مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

أخاه فلم يمحضه محض الرأي سلبه الله عز وجل رأيه.

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن سماعة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول أيما مؤمن مشى مع أخيه المؤمن في حاجة فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله.

باب خلف الوعد

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له فمن أخلف فبخلف

______________________________________________________

بشري العسل ، وتشاور القوم واشتوروا والشورى اسم منه.

« فلم يمحضه » من باب منع أو من باب الأفعال ، في القاموس : المحض اللبن الخالص ، ومحضه كمنعه سقاه المحض كأمحضه ، وأمحضه الود أخلصه كمحضه والحديث صدقه والأمحوضة النصيحة الخالصة ، وقوله : محض الرأي ، إما مفعول مطلق أو مفعول به ، وفي المصباح الرأي العقل والتدبير ، ورجل ذو رأي أي بصيرة.

الحديث السادس : موثق وقد مر باختلاف في أول السند.

باب خلف الوعد

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

قال الراغب : الوعد يكون في الخير والشر ، يقال : وعدته بنفع وضر وعدا وموعدا وميعادا ، والوعيد في الشر خاصة يقال منه : أوعدته ، ويقال واعدته وتواعدنا وقال : النذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب يقال : نذرت لله نذرا ، وقال الجوهري : الوعد يستعمل في الخير والشر قال الفراء : يقال وعدته خيرا ووعدته شرا ، فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير الوعد والعدة ، وفي الشر الإيعاد والوعيد ، قال الشاعر :

٢١

الله بدأ ولمقته تعرض وذلك قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ » (١).

______________________________________________________

وإني وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فإن أدخلوا الباء في الشر جاءوا بالألف ، يقال : أوعدني بالسجن ، والعدة الوعد والهاء عوض عن الواو ، ويجمع على عدات ، ولا يجمع الوعد ، انتهى.

فقوله عليه‌السلام : نذر أي كالنذر في جعله على نفسه أو في لزوم الوفاء به وهو أظهر ، وعدم الكفارة الظاهر أنه للتغليظ كاليمين الغموس أو للتخفيف وهو بعيد.

« فيخلف الله بدءا » لأن الله أخذ على العباد العهد بأن يعملوا بأوامره وينتهوا عما نهى عنه ، ولما أمر بالوفاء بالعهد ونهى عن الخلف عنه فمن أراد خلف العهد خالف الله فيما عاهده عليه ، وإن كان معفوا مع عدم الفعل « ولمقته » أي غضبه سبحانه « تعرض ».

وأما الآية فقال الطبرسي (ره) : قيل إن الخطاب للمنافقين وهو تقريع لهم بأنهم يظهرون الإيمان ولا يبطنونه ، وقيل : إن الخطاب للمؤمنين وتعيير لهم أن يقولوا شيئا ولا يفعلونه ، قال الجبائي : هذا على ضربين : أحدهما أن يقول سأفعله ومن عزمه أن لا يفعل وهو قبيح مذموم ، والآخر أن يقول سأفعل ومن عزمه أن يفعله والمعلوم أن لا يفعله فهذا قبيح لأنه لا يدري أيفعله أم لا ، وينبغي في مثل هذا أن يقرن بلفظ إنشاء الله « كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ ». أي كبر هذا القول وعظم مقتا عند الله وهو أن تقولوا ما لا تفعلونه وقيل : معناه كبر أن تقولوا ما لا تفعلونه وتعدوا من أنفسكم ما لا تفون به مقتا عند الله.

وقال البيضاوي : روي أن المسلمين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فأنزل « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ » (٢) قولوا يوم أحد فنزلت : « كَبُرَ مَقْتاً » المقت أشد الغضب ونصبه على التميز للدلالة على أن قولهم

__________________

( ١ و٢ ) سورة الصفّ : ٢ ـ ٤.

٢٢

______________________________________________________

هذا مقت خالص كبير عند من يحقر عنده كل عظيم ، مبالغة في المنع عنه.

وقال الرازي : منهم من قال هذه الآية في حق جماعة من المؤمنين وهم الذين أحبوا أن يعملوا بأحب الأعمال إلى الله تعالى ، فأنزل الله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ » (١) الآية ، و « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ » فأحبوا الجهاد وتولوا يوم أحد ، فأنزل الله تعالى : « لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ » وقيل : في حق من يقول قاتلت ولم يقاتل ، وطعنت ولم يطعن ، وفعلت ولم يفعل ، وقيل : أنها في حق أهل النفاق في القتال لأنهم تمنوا القتال ، فلما أمر الله تعالى به « قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ » وقيل : أنها في حق كل مؤمن لأنهم قد اعتقدوا الوفاء بما وعدهم الله من الطاعة والاستسلام والخضوع والخشوع ، فإذا لم يوجد الوفاء بما وعدهم الله خيف عليهم ، انتهى.

وأقول : الآية تحتمل وجوها بحسب ظاهر اللفظ :

الأول : ما يظهر من هذا الخبر من أنها في التعيير على خلف الوعد من الناس ، ويؤيده ما روي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال : والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله سبحانه : « كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ » فيكون على سبيل القلب ، ويكون المعنى لم لا تفعلون ما تقولون ، أو يقال : النهي المفهوم من الآية يتوجه إلى القيد ، وهو عدم الفعل كما إذا قال : لا تأتني راكبا فإن النهي يتوجه إلى الركوب ، أو يكون محمولا على وعد لا يكون صاحبه عند الوعد عازما على الفعل ، فيكون مشتملا على نوع من التدليس والكذب ، والأول أظهر وهذا النوع من الكلام شائع.

