وانقضت أوهام العمر

السيّد جمال محمّد صالح

وانقضت أوهام العمر

المؤلف:

السيّد جمال محمّد صالح


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-13-7
الصفحات: ٤٣١

ـ « أعذرني ، ولكن من دون مقايسة ما بين الدين والتشبيه ، فإنّ أبو لهب عرض على رسول اللّه حتّى عرض عليه الآخير الدخول في دين الإسلام ، إن يخبره في التعصب لواحدة مما يعبدها أبو لهب نفسه من بين الآلهة التي يعبدها المشركون من قريش ، أما مناة ، أو اللاة ، أو العزّى .. فلو كان ليختار الرسول من يعبده أبو لهب ، لقبل الآخر عرضه ، ولتحزب له ولعاضده .. إلاّ أنّه لما يدعوه إلى هذا الدين الجديد ، فإنه ليسوؤه مثل هذا الأمر ، كأشد ما يسؤه حتّى يعلن له العداوة صريحاً ».

ـ « أتقارن مذاهبنا الأربعة بأصنام المشركين من قريش؟ ».

ـ « لا ، قلت لك ، لم أعن ذلك أبداً .. ولكني عنيت وجه الشبه ، وإني لأقسم ، لو كان لقاسم ان يتنصر ، ويصبح مسيحياً ، ويرتد عن دين الإسلام لما كان لك أن تظهر ما تظهره الآن .. وهذا لا يعني إلاّ التعبير عما تكنّه في أنفسنا من عداء للشيعة والتشيع ليس إلاّ .. ذلك لأ نّه وفي نظرنا أن الشيعة أخطر على الإسلام من المسيحية واليهودية ، وهو علينا الخطأ الشنيع بنظري .. ».

ـ « اسمع يا هذا ، إنّي لا احتمل منك أن تحدثني كذلك ».

عندها طفق مازن ينقل بخط لسانه الذي ألجمه طوال حديثي مع نبيل ، وقال مشيراً إلى نبيل أن يسكت ، وقال :

ـ « أظنني الآن أمام شخص يصعب التكهن بما يعتقد .. وهو بنظري أخطر على المرء من قاسم وغيره ».

ـ « لماذا يا أخ ، أرَاوَدك الشك في عقيدتي ، فلو كنت أغير ، فإنّي ما كنت لانتظر لحظة واحدة ، ولا كنت لأتردد في الاعلان عن صدق دعوتي في التشيع. إلاّ أنّي وكما قلت من قبل قد غدوت على الاعراف .. مع أنّي ما زلت

٣٤١

أتعبد على مذهبي ، وأحنّ إلى مذهبي ، وأقول في نفسي : ليتني أجد من يشاطرني العزاء ، ويصنع مذهباً يجمع بين المذهب الشيعي والسني ، فأريح واستريح من هذا العناء ».

فقال مازن :

ـ « هذا محال ، لا يمكن الجمع بين الخط الأبيض والأسود ».

ـ « ولماذا ، فما كان الفجر إلاّ كذلك؟ ».

عندها سكت ، ليعلن نبيل عن فكرة أُخرى :

ـ « هذا لا يمكن .. ».

ـ « لماذا؟ ».

ـ « لأ نّه لو كان أن يجتمع العالم كذلك ، كان للمسيحي واليهودي أن يفكرا قبلنا ، في هذا الأمر ».

ـ « إنك تقلقني بعصبيتك الساذجة هذه ، إنّ المسلمين وحدة واحدة ، وما كانت مشاريع التقريب بين المذاهب إلاّ كذلك .. ».

ـ « إنّ هذه المشاريع ما هي إلاّ مداراة وتضييع للوقت ».

