مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

بسم الله الرحمن الرحيم

باب

الرواية على المؤمن

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن مفضل بن عمر قال قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه

______________________________________________________

باب الرواية على المؤمن

أي ينقل منه شيئا للإضرار عليه

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« من روى على مؤمن » بأن ينقل عنه كلاما يدل على ضعف عقله وسخافة رأيه على ما ذكره الأكثر ، ويحتمل شموله لرواية الفعل أيضا « يريد بها شينه » أي عيبه ، في القاموس : شانه يشينه ضد زانه يزينه ، وقال الجوهري : المروءة الإنسانية ولك أن تشدد ، قال أبو زيد : مرأى الرجل صار ذا مروءة انتهى.

وقيل : هي آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف على محاسن الأخلاق وجميل العادات ، وقد يتحقق بمجانبة ما يؤذن بخسة النفس من المباحات كالأكل في الأسواق ، حيث يمتهن فاعله ، قال الشهيد رحمه‌الله : المروة تنزيه النفس عن الدنائة التي لا يليق بأمثاله كالسخرية وكشف العورة التي يتأكد استحباب سترها في الصلاة ، والأكل في الأسواق غالبا ، ولبس الفقيه لباس الجندي بحيث يسخر منه.

١

وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان.

______________________________________________________

« أخرجه الله من ولايته » في النهاية وغيره : الولاية بالفتح المحبة والنصرة ، وبالكسر التولية والسلطان ، فقيل : المراد هنا المحبة ، وإنما لا يقبله الشيطان لعدم الاعتناء به ، لأن الشيطان إنما يحب من كان فسقه في العبادات ، ويصيره وسيلة لإضلال الناس ، وقيل : السر في عدم قبول الشيطان له أن فعله أقبح من فعل الشيطان لأن سبب خروج الشيطان من ولاية الله هو مخالفة أمره مستندا بأن أصله أشرف من أصل آدم عليه‌السلام ولم يذكر من فعل آدم ما يسوؤه ويسقطه عن نظر الملائكة ، وسبب خروج هذا الرجل من ولايته تعالى هو مخالفة أمره عز وجل من غير أن يسندها إلى شبهة إذ الأصل واحد ، وذكره من فعل المؤمن ما يؤذيه ويحقره وادعاء الكمال لنفسه ضمنا ، وهذا إدلال وتفاخر وتكبر ، فلذا لا يقبله الشيطان لكونه أقبح فعالا منه ، على أن الشيطان لا يعتمد على ولايته له ، لأن شأنه نقض الولاية لا عن شيء فلذلك لا يقبله ، انتهى.

ولا يخفى ما في هذه الوجوه لا سيما في الأخيرين على من له أدنى مسكة ، بل المراد إما المحبة والنصرة ، فيقطع الله عنه محبته ونصرته ويكله إلى الشيطان الذي اختار تسويله ، وخالف أمر ربه ، وعدم قبول الشيطان له لأنه ليس غرضه من إضلال بني آدم كثيرة الاتباع والمحبين ، فيودهم وينصرهم إذا تابعوه ، بل مقصوده إهلاكهم وجعلهم مستوجبين للعذاب للعداوة القديمة بينه وبين أبيهم ، فإذا حصل غرضه منهم يتركهم ويشمت بهم ولا يعينهم في شيء ، لا في الدنيا كما قال سبحانه : « كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ » (١) وكما هو المشهور من قصة برصيصا وغيره ، ولا في الآخرة لقوله : « فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ » (٢)

__________________

(١) سورة الحشر : ١٦.

(٢) سورة إبراهيم : ٢٢.

٢

٢ ـ عنه ، عن أحمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن سنان قال قلت له عورة المؤمن على المؤمن حرام قال نعم قلت تعني سفليه قال ليس حيث تذهب إنما هي إذاعة سره.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن الحسين بن مختار ، عن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام فيما جاء في الحديث عورة المؤمن على المؤمن حرام قال ما هو أن ينكشف فترى منه شيئا إنما هو أن تروي عليه أو تعيبه.

______________________________________________________

والمراد التولي والسلطنة ، أي يخرجه الله من حزبه وعداد أوليائه ويعده من أحزاب الشيطان ، وهو لا يقبله لأنه يتبرأ منه كما عرفت.

ويحتمل أن يكون عدم قبول الشيطان كناية عن عدم الرضا بذلك منه ، بل يريد أن يكفره ويجعله مستوجبا للخلود في النار.

الحديث الثاني : صحيح.

والضمير في له للصادق عليه‌السلام ، وفي النهاية العورة كل ما يستحيي منه إذا ظهر ، انتهى.

