مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

قال : اكتب أهل الوعيد من أهل الجنة وأهل النار واكتب « وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا

______________________________________________________

يتحقق فيهم وعد الثواب ووعيد العقاب قطعا إذا ماتوا على إحدى الحالتين.

وقوله : من أهل الجنة والنار بيان لأهل الوعيد ، أي جزما ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم في سورة التوبة : « وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » (١) وقال في تلك السورة أيضا « وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ » (٢) فهاتان الفرقتان أهل الوعدين وقال أيضا في تلك السورة : « وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ » (٣).

قال الطبرسي : يعني من أهل المدينة أو من الأعراب آخرون أقروا بذنوبهم وليس براجع إلى المنافقين ، والاعتراف والإقرار بالشيء عن معرفة « خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً » يعني أنهم يفعلون أفعالا جميلة وأفعالا سيئة قبيحة ، والتقدير وعملا آخرا سيئا « عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ » ، قال المفسرون : عسى من الله واجبة وإنما قال عسى حتى يكونوا بين طمع وإشفاق ، فيكون ذلك أبعد من الاتكال على العفو وإهمال التوبة « إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » هذا تعليل لقبول التوبة من العصاة.

ثم قال (ره) : قال أبو حمزة : بلغنا أنهم ثلاثة نفر من الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر ، وثعلبة بن وديعة ، وأوس بن حذام ، تخلفوا عن رسول الله عند مخرجه إلى تبوك ، فلما بلغهم ما أنزل فيمن تخلف عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيقنوا بالهلاك فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد ، فلم يزالوا كذلك حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأل عنهم فذكروا أنهم أقسموا لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله محلهم ، فقال رسول الله

__________________

(١) الآية : ٧٢.

(٢) الآية : ٦٨.

(٣) الآية : ١٠٢.

١٠١

بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً » (١) قال قلت من هؤلاء قال وحشي منهم قال واكتب « وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ » (٢) قال :

______________________________________________________

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنا أقسم لا أكون أول من حلهم إلا أن أو مر فيهم بأمر ، فلما نزل « عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ » عمد رسول الله إليهم فحلهم فانطلقوا فجاءوا بأموالهم إلى رسول الله فقالوا : هذه أموالنا التي خلفتنا عنده فخذها وتصدق بها عنا ، فقال عليه‌السلام : ما أمرت فيها بأمر ، فنزل : « خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ » (٣) الآيات.

وقيل : إنهم كانوا عشرة رهط منهم أبو لبابة عن ابن عباس ، وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنها نزلت في أبي لبابة ولم يذكر معه غيره ، وسبب نزولها فيه ما جرى منه في بني قريظة حين قال : إن نزلتم على حكمه فهو الذبح ، وبه قال مجاهد.

وقيل : نزلت فيه خاصة حين تأخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك ، فربط نفسه بسارية كما تقدم.

« قال : وحشي منهم » قال في القاموس : وحشي بن حرب صحابي وهو قاتل حمزة رضي‌الله‌عنه في الجاهلية ، ومسيلمة الكذاب في الإسلام.

وأقول : أدرجه عليه‌السلام في هذا الصنف وأدرجه أبوه عليه‌السلام فيما سيأتي في المرجون لأمر الله ، ولعله قد يطلق المرجون على المعنى الشامل للصنفين جميعا ، ويمكن أن يكون بين الصنفين عموم وخصوص وإنما أوردهما للاستشهاد بالآيتين ، « وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ » أي مؤخرون موقوفون لما يرد من أمر الله فيهم.

وقال قال الأزهري : إلا رجاء تهمز ولا تهمز أرجأت الأمر وأرجيته أخرته « إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ » وإما لوقوع أحد الشيئين والله سبحانه عالم بما يصير إليه أمرهم ، ولكنه

__________________

(١) سورة البقرة : ١٠٢.

(٢) سورة النساء : ١٠٦.

(٣) سورة التوبة : ١٠٣.

١٠٢

واكتب « إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً » لا يستطيعون حيلة إلى الكفر ولا يهتدون سبيلا إلى الإيمان

______________________________________________________

سبحانه خاطب العباد بما عندهم ، « وَاللهُ عَلِيمٌ » بما يؤول إليه حالهم « حَكِيمٌ » فيما يفعله بهم.

وقال (ره) : قال مجاهد وقتادة : نزلت الآية في هلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكعب بن مالك ، وهم من الأوس والخزرج ، وكان كعب بن مالك رجل صدق غير مطعون عليه ، وإنما تخلف توانيا عن الاستعداد حتى فإنه المسير ، وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : والله ما لي من عذر ولم يعتذر إليه بالكذب ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صدقت قم حتى يقضي الله فيك ، وجاء الآخران فقالا مثل ذلك وصدقا ، فنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكالمتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فأقاموا على ذلك خمسين ليلة ، وبني كعب خيمة على سلع (١) فيكون فيها وحده ، ثم نزلت التوبة عليهم بعد الخمسين في الليل ، وهي قوله : « وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا » (٢) الآية ، فأصبح المسلمون يبتدرونهم ويبشرونهم ، انتهى.

أقول : يظهر مما ذكروه أن هؤلاء أيضا كانوا تائبين فالفرق بينهم وبين الفرقة السابقة مشكل إلا أن يكون الفرق باختلاف مراتب ذنوبهم ومراتب توبتهم وسيأتي في الأخبار الآتية وجوه أخرى من الفرق بحسب ضعف الإيمان وقوته وكمال إتمام الحجة عليهم وعدمه.

« إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ » أقول : سابقه هذه الآية : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ » أي يقبض أرواحهم « ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ » أي في حال هم فيها ظالمو أنفسهم « قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ » أي قالت لهم الملائكة في أي شيء كنتم من دينكم؟ على وجه التقرير والتوبيخ « قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ » فيستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا « قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها » أي فتخرجوا من أرضكم ودوركم وتفارقوا من يمنعكم من الإيمان بالله ورسوله « فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ، إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ » أي

__________________

(١) اسم جبل بالمدينة.

(٢) سورة التوبة : ١١٨.

١٠٣

« فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ » (١) قال واكتب أصحاب الأعراف قال قلت وما « أَصْحابُ الْأَعْرافِ » قال قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم وإن أدخلهم الجنة فبرحمته.

______________________________________________________

الذين استضعفهم المشركون « مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً » أي يعجزون عن الهجرة لإعسارهم وقلة حيلتهم « وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً » في الخلاص من مكة « فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ » لعذرهم في ترك الهجرة « وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً ».

هذا على تفسير المفسرين ، وعلى تأويله عليه‌السلام لا يستطيعون حيلة إلى الكفر أي لا يقدرون على إلقاء الشبه القوية في الكفر ، ولا على الرسوخ فيه « وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً » إلى الإيمان أي لبلاهتهم وقلة عقلهم ومعرفتهم لا يستولون على معرفة الحق والثبات فيه ، فلهم في ذلك عذر يمكن أن يعفو الله عنهم ، ولعله من بطون الآية ، ويمكن تطبيقه على ظاهر الآية أيضا بأن يكونوا في مكة غير عارفين بالإسلام وشرائعه ودلائله ، وكانوا بين المشركين ولم يمكنهم تحصيل ذلك هناك ، ولما سمعوا بعثة الرسول كان يجب عليهم الهجرة ليتم عليهم الحجة ويستقروا في الدين ، فمنهم من كان يمكنه ذلك ولم يفعل فهو غير معذور ولذا تقول لهم الملائكة : « أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً »؟ ومنهم من لم يمكنهم ذلك فعسى أن يقبل الله عذرهم.

وأما الأعراف فقد مر تفسيرها ، وقال بعض المفسرين : هو سور بين الجنة والنار ، وهو السور المذكور في قوله تعالى : « فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ » (٢) وقيل : أي حاجة إلى ضرب هذا السور ، والجنة فوق السماوات والجحيم في أسفل سافلين؟ وأجيب بأن بعد أحدهما عن الآخر لا يمنع أن يكون بينهما سور وحجاب وله أسفل وأعلى ، وعلى أعلاه رجال يعرفون كلا بسيماهم ، أجلسهم الله تعالى في ذلك المكان العالي إظهارا لشرفهم ، وليكونوا مشرفين مطلعين على أحوال الخلائق ، وهم كما كانوا في الدنيا شهداء على أهل الإيمان وأهل الكفر وأهل الطاعة وأهل المعصية

__________________

(١) سورة النساء : ٩٨.

(٢) سورة الحديد : ١٣.

١٠٤

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن حماد ، عن حمزة بن الطيار قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام الناس على ست فرق يئولون كلهم إلى ثلاث فرق الإيمان والكفر والضلال وهم أهل الوعدين الذين وعدهم الله

______________________________________________________

كذلك يكونون شهداء في ذلك اليوم عليهم ، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى أعلى درجات الجنة وعلى أسفله قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، أوقفهم الله تعالى عليه لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار ، ويمكن أن ينتقل بعضهم أو كلهم بعد ذلك إلى الجنة بفضله تعالى.

وأقول : يحتمل أن يكون الغرض من التقسيم بيان الواسطة بين المؤمن والكافر بذكر آيات تدل على ذلك وإن كان بعض الأقسام متداخلة أو متساوية ، وسيأتي وجوه أخر إنشاء الله تعالى.

الحديث الثاني : حسن.

« الناس على ست فرق » أقول : مضمونه قريب من مفاد الخبر السابق ، والضمير في قوله : وهم ، راجع إلى الست فرق ، والوعد أعم من الوعيد ، والنسخ هنا أيضا مختلفة كالسابق ، وهو إشارة إلى فريقين إحداهما أهل وعد الجنة ، وقوله : المؤمنون بيان له ، والأخرى أهل وعيد النار ، وقوله : والكافرون بيان له ، وقيل : هم راجع إلى أهل الضلال والواو في قوله : والنار بمعنى مع ، أي وعدهم الله الجنة والنار معا ، وقوله : المؤمنون ، وما بعده خبر مبتدإ محذوف ، والتقدير الست فرق المؤمنون « إلخ » ولا يخفى بعده.

وقيل : يعني إن الناس ينقسمون أولا إلى ثلاث فرق بحسب الإيمان والكفر والضلال ، ثم إن أهل الضلال ينقسمون إلى أربع فيصير المجموع ست فرق : الأولى أهل الوعد بالجنة ، وهم المؤمنون وأريد بهم من آمن بالله وبالرسول وبجميع ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إما بقلبه أو بلسانه أو خالف الله في شيء من كبائر الفرائض استخفافا.

١٠٥

الجنة والنار المؤمنون والكافرون والمستضعفون والمرجون « لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ » والمعترفون « بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً » وأهل الأعراف.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن زرارة قال دخلت أنا وحمران أو أنا وبكير على أبي جعفر عليه‌السلام قال قلت له :

______________________________________________________

والثالثة : المستضعفون وهم الذين لا يهتدون إلى الإيمان سبيلا ، لعدم استطاعتهم كالصبيان والمجانين والبله ، ومن لم تصل الدعوة إليه.