ـ « يجب علينا أن نتآلف مع بعضنا البعض ، ذلك أن دينهم واحد ورسولهم واحد. بينما ما قلت أنت فإن ما كان صاحب المسيحيين واليهود ، إلاّ أثنين من الرسل ، وما كانت شرعتهما إلاّ من ضمن الشرع البائدة والمنسوخة دون الإشارة فيها إلى عدم صحتهما .. لأنّ موسى وعيسى عليهما‌السلام ما كانا إلاّ مسلمَين ، غير أنّي عنيت أنّ زمانهما أنقضي ، ما كان للعالمين إلاّ أن يذعنوا لدين محمّد ».

ـ « هذا صحيح ، لا شك فيه ، ولكن .. ».

٣٤٢

قاطعته :

ـ « ومما لا شك فيه كذلك ، هو أنّي كُلّما أبصرت إلى مذهبي ، وجدته قد أنقضي ، واعتصرته آي السنين من العصور والدهور .. ».

وهنا صرخ نبيل :

ـ « انك تستفزنا! ».

ـ « لا ، إنّي لا أستفز أيّما أحد .. لأ نّي وجدتني أُقلد من منع من تقليد نفسه! ».

ـ «؟!».

ـ « .. بل ، ولربما حرم مثل هذا الأمر ، وخفي علينا واقعه ».

قال نبيل :

ـ « أتقول إن تقليدنا لأي أحد من الأئمة الأربعة ، ليس شرعياً ».

صمتُّ لحظات ، ثُمّ قلت له :

ـ « اسمع وعِ ..! ».

ـ « إنّما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة ».

ـ « طيب وما معنى هذا الذي تقوله؟ ».

ـ « إن ما قلته ما كان إلاّ عبارة أطلقها لسان مالك بن أنس ».

ـ « الإمام مالك بن أنس؟! ».

ـ « أجل! ».

فقال مازن :

ـ « يقول هذا؟ ».

فقال نبيل :

٣٤٣

ـ « وإذن ، فهل يمكنك أن تخبرنا بما يقوله الإمام الشافعي بهذا الخصوص؟ ».

ـ « يقول الشافعي : إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط ».

فكاد لبّ مازن أن يطيش قبل أن يخلب عقل نبيل! بينما عدت إلى الكلام ، وأنا أقول :

ـ « وإذا كان لكما شوق إلى سماع ما يقوله الإمام أبو حنيفة فهاكما أسمعا مني هذه المقولة : هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي غير هذا قبلناه. حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ».

ـ « إنك تتجرى عليهم ».

قالها مازن!

ـ « لا واللّه ما كنت لأجترئ على أحد بأي ظلم! ».

في حين خيم علينا الصمت قليلاً ، وعاد نبيل إلى الكلام :

ـ « وهل يمكنك أن تخبرنا بما يقوله الإمام أحمد بن حنبل في هذا المقام؟ ».

فقلت له :

ـ « إنه يقول : ».

ـ « من ضيق علم الرجال أن يقلدوا الرجال ، لا تقلد دينك الرجال فإنّهم لن يسلموا من أن يغلطوا ، وقيل له : لم لا تضع لأصحابك كتاباً في الفقه قال : ألأحَد كلام مع كلام اللّه ورسوله؟ ».

وعندها قفز مازن ، وهو يعرب عن خطة كان قد بحث عن أوراقها طويلاً

٣٤٤

حتّى فتش عنها ووقع عليها بالتالي كيما تنقذه من قبضة هذا الأسر. فقال وكأنه قد خلص من مأزقه الذي لم ير أحد قد دبّره سواي :

ـ « إن هذا هو رمز تواضعهم .. وهم لا يريدون حمل الناس على تقليدهم .. إن مثل هذا ليكون هو أقرب إلى مدحهم من القدح ـ معاذ اللّه ـ عليهم! ».

بينما تجاوزت كلامه ، وكأني لم أسمعه .. في حين كان نبيل يبتسم وكأنه كان قد استساغ الفكرة التي عرضها مازن ، إلاّ أنّي شعرت كما لو أنّه كان في قرارة نفسه ، يزداد سخرية من مازن ومما يقول! فقلت :

ـ « لا يجوز ترك آية أو خبر صحيح لقول صاحب أو إمام ومن يفعل ذلك فقد ضل ضلالاً مبيناً وخرج عن دين اللّه ».