وغرضه عليه‌السلام أن المراد بهذا الخبر إفشاء السر لا أن النظر إلى عورته ليس بحرام ، والمراد بحرمة العورة حرمة ذكرها وإفشائها والسفلين العورتين ، وكنى عنها لقبح التصريح بهما.

الحديث الثالث : موثق.

« ما هو » ما نافية ، والضمير للحرام أو للعورة بتأويل العضو أو النظر المقدر منه « شيئا » أي من عورتيه « أن تروي عليه » أي قولا يتضرر به « أو تعيبه » بالعين المهملة أي تذكر عيبه ، وربما يقرأ بالغين المعجمة من الغيبة.

٣

باب الشماتة

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن إبراهيم بن محمد الأشعري ، عن أبان بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال لا تبدي الشماتة لأخيك فيرحمه‌الله ويصيرها بك وقال من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدنيا حتى يفتتن.

باب السباب

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله

______________________________________________________

باب الشماتة

الحديث الأول : حسن موثق.

وقال الجوهري : الشماتة الفرح ببلية العدو يقال : شمت به بالكسر يشمت شماتة ، وقال : كل شيء أبديته وبديته أظهرته ، وقال : افتتن الرجل وفتن فهو مفتون ، إذا أصابته فتنة فيذهب ماله أو عقله ، وكذلك إذا اختبر ، وإنما نهى عليه‌السلام عن الإيذاء لأنه قد يوجد ذلك في قلب العدو بغير اختياره ، وتكليف عامة الخلق به حرج ينافي الشريعة السمحة.

والإيذاء يكون بالفعل كإظهار السرور والبشاشة والضحك عند المصاب وفي غيبته ، وبالقول مثل الهزء والسخرية به ، وعقوبته في الدنيا أن الله تعالى يبتليه بمثله غيرة للمؤمن ، وانتصارا له ، وأيضا هو نوع بغي وعقوبة البغي عاجلة سريعة.

باب السباب

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

والسباب إما بكسر السين وتخفيف الباء مصدر أو بفتح السين وتشديد الباء

٤

عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة بن أيوب ، عن عبد الله بن بكير ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

______________________________________________________

صيغة مبالغة ، وعلى الأول كان في المشرف مضاف أي كفعل المشرف ، وربما يقرأ المشرف بفتح الراء مصدرا ميميا ، وفي بعض النسخ كالشرف ، والسب الشتم وهو بحسب اللغة يشمل القذف أيضا ولا يبعد شمول أكثر هذه الأخبار أيضا له.

وفي اصطلاح الفقهاء هو السب الذي لم يكن قذفا بالزنا ونحوه كقولك : يا شارب الخمر أو يا آكل الربا ، أو يا ملعون ، أو يا خائن ، أو يا حمار ، أو يا كلب ، أو يا خنزير ، أو يا فاسق ، أو يا فاجر ، وأمثال ذلك مما يتضمن استخفافا أو إهانة ، وفي المصباح : سبه سبا فهو سباب ، ومنه يقال للإصبع التي تلي الإبهام سبابة لأنه يشاربها عند السب ، والسبة العار وسابه مسابة وسبابا أي بالكسر ، واسم الفاعل منه سب.

وقال : الهلكة مثال القصبة الهلاك ، ولعل المراد بها هنا الكفر والخروج من الدين ، وبالمشرف عليها من قرب وقوعه فيها بفعل الكبائر العظيمة ، والساب شبيه بالمشرف وقريب منه ، ويحتمل أن تكون الكاف زائدة.

الحديث الثاني : موثق كالصحيح.

والسباب هنا بالكسر مصدر باب المفاعلة وإما بمعنى السب أو المبالغة في السب أو على بابه من الطرفين والإضافة إلى المفعول أو الفاعل ، والأول أظهر ، فيدل على أنه لا بأس بسب غير المؤمن إذا لم يكن قذفا بل يمكن أن يكون المراد بالمؤمن من لا يتظاهر بارتكاب الكبائر ولا يكون مبتدعا مستحقا للاستخفاف ، قال المحقق في الشرائع : كل تعريض بما يكرهه المواجه ولم يوضع للقذف لغة ولا عرفا يثبت به التعزير ، إلى قوله : ولو كان المقول له مستحقا للاستخفاف فلا حد ولا تعزير ، وكذا كل ما يوجب أذى كقوله : يا أجذم أو يا أبرص.

٥

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه معصية وحرمة

______________________________________________________

وقال الشهيد الثاني في شرحه : لما كان أذى المسلم الغير المستحق للاستخفاف محرما فكل كلمة يقال له ويحصل له بها الأذى ولم تكن موضوعة للقذف بالزنا وما في حكمه لغة ولا عرفا يجب بها التعزير بفعل المحرم كغيره من المحرمات ، ومنه التعيير بالأمراض.

