مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

شرب الخمر والتي تحبس الرزق الزنا والتي تعجل الفناء قطيعة الرحم والتي ترد الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول كان أبي عليه‌السلام يقول نعوذ بالله من الذنوب التي

______________________________________________________

ولما كان الظلم مذكورا بعد ذلك ، فالمراد به التطاول والتكبر فإنهما موجبان لرفع النعمة ، وسلب العزة كما خسف الله بقارون.

وقد مر أن التواضع سبب للرفعة ، والتكبر يوجب المذلة أو المراد به البغي على الإمام أو الفساد في الأرض.

والذنوب التي تورث الندم القتل فإنه يورث الندامة في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى في قابيل حين قتل أخاه « فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ » (١) » والتي تنزل النقم الظلم كما يشاهد من أحوال الظالمين وخراب ديارهم واستئصال أولادهم وأموالهم كما هو معلوم من أحوال فرعون وهامان وبني أمية وبني العباس وأضرابهم ، وقد قال تعالى : « فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا » (٢).

وهتك الستور بشرب الخمر ظاهر ، وحبس الرزق بالزنا مجرب فإن الزناة وإن كانوا أكثر الناس أموالا عما قليل يصيرون أسوأ الناس حالا ، وقد يقرأ هنا الربا بالراء المهملة والباء الموحدة ، وهي تحبس الرزق لقوله تعالى : « يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ » (٣).

وإظلام الهواء إما كناية عن التحير في الأمور أو شدة البلية أو ظهور آثار غضب الله في الجو.

الحديث الثاني : حسن موثق.

قوله : وهي قطعية الرحم ، الظاهر أنه من كلام الباقر وقيل : هو كلام الصادق

__________________

(١) سورة المائدة : ٣١.

(٢) سورة النمل : ٥٢.

(٣) سورة البقرة : ٢٧٦.

٣٤١

تعجل الفناء وتقرب الآجال وتخلي الديار وهي قطيعة الرحم والعقوق وترك البر.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أيوب بن نوح أو بعض أصحابه ، عن أيوب ، عن صفوان بن يحيى قال حدثني بعض أصحابنا قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إذا

______________________________________________________

عليهما‌السلام وهو بعيد ، والظاهر أن الجميع يترتب على كل واحد ، لأن تعجيل الفناء وتقريب الآجال متساوقان ، فيكون الثاني تأكيدا للأول أو إشعارا بأن تعيين الآجال لا ينافي ذلك ، فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ، ويحتمل أن يكون النشر على ترتيب اللف ، ولا ينافي تقارب المعنيين الأولين مع أنه يمكن أن يكون المراد بالفناء فناء الأموال وإن كان بعيدا ، والبر بر الوالدين أو الأعم.

الحديث الثالث : مرسل.

والخفر والإخفار الغدر ونقض العهد ، والإدالة الغلبة ، وفي الدعاء : أدل لنا ولا تدل منا ، وذلك لأنهم ينقضون الأيمان ويخالفون الله في ذلك للغلبة ، فيورد الله عليهم نقيض مقصودهم ، كما أنهم يمنعون الزكاة لحصول الغناء مع أنها سبب لنمو أموالهم ، فيذهب الله ببركتها ويحوجهم وكون المراد حاجة الفقراء كما قيل بعيد ، نعم يحتمل الأعم.

وأقول : روى الصدوق (ره) في كتاب معاني الأخبار خبرا مبسوطا في ذلك ناسب إيراده هنا ، روى بإسناده عن أبي خالد الكابلي قال : سمعت علي بن الحسين عليه‌السلام يقول :

الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس ، والزوال عن العادة في الخير ، واصطناع المعروف وكفران النعم ، وترك الشكر ، قال الله تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ » (١).

__________________

(١) سورة الرعد : ١١.

٣٤٢

فشا أربعة ظهرت أربعة إذا فشا الزنا ظهرت الزلزلة وإذا فشا الجور في الحكم احتبس القطر وإذا خفرت الذمة أديل لأهل الشرك من أهل الإسلام وإذا منعت

______________________________________________________

والذنوب التي تورث الندم قتل النفس التي حرم الله قال الله تعالى في قصة قابيل حين قتل أخاه هابيل ، فعجز عن دفنه : « فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ » (١) وترك صلة القرابة حتى يستغنوا ، وترك الصلاة حتى يخرج وقتها ، وترك الوصية ورد المظالم ومنع الزكاة حتى يحضر الموت وينغلق اللسان.

والذنوب التي تنزل النقم عصيان المعارف بالبغي ، والتطاول على الناس ، والاستهزاء بهم والسخرية منهم.

والذنوب التي تدفع القسم إظهار الافتقار ، والنوم عن العتمة عن صلاة الغداة واستحقار النعم ، وشكوى المعبود عز وجل. والذنوب التي تهتك العصم شرب الخمر واللعب بالقمار وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح ، وذكر عيوب الناس ومجالسة أهل الريب.

