مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

______________________________________________________

فإذا علمها الشخص على وجه اليقين والثبات بحيث صار علمه بها كعلمه بوجود نفسه غير أن الأولى نظري والثاني بديهي لكن لما كان النظري إنما يصير يقينيا بانتهائه إلى البديهي ولم يبق فرق بين العلمين امتنع تغير ذلك العلم وتبدله كما يمتنع تغير علمه بوجود نفسه.

والحاصل أن العلم إذا انطبق على المعلوم الحقيقي الذي لا يتغير أصلا فمحال تغيره ، وإلا لما كان منطبقا ، فعلم أن ما يحصل لبعض الناس تغيير عقيدة الإيمان لم يكن بعد اتصاف أنفسهم بما ذكرناه من العلم ، بل كان الحاصل لهم ظنا غالبا بتلك المعلومات لا العلم بها ، والظن يمكن تبدله وتغيره وإن كان المظنون لا يمكن تبدله لأن الانطباق غير حاصل ، وإلا لصار علما.

إن قلت : يتصور زوال الإيمان بصدور بعض الأفعال الموجبة للكفر كما تقدم ، وإن بقي التصديق اليقيني بالمعارف المذكورة فقد صح أن المؤمن قد يكفر بعد اتصافه بالإيمان.

قلت : لا نسلم إمكان صدور فعل يوجب الكفر ممن اتصف بالعلم المذكور ، بل صار ذلك الفعل ممتنعا بالغير الذي هو العلم اليقيني وإن أمكن بالذات وحينئذ فصدور بعض الأفعال المذكورة إنما كان لعدم حصول العلم المذكور ، وبالجملة فكلام علم الهدى ومذهبه هنا رضي‌الله‌عنه في غاية القوة والمتانة بعد تدقيق النظر. وقد ظهر مما حررناه أن القائلين بإمكان زوال الإيمان لعروض الكفر إن أرادوا به إمكان زوال العلم بالأمور المذكورة فظاهر أنه ممتنع بالذات ، كانقلاب الحقائق ، وإن أرادوا به إمكان انتفاء الإيمان لعروض شيء من الأفعال وإن بقي العلم فقد بينا أنه ممتنع بالغير ، فإن أرادوا بالإمكان على هذا التقدير الإمكان الذاتي فلا نزاع لأحد فيه ، وإن أرادوا به عدم الامتناع ولو بالغير فقد بينا منعه وامتناعه.

وبالجملة فظواهر كثير من الآيات الكريمة والسنة المطهرة تدل على

٢٤١

______________________________________________________

إمكان طرو الكفر على الإيمان ، وعلى هذا بناء أحكام المرتدين وهو مذهب أكثر المسلمين ، نعم في الاعتبار ما يدل على عدم جواز طروه عليه كما أشرنا إليه إن جعلنا الإيمان عبارة عن التصديق مع الإقرار أو حكمه ، لكن الأول هو الأرجح في النفس ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

وأقول : الحق أن الإيمان إذا بلغ حد اليقين فلا يمكن زواله ، ولكن بلوغه إلى هذا الحد نادر ، وتكليف عامة الخلق بها في حرج ، بل الظاهر أنه يكفي في أيمان أكثر الخلق الظن القوي الذي يطمئن به النفس ، وزوال مثل ذلك ممكن ، ودرجات الإيمان كثيرة كما عرفت ، ففي بعضها يمكن الزوال والعود إلى الشك ، بل إلى الإنكار ، وهو إيمان المعاد ، وفي بعضها لا يمكن الزوال لا بالقول ولا بالعقيدة ولا بالفعل ، وفي بعضها يمكن الزوال بالقول والفعل مع عدم زوال الاعتقاد كقوم من الكفرة كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا يعاندون وينكرون أشد الإنكار للأغراض الفاسدة والمطالب الدنيوية كأبي جهل وأضرابه ، وكثير من الصحابة رأوا نصب علي عليه‌السلام في يوم الغدير ، وسمعوا النص عليه في سائر المواطن ، وغلبت عليهم الشقاوة وحب الدنيا ، وأنكروا ذلك.

فلو قيل باشتراط الجزم في الإيمان وعدم إمكان زوال اليقين فلا ريب في أنه مشروط بعدم الإنكار ظاهرا كما قال تعالى : « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ » (١) فيمكن حصول الارتداد وزوال الإيمان بالإنكار الظاهري أو فعل ما حكم الشارع بحصول الكفر عنده كسجود الصنم ، وقتل النبي أو الإمام وإلقاء المصحف في القاذورات والاستخفاف بالمصحف أو الكعبة ، وأمثال ذلك.

__________________

(١) سورة النمل : ١٤.

٢٤٢

باب المعارين

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال سمعته يقول إن الله عز وجل خلق خلقا للإيمان لا زوال له وخلق خلقا للكفر لا زوال له وخلق خلقا بين ذلك

______________________________________________________

باب المعارين

الحديث الأول : صحيح.

