مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

لا تعبد الله على شيء.

١٤ ـ عنه ، عن الخطاب بن مسلمة وأبان ، عن الفضيل قال دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وعنده رجل فلما قعدت قام الرجل فخرج فقال لي يا فضيل ما هذا عندك قلت وما هو قال حروري قلت كافر قال إي والله مشرك.

١٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن أبي أيوب ، عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول كل شيء يجره الإقرار والتسليم فهو الإيمان وكل شيء يجره الإنكار والجحود فهو الكفر.

______________________________________________________

حروراء بالمد والقصر ، وهو موضع قريب من الكوفة ، كان أول مجتمعهم وتحكيمهم فيه وهم أحد الخوارج الذين قاتلهم علي عليه‌السلام « الكافرة المشركة » قد عرفت الفرق بين الكفر والشرك ، وأن الكفر أعم أي هم جمعوا بينهما فإنهم كفروا حيث تركوا ما أمر الله به من طاعة الأئمة عليه‌السلام عنادا أو بغيا ، وأشركوا حيث اتخذوا طواغيته أئمة من غير نصب الله لهم التي لا تعبد الله على شيء من الدين ، فإنه لا دين لهم ، أو من العبادة فإن عباداتهم باطلة.

الحديث الرابع عشر : حسن موثق.

والضمير في عنه لابن أبي عمير « ما هذا عندك » يعني أهو كافر باعتقادك أم مسلم؟ « قلت : وما هو؟ » أي لا أعلم مذهبه حتى أحكم عليه بالإسلام أو الكفر « أي والله مشرك » أي كفره مجامع للشرك ، وفي بعض النسخ ومشرك وهو أظهر.

الحديث الخامس عشر : صحيح.

« كل شيء يجره الإقرار » أي هو من لوازمه وتوابعه كالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، والورع عن المعاصي ، فهو داخل في الإيمان على وجه ومكمل له على وجه آخر. « وكل شيء يجره الإنكار والجحود » أي هو من لوازمهما وتوابعهما وآثارهما ، فهو داخل في الكفر ومن مكملاته أو من طرقه المؤدية إليه ،

١٢١

١٦ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي حمزة قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول إن عليا صلوات الله عليه باب فتحه الله من دخله كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا.

١٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن يحيى بن المبارك ، عن عبد الله بن جبلة ، عن إسحاق بن عمار وابن سنان وسماعة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله طاعة علي عليه‌السلام ذل ومعصيته كفر بالله قيل يا رسول الله وكيف يكون طاعة علي عليه‌السلام ذلا ومعصيته كفرا بالله قال إن عليا

______________________________________________________

فإن المعاصي طرق إلى الكفر.

الحديث السادس عشر : ضعيف على المشهور ومعتبر عندي.

والمراد بالداخل العارف بحقه ، وبالخارج المنكر له ، سواء أنكره مطلقا أو أنكره في مرتبته ، فيبقى قسم ثالث وهو الذي لم يدخل ولم يخرج ويسمى ضالا ومستضعفا كما مر وسيأتي.

الحديث السابع عشر : ضعيف.

والظاهر أن المراد به الذل في الدنيا وعند الناس ، لأن طاعته توجب ترك الدنيا وزينتها ، والحكم للضعفاء على الأقوياء والرضا بتسوية القسمة بين الشريف والوضيع ، والقناعة بالقليل من الحلال ، والتواضع وترك التكبر والترفع ، وكل ذلك مما يوجب الذل عند الناس ، كما روي أنه لما قسم بيت المال بين أكابر الصحابة والضعفاء بالسوية غضب لذلك طلحة والزبير ، وأسسا أساس الفتنة والبغي والجور ، وقيل : المراد بالذل التذلل لله تعالى والانقياد له والتواضع عنده بقبول أوامره والانتهاء عند نواهيه ، وترك التكبر والترفع من الذل بالكسر ، والأول أظهر كما ينادي به سياق الخبر.

ويؤيده ما سيأتي في نوادر الحدود عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بعث أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى بشر بن عطارد التميمي في كلام بلغه فمر به رسول أمير المؤمنين عليه‌السلام في

١٢٢

عليه‌السلام يحملكم على الحق فإن أطعتموه ذللتم وإن عصيتموه كفرتم بالله عز وجل.

١٨ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء قال حدثني إبراهيم بن أبي بكر قال سمعت أبا الحسن موسى عليه‌السلام يقول إن عليا عليه‌السلام باب من أبواب الهدى فمن دخل من باب علي كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين لله فيهم المشيئة.

١٩ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا.

______________________________________________________

بني أسد وأخذه فقام إليه نعيم بن دجاجة الأسدي فأفلته فبعث إليه أمير المؤمنين فأتوه به وأمر به أن يضرب ، فقال له نعيم : أما والله إن المقام معك لذل وإن فراقك لكفر ، قال : فلما سمع ذلك منه قال له : قد عفونا عنك إن الله عز وجل يقول : « ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ » (١) أما قولك : إن المقام معك لذل فسيئة اكتسبتها ، وأما قولك : إن فراقك لكفر فحسنة اكتسبتها ، فهذه بهذه ، ثم أمر أن يخلي عنه.