فقال نبيل :

ـ « ومن قال هذا؟ ».

قلت :

ـ « محيي الدين بن العربي ».

فسكت كلاهما ، وكأنهما لم يسمعا باسمه ، فلم يرغبا أن يقولا أنا لا نعرف الرجل ، فأعلنا عن دقيقة صمت حداداً على ما تبقى لديهم من معلومات.

فقلت :

ـ « في حين يمكنني أن أورد لكم أقوال عديدة لعظماء من أعلام وعلماء العامة ، ومفكريهم وكتابهم! فهاكم قول الشعراني : ».

ـ « لم يبلغنا أن أحداً من السلف أمر أحداً أن يتقيد بمذهب معين ، ولو وقع ذلك منهم لوقعوا في الإثُمّ ، لتفويتهم العمل بكُلّ حديث لم يأخذ به ذلك المجتهد الذي أمر الخلق باتباعه وحده ، والشريعة حقيقة إنّما هي مجموع ما

٣٤٥

بأيدي المجتهدين كُلّهم لا بيد مجتهد واحد ، ومن أين جاء الوجوب ، والأئمة كُلّهم قد تبرأوا من الأمر باتباعهم ، وقالوا : إذا بلغكم حديث فاعملوا به واضربوا بكلامنا الحائط ».

فقال مازن :

ـ « وابن تيمية ».

فتابعه نبيل :

ـ « أجل .. ابن تيمية ، ترى ماذا يقول؟ ».

فقلت :

ـ « سئل الشيخ تقي الدين بن تيمية عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب ، وتبصر فيه ، واشتغل بعده بالحديث فوجد أحاديث صحيحة ، لا يعلم لها ناسخاً ولا مخصصاً ولا معارضاً ، وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث ، فهل له العمل بالمذهب ، أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ومخالفة مذهبه؟ ».

ـ « فبماذا أجاب : ».

سأل مازن ، فقلت له :

ـ « فأجاب بما هذا نصه : الحمد للّه ربِّ العالمين قد ثبت في الكتاب والسنّة والإجماع أن اللّه افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يوجب على هذه الأُمّة طاعة أحد بعينه في كُلّ ما أمر به ونهى عنه إلاّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، حتّى كان صدّيق الأمة وأفضلها بعد نبيها عليه الصلاة والسلام ، ورضي‌الله‌عنه يقول : أطيعوني ما أطعت اللّه ، فإذا عصيت اللّه عزّ وجلّ فلا طاعة لي عليكم. وأتفق كُلّهم على أنّه ليس أحد

٣٤٦

معصوماً في كُلّ ما أمر اللّه به ونهى عنه إلاّ رسول اللّه ، ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كُلّ أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلاّ رسول اللّه عليه الصلاة والسلام. وهؤلاء الأئمة الأربع رحمهم‌الله تعالى أجمعين قد نهوا الناس عن تقليدهم في كُلّ ما يقولون ، وذلك هو الواجب ، قال الإمام أبو حنيفة : هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأي خير منه قبلناه ، لهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع وصدقة الخراوات ، ومسألة الاجناس؟ فأخبر مالك بما دلت عليه السنة في ذلك. فقال أبو يوسف : رجعت لقولك يا أبا عبد اللّه ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. ومالك رحمه‌الله كان يقول : إنّما أنا بشر أصيب وأُخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة ، أو كلام هذا معناه ، والشافعي رحمه‌الله كان يقول : إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط ، وإذا رأيت الحجة موضوعة على ففريق قولي ».