« خلق خلقا للإيمان » قيل : اللام لام العاقبة أي خلق خلقا عاقبتهم الإيمان في العلم الأزلي لا زوال لإيمانهم وهم الأنبياء والأوصياء والتابعون لهم من المؤمنين الثابتين على الإيمان ، وخلق خلقا عاقبتهم الكفر في علمه عز وجل ، وخلق خلقا مترددين بين الإيمان والكفر ، مستضعفين في علمه ، فمن آمن منهم كان إيمانه مستودعا فإن يشأ الله أن يتم لهم بحسن استعدادهم وإقبالهم إلى الله عز وجل أتمه بفضله وتوفيقه ، وجعله ثابتا مستقرا فيهم وإن يشأ أن يسلبهم إياه لزوال استعدادهم الفطري وفساد استعدادهم الكسبي سلبهم ورفع عنهم توفيقهم ، ويفهم بالمقايسة حال من كفر منهم.

وأقول : من علم أنهم يموتون على الإيمان كان ينبغي أن يدخلهم في القسم الأول على هذا الوجه ، ومن علم أنهم يموتون على الكفر في القسم الثاني ، بل الأحسن أن يقال : لما علم الله سبحانه استعدادتهم وقابلياتهم وما يؤول إليه أمرهم ومراتب إيمانهم وكفرهم ، فمن علم أنهم يكونون راسخين في الإيمان كاملين فيه وخلقهم فكأنه خلقهم للإيمان الكامل الراسخ ، وكذا الكفر ، ومن علم أنهم يكونون متزلزلين مترددين بين الإيمان والكفر ، فكأنه خلقهم كذلك فهم مستعدون لإيمان ضعيف ، فمنهم من يختم له بالإيمان ، ومنهم من يختم له بالكفر فهم المعارون ،

٢٤٣

واستودع بعضهم الإيمان فإن يشأ أن يتمه لهم أتمه وإن يشأ أن يسلبهم إياه سلبهم وكان فلان منهم معارا.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة بن أيوب والقاسم بن محمد الجوهري ، عن كليب بن معاوية الأسدي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن العبد يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا وقوم يعارون الإيمان ثم يسلبونه ويسمون المعارين ثم قال فلان منهم.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري

______________________________________________________

والظاهر أن المراد بفلان أبو الخطاب وكنى عنه بفلان لمصلحة ، فإن أصحابه كانوا جماعة كثيرة كان يحتمل ترتب مفسدة على التصريح باسمه.

ويحتمل أن يكون كناية عن ابن عباس فإنه قد انحرف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وذهب بأموال البصرة إلى الحجاز ، ووقع بينه عليه‌السلام وبينه مكاتبات تدل على شقاوته وارتداده كما ذكرته في الكتاب الكبير ، والتقية فيه أظهر ، لكن سيأتي التصريح بأبي الخطاب في خبر شلقان ، وعلى التقديرين « منهم » خبر كان ، وضمير الجمع للخلق بين ذلك ، ومعارا خبر بعد خبر ، وقيل : فلان كناية عن عثمان ، والضمير للخلفاء الثلاثة ، والظرف حال عن فلان ، ومعارا خبر كان ، ولا يخفى بعده لفظا ومعنى ، فإن الثلاثة كانوا كفرة لم يؤمنوا قط.

الحديث الثاني : صحيح.

« ثم يسلبونه » يدل على أن السلب متعد إلى مفعولين بخلاف ما يظهر من كتب اللغة ، ويومئ إليه أيضا تمثيلهم لبدل الاشتمال بقولهم سلب زيد ثوبه ، إذ لو كان متعديا إلى مفعولين لما احتاج إلى البدلية لكن لا عبرة بقولهم بعد وروده في كلام أفصح الفصحاء.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

وفي المصباح البهمة ولد الضأن ، يطلق على الذكر والأنثى والجمع بهم ، مثل

٢٤٤

وغيره ، عن عيسى شلقان قال كنت قاعدا فمر أبو الحسن موسى عليه‌السلام ومعه بهمة قال قلت يا غلام ما ترى ما يصنع أبوك يأمرنا بالشيء ثم ينهانا عنه أمرنا أن نتولى أبا الخطاب ثم أمرنا أن نلعنه ونتبرأ منه فقال أبو الحسن عليه‌السلام وهو غلام :

______________________________________________________

تمرة وتمر ، وجمع البهم بهام مثل سهم وسهام ، وتطلق البهام على أولاد الضأن والمعز إذا اجتمعت تغليبا ، فإذا انفردت قيل : لأولاد الضأن بهام ولأولاد المعز سخال ، وقال ابن فارس : البهم صغار الغنم ، وقال أبو زيد : يقال لأولاد الغنم ساعة تضعها الضأن أو المعز ، ذكرا كان الولد أو أنثى سخلة ، ثم هي بهمة والجمع بهم ، وقال : الغلام الابن الصغير.

وأبو الخطاب هو محمد بن مقلاص الأسدي الكوفي وكان في أول الحال ظاهرا من أجلاء أصحاب الصادق عليه‌السلام ثم ارتد وابتدع مذاهب باطلة ، ولعنه الصادق عليه‌السلام وتبرأ منه.

وروى الكشي روايات كثيرة تدل على كفره ولعنه ، فمنها ما رواه عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : اللهم العن أبا الخطاب فإنه خوفني قائما وقاعدا وعلى فراشي ، اللهم أذقه حر الحديد.