والذنوب التي تنزل البلاء ترك إغاثة الملهوف ، وترك معاونة المظلوم ، وتضييع الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. والذنوب التي تدل الأعداء المجاهرة بالظلم ، وإعلان الفجور ، وإباحة المحظور وعصيان الأخيار والانطباع للأشرار.

والذنوب التي تعجل الفناء قطيعة الرحم ، واليمين الفاجرة ، والأقوال الكاذبة والزنا وسد طريق المسلمين ، وادعاء الإمامة بغير حق.

والذنوب التي تقطع الرجاء اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والثقة بغير الله ، والتكذيب بوعد الله.

والذنوب التي تظلم الهواء السحر والكهانة ، والإيمان بالنجوم ، والتكذيب بالقدر ، وعقوق الوالدين.

والذنوب التي تكشف الغطاء الاستدانة بغير نية الأداء ، والإسراف في النفقة على الباطل ، والبخل على الأهل والولد ، وذوي الأرحام ، وسوء الخلق ، وقلة الصبر

__________________

(١) سورة المائدة : ٣١.

٣٤٣

الزكاة ظهرت الحاجة.

باب نادر

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد العزيز العبدي ، عن ابن أبي يعفور قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول قال الله عز وجل إن العبد من عبيدي المؤمنين ليذنب الذنب العظيم مما يستوجب به عقوبتي في الدنيا والآخرة فأنظر له فيما فيه صلاحه في آخرته فأعجل له العقوبة

______________________________________________________

واستعمال الضجر والكسل ، والاستهانة بأهل الدين.

والذنوب التي ترد الدعاء سوء النية ، وخبث السريرة ، والنفاق مع الإخوان وترك التصديق بالإجابة ، وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها ، وترك التقرب إلى الله عز وجل بالبر والصدقة واستعمال البذاء والفحش في القول.

والذنوب التي تحبس غيث السماء جور الحكام في القضاء وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ومنع الزكاة ، والقرض والماعون وقساوة القلب على أهل الفقر والفاقة وظلم اليتيم والأرملة وانتهار السائل ورده بالليل.

باب نادر

إنما أفرده عن الأبواب السابقة لاشتماله على زيادة ولم يجد له من جنسه حتى يشركه معه مع غرابة مضمونه ، ويمكن أن يقرأ بالتوصيف والإضافة معا.

الحديث الأول : ضعيف.

« مما يستوجب » على بناء المعلوم ، ويحتمل المجهول « والآخرة » الواو بمعنى أو « فأنظر له » أي أدبر له ، وقوله : وأقدر عطف تفسير لقوله فأعجل وقيل : يعني ربما أعجل ، وربما أقدر ، فالواو بمعنى أو ، وعلى الأول المراد بالتعجيل جعل تقدير العقوبة في الدنيا وصرفها عن الآخرة صادف الإمضاء أو لم يصادفه ، والتقدير الكتابة في لوح المحو والإثبات ، والقضاء الشروع في تحصيل أسباب ذلك ، والإمضاء تكميل

٣٤٤

عليه في الدنيا لأجازيه بذلك الذنب وأقدر عقوبة ذلك الذنب وأقضيه وأتركه عليه موقوفا غير ممضى ولي في إمضائه المشيئة وما يعلم عبدي به فأتردد في ذلك مرارا على إمضائه ثم أمسك عنه فلا أمضيه كراهة لمساءته وحيدا عن إدخال المكروه عليه فأتطول عليه بالعفو عنه والصفح محبة لمكافاته لكثير نوافله التي يتقرب بها إلي في ليله ونهاره فأصرف ذلك البلاء عنه وقد قدرته وقضيته وتركته موقوفا ولي في إمضائه المشيئة ثم أكتب له عظيم أجر نزول ذلك البلاء وأدخره

______________________________________________________

الأسباب المقارن للحصول وضمير أتركه للعقوبة والتذكير لكونها مصدرا.

« فأتردد في ذلك » أي في العقوبة مرارا أي مرات كثيرة على إمضائه أي لإمضائه أو عازما أو أعزم على إمضائه أو على بمعنى في وهو بدل اشتمال لقوله في ذلك ، والتردد هنا مجاز كما مر في قوله تعالى : « ما ترددت في شيء أنا فاعله » ولعله كناية عن إيجاد بعض أسبابها ، ثم صرفها وعدم إكمالها ، وفي القاموس ، حاد عنه يحيد حيدا مال ، وقوله : محبة مفعول له لقول فأتطول.

وقوله : لمكافاته متعلق بالمحبة ، وقوله : لكثير متعلق بالمكافاة أي لأني أحب أي أكافيه وأجازيه بكثير نوافله ، وقيل : لمكافاته صفة لمحبة ، ولكثير بدل لمكافاته أي لتلافيه ذلك الذنب بكثير من النوافل وما ذكرنا أظهر كما لا يخفى.

