق فيه الكلام على المحكم والمتشابه ، ويمكن أن يكون من الجري والتطبيق على المصداق ، وقد سمى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً عليه‌السلام إيماناً حينما برز إلى عمر وبن عبدود يوم الخندق حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « برز الإيمان كُلّه إلى الكفر كُلّه ». وفي هذا المعنى بعض روايات أُخر ».

٢٠٩
٢١٠

الفصل السابع عشر

الحنين ما بين فراق الأحبة وغربة الإمامة

كانت رسائل الأهل تصلني بين الحين والآخر ، بينما عزّ علي أن لا يكون بمستطاعي أن أبوح لهم بما نبغ في صدري ، وعلق في دخائلي ، لأ نّي ما كنت أهوى أن أثقل عليهم ، واجعلهم يقاسون أشد مما يقاسونه من فراقي عنهم ، وبعدي ، وأنا الذي لم يعد بمستطاعه نسيانهم .. فما كان بميسورى أن أسلاهم حتّى وجدت في هذا الموضوع ما يسلّيني ويُسرِّي عن همومي وأتراحي التي كان لها ان تلتمع بين الحين والآخر حتّى أنّ لها أن تخبو دون أن يخمد عنوانها .. وذلك لأ نّي وجدت أنّه من غير العسير على المرء ان يحمل جلّ وقته على الإنفاق فيها ، لو أراد أن يدفع عنهم تباريح أيامه الحزينة ، وصروف دهره الكئيبة حتّى قيض لي اللّه فحوى الأمر بعدوى الاهتمام بمثل هذه الأبحاث ، وجعلت أصوغ مفردات العقل ، وأفنّد الآن الفكر كيما استاق وحي شآبيب الطلعات ، وأرخي بها صوب سماويات الذهن حتّى تئن وتضطرب عند اختلاج غمامها الأجدب ، وقزعاتها المتخاتلة ، وهي تصوب بأفانين رقصاتها إلى أفنان تلك الأعناق الفضية التي غذت عمرها من ريع الأيام الآتية حينما جلت عنها غبرة الليالي الحالكات ، وهي تتحسس أريج إزهار ذلك الأُفق الفضية وترقب ألوانه المتماوجة ما بين أنواء المجد الملكوتي .. وكيف لها أن تتفتق عنها صبابة حالمة ، كأنّها ضروب من فحوى النسك ومعنى

٢١١

التبتّل! وذلك حينما تصير كُلّ الأطوار المتقلبة صوب تلك الأعمدة المتراكمة عند خطوط النهايات التي ليس لها أن تنحد .. وعندما تزداد طهراً ونقاء يبسم كُلّما عامت إشراقاته وتمارت صفوف بهائه وهي تزهو جذلانة مختالة .. غير أنّي ما كنت لأنسى كيف أنّي كنت أول الطريق الحق على كُلّ من استبصر من إخواني ، ولقد كنت أرى بعضهم تلفحهم ريح غريبة حتّى إذا ما تسامر عندها وجدته قد ترك مذهبه واعتنق المذهب الشيعي ، كأنّما سحره ساحر ، وأخذه آخذ ، هل أقول إنّه قد صبأ؟! وأنا الذي لم أكن أرى أنّه يتمتع بأيّما قدر كاف من الذكاء والخبرة ، بل بأيّما لون من ألوان الموهبة الناضحة بالأبهة والعقلانية .. ولكن! كيف لهذا أن يحدث مع قاسم وطلال وكلاهما قد تسمّرا عقارب المعالم المعرفتية ، وتربعا على عرش أفانين العلوم وغذيا ألحان الفنون الذوقية حتّى غمرا نشيج الطبيعة بما يسكر المخاخ قبل الرؤوس بكُلّ ما يحلو ويطيب .. فكيف لمثلهما أن يستبصرا إذن؟ ففي الأمر ما يستدعي الانتباه ، ويستوجب إيفاء الاهتمام ورشق ذبذبات هذه الصبوة كيما تتسع رحى جمجمتي بما يستلزم معه ضيق كُلّ وهدة نقد أو أويقة ضالالة ربما تثني من هو في مثل حالي عن مثل هذا العزم حتّى وجدت أنّه من غير اللائق أن أكون رشيداً في معلوماتي ، قادراً في شهادتي الدراسية ، لا أقدر مع كُلّ هذا وفي الوقت نفسه على مبارحة يأسي والعبور من على قناة هذا الإبهام وهذه التساؤلات الغامضة. فكيف يجوز لنا نحن أهل السنة أن ننتقل من مذهب إلى آخر ، وكيف نسول لأنفسنا حرية الحركة ما بين الحنفي والمالكي وصولاً إلى الشافعي وانتقالاً إلى الحنبلي .. فلم يحرم أحد مثل هذه التنقلات والتحركات ، بل لم أسمع حتّى من هؤلاء الجحاجيح الذين تسترسل خطاهم بين أنظاري