وفي صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل سب رجلا بغير قذف يعرض به هل يجلد؟ قال : عليه التعزير.

والمراد بكون المقول له مستحقا للاستخفاف أن يكون فاسقا متظاهرا بفسقه فإنه لا حرمة له حينئذ ، لما روي عن الصادق عليه‌السلام : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة ، وفي بعض الأخبار عن تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب ، وفي الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم لئلا يطغوا في الفساد في الإسلام ، ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة.

والفسق في اللغة الخروج عن الطاعة مطلقا لكن يطلق غالبا في الكتاب والسنة.على الكفر أو ارتكاب الكبائر العظيمة ، قال في المصباح : فسق فسوقا من باب قعد : خرج عن الطاعة والاسم الفسق ، ويفسق بالكسر لغة ، ويقال : أصله خروج الشيء على وجه الفساد ، ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، وقال الراغب : فسق فلان خرج عن حد الشرع وهو أعم من الكفر والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ، لكن تعورف فيما كان كثيرا وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ، ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه ، قال عز وجل : « فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » (١)

__________________

(١) سورة الكهف : ٥٠.

٦

ماله كحرمة دمه.

______________________________________________________

« فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ » (١) « وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ » (٢) « أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً » (٣) فقابل بها الإيمان « وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » (٤) « وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ » (٥) « وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ » (٦) « وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ » (٧) و « كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » (٨) انتهى.

فالفسق هنا ما قارب الكفر لأنه ترقى عنه إلى الكفر ، ويظهر منه أن السباب أعظم من الغيبة مع أن الإيذاء فيه أشد إلا أن يكون الغيبة بالسباب فهي داخلة فيه.

« وقتاله كفر » المراد به الكفر الذي يطلق على أرباب الكبائر أو إذا قاتله مستحلا أو لإيمانه ، وقيل : كان القتال لما كان من أسباب الكفر أطلق الكفر عليه مجازا أو أريد بالكفر كفر نعمة التآلف ، فإن الله ألف بين المؤمنين أو إنكار حق الإخوة فإن من حقها عدم المقاتلة « وأكل لحمه » المراد به الغيبة كما قال عز وجل : « وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً » (٩) شبه صاحب الغيبة بأكل لحم أخيه الميت زيادة في التنفير والزجر عنها ، وقيل : المراد بالمعصية الكبيرة.

« وحرمة ماله كحرمة دمه » جمع بين المال والدم في الاحترام ولا شك في أن إهراق دمه كبيرة مهلكة ، فكذا آكل ماله ، ومثل هذا الحديث مروي من طرق العامة ، وقال في النهاية : قيل هذا محمول على من سب أو قاتل مسلما من غير تأويل ،

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٦.

(٢) سورة آل عمران : ١١٠.

(٣) سورة السجدة : ١٨.

(٤) سورة النور : ٥٥.

(٥) سورة السجدة : ٢٠.

(٦) سورة الأنعام : ٤٠.

(٧) سورة المائدة : ١٠٨.

(٨) سورة يونس : ٣٣.

(٩) سورة الحجرات : ١٢.

٧

٣ ـ عنه ، عن الحسن بن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن رجلا من بني تميم أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال أوصني فكان فيما أوصاه أن قال لا تسبوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم.

٤ ـ ابن محبوب ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام في رجلين يتسابان قال البادي منهما أظلم ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم.

٥ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن سالم ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ما شهد رجل على رجل بكفر قط إلا

______________________________________________________

وقيل : إنما قال على جهة التغليظ لا أنه يخرجه إلى الفسق والكفر ، وقال الكرماني في شرح البخاري : هو بكسر مهملة وخفة موحدة أي شتمه أو تشاتمهما و « قتاله » أي مقاتلته « كفر » فكيف يحكم بتصويب المرجئة في أن مرتكب الكبيرة غير فاسق.

الحديث الثالث : صحيح.

وكسب العداوة بالسب معلوم ، وهذه من مفاسده الدنيوية.

الحديث الرابع : صحيح.

وقد مر في باب السفه باختلاف في صدر السند ، وكان فيه ما لم يتعد المظلوم ، وقد مر الكلام فيه ، وما هنا يدل على أنه إذا اعتذر إلى صاحبه وعفا عنه سقط عنه الوزر بالأصالة وبالسببية ، والتعزير أو الحد أيضا ولا اعتراض للحاكم ، لأنه حق آدمي تتوقف إقامته على مطالبته ، ويسقط بعفوه.

الحديث الخامس : ضعيف.

« ما شهد رجل » بأن شهد به عند الحاكم أو أتى بصيغة الخبر نحو أنت كافر ، أو بصيغة النداء نحو : يا كافر ، وقال الجوهري : قال الأخفش « وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ » (١) أي رجعوا به أي صار عليهم ، انتهى.