« ثم اكتب له » قيل : ثم للتعجب كما أنه في قوله ثم أمسك أيضا كذلك ، وإنما سماه أجرا مع أن ما يعطى للبلايا يسمى عوضا لأنه يعطى حقيقة للنوافل التي صارت سببا لرفع البلاء فقوله : ولم يشعر به للتعجب على ترتب الأجر على فعل مقارن لغفلة محله ، وقوله : ولم يصل إليه للتعجب عن إعطاء العوض على أمر لم يصل إليه ، انتهى.

وأقول : لما جعله أجرا وثوابا أثبت له ما هو من خواصه وهو المضاعفة بعشرة أمثاله وأكثر ، حيث قال : وأوفر له أجره ، وفي النهاية في أسماء الله تعالى الكريم هو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه ، وهو الكريم المطلق ، والكريم الجامع

٣٤٥

وأوفر له أجره ولم يشعر به ولم يصل إليه أذاه وأنا الله الكريم الرءوف الرحيم.

باب نادر أيضا

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » فقال هو « وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » (١) قال قلت ليس هذا أردت أرأيت ما أصاب عليا

______________________________________________________

لأنواع الخير والشرف والفضائل ، والرؤوف هو الرحيم بعباده ، العطوف عليهم بألطافه والرأفة أرق من الرحمة ، ولا تكاد تقع في الكراهة ، والرحمة قد تقع في الكراهة للمصلحة ، انتهى.

والرحيم إما في الآخرة أو بالنعم الخاصة.

باب نادر أيضا

الحديث الأول : موثق كالصحيح.

« في قول الله » كان في بمعنى عن أو هنا تقدير أي سألت عن شيء في هذه الآية « فقال هو : » أي أبو عبد الله عليه‌السلام ولعله لما اكتفى ببعض الآية كان موهما لأن يكون نسي تتمة الآية فقرأها عليه‌السلام أو موهما لأنه توهم أن كل ذنب لا بد أن يبتلي الإنسان عنده ببلية فقرأ عليه‌السلام تتمة الآية لرفع هذا التوهم ، وعلى الأول معنى ليس هذا أردت ، أنه إنما لم أقرأ التتمة لأنها لم تكن لها مدخل في سؤالي وعلى الثاني أن سؤالي ليس هذا الذي يتوهم.

ويحتمل أن يكون قرأ تتمة الآية لبيان سعة رحمة الله ، ولم يكن مبنيا على توهم لكن السائل توهم ذلك « أرأيت » أي أخبرني ، وجوابه عليه‌السلام يحتمل وجهين

__________________

(١) سورة الشورى : ٢٩.

٣٤٦

وأشباهه من أهل بيته عليهم‌السلام من ذلك فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة من غير ذنب.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا ، عن ابن محبوب ، عن علي بن رئاب قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » أرأيت ما أصاب عليا وأهل بيته عليهم‌السلام من بعده هو بما كسبت أيديهم وهم أهل بيت طهارة معصومون فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوب إلى الله ويستغفره في كل يوم وليلة مائة

______________________________________________________

الأول : أن استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنه لم يكن لحط الذنوب بل لرفع الدرجات فكذا ابتلاؤهم عليهم‌السلام ليست لكفارة الذنوب بل لكثرة المثوبات وعلو الدرجات ، فالخطاب في الآية متوجه إلى غير المعصومين بقرينة « فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » كما عرفت.

والثاني : أن المعنى أن استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لترك الأولى أو ترك العبادة الأفضل إلى الأدنى وأمثال ذلك ، فكذا ابتلاؤهم كان لتدارك ذلك ، والأول أظهر كما يدل عليه الخبر الآتي وغيره ، قال في النهاية : فيه أنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم سبعين مرة ، الغين الغيم ، وغينت السماء تغان إذا أطبق عليها الغيم وقيل : الغين شجر ملتف أراد ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو منه البشر ، لأن قلبه أبدا كان مشغولا بالله تعالى ، فإن عرض له وقتا ما عارض بشرى يشغله عن أمور الأمة والملة ومصالحهما عد ذلك تقصيرا وذنبا فيفزع إلى الاستغفار.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح بل أعلى من الصحيح.

والجمع بين المائة والسبعين أنه قد كان يفعل هكذا وقد كان يفعل هكذا وقيل : المراد بالسبعين العدد الكثير كما قيل في قوله تعالى : « إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ

٣٤٧

مرة من غير ذنب إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب.

٣ ـ علي بن إبراهيم رفعه قال لما حمل علي بن الحسين صلى الله عليهما إلى يزيد بن معاوية فأوقف بين يديه قال يزيد لعنه الله : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » فقال علي بن الحسين عليه‌السلام ليست هذه الآية فينا إن فينا قول الله عز وجل : « ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ » (١).

______________________________________________________

مَرَّةً » (٢) أو كان يفعل الثلاثين في الليل.

الحديث الثالث : مرفوع.

« ليست هذه الآية فينا » قد مر بيانه ، ويؤيده أن قبل تلك الآية بآيات : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » ومعلوم أن هذا الخطاب لغيرهم عليهم‌السلام.

« ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ » قال الطبرسي (ره) : مثل قحط المطر وقلة النبات ، ونقص الثمرات « وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ » من الأمراض والثكل بالأولاد « إِلاَّ فِي كِتابٍ » أي إلا وهو مثبت مذكور في اللوح المحفوظ « مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها » أي من قبل أن يخلق الأنفس ، وإنما أثبتها ليستدل ملائكته به على أنه عالم لذاته ، يعلم الأشياء بحقائقها « إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ » أي إثبات ذلك على الله يسير سهل غير عسير.

ثم بين سبحانه لم فعل ذلك فقال : « لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ » أي فعلنا ذلك لكيلا تحزنوا على ما يفوتكم من نعم الدنيا « وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ » أي بما أعطاكم الله منها ، والذي يوجب نفي الأسى والفرح من هذا أن الإنسان إذا علم أن ما فات منها ضمن الله تعالى العوض عليه في الآخرة فلا ينبغي أن يحزن لذلك ، وإذا علم أن ما ناله منها كلف الشكر عليه والحقوق الواجبة فيه ، فلا ينبغي أن

__________________

(١) سورة الحديد : ٢٢.

(٢) سورة التوبة : ٨٠.

٣٤٨

______________________________________________________

يفرح به ، وأيضا فإذا علم أن شيئا منها لا يبقى فلا ينبغي أن يهتم له بل يجب أن يهتم لأمر الآخرة التي تدوم ولا تبيد ، انتهى.

ولا يخفى أن ما ذكره قدس‌سره لا يتفرع على الكتابة في اللوح ، ولا مدخل لها في ذلك ، وقال البيضاوي : ضمير يخلقها للمصيبة أو للأرض أو للأنفس ، وقال في قوله : « لِكَيْلا تَأْسَوْا » فإن من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر ، والمراد منه نفي الأسي المانع من التسليم لأمر الله ، والفرح الموجب للبطر والاختيال ولذلك عقبه بقوله : « وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ » إذ قل من يثبت نفسه في حال الضراء والسراء ، انتهى.

وأقول : الظاهر أن التعليل مبني على أن الإنسان إذا علم أن الله سبحانه قدر الخير والشر له قبل أن يخلقه ، وعلم أن الله تعالى فياض جواد حكيما ، لا يفعل إلا الأصلح بعباده ، لا يأسى على المصائب كثيرا لعلمه بأن صلاحه فيه ، وأن الله تعالى لجودة وحكمته يعوضه عن ذلك ، وأيضا إنما يأسف الإنسان غالبا لظنه أنه كان يمكنه السعي في رفع ذلك فقصر فيه ، وإذا علم أن ذلك بتقديره سبحانه وكان يقع لا محالة لا يأسف من تلك الجهة ، وكذا إذا أعطاه الله نعمة وعلم أنها بتقدير الله تعالى وليس من سعيه حثه ذلك على الشكر والتذلل لله سبحانه ، ولا يطغى ولا يختال ويخاف سلب النعمة كما حكى الله تعالى عن قارون حيث قال : « إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي » (١) وزعم أنه إنما حصل له ما أعطاه الله لسعيه لا بتقديره سبحانه وفضله ، ولذلك طغى وبغى.

وإذا عرفت ذلك فقوله عليه‌السلام : إن فينا قول الله ، يحتمل أن يكون المراد به إنا داخلون في حكم هذه الآية ولا تشملنا الآية الأخرى ، فلا يكون المعنى اختصاصها بهم وإذا حملنا على الاختصاص فيحتمل وجهين

__________________

(١) سورة القصص : ٧٨.

٣٤٩

باب

أن الله يدفع بالعامل عن غير العامل

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عن عبد الله بن القاسم ، عن يونس بن ظبيان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله ليدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا ولو أجمعوا على ترك الصلاة لهلكوا وإن الله

______________________________________________________

الأول : أن يكون وجه التخصيص أنهم العاملون والمنتفعون بها ، فصارت لهم خلقا وسجية ، ويؤيده أنه روى علي بن إبراهيم لهذا الخبر تتمة ، وهي قوله : « إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ » فنحن الذين لا ناسي على ما فاتنا من أمر الدنيا ، ولا نفرح بما أوتينا ، وهذا الاختصار المخل من المصنف (ره) غريب إلا أن يقال رواه علي بن إبراهيم على الوجهين.

الثاني : أن يكون وجه الاختصاص علمهم بما كتب لهم في اللوح المحفوظ ، والدرجات التي حصلت لهم بإزائها كما مر في باب الصبر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنا صبر وشيعتنا أصبر منا ، لأنا نصبر على ما نعلم ، وشيعتنا يصبرون على ما لا يعملون ، وقد مر تأويل غريب لهذه الآية في باب شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر يظهر منه الاختصاص بهم على وجه الكمال.

باب (١)

الحديث الأول : ضعيف.