الثاني : أن يكون المراد بها ذم مخالفة عهود الله ومواثيقه ، كما هو ظاهر

__________________

(١) سورة الصفّ : ١٠.

٢٣

٢ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن شعيب العقرقوفي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » فليف إذا وعد.

______________________________________________________

بعض ما تقدم من قول المفسرين ، ويحتمل أيضا الوجهين السابقين بأن يكون الذم على عدم الفعل أو على القول مع عدم إرادة الفعل ، ويؤيده ما ذكر علي بن إبراهيم (ره) حيث قال : مخاطبة لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين وعدوه أن ينصروه ولا يخالفوا أمره ، ولا ينقضوا عهده في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فعلم الله أنهم لا يفون بما يقولون ، فقال : « لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ » الآية ، فقد سماهم الله مؤمنين بإقرارهم وإن لم يصدقوا.

الثالث : أن يكون المراد أعم من عهود الله وعهود الخلق فلا ينافي هذا الخبر ، وبه يجمع بين الأخبار ، وخصوص أخبار النزول لا ينافي عموم الحكم.

الرابع : أن يكون المعنى لم تقولون للناس وتأمرونهم بما لا تعملون به فيكون نظير قوله سبحانه : « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ » (١) وهذا المعنى ليس ببعيد من الآية ، وإن لم يذكره المفسرون وهو أيضا يرجع إلى ذم عدم الفعل لا القول ، فإن بذل العلم واجب والعمل به أيضا واجب ، فمن تركهما ترك واجبين ، ومن أتى بأحدهما فقد فعل واجبا ، لكن ترك العمل مع القول أقبح وأشنع وقد مر بعض القول فيه.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

« من كان يؤمن بالله » يحتمل أن يكون على وفق سائر الأوامر والنواهي المتوجهة إلى المؤمنين لكونهم المنتفعين بها ، ويمكن أن يكون إشارة إلى أن ذلك مقتضى الإيمان ومن لوازمه ، فمن لم يفعل ذلك فليس بمؤمن ، وقيل : أن إدخال كان على المضارع لإفادة استمراره في الماضي ، فيدل على أن خلف الوعد يوجب

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٤.

٢٤

______________________________________________________

إبطال الإيمان وكماله فيما سبق.

ثم اعلم أن هذين الحديثين مع قوة سندهما يدلان على وجوب الوفاء بالوعد ، والخبر الأول فيه تهديد شديد ، ويدل على نزول. الآية في خلف الوعد وهي مشتملة على تأكيدات ومبالغات ، فالآية بتوسط الخبر المعتبر تدل أيضا على وجوب الوفاء به.

فإن قيل : الآية لما كانت محتملة لوجوه شتى فالاستدلال بالآية مع قطع النظر عن الخبر مشكل لا سيما وقد ورد في الأخبار الخاصية والعامية أنها في المنافقين والمخالفين ، فالاستدلال إنما هو بالخبر؟

قلت : لا يبعد ادعاء ظهور الآية بإطلاقها أو بعمومها لا سيما مع كون « ما » موصوفة فيما يشمل خلف الوعد أيضا ، وقد عرفت أن خصوص سبب النزول لا يصير سببا لخصوص الحكم ، فظهر أنه يمكن الاستدلال بالآية مع قطع النظر عن الخبر أيضا ، وظاهر أكثر أصحابنا استحباب الوفاء به إن لم يكن في ضمن عقد لازم ، ويدل على الوجوب أيضا ما مر في كثير من الأخبار أنه من صفات الإيمان ، وإن خلفه من صفات النفاق.

وقد مر في باب أصول الكفر أنه سئل الصادق عليه‌السلام : رجل على هذا الأمر إن حدث كذب وإن وعد أخلف وإن ائتمن خان ما منزلته؟ قال : هي أدنى المنازل من الكفر وليس بكافر ، وفي الباب المذكور عنه عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثلاث من كن فيه كان منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ، من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وقد روي أيضا في الموثق وغيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، كان ممن حرمت غيبته وكملت مروته ، وظهر عدله ووجبت إخوته.

فيدل على أن من أخلف الوعد تجوز غيبته ، ومعلوم أنه ليس تجويز

٢٥

______________________________________________________

الغيبة هنا إلا من جهة الفسق.

فإن قيل : المترتب على هذه الصفات أربعة أمور مفهومه أن مع عدم كل من تلك الخصال لا تجتمع تلك الأربعة ، فلعل ذلك بانتفاء أمر آخر سوى حرمة الغيبة.

قلت : الظاهر من العطف استقلال كل في الحكم ، كما إذا قلت جاء زيد وعمرو ، كان بمنزلة قولك جاء زيد وجاء عمرو ، وكون الواو بمعنى مع نادر.