وروى بإسناده عن حنان بن سدير قال : كنت جالسا عند أبي عبد الله عليه‌السلام وميسر عنده فقال له ميسر : جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون معنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم ، قال : ومن هم؟ قال : أبو الخطاب وأصحابه وكان متكئا فجلس فرفع إصبعيه إلى السماء ثم قال : على أبي الخطاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، فأشهد بالله أنه كافر فاسق مشرك ، وأنه يحشر مع فرعون في أشد العذاب غدوا وعشيا ثم قال : أما والله إني لأنفس على أجساد أصبت معه.

وعنه عليه‌السلام قال : تراءى والله إبليس لأبي الخطاب على سور المدينة والمسجد وكأني أنظر إليه وهو يقول : أيها تظفر الآن ، أيها تظفر الآن ، انتهى.

٢٤٥

إن الله خلق خلقا للإيمان لا زوال له وخلق خلقا للكفر لا زوال له وخلق خلقا بين ذلك أعاره الإيمان يسمون المعارين إذا شاء سلبهم وكان أبو الخطاب ممن أعير الإيمان قال فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فأخبرته ما قلت لأبي الحسن عليه‌السلام وما قال لي فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إنه نبعة نبوة.

______________________________________________________

وروي أنه كان يدعي ألوهية الصادق عليه‌السلام ويدعي أنه نبي من قبله على أهل الكوفة ، وبه يتأول قوله تعالى : « وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ » (١) واختلف الأصحاب فيما رواه في حال استقامته والأكثر على جواز العمل بها ، وكأنه متفرع على المسألة السابقة فمن ادعى جواز تحقق الإيمان وزواله يجوز العمل بروايته ، لأنه حينئذ كان مؤمنا ومن زعم أنه كاشف عن عدم كونه مؤمنا لا يجوز العمل بها.

« أنه نبعة نبوة » أي عمله من ينبوع النبوة أو هو غصن من شجرة النبوة والرسالة ، في القاموس : نبع الماء ينبع مثلثة نبعا ونبوعا خرج من العين ، والنبع شجر للقسي والسهام ينبت في قلة الجبل.

وأقول : روى الكشي بسند صحيح عن شلقان قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام وهو يومئذ غلام قبل أوان بلوغه : جعلت فداك ما هذا الذي نسمع من أبيك أنه أمرنا بولاية أبي الخطاب ثم أمرنا بالبراءة منه؟ قال : فقال أبو الحسن عليه‌السلام من تلقاء نفسه : إن الله خلق الأنبياء على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء ، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلا مؤمنين ، واستودع قوما إيمانا فإن شاء أتمه وإن شاء سلبهم إياه وإن أبا الخطاب كان ممن أعاره الله الإيمان ، فلما كذب على أبي ، سلبه الله الإيمان ، قال : فعرضت هذا الكلام على أبي عبد الله عليه‌السلام قال : فقال : لو سألتنا عن ذلك ما كان يكون عندنا غير ما قال.

__________________

(١) سورة الزخرف : ٨٤.

٢٤٦

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن صلوات الله عليه قال : إن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلا مؤمنين وأعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إياه قال وفيهم جرت « فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » وقال لي إن فلانا كان مستودعا إيمانه فلما كذب علينا سلب إيمانه ذلك.

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن

______________________________________________________

الحديث الرابع : مجهول.

وقال تعالى : « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » (١) قال البيضاوي : أي فلكم استقرار في الأصحاب أو فوق الأرض ، واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض ، أو موضع الاستقرار والاستيداع ، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر القاف على أنه اسم فاعل ، والمستودع مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع ، لأن الاستقرار منا دون الاستيداع ، انتهى.

ولعل تأويله عليه‌السلام أنسب بالقراءة الأخيرة ، أي فمنكم إيمانه مستقر أي ثابت ، وبعضكم إيمانه مستودع ، أو بعضكم مستقر في الإيمان وبعضكم غير مستقر بل مستودع اسم مفعول أو اسم مكان ، وعلى القراءة الأولى اسم مكان ، أي بعضكم محل استقرار الإيمان ، والمستودع يحتمل الوجهين.

قوله : سلب إيمانه ، يحتمل بناء المفعول والفاعل ، وعلى الثاني ذلك إشارة إلى الكذب.

الحديث الخامس : مجهول.

وفي القاموس : جبلهم الله يجبل خلقهم ، وعلى الشيء طبعه وجبره كأجبله ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩٨.

٢٤٧

القاسم بن حبيب ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله جبل النبيين على نبوتهم فلا يرتدون أبدا وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبدا وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدون أبدا ومنهم من أعير الإيمان عارية فإذا هو دعا وألح في الدعاء مات على الإيمان.

______________________________________________________

« فإذا هو دعا » فيه حث على الدعاء لحسن العاقبة وعدم الزيغ ، كما كان دأب الصالحين قبلنا ، وفيه دلالة أيضا على أن الإيمان والسلب مسببان عن فعل الإنسان ، لأنه يصير بذلك مستحقا للتوفيق والخذلان.