__________________

(١) سورة البقرة : ٦١.

٨

باء به أحدهما إن كان شهد [ به ] على كافر صدق وإن كان مؤمنا رجع الكفر عليه فإياكم والطعن على المؤمنين.

______________________________________________________

وفي قوله : فإياكم ، إشارة إلى أن مطلق الطعن حكمه حكم الكفر في الرجوع إلى أحدهما ، وقوله : إن كان ، استئناف بياني.

وكفر الساب مع أن محض السب وإن كان كبيرة لا يوجب الكفر ، يحتمل وجوها أشرنا إلى بعضها مرارا : « الأول » أن يكون المراد به الكفر الذي يطلق على مرتكبي الكبائر في مصطلح الآيات والأخبار.

الثاني : أن يعود الضمير إلى الذنب أو الخطإ المفهوم من السياق لا إلى الكفر.

الثالث : عود الضمير إلى التكفير لا إلى الكفر ، يعني تكفيره لأخيه تكفير لنفسه ، لأنه لما كفر مؤمنا فكأنه كفر نفسه ، وأورد عليه أن التكفير حينئذ غير مختص بأحدهما لتعلقه بهما جميعا ، ولا يخفى ما فيه وفي الثاني من التكلف.

الرابع : ما قيل : أن الضمير يعود إلى الكفر الحقيقي لأن القاتل اعتقد أن ما عليه المقول له من الإيمان كفر « فقد كفر » لقوله تعالى : « وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ » (١) ويرد عليه أن القائل بكفر أخيه لم يجعل الإيمان كفرا بل أثبت له بدل الإيمان كفرا توبيخا وتغيرا له بترك الإيمان ، وأخذ الكفر بدلا منه ، وبينهما بون بعيد ، نعم يمكن تخصيصه بما إذا كان سبب التكفير اعتقاده بشيء من أصول الدين ، الذي يصير إنكاره سببا للكفر باعتقاد القائل كما إذا كفر عالم قائل بالاختيار عالما آخر قائلا بالجبر ، أو كفر قائل بالحدوث قائلا بالقدم ، أو قائل بالمعاد الجسماني منكرا له ، وأمثال ذلك ، وهذا وجه وجيه وإن كان في التخصيص بعد.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥٠.

٩

______________________________________________________

وقال الجزري في النهاية : فيه : من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما ، لأنه إما أن يصدق عليه أو يكذب ، فإن صدق فهو كافر وإن كذب عاد الكفر إليه بتكفيره أخاه المسلم ، والكفر صنفان أحدهما الكفر بأصل الإيمان وهو ضده ، والآخر الكفر بفرع من فروع الإسلام فلا يخرج به عن أصل الإيمان ، وقيل : الكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار بأن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به ، وكفر جحود ككفر إبليس يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه ، وكفر عناد وهو أن يعرف بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به حسدا وبغيا ككفر أبي جهل وأضرابه ، وكفر نفاق وهو أن يقر بلسانه ولا يعتقد بقلبه.

قال الهروي : سئل الأزهري عمن يقول بخلق القرآن أتسميه كافرا؟ فقال : الذي يقوله كفر ، فأعيد عليه السؤال ثلاثا ويقول مثل ما قال ، ثم قال في الآخر : قد يقول المسلم كفرا ، وعنه حديث ابن عباس قيل له : « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » (١) قال : هم كفرة ، وليسوا كمن كفر بالله واليوم الآخر ، ومنه الحديث الآخر : أن الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية فثار بعضهم إلى بعض السيوف ، فأنزل الله تعالى : « وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ » (٢) ولم يكن ذلك على الكفر بالله ، ولكن على تغطيتهم ما كانوا عليه من الألفة والمودة.

ومنه حديث ابن مسعود : إذا قال الرجل للرجل أنت لي عدو فقد كفر أحدهما بالإسلام ، أراد كفر نعمته لأن الله ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا ، فمن لم يعرفها فقد كفرها.

وكذلك الحديث : من أتى حائضا فقد كفر ، وحديث الأنواء إن الله ينزل الغيث فيصبح به قوم كافرين ، يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا أي كافرين بذلك دون

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

(٢) سورة آل عمران : ١٠١.

١٠

٦ ـ الحسن بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال سمعته يقول إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها ترددت فإن وجدت مساغا وإلا رجعت على صاحبها.

٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي ، عن علي

______________________________________________________

غيره حيث ينسبون المطر إلى النوء دون الله ، ومنه الحديث : فرأيت أكثر أهلها النساء لكفرهن قيل : أيكفرن بالله؟ قال : لا ولكن يكفرن الإحسان ، ويكفرن العشير ، أي يجحدون إحسان أزواجهن ، والحديث الآخر : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ، والأحاديث من هذا النوع كثيرة وأصل الكفر تغطية الشيء تستهلكه.