ثم اعلم أنه لا بد من تقييد الخبر بما إذا لم يرتكب سائر الكبائر ، بل المقصود في الخبر إفادة المفهوم لا المنطوق فافهم ، والأخبار في ذلك كثيرة ويستفاد من عموم كثير من الآيات أيضا ذلك نحو قوله سبحانه : « وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً » (١) ويشمل بعمومه أو إطلاقه عهود الخلق أيضا ، والعهد والوعد متقاربان ، وقوله : « وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا » (٢).

وروى الصدوق في الخصال بإسناده عن عنبسة بن مصعب قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ثلاثة لم يجعل الله تعالى لأحد فيه رخصة : بر الوالدين برين كانا أو فاجرين ، والوفاء بالعهد للبر والفاجر ، وأداء الأمانة للبر والفاجر.

ويؤيدها أيضا أخبار كثيرة كما روى الكليني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا قال الرجل للرجل هلم أحسن بيعك يحرم عليه الربح ، وقد ورد في أخبار صحيحة وغير صحيحة : المسلمون عند شروطهم إلا ما خالف كتاب الله ، وليس فيها التقييد بكونها في ضمن العقد ، وكذا ما روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أن عليا عليه‌السلام كان يقول : من شرط لامرأته شرطا فليف به ، فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا ، أو أحل حراما.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٣٤.

(٢) سورة البقرة : ١٧٧.

٢٦

______________________________________________________

وقد يستدل على الجواز بما رواه الكليني (ره) بإسناده عن الحسين بن المنذر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة فأشتري له المتاع مرابحة ثم أبيعه إياه ثم أشتريه منه مكاني؟ قال : إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، وكنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر فلا بأس.

وبإسناده عن خالد بن الحجاج قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يجيء فيقول : اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا ، قال : أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟ قلت : بلى قال : لا بأس به ، إنما يحل الكلام ويحرم الكلام.

وبإسناده أيضا عن معاوية بن عمار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يجيئني الرجل فيطلب مني بيع الحرير وليس عندي منه شيء فيقاولني عليه وأقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء ، ثم أذهب فأشتري له الحرير فأدعوه إليه؟ فقال : أرأيت إن وجد بيعا هو أحب إليه مما عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه؟ قلت : نعم قال : لا بأس.

وروي مثله باختلاف يسير بأسانيد كثيرة.

ووجه الاستدلال بها أنها تدل على أن محض المواعدة بينهما لا يوجب الوفاء من الجانبين ما لم يكن بيعه وكالة عنه.

والجواب أنه يحتمل أن يكون المعنى أنها ليست مواعدة حتمية بل يقول اشتر لنفسك إن شئت اشتريته منك وإلا فلا ، لكنه بعيد.

وأقول : يمكن أن يستدل بما ورد في الأيمان والنذور من أنه مع عدم التلفظ. بالصيغة بشرائطها لا يلزمه الوفاء بها ، وظاهره شمولها لما إذا وقعت المواعدة بينهما ويمكن أن يستدل عليه بما رواه الكليني (ره) عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن

٢٧

______________________________________________________

إسماعيل بن مرار عن يونس في المدبر والمدبرة يباعان يبيعهما صاحبهما في حياته فإذا مات فقد عتقا ، لأن التدبير عدة وليس بشيء واجب ، فإذا مات كان المدبر من ثلثه الذي يتركه ، وفرجها حلال لمولاها الذي دبرها ، وللمشتري الذي اشتراها حلال بشرائه قبل موته ، فإن الظاهر أنه فرع كون عدم الوجوب على كونه عدة فيدل على أنه لا يجب الوفاء بها.

ويرد عليه وجوه من الإيراد : الأول : إن الخبر مجهول بابن مرار فلا يمكن إثبات نفي الوجوب به.

الثاني : أنه موقوف لم يسنده إلى إمام ويشبه أن يكون من اجتهادات يونس وتلفيقاته كما هو دأبه في أكثر المواضع ، ولذا كان المحدثون يقدحون فيه مع جلالته بالاجتهاد والرأي ، وتشويش الكلام يدل عليه أيضا.

الثالث : إن ما تضمنه من حكم التدبير خلاف المشهور بين الأصحاب لا سيما المتأخرين.

الرابع : أن قوله : عدة معلوم أنه ليس بمحمول على الحقيقة ، بل هو على التشبيه والمجاز ، فإن التدبير إما عتق بشرط أو وصية بالعتق باتفاق الخاصة والعامة وليس شيء منهما وعدا ، بل الوعد ما يعده الرجل أن يفعله بنفسه ، فيمكن أن يكون التشبيه من جهة أنه لا يترتب عليه حكمه الآن ، بل يتوقف على حلول الأجل.

الخامس : سلمنا أن الحمل على الحقيقة لا نسلم كون عدم الوجوب تفريعا بل يمكن أن يكون تقييدا له.

السادس : أنه لو سلمنا أنه تفريع فالتفريع من جهة أنه لا يترتب عليه حكم العتق قبل الأجل وإلا لكان الكلام متناقضا ، ونحن لا نقول في الوعد أنه يجب الوفاء به قبل محله بل نرجع ونستدل به على وجوب الوفاء بالوعد لأنه فرع وجوب التدبير ولزومه بعد الموت ، على كونه عدة فالوفاء بالوعد بعد حلول الأجل واجب ،

٢٨

______________________________________________________

فظهر أن مفاد كلامه أن التدبير ليس عتقا منجزا لا يمكن التصرف في المدبر ، قبل حلول الأجل الذي هو الموت ، بل هو عدة أي معلق على شرط وليس بشيء واجب أي لازم منجز يترتب عليه حكمه عند إيقاعه ، بل يتوقف على حصول شرطه فلا دلالة له على عدم وجوب الوفاء بالوعد ، بل دلالته على الوجوب أقرب ، وبقي في زوايا المقام خبايا أحلناها على فهم المتأمل.