ولا ينافيه عده سيئة فإن مواجهته عليه‌السلام بهذا الكلام كان سوء أدب وإن كان حقا فتأمل.

الحديث الثامن عشر : ضعيف على المشهور.

وكان فساق الشيعة والمستضعفين وأشباههم داخلون في القسم الثالث ، وأما من بلغته الدعوة وتمت عليه الحجة فعدم الدخول فيه كفر وهو غير معذور.

الحديث التاسع عشر : كالسابق.

وهو باب رحمة فتحه الله للعباد ، ويدل على أن الجاهل معذور في أكثر الموارد ، كمن جهل إمامة علي عليه‌السلام ولم تقم عليه حجة إذا وقف ولم ينكره لم يكفر ودخل

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٩٦.

١٢٣

٢٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن فضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن الله عز وجل نصب عليا عليه‌السلام علما بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ومن جهله كان ضالا ومن نصب معه شيئا كان مشركا ومن جاء بولايته دخل الجنة ومن جاء بعداوته دخل النار.

٢١ ـ يونس ، عن موسى بن بكر ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال إن عليا عليه‌السلام باب من أبواب الجنة فمن دخل بابه كان مؤمنا ومن خرج من بابه كان كافرا ومن لم يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة التي لله فيهم المشيئة.

باب وجوه الكفر

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن يزيد ، عن أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له أخبرني عن وجوه الكفر

______________________________________________________

في المستضعفين ، وهو في مشية الله فعسى أن تدركه الرحمة ، وكذا الجاهل في سائر الأمور من أصول الدين وفروعه.

الحديث العشرون : كالسابق.

« ومن جهله » أي توقف ولم ينكر « ومن نصب معه شيئا » أي إماما آخر وأخره عن مرتبته فهو مشرك لأنه وضع دينا غير دين الله ، وأشرك مع الله غيره في نصب الإمام.

الحديث الحادي والعشرون : ضعيف كالموثق وقد مر مضمونه.

باب وجوه الكفر

الحديث الأول : ضعيف على المشهور ببكر بن صالح وإنما ضعفه ابن الغضائري وأبو عمرو الزبيري وإن كان مجهولا لكن يظهر من أخباره أنه من محققي الرواة وأصحاب أسرار الأئمة عليهم‌السلام ، وهذا الخبر جزء خبر طويل فرقه المصنف وغيره على الأبواب كما يظهر من هذا الكتاب ، وتفسير العياشي وغيرها ، وقد مر

١٢٤

في كتاب الله عزوجل قال الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه.

فمنها كفر الجحود والجحود على وجهين والكفر بترك ما أمر الله وكفر البراءة وكفر النعم.

فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية وهو قول من يقول لا رب ولا جنة ولا نار وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهرية وهم الذين يقولون

______________________________________________________

جزء آخر في باب السبق إلى الإيمان ولما سأله عليه‌السلام عن أجزاء الإيمان وزيادته ونقصانه ومنازله ودرجاته سأله عن معاني الكفر ووجوهه ، فبين عليه‌السلام أن الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه وجهان منها يرجع إلى الجحود ، وقوله : فهو الجحود بالربوبية لما كان الجحود في اللغة مطلق الإنكار ، وكان المراد به هيهنا إنكار ما يتعلق بالربوبية أعني ما جاء من قبل الرب تعالى فسره عليه‌السلام بذلك وخصه به كما قيل.

وأقول : إنما كان هذا جحدا للربوبية لأن ربيته سبحانه يقتضي التكليف والثواب والعقاب ، فهؤلاء إما ينكرون وجوده سبحانه أو ربيته ، وكان المراد بالصنفين صنف أنكروا المبدأ والمعاد معا ، وهم الملاحدة ، وصنف أثبتوا المبدأ وأنكروا المعاد كبعض الفلاسفة حيث أنكروا المعاد وقالوا بقدم العالم وأبديته ، وكفار مكة الذين ذكرهم الله في تلك الآية ، وهم الذين يقولون « وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ » زعموا أن تولد الأشخاص وتكون الممتزجات وفسادها وحياتها وموتها مستندة إلى الدهر ، وحركات الأفلاك وتأثيرات الكواكب ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى القائلين بالتناسخ والقائلين ببطلان الجسد والروح بالكلية ، أو القائلين بالطبيعة والقائلين بالدهر ، وقيل : صنف طلبوا لهذا العالم سببا فأحالوه على الطبع الذي هو صفة جسمانية خالية عن العلم والإدراك ، وصنف لم يطلبوا له سببا بل اشتغلوا بأنفسهم وعاشوا عيش البهائم.

قال الله تعالى : « إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ » ، أن ذلك بفتح الهمزة وتشديد النون متعلق بيظنون.