والرابعة : المرجون لأمر الله وهم المؤخر حكمهم إلى يوم القيامة من الإرجاء بمعنى التأخير يعني لم يأت لهم وعد ولا وعيد في الدنيا ، وإنما أخر أمرهم إلى مشية الله فيهم إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، وهم الذين تابوا من الكفر ودخلوا في الإسلام إلا أن الإسلام لم يتقرر في قلوبهم ولم يطمئنوا إليه بعد ، ومنهم المؤلفة قلوبهم ومن يعبد الله على حرف ، قبل أن يستقرا على الإيمان أو الكفر ، وهذا التفسير للمرجين بحسب هذا التقسيم الذي في هذا الحديث.

والخامسة : فساق المؤمنين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ثم اعترفوا بذنوبهم فعسى الله أن يتوب عليهم.

والسادسة : أصحاب الأعراف وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم لا يرجح إحداهما على الأخرى ليدخلوا به الجنة والنار ، فيكونون في الأعراف حتى يرجح أحد الأمرين بمشية الله سبحانه.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

« أو أنا وبكير » الترديد إما من زرارة أو من راويه وفي القاموس : المطمار خيط للبناء يقدر به كالمطمر ، وقال : التر بالضم الأصل والخيط يقدر به البناء ، وسؤاله عليه‌السلام عن المطمار إما مبني على الإنكار أي لم تقرر لك مطمارا فمن أين أخذت المطمار فلم يفهم السائل وفسره بالتر أو سأل عن غرضه من المطمار وأنه استعارة لأي شيء؟

١٠٦

إنا نمد المطمار قال وما المطمار قلت التر فمن وافقنا من علوي أو غيره توليناه ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه فقال لي يا زرارة قول الله أصدق من قولك فأين الذين قال الله عز وجل : « إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً » أين المرجون « لِأَمْرِ اللهِ » أين الذين « خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً » أين « أَصْحابُ الْأَعْرافِ » أين « الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ »؟.

______________________________________________________

ليتضح للحاضرين مراده فيجيبه علي حسبه ، فأجابه عليه‌السلام بأن غرضي من المطمار الأصل والقاعدة الكلية التي بها يعرف المؤمن والكافر ، كما أن البناء يعرف بالمطمار ما تقدم من اللبنات وما تأخر منها ، فالمراد بالتر هنا الأصل.

والظاهر أن غرض زرارة أنه لا يدخل الجنة غير من صحت عقائده من الفرقة المحقة الإمامية ، وغرضه عليه‌السلام أنه يمكن أن يدخل بعض المستضعفين من المخالفين ومن لم يتم عليهم الحجة لضعف عقولهم أو لبعدهم عن بلاد الإسلام والإيمان وغير ذلك الجنة.

ويحتمل أن يكون مراده بالموافق من وافق قولا وفعلا فيخرج منه أصحاب الكبائر من الشيعة أيضا كما هو رأي الخوارج ، وقول الله هو وعد المستضعفين ومن بعدهم من الأصناف المذكورة بالجنة والعفو والمغفرة ، فلا يجوز إدخالهم في المخالف والتبري منهم ، قوله : وزاد حماد ، الظاهر أنه كلام ابن أبي عمير ، وروى الحديث عن حماد وجميل أيضا عن زرارة ، وكان في رواية حماد زيادة لم تكن في رواية هشام فتعرض لها ، وكان في رواية جميل أيضا زيادة على رواية حماد فأشار إليها أيضا.

ويحتمل أن يكون كلام إبراهيم بن هاشم أو كلام الكليني والأول أظهر ، كما أن الأخير أبعد « فارتفع صوت أبي جعفر عليه‌السلام » هذا مما يقدح به في زرارة ويدل على سوء أدبه ، ولما كانت جلالته وعظمته ورفعة شأنه وعلو مكانه مما أجمعت عليه الطائفة وقد دلت عليه الأخبار المستفيضة ، فلا يعبأ بما يوهم خلاف ذلك.

١٠٧

وزاد حماد في الحديث قال فارتفع صوت أبي جعفر عليه‌السلام وصوتي حتى كان يسمعه من على باب الدار.

وزاد فيه جميل ، عن زرارة فلما كثر الكلام بيني وبينه قال لي يا زرارة حقا على الله أن [ لا ] يدخل الضلال الجنة.

باب الكفر

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن داود بن كثير الرقي قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كفرائض الله عز وجل فقال إن الله عز وجل فرض فرائض موجبات على العباد فمن ترك فريضة

______________________________________________________

ويمكن أن يكون هذه الأمور هو في بدو أمره قبل كمال معرفته ، أو كان هذا من طبعه وسجيته ولم يمكنه ضبط نفسه ، ولم يكن ذلك لشكه وقلة اعتنائه ، أو كان قصده معرفة كيفية المناظرة في هذا المطلب مع المخالفين ، أو كان لشدة تصلبه في الدين وحبه لأئمة المؤمنين ، حيث كان لا يجوز دخول مخالفيهم في الجنة ، مع أنه كان يحتمل ويجوز أن يكون تجويزه عليه‌السلام تقية أن يدخل الضلال الجنة أي بعضهم ، والمراد بالضلال المستضعفون وغيرهم من الأصناف المذكورة ، فهم ليسوا بكفار لدلالة الروايات الكثيرة وإجماع الفرق على أن الكفار لا يدخلون الجنة ، وفي بعض النسخ : أن لا يدخل ، فهو استفهام إنكاري.