وقد يستدل على عدم الجواز بأنه كذب وهو قبيح وحرام ، وعندي فيه نظر لا لما قيل أن الكذب لا يكون إلا في الماضي أو الحال ولا يكون في المستقبل ، فإنه سخيف فإن المنكر للمعاد لا ريب أنه كاذب ، والمنجم إذا أخبر بوقوع أمر في المستقبل ولم يقع يقال : أنه كاذب ، ويصدق عليه تعريف الكذب ، بل لأن الوعد ليس من هذا القبيل بل هو معاملة تجري بين المتواعدين ، فإن المولى إذا قال لعبده إذا فعلت الفعل الفلاني أعطيتك درهما وإذا فعلت الفعل الفلاني ضربتك سوطا ليس المراد به الإخبار من وقوع أحد الأمرين بل هو إلزام أمر عليه أو على نفسه ، وإن علم أنه لا يوقعه كالبيع والشراء والبيعة ، فإنها إنشاء أمر يوجب عليه متابعة من بايعه لا محض الإخبار عن ذلك ، فإنا نجد الفرق بين أن يعد زيد عمروا أن يعطيه درهما أو بأن يخبر بأن سيعطيه درهما لكن ليس من إنشاء إلا ويلزمه خبر يجري فيه الصدق والكذب ، فما ورد من نسبة الصدق إلى الوعد من هذا القبيل ، كقوله تعالى : « إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ » (١) فإذا خالف الوعد فليس هذا من الكذب المصطلح في شيء ، نعم إذا وعده وكان عازما على عدم الوفاء كان كذبه في لازم الإنشاء ، فإن الوعد يدل ضمنا على أنه عازم على عدم الوفاء كان كذبه في لازم الإنشاء ، فإن الوعد يدل ضمنا على أن عازم على الوفاء ، كما أن أضرب يدل على أنه يريد إيقاع الضرب وليس مدلول الوعد الإخبار عن أنه عازم على أن يفعل ذلك ، وحرمة هذا الكذب الضمني في محل المنع ، وكذا شمول الآيات والأخبار الدالة على حرمة الكذب له ممنوع.

__________________

(١) سورة مريم : ٥٣.

٢٩

______________________________________________________

ولو سلم فلا يدل على حرمة الخلف مطلقا قال الراغب : الصدق والكذب أصلهما في القول ماضيا كان أو مستقبلا ، وعدا كان أو غيره ، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول ، ولا يكون من القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام ، ولذلك قال : « وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً » (١) « وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً » (٢) « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ » (٣) وقد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام الاستفهام والأمر والدعاء وذلك ، نحو قول القائل : أزيد في الدار؟ فإن في ضمنه أخبارا بكونه جاهلا بحال زيد ، وكذا إذا قال. واسني ، في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة ، وإذا قال : لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه ، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد ، نحو صدق ظني وكذب ، ويستعملان في أعمال الجوارح فيقال : صدق في القتال إذا وفي حقه ، وفعل على ما يجب وكما يجب ، وكذب في القتال إذا كان على خلاف ذلك ، قال الله تعالى : « رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ » (٤) أي حققوا العهد بما أظهروه من أفعالهم ، انتهى.

فقد تبين أن للصدق والكذب معاني غير المعنى المصطلح ، فنسبة الصدق والكذب إلى الوعد محمول على بعض تلك المعاني المجازية ، فظهر أن حسن الوفاء بالوعد أو وجوبه ليس من جهة أن مخالفته تستلزم الكذب حتى يقال : أن ذلك يجري في الوعيد أيضا ، ويجاب بأن الكذب في المصلحة حسن ، بل من جهة أن العقل يحكم بحسن الوفاء بالعهد أو بقبح خلفه ، ويحكم في الوعيد بخلاف ذلك ، وكذلك

__________________

(١) سورة النساء : ١٢٢ ، ٧٨.

(٢) سورة النساء : ١٢٢ ، ٧٨.

(٣) سورة مريم : ٥٤.

(٤) سورة الأحزاب : ٢٣.