١٢٥

« وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ » وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غير تثبت منهم ولا تحقيق لشيء مما يقولون قال الله عز وجل : « إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ » (١) أن ذلك كما يقولون وقال : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » (٢) يعني بتوحيد الله تعالى فهذا أحد وجوه الكفر.

وأما الوجه الآخر من الجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم

______________________________________________________

والحاصل أنه استشهد لقوله إنهم وضعوا الدين بمحض الاستحسان من غير حجة وبرهان بأنه تعالى قال بعد قولهم : « وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ».

« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ » سواء اسم من الاستواء وخبر لأن ، وما بعده فاعله أي مستو عليهم إنذارهم وعدمه ، أو خبر لما بعده ، والجملة خبر لأن أي إنذاره وعدمه سيان عليهم ، وقوله : بتوحيد الله متعلق بلا يؤمنون ، ويحتمل تعلقه بكفروا أو بهما على التنازع ، والظاهر أن هذه الآية والآية السابقة موردهما واحد.

وقد يقال : إن الآية الأولى في صنف من الزنادقة لا سبيل لهم إلى شبهة قوية والثانية لقوم من الفلاسفة لهم شبه قوية على إنكار حدوث العالم والمعاد وفناء العالم فهو أشد رسوخا في باطلهم من الفرقة الأولى ، ولذلك لا ينفعهم الإنذار وليس ببعيد. وإنما خص نفي الإيمان في الآية بتوحيد الله لأن سائر ما يكفرون به من توابع التوحيد « وأما الوجه الآخر من الجحود » قيل : الصواب وأما الوجه الآخر من الجحود فهو الجحود على معرفة ، ولعله سقط من قلم النساخ ، انتهى.

وكان الفرق بين هذا وما تقدم أن الفرقة المتقدمة عرضت لهم شبهة ضعيفة اتبعوها ، وهؤلاء أنكروا مع العلم عتوا واستكبارا وعنادا وحسدا كالفرق الذي ذكرنا سابقا بين الكفر والشرك.

ويحتمل وجها آخر من الفرق بأن يكون الأول ما يكون في التوحيد وما يتبعه من أمر المعاد ، والثاني ما يكون بعد الإقرار بالتوحيد من الإقرار بالنبوة

__________________

(١) سورة الجائية : ٢٣.

(٢) سورة البقرة : ٦.

١٢٦

أنه حق قد استقر عنده وقد قال الله عز وجل : « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا » (١) وقال الله عز وجل : « وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ » (٢) فهذا تفسير وجهي الجحود

______________________________________________________

والإمامة وغيرهما ، ولكل من الوجهين شواهد لا يخفى على المتأمل.

قوله : على معرفة ، أي للحق « قد استقر عنده » أي استقرارا لا شك فيه « وَجَحَدُوا بِها » أي أنكروا آيات الله وكذبوها ، والحال أن أنفسهم مستيقنة بها عالمة إياها ، وإنما أنكروها ظلما لأنفسهم وعلوا أي ترفعا على الرسول والانقياد له والإيمان به ، واستدلوا بها على أن الإيمان هو التصديق مع العمل دون التصديق وحده ، واعترض عليه بأنه يمكن أن يكون مشروطا بالإقرار باللسان مع القدرة كما ذهب إليه طائفة من العامة ، كما قال الدواني في شرح العقائد : التلفظ بكلمتي الشهادتين مع القدرة عليه شرط ، فمن أخل به فهو كافر مخلد في النار ، انتهى.

وقيل : مشروط بعدم الإنكار فينتفى الإيمان بالإنكار وقد مر القول فيه مفصلا وقال الله عز وجل : « وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا » أي وكان أهل الكتاب من قبل البعثة يطلبون الغلبة على المشركين ويستنصرون عليهم بخاتم الأنبياء ، ويقولون اللهم انصرنا بنبي آخر الزمان المنعوت في التوراة ، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبيا يبعث منهم وقرب زمانه « فَلَمَّا جاءَهُمْ » النبي الذي عرفوه كفروا به وجحدوه حسدا أو خوفا من الرئاسة أو لغير ذلك « فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ » أي عليهم فوضع الظاهر موضع الضمير للتنصيص على أن لعنهم بسبب كفرهم وإنكارهم الحق المعروف عندهم.

أقول : روى علي بن إبراهيم هذا الخبر عن أبيه عن بكر بن صالح عن الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الكفر في كتاب الله على خمسة وجوه ، فمنه كفر الجحود وهو على وجهين كفر جحود بعلم ، وجحود بغير علم ، فأما الذين جحدوا بغير علم

__________________

(١) سورة النمل : ١٤.

(٢) سورة البقرة : ٨٩.

١٢٧

والوجه الثالث من الكفر كفر النعم وذلك قوله تعالى يحكي قول سليمان ع : « هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ » (١) وقال « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ » (٢) وقال « فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ » (٣).

______________________________________________________

فهم الذين حكى الله عنهم في قوله : « وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ » وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » فهؤلاء كفروا وجحدوا بغير علم ، وأما الذين كفروا وجحدوا بعلم فهم الذين قال الله عز وجل : « وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ » فهؤلاء كفروا وجحدوا بعلم.