وجملة القول في ذلك أن كل واحد من الإيمان والكفر قد يكون ثابتا وقد يكون متزلزلا يزول بحدوث ضده لأن القلب إذا اشتد ضياؤه وكمل صفاؤه استقر الإيمان وكل ما هو حق فيه ، وإذا اشتدت ظلمته وكملت كدورته استقر الكفر وكل ما هو باطل فيه ، وإذا كان بين ذلك باختلاط الضياء والظلمة فيه كان مترددا بين الإقبال والأدبار ، ومذبذبا بين الإيمان والكفر ، فإن غلب الأول دخل الإيمان فيه من غير استقرار ، وإن غلب الثاني دخل الكفر فيه كذلك ، وربما يصير الغالب مغلوبا فيعود من الإيمان إلى الكفر ، ومن الكفر إلى الإيمان فلا بد للعبد من مراعاة قلبه فإن رآه مقبلا إلى الله عز وجل شكره وبذل جهده وطلب منه الزيادة لئلا يستدبر وينقلب ويزيغ عن الحق ، كما ذكره سبحانه عن قوم صالحين : « رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ » (١) وإن رآه مدبرا زائغا عن الحق تاب واستدرك ما فرط فيه ، وتوكل على الله وتوسل إليه بالدعاء والتضرع ، لتدركه العناية الربانية فتخرجه من الظلمات إلى النور ، وإن لم يفعل ربما سلط عليه عدوه الشيطان ، واستحق من ربه الخذلان ، فيموت مسلوب الإيمان كما قال سبحانه : « فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ » (٢) أعاذنا الله من ذلك وسائر أهل الإيمان.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٨.

(٢) سورة الصفّ : ٥.

٢٤٨

باب في علامة المعار

١ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن المفضل الجعفي قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن الحسرة والندامة والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم أنفع له أم ضر قلت له فبم يعرف الناجي من

______________________________________________________

باب في علامة المعار

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« إن الحسرة والندامة والويل » الحسرة اسم من حسرت الشيء حسرا من باب تعب ، وهي التلهف والتأسف على فوات أمر مرغوب ، والندامة الحزن على شيء مكروه ، والويل العذاب وواد في جهنم ، يعني هذا كله لمن لم ينتفع بما أبصره ، وعلمه من العقائد والأحكام والأعمال والأخلاق والآداب ، وعدم الانتفاع بها بأن لا يعمل بمقتضى علمه بها « ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم » من العقائد والأحكام والأعمال والأخلاق والآداب و « أنفع » بصيغة المصدر أي نافع ، ويحتمل الماضي وكذا « أم ضر » يحتملهما والأول أظهر فيهما ، وفيه حث على مراقبة النفس في جميع الحالات ومحاسبتها في جميع الحركات والسكنات ، ليعلم ما ينفعها فيجلبها ويزيد منها وما يضرها فيجتنبها.

« فبم يعرف الناجي من هؤلاء » أي من يكون أمره آئلا إلى النجاة من المهالك وعقوبات الآخرة؟ فقال : « من كان فعله لقوله موافقا » أي لقوله الحق وهو ما يأمر الناس به من الخيرات والطاعات وترك المنكرات ، أو لما يدعيه من الإيمان بالله واليوم الآخر والأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، فإن مقتضى ذلك العمل بما يأمره الله تعالى ، ويوجب الوصول إلى مثوباته والنجاة من عقوباته ومتابعة أئمة الذين في أقوالهم وأفعالهم أو لما يدعي لنفسه من الكمالات وما نصب نفسه له من الحالات

٢٤٩

هؤلاء جعلت فداك قال من كان فعله لقوله موافقافأثبت له الشهادة بالنجاة ومن لم يكن فعله لقوله موافقا فإنما ذلك مستودع.

باب سهو القلب

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جعفر بن عثمان ، عن سماعة ، عن أبي بصير وغيره قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن القلب ليكون الساعة

______________________________________________________

والدرجات أو الجميع.

« فأثبتت له الشهادة » على صيغة المجهول أي يشهد الله تعالى وملائكته وحججه عليهم‌السلام وكل المؤمنين بأنه من الناجين لاتصافه بكمال الحكمة النظرية لقوله الحق ، وكمال الحكمة العملية لعمله بأقواله الحقة ، وفي بعض النسخ « فأتت ».

« ومن لم يكن فعله لقوله موافقا » أي بأن يكون قوله حقا وفعله باطلا كما هو شأن أكثر الخلق « فإنما ذلك مستودع » إيمانه غير ثابت فيه ، فيحتمل أن يبقى على الحق ويثبت له الإيمان وتحصل له النجاة ، وأن يزول عن الحق ويعود إلى الشقاوة ويستحق الويل والحسرة والندامة.

باب سهو القلب

الحديث الأول : مجهول أو حسن موثق لاشتراك عثمان ، وسنده الثاني ضعيف.

« إن القلب ليكون » المشهور أن المراد بالقلب النفس الناطقة الإنسانية التي هي محل الإيمان والكفر ، لا العضو الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر ، وإنما سميت بالقلب لتقلب أحواله ، أو لأن تعلق النفس الإنسانية ابتداء إنما هو بالروح الحيواني وهو البخار اللطيف المنبعث من القلب الذي هو محل القوي الإدراكية ، وقد مر بعض الكلام في تحقيق القلب في باب أن للقلب أذنين ، والمراد بالساعة ساعة الغفلة عن الحق والاشتغال بما سواه.

٢٥٠

من الليل والنهار ما فيه كفر ولا إيمان كالثوب الخلق قال ثم قال لي أما تجد ذلك من نفسك قال ثم تكون النكتة من الله في القلب بما شاء من كفر وإيمان.