الحديث السادس : ضعيف على المشهور.

وقال في النهاية : في حديث أبي أيوب إذا شئت فاركب ، ثم سغ في الأرض ما وجدت مساغا ، أي ادخل فيها ما وجدت مدخلا وروي في المصابيح عن رسول الله أنه قال : إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء ، فتغلق أبواب السماء دونها ، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ، ثم تأخذ يمينا وشمالا فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن ، فإن كان لذلك أهلا وإلا رجعت إلى قائلها.

وفي النهاية : اللعن الطرد والإبعاد من الله تعالى ، ومن الخلق السب والدعاء.

وأقول : كان هذا محمول على الغالب ، وقد يمكن أن يكون اللاعن والملعون كلاهما من أهل الجنة كما إذا ثبت عند اللاعن كفر الملعون واستحقاقه اللعن ، وإن لم يكن كذلك ، فإنه لا تقصير للاعن في اللعن ، وقد يمكن أن يجري أكثر من اللعن بسبب ذلك كالحد والقتل والقطع بشهادة الزور ، ويحتمل أن يكون المراد بالمساغ محل الجواز والغدر في اللعن ، أو يكون المساغ بالمعنى المتقدم كناية عن ذلك ، فإن اللاعن إذا كان معذورا كان مثابا عليه فيصعد لعنه إلى السماء ويثاب عليه.

الحديث السابع : موثق كالصحيح.

١١

ابن عقبة ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي حمزة الثمالي قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها ترددت بينهما فإن وجدت مساغا وإلا رجعت على صاحبها.

٨ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن حسان ، عن محمد بن علي ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إذا قال الرجل لأخيه المؤمن أف خرج من ولايته وإذا قال أنت عدوي كفر أحدهما ولا يقبل الله من مؤمن عملا وهو مضمر على أخيه المؤمن سوءا.

______________________________________________________

ويمكن إجراء بعض التأويلات السابقة فيه بل كلها وإن كان أبعد.

الحديث الثامن : ضعيف على المشهور.

ولعل في السند تصحيفا أو تقديما وتأخيرا فإن محمد بن سنان ليس هنا موضعه وتقديم محمد بن علي عليه أظهر « خرج عن ولايته » أي محبته ونصرته الواجبتين عليه ، ويحتمل أن يكون كناية عن الخروج عن الإيمان لقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » ثم قال : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » (١) وقال سبحانه « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » (٢) « وإذا قال : أنت عدوي كفر أحدهما » لما مر من أنه إن كان صادقا كفر المخاطب ، وإن كان كاذبا كفر القائل ، وقد مر معنى الكفر.

« وهو مضمر على أخيه المؤمن سوءا » أي يريد به شرا أو يظن به ما هو بريء عنه ، أو لم يثبت عنده وليس المراد به الخطرات التي تخطر في القلب لأن دفعه غير مقدور ، بل الحكم به وإن لم يتكلم ، وأما مجرد الظن فيشكل التكليف بعدمه مع حصول بواعثه ، وأما الظن الذي حصل من جهة شرعيته فالظاهر أنه خارج عن ذلك لترتب كثير من الأحكام الشرعية عليه كما مر ، ولا ينافي ما ورد أن الحزم

__________________

(١) سورة الأنفال : ٧٢.

(٢) سورة التوبة : ٧١.

١٢

٩ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن سنان ، عن حماد بن عثمان ، عن ربعي ، عن الفضيل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ما من إنسان يطعن في عين مؤمن إلا مات بشر ميتة وكان قمنا أن لا يرجع إلى خير.

باب

التهمة وسوء الظن

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإيمان من قلبه

______________________________________________________

مساءة الظن لأن المراد به التحفظ والاحتياط في المعاملات دون الظن بالسوء.

الحديث التاسع : ضعيف على المشهور.

« يطعن في عين مؤمن » أي يواجهه بالطعن والعيب ويذكره بمحضره ، قال في المصباح : طعنت عليه من باب قتل ومن باب نفع لغة : قدحت وعبت ، طعنا وطعانا فهو طاعن وطعان في الأعراض ، وفي القاموس عين فلانا أخبره بمساويه في وجهه ، انتهى.

والظاهر أنه أعم من أن يكون متصفا بها أم لا ، والميتة بالكسر للهيئة والحالة ، قال الجوهري : الميتة بالكسر كالجلسة والركبة يقال : مات فلان ميتة حسنة ، والمراد بشر الميتة إما بحسب الدنيا كالغرق والحرق والهدم وأكل السبع وسائر ميتات السوء ، أو بحسب الآخرة كالموت على الكفر أو على المعاصي بلا توبة وفي الصحاح أنت قمن أن تفعل كذا ، بالتحريك أي خليق وجدير ، لا يثني ولا يجمع ولا يؤنث ، فإن كسرت الميم أو قلت قمين ثنيت وجمعت.