باب الكفر

الحديث الأول : مختلف فيه ، وصحته أرجح عندي.

« سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » أي ما لم يظهر من ظاهر القرآن وبينه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعم من الواجب والندب « كفرائض الله » أي في الشرف والاحترام أو في لزوم الوفاء أو في كفر التارك « إن الله عز وجل فرض فرائض » أي في القرآن أو الأعم والأول أظهر ، إذ فرائض القرآن أكثرها من ضروريات الدين فمن جحدها كان كافرا

١٠٨

من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافرا وأمر [ رسول ] الله بأمور كلها حسنة فليس من ترك بعض ما أمر الله عز وجل به عباده من الطاعة بكافر ولكنه تارك للفضل منقوص من الخير.

______________________________________________________

بخلاف ما ظهر من السنة ، فإن أكثرها ليست من الضروريات فالترك أعم من أن يكون مع الجحود أو بدونه ، فلا يظهر حكم ترك الفرائض بدون الجحد ، ويمكن أن يكون عدم الذكر لئلا يجترئ الناس على تركها ، ويمكن أن يكون المراد بالأول إنكار ما فرض في القرآن وبالثاني ما سوى ذلك ، سواء كان ترك الفرائض بدون الإنكار أو ترك ما علم بالسنة مع الإنكار وبدونها.

وجملة القول فيه أنه يحتمل أن يكون المراد بالفرائض مطلق الواجبات ، وبما ذكره بعد مطلق المندوبات ، ويكون المراد بالجحد الترك متهاونا فيحسن التقابل ويظهر الفرق ، فالمراد بالكفر غير المعنى المصطلح ، ويحتمل أن يكون الجحد بمعناه والواو بمعنى أو ، فالفرق في أن تارك الفرائض كافر ببعض المعاني دون السنن ويحتمل أن يكون المراد بالفرائض ما ظهر وجوبه من ظاهر القرآن ، وبالسن أعم من الواجبات وجميع المندوبات ، أو يكون المراد بالفرائض ما ثبت وجوبه من الدين ضرورة ، وبالسنن غيرها أو المندوبات ، ويكون الغرض أن في الواجبات يكون مثل ذلك وليس في السنن ما يكفر الإنسان بتركه ، أو بإنكاره مطلقا وعلى أي حال تطبيقه على ما يوافق آراء المتكلمين أو سائر الأخبار لا يخلو من إشكال.

وقد يقال : المراد أن الكل بأمر الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضه فرائض موجبات تركها مع الجحود يوجب الكفر ، وبعضه فضل تركه يوجب نقص الخير ، وقيل : الفريضة تشمل الواجبات الأصولية والفروعية ، فلا يبعد أن يكون قوله فلم يعمل بها ناظرا إلى الثانية ، وقوله : وجحدها ناظرا إلى الأول ، وحينئذ يكون الكفر أعم من كفر الجحود وكفر ترك ما أمر الله تعالى به ،

١٠٩

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال والله إن الكفر لأقدم من الشرك وأخبث وأعظم قال :

______________________________________________________

وإن كان تركه مقرونا بالجحود كان كفره أيضا كفر جحود ، وأما من ترك الأولى من غير جحود ولا إقرار فهو مستضعف وقد مر ، وسيجيء أن المستضعف ليس بمؤمن ولا كافر وأنه في المشية ، وقوله : وأمر الله بأمور ، لعل المراد به الفروعية مطلقا فإن ترك بعضها وهو المندوبات ليس بكفر بشرط عدم الاستخفاف والإنكار ، انتهى.

وفي بعض النسخ : وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمور ، فيؤيد بعض الوجوه.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

والذي يظهر لي من هذه الأخبار أن الغرض بيان كفر من أنكر إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام وتقدم عليه وحاربه ، وأنهم أخبث من المشركين ، ويظهر منها أن الكفر هو ترك طاعة الله معاندة واستكبارا ، والشرك هو أن يثبت لله في الخلق أو العبادة أو الطاعة شريكا أعم من أن يكون ذلك على المعاندة أو على الجهل والضلال فبين عليه‌السلام أولا أن ترك طاعته تعالى مع العلم معاندة واستكبارا أخبث وأقدم من الشرك ، لأن أول معصية وقعت من العباد وأشدها معصية إبليس ، وهي كانت من هذا القبيل ، لأنه لم يشرك بل ترك السجود والطاعة معاندة واستكبارا ، وهذا أشد من شرك لم ينضم إليه ذلك ، وكان من الجهل والضلالة ، فأما الشرك الذي كان على وجه الاستكبار والمعاندة فهو أشد لتلك الجهة لا لجهة الشرك.

ثم إنه عليه‌السلام بعد ذلك أثبت لهم الشرك أيضا بأن إثبات دين غير دين المؤمنين يتضمن الشرك أيضا حيث أشرك مع الله تعالى غيره في وجوب الطاعة ، فهؤلاء الأخابث مع اتصافهم بالكفر الذي هو أقدم وأخبث متصفون بالشرك أيضا.

ويحتمل أن يكون الاستدلال بالأقدمية على كونه أعظم وأخبث من

١١٠

ثم ذكر كفر إبليس حين قال الله له اسجد لآدم فأبى أن يسجد فالكفر أعظم من الشرك فمن اختار على الله عز وجل وأبى الطاعة وأقام على الكبائر فهو كافر ومن نصب دينا غير دين المؤمنين فهو مشرك.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ذكر عنده سالم بن أبي حفصة وأصحابه

______________________________________________________

جهة أنه صار سببا لحدوث الشرك ، فإن الكفر أولا حدث من إبليس ثم صار كفره سببا لشرك من أشرك بعده ، وإذا تأملت في جميع أخبار الباب يتضح لك ما ذكرنا.