______________________________________________________

« ما فيه كفر ولا إيمان » أي ليس متذكرا لشيء منهما ، أو في حال لا يمكن الحكم بكفره لكن ليس فيه الإقبال على الحق والتوجه إلى عالم القدس ، قيل : وفيه إشعار بأن الكفر وجودي إذ لو كان عبارة عن عدم الإيمان كما زعم لما انتفيا معا والخلق محركة البالي للمذكر والمؤنث ، والتشبيه إما للكثافة والرثاثة وعدم الاعتناء بشأنه ، وإما لأنه ليس باطلا بالمرة ولا كاملا في الجملة ، أو لأنه في معرض الانخراق والفساد ولا طراوة ولا نضارة له ، ويمكن أن ينتفع به ويرجع إلى الثاني.

« أما تجد » استفهام إنكاري وقيل : وذلك إذا وسوس إليه الشيطان بأن قال له لعل ما تقول الزنادقة في إنكار الصانع أو منكروا النبوة أو الإمامة في إنكارهما حق وأمثال ذلك ، وذلك محض تصور ، وإلا كان شركا.

وأقول : من تفكر في تارات القلب وعرف حالاته علم أنه أعم من ذلك وله شؤون غريبة وحالات عجيبة في القرب والبعد من ربه تعالى ، وفي الشوق والتيقظ والغفلة والكسل والرغبة في الدنيا والزهد فيها ، ومراتب حبه تعالى والأشواق العارضة له مما يوجب قربه وبعده وغير ذلك مما يطول ذكره ، وقال في النهاية في حديث الجمعة : فإذا فيها نكتة سوداء أي أثر قليل كالنقطة شبه الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما ، وفي القاموس : النكت أن تضرب في الأرض بقضيب فتؤثر فيها ، والنكتة بالضم النقطة وشبه الوسخ في المرآة ، انتهى.

وكون نكتة الإيمان والكفر من الله سبحانه باعتبار توفيقه وخذلانه المسببان من سوء اختيار العبد وحسن اختياره ، وقيل : يحتمل أن يكون باعتبار أنه وكل

٢٥١

عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن أبي عمير مثله.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن العباس بن معروف ، عن حماد بن عيسى ، عن الحسين بن المختار ، عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول يكون القلب ما فيه إيمان ولا كفر شبه المضغة أما يجد أحدكم ذلك.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن العمركي بن علي ، عن علي بن جعفر ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال إن الله خلق قلوب المؤمنين مطوية مبهمة على الإيمان فإذا أراد

______________________________________________________

على القلب ملكا يهديه إلى الخير وشيطانا يرشده إلى الشر كما مر ، وبهذا الاعتبار كان النكتتان منه تعالى ، ومعنى مشيته للإيمان والكفر المشية باعتبار الأقدار عليهما دون المشية على سبيل الإجبار ، فإنه تعالى لما جعل فيه آلة الكفر وآلة الإيمان ، فقد شاء منه الكفر والإيمان لكن لا بحيث يكون مجبورا وتكون المشية مشية حتم.

الحديث الثاني : موثق.

والمضغة بالضم القطعة من اللحم قدر ما يمضغ.

الحديث الثالث : صحيح.

« خلق قلوب المؤمنين مطوية » استعار الطي هنا لكمون الإيمان فيها كناية عن استعدادها لكمال الإيمان وأنه لا يعلم ذلك غير خالقها كالثوب المطوي أو الكتاب المطوي لا يعلم ما فيهما غير من طواهما ، وفي القاموس : الأبهم الأعجم واستبهم عليه استعجم فلم يقدر على الكلام ، وأبهم الأمر اشتبه ، والمبهم كمكرم المغلق من الأبواب والأصمت كالأبهم ، فالمراد بالمبهمة هنا المغلقة والمقفلة على التشبيه بالبيت ، فلا يعلم ما فيها إلا هو ، أو المعضلة التي لا يعلم حالها ووضعها إلا هو ، من أبهم الأمر فهو مبهم إذا لم يجعل عليه دليلا أو الخالصة الصحيحة التي ليس فيها شيء من العاهات والأمراض ، ومنه فرس بهيم وهو الذي له لون واحد لا يخالطه

٢٥٢

استنارة ما فيها نضحها بالحكمة وزرعها بالعلم وزارعها والقيم عليها رب العالمين.

______________________________________________________

لون سواه.

وقوله : على الإيمان ، متعلق بمطوية أو بمبهمة أو بهما على التنازع ، وقيل : حال عن القلوب أي خلقها كائنة على الإيمان ، وفي ذكر المطوية والمبهمة إشعار بأن إيمانها مغفول عنه ، وهو عبارة عن سهو القلب فلذا ذكره في هذا الباب ، قيل : ولما كان الخلق تابعا للعلم وكان علم الله عز وجل بالشيء قبل خلقه كعلمه به بعده ، وكان قلب المؤمن متصفا بالإيمان باختياره إياه ، صدق أنه تعالى خلقه على هذا الوصف ، فلا يلزم الجبر.