٣٠

______________________________________________________

الكلام في وعده سبحانه ووعيده ، لكن مخالفة الوعد فيه تعالى محال لأخباره بأنه لا يخلف الميعاد ، بخلاف الوعيد فإنه لم يقل أنه لا يخلف الوعيد بل وعد عباده بالعفو والصفح والمغفرة ، وليس ذلك من الكذب في شيء ، هذا ما تبين لي في هذا المقام لكن ظاهر المحققين من أصحابنا والمخالفين أن الوعد من نوع الخبر وهو محتمل للصدق والكذب وكذا الوعيد ، مع أن ظاهر أكثر أصحابنا أن الوفاء بالوعد مستحب كما قالوا في كثير من الشروط إذا لم يكن في ضمن العقد اللازم هو وعد يستحب الوفاء به ، ولنذكر بعض كلماتهم :

قال السيد الشريف في حاشية شرح التخليص : الخبر إذا قيد حكمه بزمان أو قيد آخر كان صدقه بتحقق حكمه في ذلك الزمان أو مع ذلك القيد ، وكذبه بعدمه فيه أو معه ، وإذا لم يقيد فصدقه بتحققه في الجملة ، وكذبه بمقابله ، فإذا قلت أضرب زيدا وأردت الاستقبال فإن تحقق ضربك إياه في وقت من الأوقات المستقبلة كان صادقا وإلا فكاذبا ، وكذلك إذا قلت أضربه يوم الجمعة أو قائما فلا بد في صدقه من تحقق ضربك إياه وتحقق ذلك القيد معه ، فإن لم يضربه أو ضربه في غير حالة القيام كان كاذبا ، وكذلك إذا كان القيد ممتنعا كقولك اضربه في زمان لا يكون ماضيا ولا حالا ولا مستقبلا ، فالخبر يكون كاذبا.

وبالجملة انتفاء القيد سواء كان ممتنعا أو غير ممتنع يوجب انتفاء المقيد من حيث هو مقيد فيكذب الخبر الذي يدل عليه ، وكيف لا وقولك أضربه يوم الجمعة أو قائما مشتمل على وقوع الضرب منك عليه ، وعلى كون ذلك الضرب واقعا يوم الجمعة أو مقارنا للقيام ، فلو فرض انتفاء القيام مثلا لم يكن الضرب المقارن له موجودا فينتفى مدلول الخبر ، فيكون كاذبا سواء وجد منك ضرب في حال غير القيام أو لم يوجد ، انتهى.

٣١

______________________________________________________

وهذا لا دلالة فيه على كون الوعد خبرا بل إنما يدل على أنه يمكن تعلق الخبر بالمستقبل ولا ريب فيه ، وإن زعم بعضهم اختصاصه بالماضي والحال كما عرفت والخبر عن الآتي لا ينحصر في الوعيد والوعد ، بل يمكن أن يكون الغرض فيه محض الإخبار.

وإنما أوردت ذلك لئلا يتوهم متوهم أنه يمكن الاستدلال به وإن كان لا حجة في قوله ، ولتستعين به على فهم بعض ما سيأتي من الوجوه في بعض الآيات.

وقال في شرح المقاصد : تمسك القائلون بجوار العفو عقلا وامتناعه سمعا بالنصوص الواردة في وعيد الفساق وأصحاب الكبائر ، فلو تحقق العفو وترك العقوبة بالنار لزم الخلف في الوعيد والكذب في الإخبار ، واللازم باطل فكذا الملزوم ، وأجيب : بأنهم داخلون في عمومات الوعد بالثواب ودخول الجنة على ما مر ، والخلف في الوعد لؤم لا يليق بالكريم وفاقا ، بخلاف الخلف في الوعيد فإنه ربما يعد كرما.

ثم ساق الكلام إلى أن قال : نعم لزوم الكذب بإخبار الله تعالى مع الإجماع على بطلانه ولزوم تبديل القول مع النص الدال على انتفائه مشكل ، فالجواب الحق أن من تحقق العفو في حقه يكون خارجا عن عموم اللفظ بمنزلة التائبين.

فإن قيل : صيغة العموم المعرية عن دليل الخصوص يدل على إرادة كل فرد مما يتناوله التنصيص عليه باسم الخاص ، فإخراج البعض بدليل متراخ يكون نسخا وهو لا يجري في الخبر للزوم الكذب ، وإنما التخصيص هو الدلالة على أن المخصوص غير داخل في العموم ولا يكون ذلك إلا بدليل متصل؟

قلنا : ممنوع بل إرادة الخصوص من العام والتقييد من المطلق شائع من غير دليل متصل ، ثم دليل التخصيص والتقييد بعد ذلك وإن كان متراخيا بيان لا نسخ

٣٢

______________________________________________________

وهذا هو المذهب عند الفقهاء الشافعية والقدماء من الحنفية ، وكانوا ينسبون القول بخلاف ذلك إلى المعتزلة ، إلا أن المتأخرين منهم تعدون ذلك نسخا ويخصون التخصيص بما يكون دليله متصلا ويجوزون الخلف في الوعيد ، ويقولون الكذب يكون في الماضي دون المستقبل ، وهذا ظاهر الفساد فإن الأخبار بالشيء على خلاف ما هو كذب ، سواء كان في الماضي أو في المستقبل ، قال الله تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً » (١) ثم قال : « وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ » على أن المذهب عندنا أن أخبار الله تعالى أزلي لا يتعلق بالزمان ولا يتغير المخبر به ، على ما سبق في بحث الكلام.

ثم قال : وللإمام الرازي هنا جواب إلزامي وهو أن صدق كلامه لما كان عندنا أزليا امتنع كذبه ، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، وأما عندكم فإنما امتنع كذبه لكونه قبيحا ، ولم قلتم أن هذا الكذب قبيح وقد توقف عليه العفو الذي هو غاية الكرم ، وهذا كمن أخبر أنه يقتل زيدا غدا ظلما ، ففي الغد إما أن يكون الحسن قتله وهو باطل ، وأما ترك قتله وهو الحق لكنه لا يوجد إلا عند وجود الكذب ، وما لا يوجد الحسن إلا عند وجوده حسن قطعا فهذا الكذب حسن قطعا.