والمراد بالهلاك نزول عذاب الاستئصال ، وظاهره أن المراد بالآية عن بعضهم بسبب بعض ، فيكون الناس وبعضهم منصوبين بنزع الخافض ، أو يقال : المراد دفع

__________________

(١) وفي بعض النسخ كنسخة المتن عنوان الباب هكذا « باب أنّ الله يدفع بالعامل من غير العامل ».

٣٥٠

ليدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي ولو أجمعوا على ترك الزكاة لهلكوا وإن الله ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج ولو أجمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله عزوجل « وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ » (١) فو الله ما نزلت إلا فيكم ولا عنى بها غيركم.

باب

أن ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن بعض أصحابه ، عن أبي العباس البقباق قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة وكم من شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا والموت

______________________________________________________

بعض الناس أي الظالمين أو المشركين عن بعض ببركة بعض ، فيكون المدفوع عنه متروكا في الكلام « فو الله ما نزلت » أي الآية ودفع الله العذاب عن بعضهم بسبب بعض مخصوصة بالشيعة لا يشركهم غيرهم.

باب (٢)

الحديث الأول : مرسل.

« أيسر من طلب التوبة » إشارة إلى أن شرائط قبول التوبة كثيرة كما مرت الإشارة إليه في قول أمير المؤمنين عليه‌السلام فأصبح خائفا من ذنبه راجيا لربه ، وأيضا بعد إدراك لذة الذنب والتدنس به ربما لم تطاوع نفسه في التوبة لا سيما إذا بلغ حد الطبع والرين « حزنا طويلا » بعد الموت أو الأعم « والموت فضح الدنيا » لكشفه عن مساويها وغرورها وعدم وفائه لأهلها ، وقيل : يعني أن بعد الموت يظهر عيوب الدنيا ولا يخفى بعده ، وعلى التقديرين فيه حث على ذكر الموت فإنه هادم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٢.

(٢) وفي بعض النسخ كنسخة المتن عنوان الباب هكذا « باب أنّ ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة ».

٣٥١

فضح الدنيا فلم يترك لذي لب فرحا.

باب الاستدراج

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الله بن جندب ، عن سفيان بن السمط قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار وإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها وهو قول الله عز وجل : « سَنَسْتَدْرِجُهُمْ

______________________________________________________

اللذات والمنبه عن الغفلات.

باب الاستدراج

قال في القاموس : استدراج الله تعالى العبد أنه كلما جدد خطيئة جدد له نعمة وأنساه الاستغفار وأن يأخذه قليلا ولا يباغته.

الحديث الأول : مجهول.

« لينسئه » أي الرب تعالى ، وفي بعض النسخ بالتاء أي النعمة وعلى التقديرين اللام لام العاقبة « سَنَسْتَدْرِجُهُمْ » بإيصال النعم إليهم عند اشتغالهم بالمعاصي ، والاستدراج قيل : هو الأخذ على الغرة من حيث لا يعلم وقيل : هو أن يتابع على عبده النعم إبلاغا للحجة ، والعبد مقيم على الإساءة ، مصر على المعصية ، فيزداد بتواتر النعم عليه غفلة ومعصية ، وذهابا إلى الدرجة القصوى منها فيأخذه الله بغتة على شدة حين لا عذر له ، كما ترى الراقي في الدرجة ، فيتدرج شيئا فشيئا حتى يبلغ إلى العلو فيسقط منه.

وفيه تخويف للمنعم عليه بالاغترار والنسيان ، وحمل ذلك على اللطف والإحسان وتذكير « له » باحتمال أن يكون ذلك استدراجا ليأخذه على العزة والشدة ، وقد قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : ليركم الله من النعمة وجلين ، وقال عليه‌السلام : إنه من

٣٥٢

مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ » (١) بالنعم عند المعاصي.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب ، عن بعض أصحابه قال سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الاستدراج فقال هو العبد يذنب الذنب فيملى له وتجدد له عندها النعم فتلهيه عن الاستغفار من الذنوب فهو مستدرج من حيث لا يعلم.

______________________________________________________

وسع عليه في ذات يده فلم ير ذلك إدراجا فقد آمن مخوفا.

الحديث الثاني : مرسل.

« هو العبد » أي حال العبد ، والإملاء الإمهال قال تعالى : « وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ » (٢) وقال في مجمع البيان في قوله تعالى : « سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ » أي إلى الهلكة حتى يقعوا فيه بغتة ، وقيل : يجوز أن يريد عذاب الآخرة أي نقربهم إليه درجة درجة حتى يقعوا فيه ، وقيل : هو من المدرجة وهي الطريق ودرج أي مشى سريعا أي سنأخذهم من حيث لا يعلمون أي طريق سلكوا ، فإن الطرق كلها علي ومرجع الجميع إلى ، ولا يغلبني غالب ، ولا يستبقني سابق ، ولا يفوتني هارب ، وقيل : إنه من الدرج أي سنطويهم في الهلاك ونرفهم عن وجه الأرض ، يقال : طويت أمر فلان إذا تركته وهجرته ، وقيل : معناه كلما جددوا خطيئة جددنا لهم نعمة ، ولا يصح قول من قال : أن معناه يستدرجهم إلى الكفر والضلال ، لأن الآية وردت في الكفار ، وتضمنت أنه يستدرجهم في المستقبل ، لأن السين يختص المستقبل ، ولأنه جعل الاستدراج جزاء على كفرهم وعقوبة ، فلا بد أن يريد معنى آخر غير الكفر.