« فإذا أراد استثارة ما فيها » (١) أي تهييجها وسطوح أنوار ما كان كامنا فيها ، وفي بعض النسخ : استشارة ما فيها ، بالشين ، تشبيها لما في قلوب المؤمنين بالعسل في رغبة النفوس الصحيحة إليها ، في القاموس : الثور الهيجان والوثب والسطوح ، وأثاره وثورة واستثاره غيره ، وقال : شار العسل شورا استخرجه من الوقبة أي الموضع الذي اجتمع فيه كأشاره واشتاره واستشاره ، والنضح الرش وكان المراد بالحكمة العلوم اللدنية والإفاضات الربانية ، وبالعلم ما يكتسبه الإنسان بالتفكر والنظر والأخذ من الكتاب والسنة فأشار عليه‌السلام إلى أن الكسب والنظر لا ينفع ولا يثمر بدون الإفاضات السبحانية وأن الكسب أيضا لا يتم إلا بالتوفيقات الربانية فشبه عليه‌السلام العلم بالبذر والحكمة التي هي الإفاضات الربانية بالمطر ، فمن يطرح البذر في الأرض لا ينبت ولا ينمو إلا بالمطر الذي هو من فضله تعالى ، وبعد ذلك الإنبات من فعله سبحانه لا من فعل العبد ، كما قال عز وجل « أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ » (٢) حيث نسب الحرث إليهم لكونه فعلا لهم ، ونسب

__________________

(١) وفي نسخة « استنارة ما فيها » بالنون.

(٢) سورة الواقعة : ٦٤.

٢٥٣

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن الحسين بن المختار ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن القلب ليترجج فيما بين الصدر والحنجرة

______________________________________________________

الزرع إلى ذاته المقدسة لكونه من فعله ، وكذلك العلم لا يحصل إلا بإفاضته وإصلاح أرض القلب عما يضر بالزرع ، من الشكوك والشبه والرغبات الدنية والوساوس الشيطانية ، وأفاض عليها ماء الحكمة أثمر ما يوجب الحياة الأبدية في النشأة الباقية كما أن إنبات الزرع في الدنيا يوجب بقاء الأبدان في النشأة الفانية ، فكم بينهما من المباينة ، ويحتمل أن يكون المراد بالحكمة ما يجريه على لسان الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام بالوحي والإلهام ، كما قال تعالى : « وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ».

وقيل : الحكمة الدين الحق وعلى التقادير ظهر أن زارع القلوب ومحييها والقيم عليها والقائم بما يصلحها هو رب العالمين الذي بيده إيجاد العالم بأنواعه المختلفة وتربيتها وإخراج كل منها من حد النقص إلى ما يستحقه من الكمال ، فظهر أنه تعالى مقلب القلوب والمتصرف فيها والحاكم عليها كما روي : قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ، وورد في الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، بل هو عرشه ومحل معرفته ومحبته ومستقر عظمته وجلاله كما روي : قلب المؤمن عرش الرحمن ، فلا بد للعبد أن يتوسل بربه سبحانه في تصفية قلبه وتزكيته ، ويسعى في إخلائه عن محبة غيره ليصير محل معرفته سبحانه ومظهر أنواره ومهبط إسراره ، رزقنا الله وسائر المؤمنين ذلك بفضله ورحمته.

الحديث الرابع : ضعيف على المشهور.

وفي المصباح : رججت الشيء رجا من باب قتل حركته فأرتج هو ، وارتج البحر اضطرب ، وفي القاموس : الرج التحريك والتحرك والاهتزاز والحبس والرجرجة الاضطراب كالارتجاج والترجرج ، والحنجرة الحلقوم ، يعني أن قلب من علم الله إيمانه يتحرك ويضطرب فيما بين الصدر والحنجرة طلبا للحق حتى

٢٥٤

حتى يعقد على الإيمان فإذا عقد على الإيمان قر وذلك قول الله عز وجل : « وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ » (١).

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن فضال ، عن أبي جميلة ، عن محمد الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن القلب ليتجلجل في الجوف يطلب الحق فإذا أصابه اطمأن وقر ثم تلا أبو عبد الله عليه‌السلام هذه الآية « فَمَنْ »

______________________________________________________

يعقد عليه أي يعتقده ويعقد قلبه عليه ، فإذا اعتقده وتيقن سقط عنه الاضطراب واستقر لحصول مطلوبه وزوال الشك عنه ، وفي المصباح : اعتقدت كذا عقدت عليه القلب والضمير حتى قيل : العقيدة ما يدين الإنسان به ، وأما الاستشهاد بالآية فكأنه كان في قراءتهم عليهم‌السلام يهدأ قلبه بفتح الدال والهمز ورفع « قلبه » أو بفتح الدال بغير همز بالقلب والحذف ، وقد قرأ بالأول في الشواذ.

قال البيضاوي : يهد قلبه للثبات والاسترجاع عند حلول المصيبة وقرأ يهد قلبه بالرفع على إقامته مقام الفاعل وبالنصب على طريق سفه نفسه ، ويهدأ بالهمز أي يسكن.

وقال الطبرسي : قرأ عكرمة وعمرو بن دينار يهدأ قلبه أي يطمئن قلبه كما قال سبحانه : « وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ » (٢) انتهى.