وعندها كانا قد أصبحا وكأن على رأسيهما الطير .. فلقد وفر عليهما هذا الخبر مؤونة السؤال عن مصادر مقالات ائمة المذاهب الأربعة التي أوردتها لهم .. وما أنساهم السؤال عنها إلاّ لجاجتهما واضطرابهما المتأرجح ما بين التسليم صاغرين وما بين العناد معاندين .. بينما خرج عليّ مازن هذه المرة وكأنه يطلق باتجاهي آخر قذيفة تيسر له العثور عليها .. فاطلقها ومن دون ان يعرف اين ستصطدم ، فقال لي :

ـ « وهذا الخبر ، أين قرأته ، هل يمكنك أن تخبرنا؟ ».

فقلت له وبكل هدوء وأناة :

ـ « انه في كتاب جلاء العينين للآلوسي ، ص ١٠٧ ».

٣٤٧

ـ «؟!».

ـ « من حصر فضل اللّه على بعض خلقه ، وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره ، فقد تجرأ على اللّه عزّ وجلّ ، ثُمّ على شريعته الموضوعة لكُلّ عباده الذين تعبدهم بالكتاب والسنة ، فإذا كان التعبد بهما مختصاً بأهل العصور السابقة ولم يبق لهولاء المتأخرين إلاّ التقليد لمن تقدمهم ولا يتمكنون من معرفة كتاب اللّه وسنة رسوله فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة ، والمقالة الزائفة ، وهل النسخ إلاّ هذا؟ سبحانك اللّهم هذا بهتان عظيم ».

ـ « ومن قال هذا؟ ».

قالها مازن ..

قلت :

ـ « أوردها الآلوسي في جلاء العينين ، ص ١٠٧ ، حيث قال إن حسن خان كان هو قائلها ».

ـ « ليس على الإنسان التزام مذهب معين ، وأنه لا يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلداً فيه غير إمامه مستجمعاً شروطه ، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر لأن إمضاء القاضي لا ينقض ».

ـ «؟!».

ـ « أما هذه فكانت لابن عابدين ».

ـ «؟!».

ـ « إعلم أن المقلد على غير فيما قلد فيه ، وفي التقليد إبطال منفعة العقل ،

٣٤٨

لأ نّه إنّما خلق للتدبر ، وقبيح بمن أُعطيَ شمعة يستضيء بها أن يطفئهايمشي في الظلمة. وأعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال ، وهذا عين الضلال ، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل ».

ـ « هه ، انتظر .. من قائل هذه الأخيرة؟ ».

٣٤٩
٣٥٠

الفصل السادس والعشرون

نبيل ومازن وما بين شكليات التحرِّي المذهبي

وآراء العلماء المفكرين

ـ « انه جمال الدين بن الجوزي في : تلبيس إبليس ص : ٨١ ».

ـ « هات الأُخرى ».

جعلت استشعر كلماتهم التي صارت تنسل من فيهما ، كأنّها كلمات استسلام ليس غير!

ـ « إعلم أنّه لم يكلف اللّه أحداً من عباده بأن يكون حنفياً أو مالكياً أو شافعياً ، أو حنبلياً ، بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعمل بشريعته ، وهذا منقول عن رسالة القول السديد ، ص ٣. والكلام هو لعبد العظيم المكي ».

ـ «؟!».

ـ « ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف قول إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً وهو مع ذلك مقلد فيه ، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم ، جموداً على تقليد إمامه ، بل يتحيل لظاهر الكتاب والسّنة ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة ، نضالاً عن مقلده ، ولم يزل الناس يسألون من أتفق من العلماء إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين ، فإن أحدهم ليتّبع إمامه مع بعد مذهبه عن

٣٥١

الأدلة ، مقلداً فيما قال كأنه نبي أرسل ، وهذا نأي عن الحق ، وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب ».

ـ « وهذه الجمل ، لمن كانت؟ ».

ـ « نطق بها عز الدين عبد السلام في رسالة الانصاف ، ص ٣٧ ».