٢١٢

القلقة .. ما يمكن له أن يترجم مثل هذا ، أو ينمّ عليه!

بل لم يكن بوسعي أن أتميز لون مذهبي .. إنّما كنت أتعبد ، ولم يكن أحد ليسألني ما هو مذهبك؟ .. ولو كنت أقول شافعي أنا ، أو حنفي أنا ، أو مالكي كنت ، أو حتّى حنبلي! لما كان لأيّما أحد أن يرشقني بوابل من ألحاظ الشزر وألوان الامتهان ، أو أن يمطرني بصبٍّ من نظرات الويل والأسف والتي لها أن تتبعها أكوار من فوهات الحمم الناضحة بسحب البركان ومواد الانفجار ، لا تضوع إلاّ بلغة ملؤها الحرمان ، سادرة في غيٍّ جملة من الحماقات ، هي ليس لها أن تنتهي حتّى ينتهي يوما الدهر ، ويؤوب الناس أجمع إلى لذعة الحمام .. بينما لو نطقت بالجعفري أو الشيعي ، لكانت أعين القوم تدور حزناً وأسىً ، وكأ نّها لتبعث على ذكر الموت ، وهل هو شيء أعز عند اللّه من ذكر الموت الذي يدع النفس تؤوب إلى بارئها ، وتثوب إلى خالقها ، وذلك ريثما تعود إلى رشدها ، فتستفيق وهي لما تنهل كُلّ ما أرادت نهله ، آسفة على ما ضيعته من سنّي عمرها ، وطحنته في بيداء ، كانت قد خالتها غياضاً غنّاء ، بيد أنّها ما كانت لتتكشف لها حالئذ وعند مطارف الموت ، إلاّ بيداء قفرة ، خلو من أهلها ، مدقعة من أيّما لون حياة ، قد استلّها الفقر كُلّ ألوان الحياة حتّى استحالت جدباء غبراء ، مكلومة من شدة الجراح الموغرة في جسدها ، سقيمة من قوة الآلام البغيضة.

ولكن ، كلمة إمام ، هذه الكلمة ، كيف عدت استقي من وحي مناقشاتي ، إذ أثارتني حينما عرضت بها على صاحبي في الجامعة عبد الرزاق حتّى أقر معتقداً بامامة علي بن أبي طالب .. فعدت الآن أسائل نفسي :

ـ « فكيف لا يغدو كذلك ، ونحن قد جعلنا من رؤساء المذاهب أجمع

٢١٣

أئمة؟ وكيف لها ، وها هو من يؤم الناس في الصلاة يطلق عليه إمام الجماعة؟ ».

حتّى جعل آخر يذكّرني وهو ماجد! ماجد الذي وجدته لا يحمل تلك الشهادات الدراسية العالية ، بل استحقرت إمكانية إجراء أيّما مناظرة معه ، أو مساءلة. بدرني بالقول :

ـ « ألا يقول القرآن : ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناس بِإِمامِهِمْ .. ) فهو قد شمل كافة الناس بقوادهم حينما أطلق على الأخيرين بلفظ الإمام. كما أنّه لما نجد أنّه من البدهي أن لا يكون جمع الناس مؤمنين ، بل أكثرهم كافرين .. فما كان ذلك سيدعونا إلاّ إلى التسليم ، بأنّ الإمام هو لا يشمل فقط القائد المؤمن ، بل له أن يصطلح عليه بقائد الكفرة كذلك ، أي من يضلّهم حتّى الناس بنهجه ، ويقتفي البشر رأيه ليتقصون بعد ذلك طريقه والعمل بسلوكه ، وما قاله أو أتاهم به .. لأنّ اللّه تعالى ، وفي آية أُخرى يقول : ( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ )! فهذا تصريح شامل يعتني ببيان مثل ذلك خير بيان. فلِمَ تستكثرها على الخليفة الرابع؟! ».