وقال : « وَأُمْلِي لَهُمْ » معناه وأمهلهم ولا أعاجلهم بالعقوبة فإنهم لا يفوتوني ولا يفوتني عذابهم « إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ » أي عذابي قوي منيع لا يدفعه دافع ، وسماه كيدا

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٨٢.

(٢) سورة القلم : ٤٥.

٣٥٣

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عمار بن مروان ، عن سماعة بن مهران قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ » قال هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار من ذلك الذنب.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه وكم من مستدرج بستر الله عليه وكم من مفتون بثناء الناس عليه.

______________________________________________________

لنزوله بهم من حيث لا يشعرون ، وقيل : أراد أن جزاء كيدهم متين.

الحديث الثالث (١) : ضعيف.

« كم من مغرور » كم خبرية مرفوعة محلا بالابتداء وخبرها محذوف إن كان الظرف في قوله « بما » لغوا ومتعلقا بمغرور بتقدير كم من مغرور بما أنعم الله عليه كائن ، وخبرها الظرف إن كان مستقرا ، أو كم منصوبة محلا على طريقة ما أضمر عامله على شريطة التفسير باشتغال فعل بضمير متعلق به ، مثل زيدا مررت بغلامه ، وهكذا في سائر المواضع ، أي كم غافل عن مال حاله ، وعقوبات الله في الدنيا والآخرة بما أنعم الله عليه فظن أنه لكرامته على الله أنعم عليه ، وكم من رجل ستر الله عيوبه عن الناس أو عن نفسه أيضا استدراجا فظن كماله وقربه عند الله ، وكم رجل افتتن ووقع في مهاوي العجب بثناء الناس عليه ، فغفل عن عيوب نفسه ، وظن مدح الناس حقا.

__________________

(١) كذا في جميع النسخ والظاهر أنّه سقط من نسخة الشارح (ره) أو قلمه الشريف الحديث الثالث الموجود في المتن وقد مرّ نظير هذا السقط في الأجزاء السابقة أيضا ، واحتمال سقطه من قلم النسّاخ بعيد لأنّ النسخ الموجودة عندنا أحدها بخطّ الشارح تماما وقد سقط منها أيضا ، وعلى كل حال هذا الحديث بحسب المتن هو الحديث الرابع لا الثالث.

٣٥٤

باب

محاسبة العمل

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد جميعا ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، عن أبي حمزة ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول إنما الدهر ثلاثة أيام أنت فيما بينهن مضى أمس بما فيه فلا يرجع أبدا فإن كنت عملت فيه خيرا لم تحزن لذهابه وفرحت بما استقبلته منه وإن كنت قد فرطت فيه فحسرتك شديدة لذهابه وتفريطك فيه وأنت في يومك الذي أصبحت فيه من غد في غرة ولا تدري لعلك لا تبلغه وإن بلغته لعل حظك فيه في التفريط مثل حظك في الأمس الماضي عنك.

فيوم من الثلاثة قد مضى أنت فيه مفرط ويوم تنتظره لست أنت منه على يقين من ترك التفريط وإنما هو يومك الذي أصبحت فيه وقد ينبغي لك أن عقلت

______________________________________________________

باب أي نادر أيضا (١)

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

« ثلاثة أيام » أحدها اليوم الذي هو فيه ينبغي أن يعمل فيه ، والثاني : اليوم الذي قبل هذا اليوم وهو يشمل كل يوم قبله وهو المراد بالأمس الماضي لا خصوص يوم واحد قبله ، الثالث : اليوم الآتي بعد هذا اليوم ، وهو كذلك يشمل جميع الأيام الآتية وهو المراد بالغد « بما استقبلته منه » أي بعمل صالح استقبلته ولاقيته بسبب ذلك اليوم ، أو الثواب الذي تستقبله وتنتظره في الآخرة بسبب ذلك العمل ، ولعله أظهر « من غد » أي بسببه أو بالنسبة إليه كقوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، أو متعلق بغرة.

والغرة بالكسر الغفلة أي اغتررت بالغد وسوفت العمل إليه غافلا عن أنك لا تعلم وصولك إليه ، وعدم تفريطك فيه « وإنما هو يومك » الضمير راجع إلى ما بيده

__________________

(١) كذا في النسخ.

٣٥٥

وفكرت فيما فرطت في الأمس الماضي مما فاتك فيه من حسنات ألا تكون اكتسبتها ومن سيئات ألا تكون أقصرت عنها وأنت مع هذا مع استقبال غد على غير ثقة من أن تبلغه وعلى غير يقين من اكتساب حسنة أو مرتدع عن سيئة محبطة فأنت من يومك الذي تستقبل على مثل يومك الذي استدبرت فاعمل عمل رجل

______________________________________________________

من الأيام وما يمكنه العمل فيه بقرينة المقام ، وقيل : إلى الباقي من الثلاثة ، وقيل : إلى الدهر ، وقيل : إلى اليوم.