ـ « وقال الشيخ أبو شامة : ينبغي لمن اشتغل بالفقه أن لا يقتصر على إمام ، ويعتقد في كُلّ مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة وذلك سهل عليه ، وليتجنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف ، فإنّها مضيعة للزمان ، ولصفوه مكدرة ، فقد صح عن الشافعي أنّه نهى عن تقليده وتقليد غيره ».

ـ « أين ورد هذا؟ ».

ـ « أورده فريد وجدي في دائرة المعارف ، ج ٣ ، ص ٢٤٨ ».

ثُمّ أردفت الكلام ، وأنا أقول :

ـ « وقال محمّد علي مؤلف كتاب الدين الإسلامي : إن قفل باب الاجتهاد معناه الضربة القاضية على حرية الفكر ، بل على الإسلام الذي قلنا إنّه جاء للناس كافة ، ليساير مختلف العصور والشعوب والآن بعد سير ألف سنة خلالها المسلمون جامدين ».

ـ «؟!».

ـ « وقال عبد المتعال الصعيدي ».

فانبرى نبيل ، وكأنه قد وقع على صيد عظيم حتّى ظفر به ، فقال :

ـ « ومن هو هذا الصعيدي؟ ».

فقلت :

٣٥٢

ـ « إنه أحد علماء الأزهر ، وهو ما صرح به في كتاب ميدان الاجتهاد ، ص ١٤ ».

ـ «؟!».

ـ « حيث قال : وإني أستطيع أن أحكم بعد هذا بأنّ منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة ، وبوسائل القهر والاغراء بالمال ، ولا شك أنّ هذه الوسائل لو قدرت لغير المذاهب الأربعة التي نقلدها الآن لبقي لها جمهور يقلدها أيضاً ، لكانت الآن مقبولة عند من ينكرها ، فنحن إذاً في حل من التقيد بهذه المذاهب الأربعة التي فرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة ، وفي حل من العود إلى الاجتهاد في أحكام ديننا لأن منعه لم يكن إلا بطرق القهر ، والإسلام لا يرضى إلاّ بما يحصل بطريق الرضى والشورى بين المسلمين كما قال تعالى في الآية (٢٨) من سورة الشورى ( وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ).

ـ «؟!».

ـ « وقال الشاطبي : ».

ـ « رأى بعض المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة ، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم حتّى إذا جاءهم من بلغ درجة الإجتهاد ، وتكلم في المسائل ، ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير ، وفوقوا إليه سهام النقد ، وعدوه من الخارجين عن الجادة المفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل ، بل بمجرد الاعتبار العامي ، ولقد لقي بقيّ بن مخلد حين دخل الأندلس آتياً من المشرق من هذا الصنف الأمرين حتّى أصاروه مهجور الفناء ، مهتضم الجانب ، إلى أن يقول : وكان هؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك بحيث أنكروا ما عداه ، وهذا تحكيم الرجال على

٣٥٣

الرجال ، والغلو في محبة المذاهب ».

ـ « أين ذكر الشاطبي مثل هذا؟ ».

ـ « ذكر في كتاب الاعتصام ، ج ٣ ، ص ٢٥٩ ».

ـ « بأي نص سد باب الاجتهاد؟ ».

فقال مازن :

ـ « تسألنا؟ ».

ـ « لست أنا الذي أسأل ، وإنّما هو الاستاذ جمال الدين الافغاني! ».

ـ « وماذا يقول جمال الدين الأفغاني؟ ».

ـ « إنه يقول : بأي نصّ سد باب الاجتهاد؟ أو أي إمام قال : لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهدوا ليتفقوا في الدين ، أو أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث ، أو أن يجد ويجتهد بتوسيع مفهومه ، والاستنتاج على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان وأحكامه؟ ولا ينافي جوهر النصّ أن اللّه بعث محمّداً رسولاً بلسان قومه العربي ليعلمهم ما يريد إفهامهم ، وليفهموا منه ما يقوله لهم ».

ـ «؟!».