سألني وأنا الذي صرت أبحث لعيني عن مرتع ومحل ، أناهض ومن خلالهما ، وعند أي منهما نظراتي ، وأنزع بهما صوبهما كيما لا تقع تلويحاته المطرقة تلك في أحداقي الملتهبة.

لقد أيقنت بعدها أن كافة علومي وما توصلت إلى حمله من معارف وتلقيته في صفوف الكُلّية ، وعرفته وأدركته في قاعات الجامعة ، كُلّه ما كان بوسعه ولا بميسوره أن ينجدني من هذه الأزمة ، ولا أن يخلّصني من هذه المعمعة والتي غدا لها دبدبات خارقة .. تتعاهدني بين الفينة والأُخرى كأنّها

٢١٤

لجج ليل غامر ، ليس له أن يبارحني موجه ، ولا أن تنقضي لياليه المسهدات ، سادراً في غيه ، دارجاً على غير هواي كأنّه أراد ممالأتي وملاحاتي ليس إلاّ! مع أنّه هو الذي ما كان ليمثل لي وفي السابق ، وفيما مضي ، إلاّ كُلّ عنوان لكُلّ مماحة ومناشدة لقضاء أمتع الأوقات ، وانفاقه في سماع شدو الألحان ، وعذب الأغاني الرابحة في سوقي الرائجة في بين عمائم أيامي الغادية كؤوسها مترعة ، بين موهن الليل ، وعذب الأريج الخالي من كُلّ وشيجة تخرجه عن رقيق وصاله ، ورشيق إنسامه.

بدأت أخاف مثل هذا التراكم من أوجاع الرأس حتّى مللت التفكير في غيب هذه الاطلاعات والابحاث. لقد ساورتني الشكوك في كُلّ ما أوتيته من قوة وعزم. لقد ملأني رعب قاس ، كأنّما أضطرم بين أحشائي ، ألمّ بي كأنّه يريد افتراسي حتّى ظل ينتابني مرة بعد أُخرى .. بينما كنت أُتعِب نفسي في معاندته ، إلاّ أنّه تمكن منّي! وبتُّ أسائل أهلي من البعد إلى البعد .. وأنا الذي ما كان لتخفى عني اهتماماتهم ، أو سحابات تعلقاتهم التي ما كان لها أن يتمسح بجبيني شيء من هذه العوالق الذهنية الخطيرة والتي لها أن تغير مجرى حياة المرء بين ليلة وضحاها.

بادرتني فكرة ما ، أو بالأحرى انتبهت إلى تاريخ البشرية وإلى ما كنت أعيشه وتعيشه ذهنيتي ، وأسمعه وأراه ، وما زلت أعتقد به ، من كُلّ ما له أن يتعلق بمجتمع النساء وتأثيرهن على قلوب أقوى الرجال الشجعان وأعتى الأبطال الأشاوس! وكيف كان للنساء أن يلعبن وعلى مرّ التاريخ ، دوراً مؤثراً! وكيف كان لهن أن يدرجن على إرعاب كُلّ من كان يهوى الحياة ، وإغراقه في عرض دوامة من سلسلة موجية هي أخطر ، تلهبه أسواط القتل وما

٢١٥

هو بمقتول ، تفيء إليه تياراتها الصارخة ، كُلّما ألمّ به فكر يقول له : بأنّ صارخة هذه الأكتاف آن لها أن تزول ، وتذهب ضرباتها إلى الجحيم .. إلاّ أنّ دواعي مجنونة كان لها أن تتنفس الصعداء ، تثير الأجواء ، تقضي عليه كُلّ القضاء ، وذلك حينما قلن له أنّ الوقت ما زال في أوله ، وأنّ للنساء ضربات أوجع في سابقاتها ، وأنهنّ أولاتي الذين ليمكرن المكر الذي من شدة انغلاق آثاره ، فإنّه لتزول منه الجبال الرواسي نفسها ، وتجعلها صعيداً جرزاً.