وفي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : وأما الكفر المذكور في كتاب الله تعالى فخمسة وجوه ، منها كفر الجحود ، ومنها كفر فقط ، والجحود ينقسم على وجهين ، ومنها كفر الترك لما أمر الله تعالى به ، ومنها كفر البراءة ، ومنها كفر النعم فأما كفر الجحود فأحد الوجهين منه جحود الوحدانية وهو قول من يقول لا رب ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور ، وهؤلاء صنف من الزنادقة ، وصنف من الدهرية الذين يقولون ما يهلكنا إلا الدهر ، وذلك رأي وضعوه لأنفسهم استحسنوه بغير حجة فقال الله تعالى « إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ » وقال : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا » إلى قوله « لا يُؤْمِنُونَ » أي لا يؤمنون بتوحيد الله.

والوجه الآخر من الجحود هو الجحود مع المعرفة بحقيته قال تعالى « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا » (٤).

وقال سبحانه : « وَكانُوا مِنْ قَبْلُ » إلى قوله « عَلَى الْكافِرِينَ » أي جحدوه

__________________

(١) سورة النمل : ٤٠.

(٢) سورة إبراهيم : ٧.

(٣) سورة البقرة : ١٥٢.

(٤) سورة النمل : ١٤.

١٢٨

والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز وجل به وهو قول الله عز وجل :

______________________________________________________

بعد أن عرفوه.

أقول : إنما أوردنا الروايتين لتأييد كل منهما لبعض الوجوه السابقة « يحكي قول سليمان » لما عرف سليمان عليه‌السلام نعمة الله عليه ، وعلم أنها للابتلاء قال هذا من فضل ربي ، أي الاقتدار من إحضار العرش في مدة يسيرة من مسافة بعيدة وهي ما بين سبأ والشام بلا حركات جسمانية من فضل نعم ربي « لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ » بالإقرار بأن ذلك الفضل له ومنه لا لي ومني ، والإتيان بالثناء الجزيل والذكر الجميل « أَمْ أَكْفُرُ » بترك ذلك الإقرار وعدم ذلك الإتيان.

« وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ » لأنه يديم العتيد ويجلب المزيد ، ويستحق به الثواب ، ومن كفر بما مر فلا يضر الله شيئا فإن ربي غني عن عبادة العابدين وشكر الشاكرين ، كريم بالإفضال والإحسان وترك مؤاخذة العبد بالإساءة والكفران لعله يتوب ويصلح حاله في مستقبل الأزمان ، ومن هاهنا ظهر أن ترك الشكر على النعمة كفر.

وقال : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » قيل : الشكر هو الاعتراف بالنعمة ظاهرة كانت أو باطنة ، جلية كانت أم خفية والإقرار بها للمنعم ، والإتيان بالأعمال الصالحة المطلوبة له والامتثال لأوامره والاجتناب عن معاصيه ، وكفر النعم ضد ذلك ، وهو سبب لزوال النعمة وعدم الزيادة وتحقق العقوبة في الدنيا والآخرة ، ولذلك قال الله عز وجل مؤكدا بوجوه شتى : « وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ».

وقال : « فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ » قيل : أي فاذكروني ظاهرا باللسان وباطنا بالجنان لاسيما عند الأوامر والنواهي ، أذكركم في ملإ المقربين بالخير والصلاح أو بالجزاء الجميل ، أو في القيامة إذا بلغت القلوب الحناجر من شدائدها ، أو في حال الموت أو في البرزخ أو في جميع الأحوال ، كما دلت عليه صيغة الاستقبال.

١٢٩

« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ

______________________________________________________

« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ » قيل : أخذ العهد منهم بأن لا يقتلوا أنفسهم كما يفعله من يصعب عليه الزمان للتخلص من الصعوبة ، وكما يفعله أهل الهند للتخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور ، وقيل : بأن لا يفعلوا ما يوجب قتلهم وإخراجهم من ديارهم ، وقيل : بأن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من وطنه ، وإنما جعل قتل الرجل وإخراجه غيره قتل نفسه وإخراجها لاتصاله به نسبا أو دينا ، أو لأنه يقتص منه فكأنه قتل نفسه وقيل : بأن لا يفعلوا ما يصرفهم في الحياة الأبدية التي هي الحياة الحقيقية وما يمنعهم من الجنة التي هي دار القرار ، فإنه الجلاء الحقيقي.

« ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ » أي ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه « وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ » عليها ، وهذا تأكيد كقولك أقر فلان على نفسه بكذا شاهدا عليها أو اعترفتم على قبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك ، أو أنتم تشهدون يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق فيكون إسناد الإقرار إلى المخاطبين مجازيا.

« ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ » قيل : ثم استبعاد لما أسند إليهم من القتل والأجلاء والعدوان بعد الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم ، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون الشاهدون يعني أنتم قوم آخرون غير هؤلاء الشاهدين ، كقولك رجعت بغير الوجه الذي خرجت ، أي ما أنت الذي كنت من قبل نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات ، وتقتلون حينئذ بيان لهذه الجملة.