« إلى خير » أي إلى التوبة وصالح الأعمال أو إلى الإيمان.

باب التهمة وسوء الظن

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

في القاموس : الوهم من خطرات القلب وهو مرجوح طرفي المتردد فيه ، ووهم في الشيء كوعد ذهب وهمه إليه ، وتوهم ظن واتهمه كافتعله وأوهمه أدخل

١٣

كما ينماث الملح في الماء.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابه ، عن الحسين بن حازم ، عن حسين بن عمر بن يزيد ، عن أبيه قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول من اتهم أخاه في دينه فلاحرمة بينهما ومن عامل أخاه بمثل ما عامل به

______________________________________________________

عليه التهمة كهمزة أي ما يتهم عليه ، فاتهم هو فهو متهم وتهيم ، وفي المصباح : اتهمت بكذا ظننته به فهو تهيم ، واتهمته في قوله شككت في صدقه ، والاسم التهمة وزان رطبة والسكون لغة حكاها الفارابي ، وأصل التاء واو ، وقال : ماث الشيء موثا من باب قال ويميث ميتا من باب باع لغة : ذاب في الماء ، وماثه غيره من باب قال ، يتعدى ولا يتعدى ، وماثت الأرض لأنت وسهلت ، وفي القاموس : ماث موثا وموثانا محركة خلطه ودافه فانماث انمياثا ، انتهى.

وكان المراد هنا بالتهمة أن يقول فيه ما ليس فيه مما يوجب شينه ، ويحتمل أن يشمل سوء الظن أيضا ، ومن في قوله « من قلبه » إما بمعنى في كما في قوله تعالى : « إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ » (١) أو ضمن فيه معنى الذهاب أو الزوال ونحوه ، ويحتمل التعليل لأن ذلك بسبب فساد قلبه ، وقيل : إنما قال كذلك للتنبيه على فساد قلبه حتى أنه ينافي الإيمان ويوجب فساده.

الحديث الثاني : مرسل مجهول.

وقوله : في دينه ، يحتمل تعلقه بالأخوة أو بالتهمة والأول أظهر كما مر ، وعلى الثاني التهمة بترك شيء من الفرائض أو ارتكاب شيء من المحارم ، لأن الإتيان بالفرائض والاجتناب عن المحارم من الدين كما أن القول الحق والتصديق به من الدين « فلا حرمة بينهما » أي حرمة الإيمان ، كناية عن سلبه ، والحاصل أنه انقطعت علاقة الأخوة وزالت الرابطة الدينية بينهما ، في القاموس : الحرمة بالضم وبضمتين وكهمزة ما لا يحل انتهاكه ، والذمة والمهابة والنصيب « وَمَنْ يُعَظِّمْ

__________________

(١) سورة الجمعة : ٩.

١٤

الناس فهو بريء مما ينتحل.

٣ ـ عنه ، عن أبيه عمن حدثه ، عن الحسين بن المختار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام له ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في

______________________________________________________

حُرُماتِ اللهِ » أي ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه.

« بمثل ما عامل به الناس » أي المخالفين أو الأعم منهم ومن فساق الشيعة ، وممن لا صداقة وأخوة بينهما « والتسوية في المعاملة » بأن يربح عليهما على حد سواء ، ولا يخص أخاه بالرعاية والمسامحة وترك الربح أو تقليله ، وشدة النصيحة وحفظ حرمته في الحضور والغيبة والمواساة معه ، وأمثال ذلك مما هو مقتضى الأخوة كما فصل في الأخبار الكثيرة.

« فهو بريء ممن ينتحل » أي من يجعل هو أو أخوه ولايتهم نحلة ومذهبا وهم الرب سبحانه ورسوله والأئمة عليهم‌السلام ، والظاهر أن المستتر في ينتحل راجع إلى العامل لا إلى الأخ تعريضا بأنه خارج من الدين فإن الانتحال ادعاء ما ليس له ولم يتصف به ، في القاموس : انتحله وتنحله ادعاه لنفسه وهو لغيره ، وفي أكثر النسخ مما ينتحل وهو أظهر ، فالمراد بما ينتحل التشيع أو الأخوة.

الحديث الثالث : مرسل.

« ضع أمر أخيك » أي احمل ما صدر من أخيك من قول أو فعل على أحسن محتملاته وإن كان مرجوحا من غير تجسس حتى يأتيك منه أمر لا يمكنك تأويله فإن الظن قد يخطئ والتجسس منهي عنه كما قال تعالى : « إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ » (١) وقال : « وَلا تَجَسَّسُوا » (٢).