ويمكن دفعه بأن الكذب في إخبار الله تعالى قبيح وإن تضمن وجوها من المصلحة ، وتوقف عليه أنواع من الحسن لما فيه من مفاسد لا تحصى ، ومطاعن في الإسلام لا تخفى ، منها مقال الفلاسفة في المعاد ، ومجال الملاحدة في العناد ، ومنها بطلان ما وقع عليه الإجماع من القطع بوجود الكفار في النار ، فإن غاية الأمر شهادة النصوص القاطعة بذلك وإذا جاز الخلف لم يبق القطع إلا عند شرذمة لا

__________________

(١) سورة الحشر : ١١.

٣٣

______________________________________________________

يجوزون العفو عنهم في الحكمة ، على ما يشعر به قوله تعالى : « أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (١) وغير ذلك من الآيات.

ووجه التفرقة أن المعاصي قلما تخلو عن خوف عقاب ورجاء رحمة وغير ذلك من خيرات تقابل ما ارتكب من المعصية اتباعا للهوى ، بخلاف الكافر ، وأيضا الكفر مذهب والمذهب يعتقد للأبد وحرمته لا تحتمل الارتفاع أصلا ، فكذلك عقوبته بخلاف المعصية فإنها لوقت الهوى والشهوة ، وأما من جوز العفو عقلا والكذب في الوعيد إما قولا بجواز الكذب المتضمن لفعل الحسن ، أو بأنه لا كذب بالنسبة إلى المستقبل ، فمع صريح إخبار الله تعالى بأنه لا يعفو عن الكافر ، ويخلده في النار ، فجواز الخلف وعدم وقوع مضمون هذا الخبر محتمل ، ولما كان هذا باطلا علم أن القول بجواز الكذب في إخبار الله تعالى باطل قطعا.

وقال المحقق الدواني في شرح العقائد : لا يجب الثواب عليه تعالى في الطاعة ولا العقاب على المعصية خلافا للمعتزلة والخوارج ، فإنهم أوجبوا عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة على الله تعالى ، وحرموا عليه العفو ، واستدلوا عليه بأن الله تعالى أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب ، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره ، وهما محالان على الله تعالى.

وأجيب عنه : بأن غايته عدم وقوعه ولا يلزم منه الوجوب على الله تعالى ، واعترض عليه الشريف العلامة بأنه حينئذ يلزم جوازهما وهو محال ، لأن إمكان المحال محال ، وأجاب عنه بأن استحالتهما ممنوعة كيف وهما من الممكنات يشملهما قدرة الله تعالى عليهما.

قلت : الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال ، فلا يكون من الممكنات ولا يشملهما القدرة كسائر وجوه النقص عليه كالجهل والعجز ونفي صفة الكلام وغيرها

__________________

(١) سورة القلم : ٣٥.

٣٤

______________________________________________________

من صفات الكمال ، بل الوجه في الجواب ما أشرنا إليه سابقا من أن الوعد والوعيد مشروطتان بقيود وشروط معلومة من النصوص فيجوز التخلف بسبب انتفاء بعض تلك الشروط ، وأن الغرض منهما إنشاء الترغيب والترهيب.

على أنه بعد التسليم إنما يدل علي أن استحالة وقوع التخلف لا على الوجوب عليه ، إذ فرق بين استحالة الوقوع وبين الوجوب عليه كما أن إيجاد المحال محال على الله تعالى ، ولا يقال : أنه حرام عليه بل الوجوب والحرمة ونحوهما فرع القدرة على الواجب والحرام.

واعلم أن بعض العلماء ذهب إلى أن الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى ، وممن صرح به الواحدي في تفسير الوسيط في قوله تعالى في سورة النساء : « وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها » (١) حيث قال : والأصل في هذا أن الله تعالى يجوز أن يخلف الوعيد وإن كان لا يجوز أن يخلف الوعد وبهذا وردت السنة ، ثم ذكر في ذلك أخبارا.

ثم قال : وقيل : إن المحققين على خلافه كيف وهو تبديل للقول وقد قال الله تعالى : « ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ » (٢) قلت : إن حمل آيات الوعيد على إنشاء التهديد ، فلا خلاف لأنه حينئذ ليس خبرا بحسب المعنى وإن حمل على الإخبار كما هو الظاهر ، فيمكن أن يقال بتخصيص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد بالدلائل المفصلة ولا خلف على هذا التقدير أيضا فلا يلزم تبدل القول ، وأما إذا لم نقل بأحد هذين الوجهين فيشكل التفصي عن لزوم التبدل والكذب ، إلا أن تحمل آيات الوعيد على استحقاق ما أوعد به لا على وقوعه بالفعل ، وفي الآية المذكورة إشارة إلى ذلك حيث قيل « فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها » انتهى.

__________________

(١) سورة النساء : ٩٣.

(٢) سورة ق : ٢٩.