وقيل : أنتم مبتدأ وتقتلون خبره ، وهؤلاء إما منصوب بتقدير أعني أو منادي بحذف حرف النداء عند من جوز حذف حرف النداء في المبهمات كسيبويه وأتباعه وقيل : أنتم مبتدأ وهؤلاء بمعنى الذين وتقتلون صلته ، أي ثم أنتم الذين تقتلون ،

١٣٠

دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ

______________________________________________________

وهذا عند الكوفيين ، وأما البصريون فلا يجوزون أن يكون هؤلاء وأولاء وهذا بمعنى الموصول.

وقيل : أنتم مبتدأ وهؤلاء خبره بحذف المضاف ، أي مثل هؤلاء « تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ » قيل : هو حال عن فاعل تخرجون أو عن مفعوله أو كليهما ، والتظاهر التعاون من الظهر أي تتعاونون عليهم ، وقيل : ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضا مما تعظم به الفتنة ، واحتيج فيه إلى زيادة اقتدار عليه ، بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان ، وفيه دلالة على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة ، ولا يشكل هذا بتمكين الله تعالى الظالم من الظلم فإنه كما مكنه فقد زجره بخلاف معين الظالم ، فإنه يدعوه إلى الظلم ويحسنه عنده.

« وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ » قال المفسرون : قريظة وهم قبيلة من يهود خيبر كانوا حلفاء الأوس والنضير ، وهم قبيلة أخرى كانوا حلفاء الخزرج ، فإذا اقتتلا عاون كل فريق حلفاءه في القتل وتخريب الديار وإخراج أهلها ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم ، فيقولون أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ، ولكنا نستحيي أن نذل حلفاءنا فذمهم الله على ذلك إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض ، وقيل : معناه إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدون لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم ، كقوله : « أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ » (١).

وأسارى جمع أسرى كسكارى وسكرى ، وأسرى جمع أسير كمرضي ومريض ، وقيل : أسارى أيضا جمع أسير ، وقيل : هو من الجموع التي تركوا مفردها كأنه جمع أسران كعجالي وعجلان.

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٤.

١٣١

عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ » (١) فكفرهم بترك ما أمر الله عز وجل به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم

______________________________________________________

« وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ » متعلق بقوله : وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، وما بينهما اعتراض ، والضمير للشأن أو مبهم ، ويفسره إخراجهم أو راجع إلى ما دل عليه يخرجون من المصدر ، وإخراجهم تأكيد أو بيان له « أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ » يعني الفداء « وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ » يعني حرمة المقاتلة والأجلاء.

وأقول : ويظهر من الخبر أن المراد بالكفر هنا ترك ما أمر الله تعالى به من الكف عن قتلهم وإخراجهم ، وكان التعبير عنه بترك ما أمر الله به دون فعل ما نهى الله عنه ليشمل ترك الطاعات أيضا وهو أهم وأعظم ، أو لأن المقصود في النهي عن المعاصي حصول أضدادها ، فإن النهي عن شرب الخمر الغرض منه حفظ العقل والغرض من النهي عن الزنا حفظ الأنساب ، وعن القتل حفظ النفوس ، وهكذا ويظهر مما سيأتي في تأويل الآية بروايات أهل البيت عليهم‌السلام أنها نزلت في ترك القول بإمامة أهل البيت عليهم‌السلام ، وما تفرع على ذلك من قتلهم وإخراجهم عن الإمامة وإخراج أصحابهم كأبي ذر رضي‌الله‌عنه عن ديارهم نكتة أخرى أظهر مما ذكرنا كما لا يخفى على المتأمل.

« ونسبهم إلى الإيمان » أي الإيمان الظاهري حيث ورد في تفسير النعماني في سياق هذا الخبر ، فكانوا كفارا لتركهم ما أمر الله به فنسبهم إلى الإيمان بإقرارهم بألسنتهم على الظاهر دون الباطن ، فلم ينفعهم ذلك لقوله « فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ » الآية.

قال الطبرسي (ره) : ومما يسأل في هذه الآية أن ظاهرها يقتضي صحة اجتماع الإيمان والكفر ، وذلك مناف للصحيح من المذهب؟ والقول فيه : أن المعنى أنهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب والإنكار للبعض ، ويحتمل أن يكون المراد بذلك

__________________

(١) سورة البقرة : ٨٤.

١٣٢

ينفعهم عنده فقال « فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ » (١).

______________________________________________________

أنكم إذا اعتقدتم جميع ذلك ثم عملتم ببعضه دون بعض فكأنكم آمنتم ببعضه دون بعض ، وهذا يدل على أنه لا ينفعهم الإيمان بالبعض مع الكفر بالبعض الآخر ، انتهى.

« فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ » أي الكفر أو الجمع بين الأمرين « إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » كقتل بني قريظة وسبي نسائهم وذراريهم ، وأجلاء بني النضير لنقض عهدهم وضرب الجزية على غيرهم ، والخزي ذل يستحيي منه ، يقال : أخزاه الله أي إهانة وأوقعه موقعا يستحيي منه ، وتنكير خزي يدل على فظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغا لا يعرف كنهه.

« إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ » قيل : عذاب منكري الصانع كالدهرية يجب أن يكون أشد فكيف وصف عذاب اليهود بأنه أشد؟ وأجيب أولا بأن كفر العناد أشد فعذابهم أشد ، وثانيا بأن المراد أن عذابهم أشد من الخزي لا مطلقا « وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ » قيل : هذا وعيد شديد للعاصين ، وبشارة عظيمة للمطيعين ، لأن القدرة الكاملة مع عدم الغفلة يقتضي وصول الحقوق إلى مستحقيها.

وأقول : قال الإمام عليه‌السلام في تفسيره : قوله عز وجل : « إِخْراجُهُمْ » ولم يقتصر على أن يقول وهو محرم عليكم لأنه لو قال ذلك لرأي أن المحرم إنما هو مفاداتهم ثم قال عزوجل : « أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ » وهو الذي أوجب عليكم المفاداة « وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ » وهو الذي حرم قتلهم وإخراجهم ، فقال فإذا كان قد حرم الكتاب قتل النفوس والإخراج من الديار كما فرض فداء الأسراء فما بالكم تطيعون في بعض وتعصون في بعض؟ كأنكم ببعض كافرون وببعض مؤمنون ، ثم قال عزوجل : « فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ » يا معشر اليهود « إِلاَّ خِزْيٌ » ذل « فِي

__________________

(١) سورة البقرة : ٨٥.

١٣٣

والوجه الخامس من الكفر كفر البراءة وذلك قوله عز وجل يحكي قول إبراهيم عليه‌السلام « كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ » (١) يعني تبرأنا منكم وقال يذكر إبليس وتبرئته من أوليائه من الإنس

______________________________________________________

الْحَياةِ الدُّنْيا » « جزية تضرب عليه يذل بها » « وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ » إلى جنس أشد العذاب ، يتفاوت ذلك على قدر تفاوت معاصيهم « وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ » أي يعمل هؤلاء اليهود.

ثم قال عليه‌السلام : فقال رسول الله : لما نزلت هذه الآية في اليهود ، هؤلاء اليهود نقضوا عهد الله وكذبوا رسول الله ، وقتلوا أولياء الله أفلا أنبؤكم بمن يضاهيهم من يهود هذه الأمة؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : قوم من أمتي ينتحلون بأنهم من أهل ملتي يقتلون أفاضل ذريتي وأطايب أمتي ويبدلون شريعتي وسنتي ، ويقتلون ولدي الحسن والحسين كما قتل أسلاف هؤلاء اليهود زكريا ويحيى ، ألا وإن الله يلعنهم كما لعنهم ، ويبعث على بقايا ذراريهم قبل يوم القيامة هاديا مهديا من ولد الحسين عليه‌السلام المظلوم يحرقهم بسيوف أوليائه إلى نار جهنم ، إلى آخر الخبر.

وقال علي بن إبراهيم : أنها نزلت في أبي ذر رضي‌الله‌عنه وفيما فعل به عثمان من إخراجه إلى الربذة وغير ذلك مما أجرى من الظلم عليه ، واعترف بأنه لو وجده أسيرا في أيدي المشركين فداه بجميع ماله ، فصار مصداق هذه الآية ، والقصة طويلة وسيأتي في المحل المناسب لها إن شاء الله.

« يعني تبرأنا منكم » وقد يفرق بين العداوة والبغض بأن العداوة يظهر أثرها بخلاف البغض ، أو بأن البغض أشد من العداوة ، وفي المصباح البغضة بالكسر والبغضاء شدة البغض « مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً » قد دلت الأخبار الكثيرة على أن أئمة الكفر والضلالة داخلة فيهم ، والآيات المذكورة صريحة في أن الكفر يطلق على البراءة ، وأن كفر البراءة كما يكون بين المؤمن والكافر كذلك يكون بين الكافرين

__________________

(١) سورة الممتحنة : ٤.

١٣٤

يوم القيامة : « إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ » (١) وقال « إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً » (٢) يعني يتبرأ بعضكم من بعض.

______________________________________________________

وقيل : لعله عليه‌السلام إنما لم يذكر كفر النفاق في هذا الحديث لأنه جعل النفاق قسيما للكفر لا قسما منه لأن فيه إذعانا ، ويؤيده قوله سبحانه : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ » حيث عطف أحدهما على الآخر.