وقوله : وما يغلبك ، في بعض النسخ بالغين فقوله منه متعلق بيأتيك ، أي حتى يأتيك من قبله ما يعجزك ولم يمكنك التأويل ، وفي بعض النسخ بالقاف من باب

__________________

(١) سورة الحجرات : ١٢.

(٢) سورة الحجرات : ١٢.

١٥

الخير محملا.

______________________________________________________

ضرب كالسابق ، أو من باب الأفعال فالظرف متعلق بيقلبك والضمير للأحسن ، وقوله عليه‌السلام : ولا تظنن ، تأكيد لبعض أفراد الكلام أو السابق محمول على الفعل.

وهذه الجملة مروية في نهج البلاغة وفيه : من أحد ، ومحتملا ، والحاصل أنه إذا صدرت منه كلمة ذات وجهين وجب عليك أن تحملها على الوجه الخير وإن كان معنى مجازيا بدون قرينة أو كناية أو تورية أو نحوها ، لا سيما إذا ادعاه القائل ومن هذا القبيل ما سماه علماء العربية أسلوب الحكيم ، كما قال الحجاج للقبعثري متوعدا له بالقيد : لأحملنك على الأدهم! فقال القبعثرى : مثل الأمير يحمل على الأشهب والأدهم فأبرز وعيده في معرض الوعد ، ثم قال الحجاج للتصريح بمقصوده أنه حديد ، فقال القبعثرى : لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا.

وقال الشهيد الثاني روح الله روحه وغيره ممن سبقه : اعلم أنه كما يحرم على الإنسان سوء القول في المؤمن وأن يحدث غيره بلسانه بمساوئ الغير ، كذلك يحرم عليه سوء الظن وأن يحدث نفسه بذلك ، والمراد من سوء الظن المحرم عقد القلب وحكمه عليه بالسوء من غير يقين ، فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه كما أن الشك أيضا معفو عنه ، قال الله تعالى : « اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ » فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل ، وما لم تعلمه ثم وقع في قلبك فالشيطان يلقيه ، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق ، وقد قال الله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ » (١) فلا يجوز تصديق إبليس ، ومن هنا جاء في الشرع أن من علمت في فيه رائحة الخمر لا يجوز أن تحكم عليه بشربها ولا يحده عليه لإمكان

__________________

(١) سورةالحجرات : ٦.

١٦

______________________________________________________

أن يكون تمضمض به ومجه ، أو حمل عليه قهرا وذلك أمر ممكن ، فلا يجوز إساءة الظن بالمسلم ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله تعالى حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء ، فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به الدم أو المال ، وهو بعين مشاهدة أو ببينة عادلة ، فأما إذا لم يكن ذلك وخطر ذلك سوء الظن فينبغي أن تدفعه عن نفسك وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان ، فإن ما رأيته فيه يحتمل الخير والشر.

فإن قلت : فبما ذا يعرف عقد سوء الظن والشكوك تختلج والنفس تحدث؟

فأقول : أمارة عقد سوء الظن أن تتغير القلب معه عما كان فينفر عنه نفورا لم يعهده ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاهتمام بسببه ، فهذه أمارات عقد الظن وتحقيقه ، وقد قال عليه‌السلام : ثلاث في المؤمن لا يستحسن وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن أن لا يحققه أي لا يحقق في نفسه بعقد ولا فعل لا في القلب ولا في الجوارح ، أما في القلب فبتغيره إلى النفرة والكراهة ، وفي الجوارح بالعمل بموجبه والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس ، ويلقى إليه أن هذا من فطنتك وسرعة تنبهك وذكائك ، وأن المؤمن ينظر بنور الله وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته.

فأما إذا أخبرك به عدل فمال ظنك إلى تصديقه كنت معذورا لأنك لو كذبته لكنت جافيا على هذا العدل إذ ظننت به الكذب ، وذلك أيضا من سوء الظن ، فلا ينبغي أن تحسن الظن بالواحد وتسيء بالآخر ، نعم ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة ومحاسدة ومقت فيتطرق التهمة بسببه؟ وقد رد الشرع شهادة العدو على عدوه للتهمة ، فلك عند ذلك أن تتوقف في إخباره وإن كان عدلا ولا تصدقه ولا تكذبه ولكن تقول المستور حاله كان في ستر الله عني ، وكان أمره محجوبا وقد بقي كما كان لم ينكشف لي شيء من أمره.