كنت أرى إلى مثل هذه الذكريات الأليمة ، وأتطلع إلى مجد النساء الذي كان له أن يصارع كُلّ أمواج الحاضر والماضي والمستقبل. وكنت أذكر وما زلت ، أترع بمثل هذه الأوراق التي تملأها ألوان من البطولات النسوية والقهروت الأنثوي .. وهي ـ أعني المرأة ـ إذ ما زالت تدور حوالي لتتوزع خطاها أمام ناظري ، وهي التي ما برحت تعكف على إرساء أطواد غرورها في بواخر الرجال ، وذلك كُلّما عنت الوجوه لها ، دون الحي! وهي تلين لنظراتها وتسترشد بمفاكهاتها التي تغزل عيون الرجال من أورادها كُلّ قرعة وقرعة ، وذلك كُلّما قرع الثغر الثغر ، وجعلت القرارات تنشد غير ما يطفح به العقل ، وترسمه رؤى الذهن الرشيد ، بل تصير تنحو غير السبيل التي ارتآها الربّ العزيز لعباده من خلقه من الائبين إلى مجد عليائه واللائذين بكتف ستره ورأفته .. حتّى كنت أرى الرجال من ذوي البأس الشديد يكادون يخضعون هم بالقول إلى ربات الحجال ، ويقمن كُلّ ما يرين إلى ضرورة إقامته ، ولا ينسفن إلاّ ما ارتأين نسفه ليكون بعدها رميماً كالهشيم تذروه الرياح! فقلت في نفسي :

ـ « فلو كان لمثل هاتيك النسوة أن يعتملن مجدهن حين يكون له أن تركم

٢١٦

أشلاؤه على اقتفاء أثر أولاد الرسول كما يدعي الشيعة؟ فهل كان للرجال أن يعاندوا كُلّ هذه المعاندات ، ويأوّلون أحلام الشيعة ، وكلام رجالاتهم ، ليعملوا بعد ذلك على المكيدة عليهم ، والدسّ ، وإثارة النعرات المذهبية ، وإذكاء نار الطائفية الشعواء وصولاً إلى رميهم بألوان التهم وقذفهم بأنواع الأباطيل. لا أقول ذلك دفاعاً عن الشيعة ، أو عن جماعتي ، إنّما صرت ومن بعد شديد غيظي ومناوءتي لنفسي ، ومن بعد أن كنت أناوئ هذه العصابة والشيعة ، وأُحارب أفكارها ، إلى التريث في مجمل الأُمور ، ريثما تنبلج لي سماء الأُفق صاحية ، مشرقة بشمسها الفضية وهي تجلجل بأصوات إشراقاتها .. وكأ نّما كان للسان الأفعى نفس تلك النبرة التي يحكيها دم ضحيتها ، حينما تفرزه أنياب فكّها في أوصاله لتتفرس مذاقات سمومها كُلّ مطاعم تلك الأحشاء المتوارية خلف أوجاع ناهضة وآلام صارخة. فكأنّ تحمل مثل ذلك ، يناهز أن يعني لى ذات هذا الملمح حتّى تصير آثاره تتجلى واضحة في كُلّ اهتماماتي ، كأنّه ليس لي أيّما حل آخر ألهج بأطرافه أو أيمم وجهي قصد سمته دون سائر الأقطار ، لتكون تخومه هي وديان نضالي ورسوم جولاتي وأنا الذي ما عرفت يوماً أيّما طعم للمغامرة أو التضحية ، فها أنا ذا أجد نفسي وجهاً لوجه أمام حرب لم يشهدها أحد من قبل ».

( هكذا خلت حالي ) أروم مجاهداتها ، وفي ظل ذلك الأحد الآخر هو ممن كنت أصادقه في الماضي ، وهو ممن جعل يعد من ضمن أترابي وأقراني. فأيّما فوز أنالني إياه علياء هذه الدنيا؟ أو أيّما زخرف من سنا المجد تبعني إليه طعم الوجد الذي أثكل صبابة الشوق في وجد عيوني حتّى درجت لا تنثني المقل