تأييد

قال الراغب في مفرداته : الكفر في اللغة ستر الشيء ، ووصف الليل بالكافر لستره الأشخاص ، والزارع لستره البذر في الأرض ، وليس ذلك باسم لهما ، والكافور اسم أكمام الثمرة التي تكفرها ، وكفر النعمة وكفرانها سترها بترك أداء شكرها قال عز وجل : « فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ » (٣) وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو النبوة أو الشريعة ، والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا ، والكفر في الدين أكثر ، والكفور فيهما جميعا ، قال تعالى : « فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً » (٤) « فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً » (٥) ويقال منهما كفر فهو كافر ، قال في الكفران : « لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ » (٦) وقال تعالى : « وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ » (٧) وقوله : « وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ » (٨) أي تحريت كفران نعمتي ، وقال : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ » (٩).

ولماكان الكفران يقتضي جحود النعمة صار يستعمل في الجحود ، قال تعالى

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٢٢.

(٢) سورة العنكبوت : ٢٥.

(٣) سورة الأنبياء : ٩٤.

(٤) سورة الفرقان : ٥٠.

(٥) سورة الإسراء : ٩٩.

(٦) سورة النمل : ٤٠.

(٧) سورة البقرة : ١٥٢.

(٨) سورة الشعراء : ١٩.

(٩) سورة إبراهيم : ٧.

١٣٥

______________________________________________________

« وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ » (١) أي جاحد له وساتر.

والكافر على الإطلاق متعارف فيمن يجحد الوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو ثلاثها وقد يقال كفر لمن أخل بالشريعة وترك ما لزمه من شكر الله عليه قال « مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ » (٢) ويدل على ذلك مقابلته بقوله : « وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ » وقال : « يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ » (٣) وقوله : « وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ » (٤) أي لا تكونوا أئمة في الكفر فيقتدي بكم ، وقوله : « وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » (٥) وعنى بالكافر الساتر للحق فلذلك جعله فاسقا ، ومعلوم أن الكفر المطلق هو أعظم من الفسق ، ومعناه من جحد حق الله فقد فسق عن ربه ، ولما رأي جعل كل فعل محمود من الإيمان جعل كل فعل مذموم من الكفر.

وقال في السحر : « وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا » (٦) وقال : « الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ » إلى قوله « وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ » (٧) وقال : « وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ » إلى قوله : « وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » (٨).

والكفور المبالغ في كفران النعمة ، وقوله : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ » (٩) وقال « ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ » إن قيل : كيف وصف

__________________

( ١ ـ ٤ ) سورة البقرة : ٤١.

(٢) سورة الروم : ٤٤.

(٣) سورة النحل : ٨٣.

(٥) سورة النور : ٥٥.

(٦) سورة البقرة : ١٠٢.

(٧) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٨) سورة آل عمران : ٩٧.

(٩) سورة الزخرف : ١٥.

١٣٦

________________________________________________________

الإنسان هيهنا بالكفور ولم يرض بذلك حتى أدخل عليه إن واللام كل ذلك تأكيدا وقال في موضع آخر : وكره إليكم الكفر(١) وقوله عزوجل : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ » (٢) فتنبيه على ما ينطوي عليه الإنسان من كفران النعمة وقلة ما يقوم بأداء الشكر ، وعلى هذا قوله : « قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ » (٣) ولذلك قال : « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » (٤)وقوله : « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » (٥) تنبيها أنه عرفه الطريقين كما قال : « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (٦) فمن سالك سبيل الشكر ومن سالك سبيل الكفر وقال : « وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً » (٧) فمن الكفر ونبه بقوله « كان » أنه لم يزل منذ وجد منطويا على الكفر.

والكفار أبلغ من الكفور ، لقوله : « كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ » (٨) وقال : « وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ » (٩) وقال : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ » (١٠) وقال : « وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً » (١١) وقد أجرى الكفار مجرى الكفور في قوله : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ » (١٢).

والكفار في جمع الكافر المضاد للإيمان أكثر استعمالا لقوله تعالى : « أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ » (١٣) وقوله : « لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ » (١٤) والكفرة في جمع كافر النعمة أكثر استعمالا ، وقوله عز وجل : « أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ » (١٥) ألا ترى أنه

__________________

(١) سورة الجحرات : ٧.

(٢) سورة الزخرف : ١٥.

(٣) سورة عبس : ١٧.

(٤) سورة سبأ : ١٣.

(٥) سورة الإنسان : ٣.

(٦) سورة البلد : ١٠.

(٧) سورة الإسراء : ٢٧.

(٨) سورة ق : ٢٤.

(٩) سورة البقرة : ٢٧٦.

(١٠) سورة زمر : ٣.

(١١) سورة نوح : ٢٧.

(١٢) سورة إبراهيم : ٣٤.

(١٤و١٣) سورة الفتح : ٢٩.

(١٥) سورة عبس : ٤٢.

١٣٧

______________________________________________________

وصف الكفرة بالفجرة ، والفجرة قد يقال للفساق من المسلمين.

وقوله « جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ » (١) أي الأنبياء ومن يجري مجراهم ممن بذلوا النصح في أمر الله فلم يقبل منهم ، وقوله عز وجل : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا » (٢) قيل : عنى بقوله إنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بمن بعده ، وقيل : آمنوا بموسى ثم كفروا بموسى إذ لم يؤمنوا بغيره.