قوله عليه‌السلام حين قال الله له اسجد لآدم أي أمره بالسجود ، في قوله : « وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ » (١) وشمول خطاب الملائكة له لكونه داخلا فيهم ومعدودا من جملتهم « فمن اختار على الله عز وجل » أي اختار مراده على مراده تعالى أو أمر إبليس على أمره تعالى ، أو عارض الله تعالى فيما علم صلاح العباد فيه ، كما قال إبليس : « خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ».

« وأبي الطاعة » أي أنكرها وهو الكفر صريحا ، أو ترك العمل بها ، فلو كان الواو بمعنى أو يكون الكفر شاملا لكفر النعمة وكفر ترك المأمور به ، وكذا الكلام في قوله : وأقام على الكبائر ، والظاهر أن الواو بمعناه إشارة إلى قوله تعالى : « وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ » (٢).

الحديث الثالث : موثق كالصحيح وسالم بن أبي حفصة روى عن السجاد والباقر والصادق عليهما‌السلام وكان زيديا بتريا من رؤسائهم ، ولعنه الصادق عليه‌السلام وكذبه وكفره ، وروي في ذمه روايات كثيرة ، واسم أبي حفصة زياد.

« قال ذكر » على بناء المعلوم ، والمرفوع في قال وذكر راجعان إلى زرارة ،

__________________

(١) سورة طه : ١١٦.

(٢) سورة البقرة : ٣٤.

١١١

فقال إنهم ينكرون أن يكون من حارب عليا عليه‌السلام مشركين فقال أبو جعفر عليه‌السلام فإنهم يزعمون أنهم كفار ثم قال لي إن الكفر أقدم من الشرك ثم ذكر كفر إبليس حين قال له اسجد فأبى أن يسجد وقال الكفر أقدم من الشرك فمن اجترى على الله فأبى الطاعة وأقام على الكبائر فهو كافر يعني مستخف كافر.

٤ ـ عنه ، عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة ، عن حمران بن أعين قال سألت

______________________________________________________

وكذا المرفوع في فقال ، ويمكن أن يقرأ ذكر على بناء المجهول ، ويحتمل أن يكون فاعل قال أولا ابن بكير ، وعلى الأول قائل قال ابن بكير « فإنهم يزعمون أنهم كفار » أي إن لم يقولوا بشركهم فلا محيص لهم عن القول بكفرهم ، فإن محاربة الإمام كبيرة البتة ، والمصر على الكبيرة عندهم كافر ، والكفر أخبث وأقدم من الشرك كما مر.

ويحتمل أن يكونوا قائلين بكفرهم صريحا ، وإنما نفوا الشرك وعلى التقديرين ليس فيه تصديق لقولهم بنفي الشرك ، وإن احتمل ذلك بناء على أن الشرك عبارة عن عبادة غير الله حقيقة ، أو القول بالشريك في الخلق ، لا في الطاعة والأمر ، وهو لم يتحقق فيهم والكفر يتحقق بترك الطاعة ، ويؤيد الأول إطلاق الشرك على الحروري والناصب في سائر الأخبار.

« يعني مستخف كافر » الظاهر أنه كلام بعض الرواة ابن بكير أو غيره ، وقيل : يحتمل كونه من كلامه عليه‌السلام وعلى التقديرين يحتمل أن يكون تقييدا للحكم بالكفر بالاستخفاف ، أي إنما يحكم بكفره إذا كان مستخفا لا لغلبة الشهوة كما سيأتي ، ويمكن أن يكون علة للحكم بالكفر أي لا ينفك الإباء عن الطاعة عمدا والإصرار على الكبائر عن الاستخفاف وهو موجب للكفر.

الحديث الرابع : حسن موثق.

١١٢

أباعبد الله عليه‌السلام عن قوله عز وجل : « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » (١) قال إما آخذ فهو شاكر وإما تارك فهو كافر.

٥ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي ، عن حماد بن عثمان ، عن عبيد ، عن زرارة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ » (٢) قال ترك العمل الذي أقر به من ذلك أن يترك

______________________________________________________

« إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ » قال البيضاوي : أي بنصف الدلائل وإنزال الآيات « إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » حالان من الهاء ، وإما للتفصيل أو التقسيم ، أي هديناه في حالية جميعا أو مقسوما إليهما ، بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ فيه ، وبعضهم كفور بالإعراض عنه أو من السبيل ، ووصفه بالشكر والكفر مجاز ، ولعله لم يقل كافرا ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل وإشعارا بأن الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا وإنما المأخوذ به المتوغل فيه ، انتهى.

والخبر يدل على أن المراد بالكفور الكافر ، فيدل على أن من لم يأخذ السبيل هداه الله إليه من الإقرار به وبرسوله ، وبما جاء الرسول به من المعاد وولاية أئمة الدين فهو كافر ، ويحتمل شموله لترك العمل أيضا فيأول الكفر بما مر مرارا وسيأتي ، وفيها دلالة على كمال لطفه تعالى بأن الإقرار والعمل وإن كانا شكرين لنعمة الهداية والخلق وإعطاء العقل وسائر الآلات والألطاف والهدايات يجازيهم عليها نعيم الأبد.

الحديث الخامس : ضعيف على المشهور.

« وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ » قيل الياء للعوض كقوله تعالى : « اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى » (٣) أو للمصاحبة نحو « اهْبِطْ بِسَلامٍ » (٤) فعلى الأول المعنى الكفر بعد

__________________

(١) سورة الدهر : ٣.

(٢) سورة المائدة : ٦.

(٣) سورة البقرة : ١٦.

(٤) سورة هود : ٤٨.

١١٣

الصلاة من غير سقم ولا شغل.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن أسباط ، عن موسى بن بكير قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الكفر والشرك أيهما أقدم قال فقال لي ما عهدي بك تخاصم الناس قلت أمرني هشام بن سالم أن أسألك عن ذلك فقال لي الكفر أقدم وهو الجحود قال الله عز وجل : « إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ » (١).

______________________________________________________

الإيمان وعلى الثاني المراد به الإنكار قلبا ، والإقرار ظاهرا ، وقال البيضاوي : يريد بالإيمان شرائع الإسلام ، وبالكفر به إنكاره والامتناع منه ، وقال الطبرسي : أي من يجحد ما أمر الله بالإقرار به والتصديق له من توحيد الله وعدله ونبوة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ » الذي عمله واعتقده قربة إلى الله تعالى « وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ » أي الهالكين ، وقيل : أي ومن بكفر بالإيمان من أهل الكتاب أي يمتنع عن الإيمان ولم يؤمن.

قوله عليه‌السلام : ترك العمل الذي أقر به فالمراد بالكفر هنا ارتكاب مطلق الكبائر أو الكبائر التي تؤذن فعلها بعدم اليقين والاستخفاف بالدين كما يرشد إليه التمثيل بترك الصلاة من غير سقم ولا شغل وقد يحمل على إنكار والاستخفاف فيوافق الاصطلاح المشهور ، وقيل : فسر عليه‌السلام الكفر هنا بترك العمل وهو كفر المخالفة ، وفسر الإيمان بالإقرار بوجوب العمل ، ثم ذكر لذلك مثالا.

الحديث السادس : كالسابق.

« ما عهدي بك تخاصم الناس » أي ما كنت أظن أنك تخاصم الناس أو لم تكن قبل هذا ممن يخاصم المخالفين وتتفكر في هذه المسائل التي هي محل المخاصمة بين المتكلمين؟ وهذا السؤال يشعر بأنك شرعت في ذلك؟ ويحتمل أن يكون ما استفهامية أي ألم أعهد إليك أن لا تخاصم الناس فهل تخاصمهم بعد عهدي إليك؟ ومضمون الخبر قد مر.

__________________

(١) سورة البقرة : ٣٤.

١١٤

٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام يدخل النار مؤمن قال لا والله قلت فما يدخلها إلا كافر قال لا إلا من شاء الله فلما رددت عليه مرارا قال لي أي زرارة إني أقول لا وأقول إلا من شاء الله وأنت تقول لا ولا تقول إلا من شاء الله.

قال فحدثني هشام بن الحكم وحماد عن زرارة قال قلت في نفسي شيخ

______________________________________________________

الحديث السابع : حسن كالصحيح بسنديه.

« يدخل النار مؤمن » المراد بالمؤمن هنا الإمامي المجتنب للكبائر الغير المصر على الصغائر ، وبالكافر من اختل بعض عقائده إما في التوحيد أو في النبوة أو في الإمامة ، أو في المعاد أو في غيرها من أصول الدين ، مع تعصبه في ذلك وإتمام الحجة عليه لكمال عقله وبلوغ الدعوة إليه ، فحصلت هنا واسطة هي أصحاب الكبائر من الإمامية والمستضعفون من العامة ، ومن لم تتم عليهم الحجة من سائر الفرق ، فهم يحتمل دخولهم النار وعدمه ، فهم وسائط بين المؤمن والكافر.

أو المراد بالمؤمن الإمامي الصحيح العقيدة ، وبالكافر ما مر بناء على ما ورد في كثير من الأخبار أن الشيعة لا تدخل النار ، وإنما عذابهم عند الموت وفي البرزخ وفي القيامة ، فالواسطة من تقدم ذكره سوى أصحاب الكبائر ، وزرارة كان ينكر الواسطة بإدخال الوسائط في الكافر أو بعضهم في المؤمن ، وبعضهم في الكافر وكان لا يجوز دخول المؤمن النار وغير المؤمن الجنة ، ولذا لم يتزوج بعد تشيعه لأنه كان يعتقد أن المخالفين كفار لا يجوز التزوج منهم.

وكأنه تمسك بقوله تعالى : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ » (١) وبقوله تعالى : « فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ » (٢) والمنع عليهما ظاهر.

« قال : فحدثني » فاعل قال إما ابن أبي عمير أو إبراهيم بن هاشم ، وقوله : شيخ لا علم له بالخصومة ، الظاهر أن غرضه الإمام صلوات الله عليه ، يعني لا يعلم طريق المجادلة ، وحمله على أنه أراد نفسه بعيد.

__________________

(١) سورة التغابن : ٢.

(٢) سورة الشورى : ٧.

١١٥

لا علم له بالخصومة قال فقال لي يا زرارة ما تقول فيمن أقر لك بالحكم أتقتله ما تقول في خدمكم وأهليكم أتقتلهم قال فقلت أنا والله الذي لا علم لي بالخصومة.

٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة قال :

______________________________________________________

فأقول زائدا على ما مر : إنه يمكن أن يكون ذلك بمحض خطور بال لا يؤاخذ الإنسان به ، وحاصل كلامه عليه‌السلام الرد عليه بإثبات الواسطة ، لأن المخالفين في بعض الأحكام في حكم المسلمين وإن كان غير من ذكرنا من الواسطة مخلدين في النار ، وأيضا يمكن دخول بعض المخالفين كالمستضعفين الجنة ، فلما لم يفهم زرارة غرضه عليه‌السلام وكان يزعم أن الواسطة غير معقولة نبهه عليه‌السلام بأحوال من أقر له بالحكم ، أي خدمه وبأحوال خدمه أي عبيده وسائر أهاليه ، فقال عليه‌السلام : أتجوز قتلهم ولم لا تقتلهم إن كانوا كفارا مشركين؟ فتفطن من ذلك بالفرق بينهم وبين سائر الكفار ، وعلم أنه إذا جاز الفرق في القتل بينهم وبين سائر الكفار ، فيجوز في غير ذلك من الأمور فاعترف بأن نفسه لا علم له بالخصومة.

ويحتمل أن يكون المراد بالخدم والأهالي المستضعفين من الشيعة ، للتنبيه على حال المستضعفين من العامة ، وقيل : في قوله عليه‌السلام : فيمن أقر لك بالحكم ، يعني قال لك أنا على مذهبك ، كلما حكمت ، علي أن أعتقده وأدين الله به.

« أتقبله » بالباء الموحدة كما في بعض النسخ ، يعني تحكم عليه بالإيمان بمجرد تقليده إياك ، وكذا القول في الخدم والأهلين فعجز زرارة عن الجواب ، فعلم أنه الذي لا علم له بالخصومة دون الإمام عليه‌السلام ، وإنما عجز عن الجواب لأنه كيف يحكم عليهم بالإيمان بمجرد التقليد المحض من دون بصيرة ، وكيف يحكم عليهم بالكفر وهم يقولون إنا ندين بدينك ونقر لك بكل ما تحكم علينا ، فثبت المنزلة بين المنزلتين قطعا.

الحديث الثامن : ضعيف.

١١٦

سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام وسئل عن الكفر والشرك أيهما أقدم فقال الكفر أقدم وذلك أن إبليس أول من كفر وكان كفره غير شرك لأنه لم يدع إلى عبادة غير الله وإنما دعا إلى ذلك بعد فأشرك.

٩ ـ هارون ، عن مسعدة بن صدقة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام وسئل ما بال الزاني لا تسميه كافرا وتارك الصلاة قد سميته كافرا وما الحجة في ذلك فقال لأن الزاني وما أشبهه إنما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنها تغلبه وتارك الصلاة لا يتركها إلا استخفافا بها وذلك لأنك لا تجد الزاني يأتي المرأة إلا وهو مستلذ

______________________________________________________

ومفعول سمعت محذوف ، يدل عليه قوله : فقال الكفر أقدم ، وحاصل الجواب أن الشيطان لعنه الله أول الكافرين والمشركين ، وكان كفره أسبق لأنه أولا خالف أمر الله تعالى معاندة ، فصار كافرا ولم يكن حينئذ مشركا ، ثم لما أمر الناس بعبادة غير الله حصل الشرك ، وصار هو أيضا مشركا ، فيدل على أن الأمر بالشرك وحث الناس عليه شرك أيضا.

الحديث التاسع : كالسابق.

وقيل : المراد بالحجة هنا المعيار لا الدليل ، وأقول : الدليل أيضا مناسب « قاصدا إليها » أي إلى اللذة أو إلى المرأة ، فالقصد في مقابله السهو والغفلة ، وهو المراد بقوله : قاصدا ثانيا ، وقاصدا في الأول حال عن البارز في قوله لإتيانه ، والظاهر أن المراد بالكفر هنا ارتكاب ما يؤذن بقلة الاكتراث بالدين ، وضعف اليقين لعدم غلبة داع قوي على مخالفة أمر الله ، وهذا مما يستوجب به العذاب العظيم والعقاب الطويل ، وليس هو الكفر الذي يوجب الخلود في النار مع الكفار ، ولا ينفعهم شفاعة الشافعين ، ويجري عليهم في الدنيا أحكام الكافرين من نجاستهم وعدم جواز المناكحة والموارثة.

وحمله على الاستحلال والجحود بعيد ، فإن الزاني أيضا مع الاستحلال كافر ، فهذا أحد معاني الكفر ودرجة من درجاته في مقابل درجات الإيمان.

١١٧

لإتيانه إياها قاصدا إليها وكل من ترك الصلاة قاصدا إليها فليس يكون قصده لتركها اللذة فإذا نفيت اللذة وقع الاستخفاف وإذا وقع الاستخفاف وقع الكفر.

قال : وسئل أبو عبد الله عليه‌السلام وقيل له ما الفرق بين من نظر إلى امرأة فزنى بها أو خمر فشربها وبين من ترك الصلاة حتى لا يكون الزاني وشارب الخمر مستخفا كما يستخف تارك الصلاة وما الحجة في ذلك وما العلة التي تفرق بينهما قال الحجة أن كلما أدخلت أنت نفسك فيه لم يدعك إليه داع ولم يغلبك غالب شهوة مثل الزنى وشرب الخمر وأنت دعوت نفسك إلى ترك الصلاة وليس ثم شهوة فهو الاستخفاف بعينه وهذا فرق ما بينهما.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من شك في الله وفي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهوكافر.