١٧

______________________________________________________

وقد يكون الرجل ظاهر العدالة ولا محاسدة بينه وبين المذكور ، ولكن يكون من عادته التعرض للناس وذكر مساويهم ، فهذا قد يظن أنه عدل وليس بعدل ، فإن المغتاب فاسق وإذا كان ذلك من عادته ردت شهادته إلا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق ، ومهما خطر ذلك خاطر سوء على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير ، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك ، فلا يلقى إليك الخاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة.

ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة فانصحه في السر ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه ، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر إليك بعين التعظيم وتنظر إليه بعين الاستصغار ، وترتفع عليه بدلالة الوعظ وليكن قصدك تخليصه من الإثم وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخل عليك نقصان ، وينبغي أن يكون تركه ذلك من غير نصيحتك أحب إليك من تركه بالنصيحة ، وإذا أنت فعلت ذلك لكنت جمعت بين أجر الواعظ وأجر الغم بمصيبته وأجر الإعانة له على دينه.

ومن ثمرات سوء الظن التجسس فإن القلب لا يقنع بالظن وبطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضا منهي عنه ، قال الله : « وَلا تَجَسَّسُوا » فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنها في آية واحدة ، ومعنى التجسس أنه لا تترك عباد الله تحت ستر الله فتتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف لك ما لو كان مستورا عنك لكان أسلم لقلبك ودينك ، انتهى.

١٨

باب

من لم يناصح أخاه المؤمن

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن علي بن النعمان ، عن أبي حفص الأعشى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من سعى في حاجة لأخيه فلم ينصحه فقد خان الله ورسوله.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول أيما مؤمن مشى في حاجة أخيه فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد وأبو علي الأشعري ، عن محمد بن حسان جميعا ، عن إدريس بن الحسن ، عن مصبح بن هلقام قال أخبرنا أبو بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ فيها بكل جهد فقد خان الله ورسوله والمؤمنين

______________________________________________________

باب من لم يناصح أخاه المؤمن

الحديث الأول : مجهول.

« فلم يناصحه » وفي بعض النسخ فلم ينصحه أي لم يبذل الجهد في قضاء حاجته ولم يهتم بذلك ولم يكن غرضه حصول ذلك المطلوب ، قال الراغب : النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح صاحبه ، انتهى.

وأصله الخلوص وهو خلاف الغش وقد مر تحقيقه مرارا ، ويدل على أن خيانة المؤمن خيانة لله والرسول.

الحديث الثاني : موثق.

الحديث الثالث : مجهول.

وفي القاموس : الجهد الطاقة ، ويضم والمشقة ، وأجهد جهدك أي أبلغ غايتك

١٩

قال أبو بصير قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تعني بقولك والمؤمنين قال من لدن أمير المؤمنين إلى آخرهم.

٤ ـ عنهما جميعا ، عن محمد بن علي ، عن أبي جميلة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول من مشى في حاجة أخيه ثم لم يناصحه فيها كان كمن خان الله ورسوله وكان الله خصمه.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابه ، عن حسين بن حازم ، عن حسين بن عمر بن يزيد ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من استشار

______________________________________________________

وجهد كمنع جد كاجتهد ، قوله : من لدن أمير المؤمنين ، يحتمل أن يكون المراد بهم الأئمة عليهم‌السلام كما مر في الأخبار الكثيرة تفسير المؤمنين في الآيات بهم عليهم‌السلام فإنهم المؤمنون حقا الذين يؤمنون على الله فيجيز أمانهم ، وأن يكون المراد ما يشمل سائر المؤمنين ، وأما خيانة الله فلأنه خالف أمره وادعى الإيمان ولم يعمل بمقتضاه وخيانة الرسول والأئمة عليهم‌السلام لأنه لم يعمل بقولهم ، وخيانة سائر المؤمنين لأنهم كنفس واحدة ولأنه إذا لم يكن الإيمان سببا لنصحه فقد خان الإيمان واستحقره ولم يراعه وهو مشترك بين الجميع فكأنه خانهم جميعا.

الحديث الرابع : ضعيف.

« وكان الله خصمه » أي يخاصمه من قبل المؤمن في الآخرة أو في الدنيا أيضا فينتقم له فيهما.

الحديث الخامس : مجهول.

وفي المصباح شرت العسل أشوره شورا من باب قال جنيته ، وشرت الدابة شورا عرضته للبيع ، وشاورته في كذا واستشرته راجعته لأرى فيه رأيه ، فأشار علي بكذا أراني ما عنده فيه من المصلحة ، فكانت إشارته حسنة والاسم المشورة ، وفيه لغتان سكون الشين وفتح الواو ، والثانية ضم الشين وسكون الواو وزان معونة ، ويقال هي من شار إذا عرضه في المشوار ، ويقال : من أشرت العسل ، فشبه حسن النصيحة

٢٠