ويؤيده أنه روى البرقي في المحاسن هذه الرواية وزاد في آخره ، قال : يسكن وعلى القراءة المشهورة يمكن أن يكون المعنى أن من كان من شأنه أن يؤمن بالله يهدي الله قلبه للإيمان ويرشده إليه ويوفقه له فيستقر عليه.

الحديث الخامس : ضعيف.

« ليتجلجل » في القاموس التجلجل التحرك والتضعضع ، والجلجلة التحريك وشدة الصوت وفي النهاية : الجلجلة حركة مع صوت « فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ

__________________

(١) سورة التغابن : ١١.

(٢) سورة النحل : ١٠٦.

٢٥٥

يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » إلى قوله « كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ » (١).

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي المغراء ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول إن القلب يكون في الساعة من الليل والنهار ليس فيه إيمان ولا كفر أما تجد ذلك ثم تكون بعد ذلك نكتة من الله في قلب عبده بما شاء إن شاء بإيمان وإن شاء بكفر.

٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسن بن شمون ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن القاسم ، عن يونس بن ظبيان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله خلق قلوب المؤمنين مبهمة على الإيمان فإذا أراد استنارة

______________________________________________________

أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان « يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » فيتسع له ويفسح فيه مجالة « وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً » بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإيمان « كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ » شبهه مبالغة في ضيق الصدر بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن الصعود إلى السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة ، انتهى.

وقد مر بعض القول في هداية الله وإضلاله ، وقيل : لعل المراد بالآية أن من يرد الله أن يهديه إلى الإسلام لعلمه أزلا بإسلامه وحسن رعايته للفطرة الأصلية يشرح صدره للإسلام وقبول أحكامه ، فيصرف زمام قلبه إليه باللطف والتوفيق فإذا أصابه قر واطمأن به « وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ » بسبب اللطف والتوفيق لعلمه بأنه لا يؤمن « يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً » في قبول الإيمان « حَرَجاً » في الاتصاف به كأنما يصعد إلى السماء ، وهو كناية عن شدة قلبه وصعوبته ونهاية بعده وتأمله في قبول الإيمان ولوازمه.

الحديث السادس : صحيح.

وقد مر عن أبي بصير باختلاف يسير في المتن والسند.

الحديث السابع : ضعيف ، وقد مر بسند آخر عن الكاظم عليه‌السلام.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٥.

٢٥٦

ما فيها فتحها بالحكمة وزرعها بالعلم وزارعها والقيم عليها رب العالمين.

باب

في ظلمة قلب المنافق وإن أعطي اللسان ونور قلب المؤمن

وإن قصر به لسانه

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن عمرو ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال لنا ذات يوم تجد الرجل لا يخطئ بلام ولا واو خطيبا مصقعا ولقلبه أشد ظلمة من الليل المظلم وتجد الرجل لا يستطيع يعبر عما في قلبه بلسانه وقلبه يزهر كما يزهر المصباح.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن هارون بن الجهم ، عن المفضل ، عن سعد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن القلوب أربعة قلب

______________________________________________________

باب في ظلمة قلب المنافق وإن أعطي اللسان ونور قلب المؤمن وإن قصر به لسانه

الحديث الأول : مجهول لاشتراك عمرو الظاهر صحته ، والمسقع كمنبر بالسين والصاد : البليغ أو العالي الصوت ، أو من لا يرتج عليه في كلامه ، ولا يتعتع ذكره الفيروزآبادي ويدل على أن حسن الظاهر وطلاقة اللسان وفصاحة البيان لا عبرة بها بدون تنور القلب وصفائه واستقامته ، وإنما العبرة بصفاء الباطن ونورانيته وإن لم يكن معه صفاء الظاهر ، والله الناظر الرقيب لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم.

الحديث الثاني : مختلف فيه.

والظاهر أن المفضل هو أبو جميلة لروايته عن سعد وهو ابن طريف « إن القلوب أربعة » قيل : وجه الحصر أن القلب إما متصف بالإيمان أو لا ، والأول إما متصف بالإيمان بجميع ما جاء به النبي أو ببعضه دون بعض ، والأول قلب

٢٥٧

فيه نفاق وإيمان وقلب منكوس وقلب مطبوع وقلب أزهر أجرد فقلت ما الأزهر قال فيه كهيئة السراج فأما المطبوع فقلب المنافق وأما الأزهر

______________________________________________________

المؤمن والثاني قلب فيه إيمان ونفاق ، والثاني إما أن يصرح بالإيمان ظاهرا أو لا ، والأول قلب المنافق ، والثاني قلب المشرك.

وأقول : يمكن أن يكون المراد هنا بالنفاق التزلزل في الإيمان أو الرياء أو عدم العمل بمقتضى الإيمان ، فيشمل إرادة المعاصي والإصرار عليها ، وفي النهاية الأزهر الأبيض المستنير ، وقال : الأجرد : الذي ليس على بدنه شعر وفيه : القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر أي ليس فيه غل ولا غش ، فهو على أصل الفطرة فنور الإيمان فيه يزهر ، والقاموس : الأجرد فضاء لا نبات فيه ، ويوم أجرد تام ، انتهى.