ـ « ولقد جعل بعدها ، يردف كلامه بالقول : ولا أرتياب بأ نّه لو فسح في أجل أبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد وعاشوا إلى اليوم لداموا مجتهدين مجدّين ، يستنبطون لكُلّ قضية حكماً من القرآن والحديث ، وكُلّما زاد تعمقهم زادوا فهماً وتدقيقاً ، نعم إن أولئك الفحول من الأئمة ورجال الأمة اجتهدوا وأحسنوا فجزاهم اللّه خير الجزاء ، ولكن لا يصح أن نعتقد أنّهم أحاطوا بكُلّ أسرار القرآن وتمكنوا من تدوينها في كتبهم ».

٣٥٤

سأل مازن :

ـ « أين وردت هذه المقالة؟ ».

ـ « إنها وردت في كتاب : خاطرات جمال الدين ، ص ١٧٧ ».

بينما استدركت كلامي :

ـ « في حين كتب صاحب كتاب الفلسفة السياسية للاسلام ، وهو يقول في الصفحة : ٢١ ».

عندها قاطعني نبيل :

ـ « من هو هذا الذي تتكلم عنه؟ ».

فقلت :

ـ « إنه الدكتور عبد الدائم البقري الأنصاري ».

عدت بعدها إلى نقل مقالته :

ـ « منع الاجتهاد هو سر تأخر المسلمين ، وهذا هو الباب المرن الذي عندما قفل تأخر المسلمون بقدر ما تقدم العالم ، فأضحى ما وضعه السابقون لا يمكن أن يغير ويبدل لأ نّه لاعتبارات سياسية ».

في حين يصير يستدرك كلامه ، وهو يقول :

ـ « منع الولاة والسلاطين الاجتهاد حتّى يحفظوا ملكهم ، ويطمئنوا إلى أنّه لن يعارضهم معارض ، وإذا ما عارضهم أحد ـ لأ نّه لا تخلو أمة من الأُمم إلا وفيها المصلح النزيه ، والزعيم الذي لا يخشى في الحق لومة لائم ـ فلن يسمع قوله لأن باب الاجتهاد قد أغلق. لهذا جمد التشريع الاسلامي الآن ، وما التشريع إلاّ روح الجماعة وحياة الأمة ».

أخذ نبيل يتململ ، ولما شعرت أنّه يتململ من قلة جهده ، وقصر باعه ،

٣٥٥

وسكينة حيلته ، عدلت عن الانصراف وأرتاًيتُ مواصلة قراءة أطراف المقالة ومن جديد :

ـ « .. وإني أرجع الفتنة الشعواء ، التي حصلت في عهد الخليفة عثمان التي كانت سبباً في وقف الفتح الإسلامي حيث تحولت في عهد الحرب الخارجية إلى حرب داخلية ، أرجع ذلك إلى أن عثمان كان من المحافظين ، وقد شرط ذلك على نفسه ، عندما وافق عبد الرحمن بن عوف على لزوم الاقتداء بالشيخين في كُلّ ما يعني دون اجتهاد عند انتخابه خليفة. ولم يوافق الامام علي على ذلك حينئذ قائلا : إنّ الزمن قد تغير ، فكان سبب تولي عثمان الخلافة هو سبب سقوطه ».

ـ «؟!».

ـ « ويقول العلامة العبدي في كتاب : النواة في حقل الحياة ، ص ١٢٦ : كم بين دفتي التاريخ من أحزاب سياسية استحالت إلى مذاهب دينية ، رب مغفل أرعن يحقد على أخيه لاختلاف مذهبيهما اختلافاً في الفروع منشؤه الاجتهاد ، ولا يذكر أن كلمة التوحيد التي تجمعه وأخاه على خطر عظيم ، وأن حقده هذا يزيده خطراً ».

ـ « ... ».