وقيل : هو ما قال : « وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » (٣) ولم يرد أنهم آمنوا مرتين وكفروا مرتين ، بل ذلك إشارة إلى أحوال كثيرة وقيل : كما يصعد الإنسان في الفضائل في ثلاث درجات يتسكع في الرذائل في ثلاث درجات والآية إشارة إلى ذلك ، ويقال : كفر فلان إذا اعتقد الكفر ، ويقال ذلك إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد ، ولذلك قال « مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ » (٤) ويقال : كفر فلان بالشيطان إذا كفر بسببه ، وقد يقال ذلك إذا آمن وخالف الشيطان كقوله : « فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ » (٥).

وأكفره إكفارا حكم بكفره ، وقد يعبر عن التبري بالكفر ، نحو : « ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ » (٦) الآية ، وقوله عز وجل : « إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ » (٧) وقوله : « كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا » (٨).

وقيل : كنى بالكفار الزراع لأنهم يغطون البذر في التراب ستر الكافر

__________________

(١) سورة القمر : ١٤.

(٢) سورة النساء : ١٣٧.

(٣) سورة آل عمران : ٧٢.

(٤) سورة النحل : ١٠٦.

(٥) سورةالبقرة : ٢٥٦.

(٦) سورة العنكبوت : ٢٥.

(٧) سورة إبراهيم : ٢٢.

(٨) سورة الحديد : ٢٠.

١٣٨

باب

دعائم الكفر وشعبه

١_ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن عمر بن أذينة ، عن أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس الهلالي

______________________________________________________

حق الله ، بدلالة قوله : يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، ولأن الكفار لا اختصاص لهم بذلك ، وقيل : بل عنى الكفار وخصهم لكونهم معجبين بالدنيا وزخارفها ، وراكنين إليها.

والكفارة ما يغطي الإثم والتكفير ستره وتغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل ، ويصح أن يكون أصله إزالة الكفر ، والكفران نحو التمريض في كونه إزالة للمرض ، انتهى.

وأقول : قد مر بعض الكلام في حقيقة الكفر في أبواب الأيمان.

باب دعائم الكفر وشعبه

الحديث الأول : مختلف فيه.

وهو جزء من خطبة مشهورة مر بعضها بسند آخر في باب صفة الإيمان ، والباب الذي قبله ، ورواها الصدوق في الخصال بإسناده عن ابن نباتة رضي‌الله‌عنه في النهج قليلا منه قد ذكرنا بعضه هنا ونذكر تتمته هيهنا قال.

والكفر على أربع دعائم على التعمق والتنازع والزيغ والشقاق ، فمن تعمق لم ينب إلى الحق ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق ، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة ، وحسنت عنده السيئة وسكر سكر الضلالة ، ومن شاق وعرت عليه طرقه وأعضل عليه أمره ، وضاق مخرجه.

١٣٩

عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال : بني الكفر على أربع دعائم : الفسق والغلو والشك والشبهة.

______________________________________________________

والشك على أربع شعب على التماري والهول والتردد والاستسلام ، فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله ، ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه ، ومن تردد في الريب وطئته سنابك الشياطين ، ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيهما.

ثم قال قدس‌سره : وبعد هكذا كلام تركنا ذكره خوف الإطالة والخروج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب.

وقال ابن ميثم في شرحه : وأما الكفر فرسمه أنه جحد الصانع أو إنكار أحد رسله عليهم‌السلام أو ما علم مجيئهم به بالضرورة ، وله أصل وهو ما ذكرناه ، وكمالات ومتممات هي الرذائل الأربع التي جعلها دعائم له ، وهي الرذائل من الأصول الأربعة للفضائل الخلقية.

فأحدها التعمق وهو الغلو في طلب الحق ، والتعسف فيه بالجهل والخروج إلى حد الإفراط ، وهو رذيلة الجور من فضيلة الحكمة ، ويعتمد الجهل بمظان طلب الحق ونفر عن هذه الرذيلة بذكر ثمرتها ، وهو عدم الإنابة إلى الحق والرجوع إليه لكون تلك الرذيلة صارت ملكة.

والثانية التنازع وهو رذيلة الإفراط من فضيلة العلم ويسمى جربزة ويعتمد الجهل المركب ، ولذلك نفر عنه بما يلزمه عند كثرته وصيرورته ملكة من دوام العمى عن الحق.

الثالثة : الزيغ ويشبه أن يكون رذيلة الإفراط عن فضيلة العفة وهو الميل عن حاق الوسط منها إلى رذيلة الفجور ، ويعتمد الجهل ، ولذلك لزمه قبح الحسنة وحسن السيئة وسكر الضلالة ، واستعار لفظ السكر لغفلة الجهل باعتبار ما يلزمها من سوء التصرف ، وعدم وضع الأشياء مواضعها ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى رذيلة التفريط من فضيلة الحكمة المسماة غباوة.

١٤٠