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : ما فرق (١) ، يمكن أن يقرأ على صيغة الفعل والاسم ، وعلى التقديرين هو خبر ما الاستفهامية ، وعلى الأول بين منصوب بالمفعولية ، وعلى الثاني مجرور بالإضافة ، كقوله تعالى : « وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما » (٢) وتكرار بين للتصريح بدفع احتمال طلب الفرق بين الزنا وشرب الخمر « كما يستخف » على بناء المعلوم ، والظرف نائب المفعول المطلق للفعل المنفي في لا يكون ، ولم يدعك خبر إن ومثل منصوب بنيابة المفعول المطلق للفعل المنفي في لم يدعك ولم يغلبك ، و « فرق » يحتمل الوجهين السابقين ، وثالثا وهو أن يقرأ فرق بالتنوين فتكون ما للإبهام.

الحديث العاشر : صحيح.

والواو للتقسيم بمعنى أو ، ويدل على أن الشك في أصول الدين أيضا يوجب الكفر ، وقد مر في أبواب الإيمان والإسلام وسيأتي إنشاء الله وكأنه محمول على الشك بعد إتمام الحجة ، أو المراد بالكفر ما يقابل الإيمان فيشمل المستضعفين أيضا ، والكفر بهذا المعنى لا يستلزم الخلود في النار.

__________________

(١) وفي المتن « ما الفرق ».

(٢) سورة النساء : ٣٥.

١١٨

١١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن صفوان ، عن منصور بن حازم قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام من شك في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال كافر قلت فمن شك في كفر الشاك فهو كافر فأمسك عني فرددت عليه ثلاث مرات فاستبنت في وجهه الغضب.

١٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن عبيد بن زرارة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ » (١) فقال من ترك العمل الذي أقر به قلت فما موضع ترك

______________________________________________________

الحديث الحادي عشر : حسن كالصحيح.

وفيه إشعار بأن كفر الشاك ليس من ضروريات الدين حتى يكون إنكاره كفرا ، وإنما أمسك عن الجواب لئلا يجتروا على الشك ولا يستصغروه ، أو لئلا يتوهموا لسوء فهمهم التنافي بين الكلامين ، أو لافتقار بيان الحكم على تفصيل لا تقتضي المصلحة ذكره ، أو يكون كافرا وعدم الذكر للتقية.

وقيل : إنما أمسك عليه‌السلام عن جوابه وغضب منه لأن هذا ليس مما ينبغي أن يسأل عنه ، وظاهر أن هذا الشك ليس مما يوجب الكفر ، كيف والسائل نفسه كان شاكا فيه ، جاهلا به ، ولهذا سأل عنه إلا أن يقال بإيجابه للكفر بعد سماعه عنه مشافهة والكفر من هذه الجهة ، فيرجع إلى تكذيبه عليه‌السلام وهذا حديث آخر.

الحديث الثاني عشر : موثق كالصحيح.

وقد مر شرح صدر الخبر ، وقوله : فما موضع ترك العمل ، يحتمل وجهين : الأول أن يكون الغرض استعلام أن المراد جميع الأعمال أو الأعم منه ومن البعض ، فأجاب عليه‌السلام بأن المراد به الثاني ، الثاني : أن يكون الغرض أن كل عمل تاركه كافر أو بعض الأعمال كذلك ، فأومأ عليه‌السلام إلى أن المراد به الثاني ، وعلى التقديرين

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

١١٩

العمل حتى يدعه أجمع قال منه الذي يدع الصلاة متعمدا لا من سكر ولا من علة.

١٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن حكيم وحماد ، عن أبي مسروق قال سألني أبو عبد الله عليه‌السلام عن أهل البصرة فقال لي ما هم قلت مرجئة وقدرية وحرورية فقال لعن الله تلك الملل الكافرة المشركة التي

______________________________________________________

كلمة ما استفهامية ، والموضع بمعنى المرتبة ، واللام في « العمل » للعهد أي العمل الذي أقر به ، والاستفهام في « حتى يدعه » مقدر ، وقيل : لعل المراد من السؤال استعلام مطلق العمل الذي تركه يوجب الكفر ، ويكون قوله حتى يدعه أجمع استفهاما آخر ، يعني أهو ترك الأعمال أجمع؟ فأجاب عليه‌السلام بأنه قد يكون ترك بعض الأعمال كالصلاة.

الحديث الثالث عشر : حسن.

« مرجئة » أقول : قد مر الكلام في بيان مذاهب هؤلاء مرارا ، وأن المرجئة بالهمز اسم فاعل من أرجأته إذا أخرته ، وهم فرقة من المخالفين يزعمون أن الإيمان محض العلم بما جاء به الرسول ، وأنه لا يضر مع الأيمان معصية كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة ، سموا بذلك لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى أخر تعذيبهم على المعاصي وأخره عنهم ، قال في المصباح : أرجأته بالهمز أخرته ، والمرجئة اسم فاعل من هذا لأنهم لا يحكمون على أحد بشيء في الدنيا ، بل يؤخرون الحكم إلى يوم القيامة ، وتخفف فتقلب الهمزة ياءا مع الضمير المتصل ، فيقال : أرجيته.

وأقول : قد مضى الكلام في بيان مذاهبهم في باب أن الإيمان مبثوث بجوارح البدن ، وقال الشيخ البهائي قدس‌سره : لعل المراد بالقدرية الجبرية ، وأقول : يحتمل أن يكون المراد بهم التفويضية القائلين باستقلال العبد في أفعاله ، وأن لا مدخل لله فيها أصلا ، النافين لقضاء الله وقدره رأسا ، وقد عرفت إطلاقه عليهما ، وأنهما خارجان عن الحق وأن الحق الأمر بين الأمرين ، وفي النهاية : الحرورية من الخوارج نسبوا إلى

١٢٠