ـ « ويمضي بالقول : الاجتهاد مجلبة اليسر ، واليسر من أكبر مقاصد الشارع وأبدع حكم التشريع ، بالإجتهاد يتلاطم موج الرأي فينفذ جوهر الحقيقة على الساحل ، الحوادث لا تتناهى والعصور محدثات ، فإذا جمدنا على ما قيل فما حيلتنا فيما يعرض من ذاك القبيل؟ سد باب الاجتهاد اجتهاد فقل للقائل به إنّك قائل غير ما تفعل ».

٣٥٦

ـ « ... ».

ـ « في حين يطلع علينا بالقول آخر ، ليحكي لنا سرّ ما وقع عليه : هذا بعض الشواهد على عدم شرعية غلق باب الإجتهاد الذي حدث في ظروف خاصّة ولمآرب سياسية ، ولم تخضع الشيعة لحكم تلك الظروف بل ساروا على طريقة أهل البيت ، وأخذوا أحكام الإسلام عنهم بقي الاجتهاد مفتوحاً عندهم ».

ـ « ... ».

ـ « حتّى يستدرك صاحب كتاب الوحدة الإسلامية كلامه وهو يقول : ولقد ألفت في هذا الباب رسائل عدة لكبار العلماء ، وكلهم ينددون في جمود التشريع على المذاهب الأربعة ويطلبون حل تلك العقدة التي عقدها ولاة أمر لا يطلبون بذلك إلاّ مصالح الدولة ، وقد أوضح العلماء أسباب هذا الجمود كالغزالي ، والعز بن عبد السلام وغير هما من الأئمة الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم ، فمنها بالنسبة إلى بعضهم كالمباراة المماراة ، وحب الظهور ، وما يتعلق بذلك ، ومنها المنافع ، المرافق في القضاء ، والافتاء ، والاوقاف بالنسبة إلى آخرين ».

ـ « ... ».

ـ « في حين يستطرد السيد محمّد رشيد رضا وفي نفس الكتاب المذكور في

٣٥٧

منه ، حيث يقول : ومنها الثقة والاطمئنان بالتربية العلمية على المذهب والاقتصار عليه في التعليم والافتاء ، ومن طبع الإنسان أن ما يعتاده زمناً طويلاً يملك عيله أمره ويؤثر في نفسه تأثيراً يصرفها عن كُلّ ما عداه ، إلاّ أصحاب العقول الكبيرة والنفوس العالية الذين تكون الحقيقة ضالتهم والصواب وجهتهم ».

وعندها قال مازن :

ـ « إنّها كلمات حول الإجتهاد ، فهل يمكنك أن تدلنا على كلمات حول التقليد؟ ».

فقلت :

ـ « أما الذين يحاولون الجمود ويلتزمون بالتقليد فإنّهم عجزوا عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد واقتنعوا بعناية السلطان على ما هم فيه من النقص ، فلا يروق لهم بلوغ أحد رتبة الاجتهاد ، ونسبوا مدعيه إلى الجنون كما ذهب إليه الشيخ داوود النقشبندي في كتابه أشد الجهاد حيث يرى أن مدعي الاجتهاد ضال مبتدع ».

استبشر مازن ، وانقلبت سيماء وجهه إلى ضياء .. بينما استروح نبيل ما قلته حتّى ودعتهما يستمعان إلى الثانية ، وأنا أقول :

ـ « ويقول الشيخ أحمد بن عبد الرحيم في تقسيم طبقات المجتهدين : الطبقة الثالثة : من نشأ من المسلمين من رأس المئة الرابعة ويجب على العامي تقليد المجتهد المنتسب لا غير ، أي لأحد المذاهب الأربعة لامتناع وجود المستقل من هذا التاريخ حتّى اليوم ، ثُمّ أورد على نفسه وأجاب ، وأهم شيء يعتمد عليه في أدلته ، قوله : إنّه اجتمعت الأمة على أن يعتمدوا على السلف في معرفة الشريعة فلا بدّ لنا من الرجوع إليهم ، ولا يرجع إلاّ إلى المروي عن السلف بسند صحيح مدون في الكتب المشهورة ، مع بيان الأرجح من دلالتها ، وتخصيص عمومها أو تقييدها والجمع بين مختلفاتها ، ولا توجد هذه الخصوصيات إلاّ في المذاهب الأربعة ، وليس مذهب بهذه الصفة إلاّ الإمامية ،

٣٥٨

والزيدية وهم أهل البدعة ».