٣٥

______________________________________________________

وقال الرازي في تفسير قوله تعالى : « بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ » (١) اختلف أهل القبلة في وعيد أصحاب الكبائر فمن الناس من قطع بوعيدهم وهم فريقان ، منهم من أثبت الوعيد المؤبد وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج ، ومنهم من أثبت وعيدا منقطعا ، ومن الناس من قطع بأنه لا وعيد لهم وهو قول شاذ ، والقول الثالث إنا نقطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة وعن بعض المعاصي ، لكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا ، ونقطع بأنه إذا عذب أحدا منهم فإنه لا يعذبه أبدا بل يقطع عذابه وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة وأكثر الإمامية ، وبسط الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه ولا يناسب ذكرها في هذا المقام ، ويرجع حاصل أجوبته عن دلائل الخصم إلى أن آيات العفو مخصصة ومقيدة لآيات العقاب.

وقال في قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ » (٢) كلاما طويلا في ذلك ثم قال في آخر كلامه : فأما قولك إنه لو لم يفعل لصار كاذبا أو مكذبا نفسه ، فجوابه أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط ، وعندي جميع الوعيدات مشروط بعدم العفو ، فلا يلزم من تكره دخول الكذب في كلام الله ، انتهى.

ومما يدل على أنهم يعدونه خبرا أنهم يحكمون بوجوب الاستثناء فيما يعده الإنسان أو يخبر بإيقاعه ، إما بالقول أو بالضمير ، قال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه عند تأويل قوله تعالى : « وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ » (٣) الآية ، فأما قول بعضهم أن ذنبه من حيث لم يستشهد بمشية الله لما قال : تلد كل واحدة منهن غلاما فهذا غلط ، لأنه عليه‌السلام وإن لم يستثن ذلك فقد استثناه ضميرا واعتقادا ، إذ لو كان قاطعا مطلقا للقول

__________________

(١) سورة البقرة : ٨١.

(٢) سورة آل عمران : ٩.

(٣) سورة ص : ٣٤.

٣٦

______________________________________________________

لكان كاذبا ، أو مطلقا لما لا يأمن أن يكون كذبا ، وذلك لا يجوز عند من جوز الصغائر على الأنبياء.

ونحوه قال الشيخ الطبرسي قدس‌سره في تأويل تلك الآية ، وهذا الكلام وإن كان فيما ظاهره الخبر لكن سيأتي منهما رضي الله عنهما ما يدل على أنهم لا يفرقون في ذلك بين الوعد والخبر.

وأقول : كلام كثير من أصحابنا جار هذا المجرى ، وسلموا كون الوعد أو الوعيد خبرا فعلى هذا يشكل القول بجواز مخالفة الوعد من غير عذر ومصلحة ، وأما الوعيد فتكون مخالفته من قبيل الكذب المجوز للمصلحة إذ لا خلاف في أن خلف الوعيد ليس بحرام بل هو حسن ، فيكون جوازه مشروطا بمصلحة مجوزة للكذب ، والقول بهذا أيضا مشكل فإن العبد إذا استحق من المولى تأديبا وأوعده ذلك من غير مصلحة في ذلك الوعيد ، ثم عفا عنه يكون كذبا بغير مصلحة وحراما ، ولا أظن أحدا قال بذلك إلا أن يقال العفو من الصفات الحسنة والأفعال الجميلة ، فإذا صادف الكذب يصير به حسنا ، وفيه بعد.

وأيضا لو كان قبح خلف الوعد من جهة الكذب لزم إذا قال رجل أركب غدا مخبرا بذلك من غير أن يعد أحدا ثم بدا له ولم يركب أن يكون عاصيا ، ولعله مما لم يقل به أحد ، فالأولى جعلهما من قبيل الإنشاء لا الخبر ، فلا يوصفان بالصدق والكذب ، وإطلاقهما عليهما على التوسع والمجاز.

ومما ينبه على ذلك أن الصدق والمكذب إنما يطلقان على ما يتصف بهما حين القول ، لا ما يكون تصديقه وتكذيبه باختيار القائل ، وليس هذا دليلا ولكنه منبه ويمكن المناقشة فيه.

فإن قيل : لم لم يعد أهل العربية الوعد من أقسام الإنشاء؟ قلت : مدارهم على ذكر الإطلاقات اللغوية ومصطلحاتهم ، ولذا لم يعدوا بعت واشتريت وأنكحت

٣٧

______________________________________________________

وآجرت وأمثالها من أنواع الإنشاء ، لأنها من الحقائق الشرعية لا من الحقائق اللغوية.

قال الشهيد قدس‌سره : الإنشاء أقسام القسم والأمر والنهي والترجي والعرض والنداء قيل : وهذه تبنى على كونها إنشاء في الإسلام والجاهلية ، وأما صيغ العقود فالصحيح أنها إنشاء ، وقال بعض العامة : هي أخبار على الوضع اللغوي والشرع قدم مدلولاتها قبل النطق بها لضرورة تصديق المتكلم بها والإضمار أولى من النقل ، وهو تكلف.

ثم اعلم أنه على تقدير القول بالوجوب ، فالظاهر أنه يستثنى منه أمور : الأول : الاستثناء بالمشية ، وقول إن شاء الله فإنه يحل النذور والأيمان المؤكدة كما صرح به في الأخبار ويدل عليه قوله تعالى : « وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ » (١).