فشبه عليه‌السلام قلب المؤمن بأرض صافية بيضاء قابلة لزرع الإيمان والحكمة وخالية عن شوك الشكوك والشبهات وذمائم الأخلاق ، وقال فيه : كهيأة السراج ، الهيئة الحالة والصورة ، شبه ما في القلب من نور الإيمان والمعارف بنور السراج للإيضاح لأنه أشهر وإن كان في المشبه أكمل ، لأن بنور القلب يرى ما في عالم الملك والملكوت ، وبنور السراج يرى بعض ما حوله من المبصرات.

« فأما المطبوع فقلب المنافق » الطبع الختم ، وختم القلب كناية عن منع الله عز وجل ألطافه الخاصة لإعراضه عن الحق ، وإنما نسب ذلك إلى قلب المنافق لأن عدم دخول الإيمان فيه مع تعرضه له بإظهاره باللسان إنما هو لمانع وهو الطبع المسبب عن إبطاله لاستعداده الفطري ، وفي النهاية فيه : من ترك ثلاث جمع من غير عذر طبع الله على قلبه ، أي ختم عليه وغشاه ومنعه ألطافه ، والطبع بالسكون الختم بالتحريك الدنس ، وأصله من الدنس والوسخ يغشيان السيف ، يقال : طبع السيف يطبع طبعا ثم استعمل فيما يشبه ذلك من الأوزار والآثام وغيرهما من القبائح.

٢٥٨

فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر وأما المنكوس فقلب المشرك ثم قرأ هذه الآية « أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » (١) فأما القلب الذي فيه إيمان ونفاق فهم قوم كانوا بالطائف فإن أدرك

______________________________________________________

« إن أعطاه شكر » ذكر من صفات المؤمن الصبر والشكر لأنهما من أمهات صفات الكمال مستوعبان لجميع الأحوال وإنما وصف قلب المشرك بالنكس لأنه كالظرف المقلوب المكبوب لا يستقر فيه شيء ، وخصه بالمشرك لأن قلب المنافق يمر فيه شيء من الحق والإيمان ، ولا يعتقد به بخلاف قلب المشرك ، فإنه لا يمر فيه شيء من الحق ، ولا ينافي ذلك كون عقوبة المنافق أشد لأن إنكار الحق مع العلم به أشنع وأقبح.

وقيل : القلب المنكوس هو القلب الناظر إلى الدنيا المتوجهة إليها لأن الدنيا تحت الآخرة وأنه لما صرف نظره وهمته عن الدرجات العالية التي هي فوقه وقصر نظره وهمه إلى الدنيا الدنية فكأنه نكس وانقلب ، أو أنه لما خلقه الله تعالى على الفطرة القويمة وهيأ له أسباب الترقي والطيران إلى الدرجات العالية فإن توجه إلى الشهوات البهيمية وضيع فطرته الأصلية فقد تنزل عما كان عليه وتوجه إلى الجهة السفلى ، فصار منكوسا كالطير الذي يطير إلى جهة السفل.

والاستشهاد بالآية إما لمناسبة التشبيهات أو لأن المكب على وجهه يصير قلبه أيضا منكوسا أو لأن المراد بالإكباب في الآية إكباب قلبه ، وقيل : الاستشهاد باعتبار أن المشرك يمشي مكبا على وجهه لكون قلبه مكبوبا مقلوبا ، والمؤمن يمشي سويا لكون قلبه على وجه الفطرة مستقيما عارفا بالحق كما يرشد إليه قوله تعالى « عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » وقال البيضاوي معنى مكبا أنه يعثر كل ساعة ويخر على وجهه لو عورة طريقه واختلاف أجزائه ، ولذلك قابله بقوله « أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا » قائما سالما من العثار « عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » مستوي الأجزاء أو الجهة ، والمراد تمثيل المشرك والموحد

__________________

(١) سورة الملك : ٢٢.

٢٥٩

أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجا.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال القلوب ثلاثة قلب منكوس لا يعي شيئا من الخير وهو قلب الكافر وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشر فيه يعتلجان فأيهما كانت منه غلب عليه وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر ولا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن.

______________________________________________________

بالسالكين والدينين بالمسلكين ، وقيل : المراد بالمكب الأعمى فإنه يعتسف فينكب وبالسوى البصير وقيل : من يمشي مكبا هو الذي يحشر على وجهه إلى النار ، ومن يمشي سويا الذي يحشر على قدميه إلى الجنة « فهم قوم » أي هم وأمثالهم ، وذكرهم على التمثيل والمراد بهم الشكاك ومن يعبد الله على حرف.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور.

« القلوب ثلاثة » هذا لا ينافي ما مر أن القلوب أربعة ، فإن قوله وقلب فيه نكتة سوداء يشمل قسمين منها ، وهما قلب فيه نفاق وإيمان ، وقلب المنافق ، وفي القاموس : وعاه يعيه حفظه وجمعه كأوعاه ، وقال : اعتلجوا اتخذوا صراعا وقتالا والأمواج التطمت.

« وقلب مفتوح » وهو الذي يقبل الإيمان والمعارف والأسرار ، وكلها نور ينور القلب في عالم الأبدان والأرواح ، وقوله : لا يطفأ نوره إلى يوم القيامة ، إشارة إلى أن القلب المنور بنور الإيمان والمعارف منور بعد الفراق من البدن في عالم البرزخ وبعده ، فإن هذه الأنوار باقية لا تزول منه أبدا.

٢٦٠