« وقد ينبغي لك إن عملت » هذا الكلام يحتمل وجوها : الأول : أن يكون بفتح أن فهو فاعل ينبغي ، الثاني : أن يكون الفاعل مقدرا بقرينة فاعمل ، الثالث : أن يكون مضمون جملة الشرط وهو « إن عقلت » والجزاء وهو « فاعمل » فاعل ينبغي ولا يخلو شيء منها من التكلف ولعل الأول أظهر.

و « مما فاتك » الظاهر أن من لبيان الموصول ، وقيل : من للتبعيض ، وما عبارة عن الزمان ، وفيه متعلق بفرطت ، والضمير فيه راجع إلى ما في قوله : ما فرطت ومن في قوله : من حسنات ، لتبيين ما في فرطت وألا في الموضعين مركب من أن الناصبة ولا النافية أدغمت النون في اللام ، وبدل اشتمال للموصول فيما فرطت ، وتكون زائدة لعدم صحة إدخال لا النافية على الماضي بلا إرادة التكرار ، والواو في قوله : وأنت حالية ، والعامل في الحال لا تكون في الموضعين على التنازع.

وأنت إلى قوله : استدبرت داخل في المفكر فيه ولذا كرر مع ذكره سابقا ، وأنت مبتدأ و « مع هذا » حال عن فاعل الظرف في قوله : مع استقبال ، الذي هو خبر المبتدأ ، والمرتدع بفتح الدال مصدر ميمي والإحباط إبطال العمل الصالحة الماضية.

« على مثل يومك » أي على مثل ما أنت من يومك الذي استدبرت ، وقال في

٣٥٦

ليس يأمل من الأيام إلا يومه الذي أصبح فيه وليلته فاعمل أو دع والله المعين على ذلك.

______________________________________________________

الوافي : إن عقلت بفتح الهمزة إن أثبت الواو بعده ، وإلا فبالكسر ، وفي بعض النسخ وددت بدل فكرت من دون واو ، وعليها فالكسر متعين وأ لا في الموضعين للتحضيض انتهى.

وقوله : وليلته كأنه إشارة إلى أن ما ذكرنا من اليوم المراد به اليوم والليلة فإنه لم يذكر الليالي وهو من العمر ، أو إلى أن اليوم المراد به مقدار من الزمان اختص بوصف أو واقعة كما هو الشائع بين العرب ، كيوم القيامة ويوم الأحزاب فقد يطلق على السنين والشهور ، والساعة من اليوم أو الليلة ، كما أطلق اليوم هنا على ما مضى من العمر ، وعلى ما بقي منه ، فاليوم الذي هو فيه هو الساعة التي هو فيها سواء كان من اليوم أو الليلة.

قال في المصباح : والعرب قد تطلق اليوم ويريد الوقت والحين نهارا كان أو ليلا ، فنقول : ذخرتك لهذا اليوم ، أي لهذا الوقت الذي افتقرت فيه إليك ، ولا يكادون يفرقون بين قولهم يومئذ وحينئذ وساعتئذ ، انتهى.

وقيل : الواو في قوله وليلته للتقسيم ، إشارة إلى أن هذا الوعظ قد ينتفع به في اليوم وقد ينتفع به في الليلة ، وفيه اختصار لأن التقدير وعمل رجل ليس يأمل من الليالي إلا ليلته التي أمسى فيها ، انتهى.

وما ذكرنا أظهر ، وتكرير فاعمل للتأكيد أي بينت لك هذه الموعظة وأوضحت لك ما يوجب نجاتك فإن شئت فاعمل وإن شئت دع فهو قريب من التهديد ، مثل قوله تعالى : « اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ » (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اعمل ما شئت فإنك ميت « والله المعين على ذلك » أي على العمل ، وما قيل : إن فاعمل ثانيا على بناء الأفعال ، وأودع على أفعل التفضيل مفعوله فهو في غاية البعد والركاكة.

__________________

(١) سورة فصّلت : ٤٠.

٣٥٧

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي الحسن الماضي صلوات الله عليه قال : ليس منا من لم يحاسب نفسه

______________________________________________________

الحديث الثاني : حسن.

« ليس منا » أي من شيعتنا أو محبينا أو محبوبينا.

واعلم أن أفضل الأعوان على طاعة الله والاجتناب عن معاصيه والتزود ليوم المعاد محاسبة النفس ، أي يتفكر عند انتهاء كل يوم وليلة بل كل ساعة فيما عمل فيه من خير أو شر ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبر ، وعن الحسن بن علي عليهما‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يكون العبد مؤمنا حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه ، والسيد عبده ، وفيما أوصى به أمير المؤمنين ابنه الحسن صلوات الله عليهما : يا بني للمؤمن ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها بين نفسه ولذتها فيما يحل ويحمد.