قال الطبرسي قدس‌سره قد ذكر في معناه وجوه : أحدها أنه نهي من الله لنبيه عليه وآله السلام أن يقول أفعل شيئا في الغد إلا أن يقيد ذلك بمشية الله تعالى ، فيقول : إن شاء الله ، قال الأخفش : وفيه إضمار القول ، فتقديره إلا أن تقول إن شاء الله ، فلما حذف تقول فقل إن شاء الله إلى لفظ الاستقبال ، فيكون هذا تأديبا من الله لعباده وتعليما لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع ، فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوا ذلك لمانع ، وهذا معنى قول ابن عباس.

وثانيها : أن قوله أن يشاء الله بمعنى المصدر وتعلق بما تعلق به على ظاهره ، وتقديره ولا تقولن إني فاعل شيئا غدا إلا بمشية الله ، عن الفراء وهذا وجه حسن يطابق الظاهر ، ولا يحتاج فيه إلى بناء الكلام على محذوف ، ومعناه لا تقل إني

__________________

(١) سورة الكهف : ٢٤.

٣٨

______________________________________________________

أفعل إلا ما يشاء الله ويريده ، وإذا كان الله تعالى لا يشاء إلا الطاعات فكأنه قال لا تقل إني أفعل إلا الطاعات ، ولا يطعن على هذا بجواز الإخبار عما يفعل من المباحات التي لا يشاءها الله تعالى ، لأن هذا النهي نهي تنزيه لا نهي تحريم ، بدلالة أنه لو لم يقل ذلك لم يأثم بلا خلاف.

وثالثها : أنه نهي عن أن يقول الإنسان سأفعل غدا وهو يجوز الاخترام قبل أن يفعل ما أخبر به فلا يوجد مخبره على ما أخبر به فهو كذب ، ولا يأمن أيضا أن لا يوجد مخبره بحدوث شيء من فعل الله تعالى نحو المرض والعجز ، أو بأن يبدو له هو في ذلك فلا يسلم خبره من الكذب إلا بالاستثناء الذي ذكره الله تعالى ، فإذا قال إني صائر غدا إلى المسجد إن شاء الله أمن من أن يكون خبره هذا كذبا لأن الله إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد غدا حصل المصير إليه منه لا محالة ، فلا يكون خبره هذا كذبا وإن لم يوجد المصير منه إلى المسجد لأنه لم يوجد ما استثناه في ذلك من مشية الله تعالى عن الجبائي ، وقد ذكرنا فيما قبل ما جاء في الرواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين فقال : أخبركم عنه غدا ولم يستثن فاحتبس عنه الوحي أياما حتى شق عليه ، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشية الله.

وقوله : « وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ » (١) فيه وجهان أحدهما أنه كلام متصل بما قبله ثم اختلف في ذلك فقيل : معناه « وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ » الاستثناء ثم تذكرت فقل إنشاء الله ، وإن كان بعد يوم أو شهر أو سنة عن ابن عباس ، وقد روي ذلك عن أئمتنا عليهم‌السلام ، ويمكن أن يكون الوجه فيه أنه إذا استثني بعد النسيان فإنه يحصل له ثواب المستثنى من غير أن يؤثر الاستثناء بعد انفصال الكلام في الكلام ،

__________________

(١) سورة الكهف : ٢٤.

٣٩

______________________________________________________

وفي إبطال الحنث وسقوط الكفارة في اليمين وهو الأشبه بمراد ابن عباس في قوله ، وقيل : فاذكر الاستثناء ما لم تقم من المجلس عن الحسن ومجاهد ، وقيل : فاذكر الاستثناء إذا تذكرت ما لم ينقطع الكلام وهو الأوجه ، وقيل : معناه « وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ » الاستثناء بأن تندم على ما قطعت عليه من الخبر عن الأصم ، والآخر أنه كلام مستأنف.

ثم قال (ره) : قال السيد الأجل المرتضى قدس الله روحه : اعلم أن للاستثناء الداخل على الكلام وجوها مختلفة فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الإخبار ، فإذا دخل في ذلك اقتضى التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ، ولذلك يصير ما يتكلم به كأنه لا حكم له ، وكذلك يصح على هذا الوجه أن يستثني الإنسان في الماضي فيقول : قد دخلت الدار إن شاء الله ليخرج بهذا الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزم به حكما ، وإنما لم يصح دخوله في المعاصي على هذا الوجه ، لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصح ذلك فيها.

وهذا الوجه أحد ما يحتمله تأويل الآية ، وقد يدخل الاستثناء في الكلام ويراد به اللطف والتسهيل وهذا الوجه يختص بالطاعات ، ولهذا جرى في قول القائل لأقضين غدا ما علي من الدين أو لأصلين غدا إنشاء الله مجرى أن يقول إني فاعل إن لطف الله فيه وسهلة ، ومتى قصد الحالف هذا الوجه لم يحنث إذا لم يقع منه الفعل أن يكون حانثا أو كاذبا لأنه إذا لم يقع منه الفعل علمنا أنه لم يلطف فيه لأنه لا لطف له.

وهذا الوجه لا يصح أن يقال في الآية لأنه يختص الطاعات والآية تتناول كلما لم يكن قبيحا بدلالة إجماع المسلمين على حسن ما تضمنته في كل فعل لم يكن قبيحا.

٤٠