فقال نبيل :

ـ « من تكلم أو فاه بهذا؟ ».

فقلت له :

ـ « قلت لك إنّه الشيخ احمد بن عبد الرحيم ».

ـ « أقصد ، أين وردت مقالته هذه ، في أي كتاب جاء ذكرها؟ ».

ـ « في رسالة الإنصاف للدهلوي ، ص ٧ ».

وعندها طلعتُ عليهم بما شعرت بضرورة اتحافهما به ، فقلت لهما :

ـ « إنه لا يجوز الاعتماد على أقاويل هذين ».

ـ « ولماذا؟ ».

نطق كلاهما بهذه الكلمة معاً .. وفي وقت واحد ، لم أصدق ما رأيت ، حتّى تابعت كلامي وأنا استشعر أن المسألة قد أصبحت مسألة عناد لا أكثر والتحمس للجانب مهما بلغ عليه من خطأ .. والتسليم لأي مدافع ومهما كانت هويته ، لأ نّه كان قد أنضم إليهما للدفاع عما يعتقدان به ، لا أكثر! في حين رجعت اليهما ، فقلت لهما ، وذلك من بعد أن رأيتهما قد اعتصما بالهدوء وبالرغم منهما ، وذلك بعد أن لم يلقيا أيّما أُذن صاغية من عندي ، أو من بعد أن تَعِبا ولم يلفيا مني أيّما ردود فعل تثير اهتمامهما :

ـ « هذا أهم ما عند الأخوة من أهل السنة من الأدلة. وذهب بعضهم الى القول بعصمة الأئمة الأربعة ، مستدلاً بعصمة النّبي ، وهم ورثته! فهم معصومون من الخطأ ، وإذا كانوا كذلك فيجب الرجوع اليهم وحسب! ».

ـ «؟!».

٣٥٩

ـ « ولا حاجة بنا إلى اطالة نقل أقوال المانعين لملكة الاجتهاد لعلماء الأُمّة بعد المذاهب الأربعة ، لأ نّها حجج لقضية تبتنى على عدم لياقة أي أحد بعدهم لهذه الرتبة ، وإن مدعيها ضالّ مضل ».

ـ « مدعي ماذا؟ ».

قال مازن ، أجبته :

ـ « مدعي ملكة الاجتهاد ( وحسب ما يدعون ) : .. وإن مدعيها ضالّ مضل بل ممن يريد في الأرض الفساد ، ويجب إقامة الحد عليه ، ومن أدعى من الأُمّة تلك المنزلة أو كانت له لياقة استنباط الأحكام الشرعية شنعوا عليه ، ورموه بالنكير. فهذا العلامة جلال الدين السيوطي أدعى رتبة الاجتهاد المطلق قام عليه علماء عصره فرموه بالنكير ، ووقعوا فيه ، وكذلك أنكروا على كُلّ من أدعى ذلك ».

ـ «؟!».

ـ « والواقع أن في القرون المتأخرة رجالاً برهنوا بمؤلفاتهم على تلك الملكة التي أدعي استحالتها عليهم ، حتّى فضلوا بعضهم على رؤساء المذاهب. فهذا أبو حامد أحمد بن محمّد الاسفراييني فضّلوه على الشافعي ».

قاطعني نبيل متسائلاً وبدهش مريب :

ـ « فضّلوه على الشافعي؟ ».

ـ « أجل! وكثير منهم كانوا بمنزلة من العلم لا يستبعد اتصافهم بتلك الملكة ».

ـ « مثل من؟ ».

سألني مازن ، فقلت له :

٣٦٠