وفي تفسير الإمام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا أخبركم بأكيس الكيسين وأحمق الحمقاء؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : أكيس الكيسين من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت ، وأحمق الحمقاء من اتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين (١) وكيف يحاسب الرجل نفسه؟ قال : إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال : يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبدا والله يسائلك عنه فيما أفنيته؟ وما الذي عملت فيه أذكرت الله أم حمدتيه؟ أقضيت حق أخ مؤمن؟ أنفست عنه كربته

__________________

(١) يظهر منه أنّ الراوي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لكن في صحة إسناد التفسير إلى الإمام عليه‌السلام وإثباته كلام مذكور في محلّه ومن أراد الوقوف على البحث فيه فليراجع مقدّمة تفسير مجمع البيان ـ ط الإسلامية ـ بقلم الأستاد المرحوم الشيخ أبو الحسن الشعراني رضوان الله عليه.

٣٥٨

في كل يوم فإن عمل حسنا استزاد الله وإن عمل سيئا استغفر الله منه وتاب إليه.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن النعمان ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي النعمان العجلي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال يا أبا النعمان لا يغرنك الناس من نفسك فإن الأمر يصل إليك دونهم ولا تقطع نهارك بكذا وكذا فإن معك من يحفظ عليك عملك وأحسن فإني لم أر شيئا أحسن دركا

______________________________________________________

أحفظتيه يظهر الغيب في أهله وولده؟! أحفظتيه بعد الموت في مخلفيه؟ أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك أأعنت مسلما؟ ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه ، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عز وجل وكبره على توفيقه ، وإن ذكر معصية أو تقصيرا استغفر الله عز وجل وعزم على ترك معاودته ، ومحا ذلك عن نفسه بتجديد الصلاة على محمد وآله الطيبين ، وعرض بيعة أمير المؤمنين على نفسه وقبولها ، وإعادة لعن شانئيه وأعدائه ودافعيه عن حقوقه ، فإذا فعل ذلك قال الله تعالى : لست أناقشك في شيء من الذنوب مع موالاتك أوليائي ومعاداتك أعدائي.

الحديث الثالث : مجهول بسنديه.

« لا يغرنك الناس من نفسك » المراد بالناس المادحون الذين لم يطلعوا على عيوبه ، والواعظون الذين يبالغون في ذكر الرحمة ، ويعرضون عن ذكر العقوبات تقربا عند الملوك والأمراء والأغنياء « فإن الأمر » أي الجزاء والحساب والعقوبات المتعلقة بأعمالك « تصل إليك » لا إليهم وإن وصل إليهم عقاب هذا الإضلال « بكذا وكذا » أي بقول اللغو والباطل. فإن معك من يحفظ عليك عملك فإن القول من جملة العمل ، كما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ، وقال عليه‌السلام لمن يتكلم بالباطل : يا هذا إنك تملي على كاتبيك كتابا ، ويحتمل أن يكون كذا وكذا أعم من القول والفعل « وأحسن » أي أفعل الحسنات ، أو أحسن إلى نفسك وإلى غيرك ، والأول هنا أظهر ، قال الراغب : الإحسان يقال على وجهين أحدهما الإنعام على الغير ، يقال : أحسن إلى

٣٥٩

ولا أسرع طلبا من حسنة محدثة لذنب قديم.

عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي النعمان مثله.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال اصبروا على الدنيا فإنما هي ساعة فما مضى منه فلا تجد له ألما ولا سرورا وما لم يجئ فلا تدري ما هو

______________________________________________________

فلان ، والثاني إحسان في فعله ، وذلك إذا علم علما حسنا أو عمل عملا حسنا ، وعلى هذا قول أمير المؤمنين عليه‌السلام الناس أبناء ما يحسنون أي ما يعلمونه وما يعملونه من الأفعال الحسنة ، وفي المصباح : أدركته إذا طلبته فلحقته والدرك بفتحتين وسكون الراء لغة من أدركت الشيء ، وفي القاموس : الدرك محركة اللحاق أدركه لحقه ، انتهى.

أي تدرك الحسنة الذنب القديم فتكفره ، وقيل : إنما أخر سرعة الطلب عن حسن الدرك مع أنه مقدم في الحدوث لأن الترقي في النفي بتأخير المقدم في الحدوث ، وفي الإثبات بالعكس.

وأقول : قد ينظر إلى الترتيب في الوجود فيهما ، كقوله تعالى : « لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ » (١).

الحديث الرابع : مرسل.

« فإنما هي » أي الدنيا ، والمراد ما بيدك منها أو مدة الصبر أو المصابرة ساعة ، يدل على أن اليوم في الخبر الأول هو الساعة كما مر « فلا تجد له ألما » لينضم إلى ألم تلك الساعة فيتضاعف « ولا سرورا » حتى تقيس تلك الساعة بها ، فيصير سببا لترك الصبر « وما لم يجيء فلا تدري ما هو » أي لا تدري تصل إليه

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٥٥.

٣٦٠