٢١٧

فيها عن ملامة سيب الاماق المنحدر عبر عذارف تلك القسمات ، وصدُغ تلك المعاني الكالحة ، وهي تستبيح عرضات الليالي الذائبة أمواجها ما بين عيون المدينة ، وأضوائها المتلاشية خلف ركام من الرماد الضبابي الذي ما كان يلفه سوى عرس أخفى ثيابه هو الآخر وراء زرقة جعلت تتنفس الصعداء كُلّما جعل الفجر يلفح عذارى المصر بخيوطه العالقية بألوان الضياءات التي بدت ترسمها منارات الموانئ ، وهي تودع السفن الراحلة كما صرت أودع أفكاري إلى حيثما اُودعها ملجأ تؤوب إليه كُلّ حرائر الأزمان ، وبكل ما تئن تحت طائله وترزح تحت ثقله مما جعلت ترسف في أغلاله ، وترفل بين معطياته الحية القادمية .. كذلك أنا الآخر فعلت ، حاولت أن أحيي وطناً آخر في نفسي ، حاولت أن أُميت كُلّ عصبية جائرة ، فلكُلّ الخلق نفَسٌ عظيم في انتقاء الزوجات والأزواج في انتقاء فرص العمل ، في اختيار نوع الاختصاص الدراسي ، في استراق أحسن الخلس وافتراصها ، حتّى الفنان له أن يختار ما يرسم ، وما يريد أن تعكسه لوحته ، حتّى المخرج السينمائي له أن يخص نفسه بطبيعة لون خاص في التفكير والعمل غيره عن الآخرين ، والمهندس في تصميم عمارته ، والطبيب في نوع جراحته ومعالجته ، والكل تراه يعمل بملء إرادته واختياره ، والكل لا يصادر إلاّ على حرية مثل هذه الاختيارات الدنيوية.

إذن! فلماذا نحرم أنفسنا حرية الانتقادات الأُخروية ، وما كانت الدنيوية منها لتكون غير معابر باهتة تنسحب على مراقي تؤدي بالتالي إلى الثانية ليس إلاّ .. فما كانت الأُولى إلاّ وسيلة للثانية ، وما كانت الأخيرة إلاّ غاية للأُولى.

٢١٨

فإنّه من الغبن أن نفرط بالغاية لأجل الوسيلة ، ومن هو ذا الذي يملك لنفسه ضراً أو نفعاً. وما كان رسول اللّه ليملك مثلها حتّى يمكنه أن ينجينا في يوم غد في فتنة ضروس يمتد أوار اشتعالها ونار احتدامها إلى برازخ القبر وظلمات اللحود الغائصة في أتون الخوف والرعب .. إنّي لا أرى حالي هو أقل من حالي حتّى جعلت زوجه تروم به كُلّ مداخل الجحيم ، وهو يقبل على اشراقاتها المصطنعة من أجل تحقيق كُلّ مآربها دون أيّما تفكير أو وجل من البارئ .. إنّ هذه الدنيا أصبحت لي كعنق فتاة بيضاء ، جعلت تندي جبينها بما صار يلفح عنقها الغض الأملس .. وهي تساجلني بوقع شفاهها ، وتخاتلني ببريق عينيها ، وصفاء مقلها الناصعة بألوان الإثارة ولسعات الفتنة اللاهبة فوق خدّيها المنتفخين حتّى تنازلني دون أن تتوقع أيّما صدود من عندي أو حتّى مقاومة ، لتهذر معي ريثما تجود أعضاؤها الأُخرى على قلق أيامي .. وتسلب من هو في مثل حالي كُلّ اختياراته ، ليصحو بعدها وقد التقم نزراً يسيراً من ظل هذه الحياة الزائلة الرتيبة .. بينما فقد وبذلك كُلّ ما صبت إليه قلوب المحبين الوالهة بحب الإله الذي لا تخالطه أيّما عظمة يمكن لها أن تربو عليه فتربأ عندها نفوس العباد عن التنحي عنها ، وتشيح بنفسها بعيداً عن خلالها التي لا تزول قط .. لأ نّه ليس للمرأة أن ترافق الرجل في رحلته إلى العالم الآخر .. إلاّ أنّ لعمله هذا أن يرافقه ، ما دام هو خلقاً للّه ، وما زال هو كذلك إلى أبد الدهور حتّى ولو أبت أهواؤه أن يكون عبداً له .. لذا ، وجدت من اللائق أن أنبذ أيّما تعصب يمكن أن تثيره خلجاتي ، وتشعرني إياه فلتات انتماءاتي المذهبية وهي التي باتت تقلقني أكثر مما جعلت عيون أصدقائي وإخواني من أهل

٢١٩

السنّة الذين جعلوا يحقدون على قاسم وطلال وماجد وغيرهم من الإخوة المستبصرين الذين كنت أجد فيهم بذور التشيع ، وفي إخواني الحاقدين عليهم كالأنظمة التي طاردت بذرات التشيع وعلى مرّ السنين ومراحل العمر ».

٢٢٠