مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

الفضيل بن يسار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لا تجالسوهم يعني المرجئة لعنهم الله ولعن [ الله ] مللهم المشركة الذين لا يعبدون الله على شيء من الأشياء.

باب

المؤلفة قلوبهم

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن موسى بن بكر وعلي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن رجل جميعا ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال المؤلفة قلوبهم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة [ من يعبد ] من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم أن محمدا رسول الله وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألفهم ويعرفهم لكيما يعرفوا ويعلمهم.

______________________________________________________

الذين في مللهم كثرة « على شيء من الأشياء » أي على عبادة من العبادات أو على ملة من الملل.

باب المؤلفة قلوبهم

الحديث الأول : مرسل.

وقوله : أن محمدا ، متعلق بالمعرفة أي معرفة أن محمدا رسول الله ، ويمكن أن يكون هذا أحد أقسام المؤلفة ، والقسم الآخر أن يقروا بالرسالة ويشكوا في بعض ما جاء به كالولاية وقسمة الأموال وأمثال ذلك ، ويحتمل أن يكون هذا الخبر شاملا للقسمين ، أي لم يقروا بالرسالة كما هو حقها إما بنفيها رأسا أو بإثباتها مجملا ، والشك في بعض ما جاء به النبي من عند الله ، فلا تنافي بين الأخبار.

« ويعرفهم » أي رسالته بالبراهين والمعجزات « لكيما يعرفوا » ويعلمهم شرائع الدين ، أو يعرفهم أصل الرسالة ويعلمهم أن ما أتى به هو من عند الله أو هو تأكيد ، وقد يقرأ يعلمهم على بناء المعلوم أي والحال أنه يعلمهم ويعرفهم ، وقيل

٢٢١

______________________________________________________

الظاهر أن يعلمهم عطف على يعرفهم ، وأن الضمير فيهما راجع إلى المؤلفة ، وأن قوله لكيما يعرفوا على صيغة المجهول علة لهما ، والمقصود أن إعطاءهم لأمرين أحدهما تأليف قلوبهم بالمال ليثبت إسلامهم ويستقر في قلوبهم ، وثانيهما أن يعرفهم ويعلمهم بأعيانهم لأصحابه حتى يعرفوهم بأنهم من الذين لم يثبت إيمانهم في قلوبهم ، وأنهم مؤلفة ، ولا يخفى ما فيه.

واعلم أن المؤلفة قلوبهم صنف من أصناف مستحقي الزكاة قال تعالى : « إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ » (١) ويظهر من هذه الأخبار أنهم قوم أظهروا الإسلام ولم يستقروا فيه ، فهم إما منافقون أو شكاك جعل الله لهم حصة من الزكاة والغنائم تأليفا لقلوبهم ليستقروا في الدين ويستعين بهم على جهاد المشركين ، قال ابن الأثير في النهاية : في حديث حنين : إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم ، التآلف المداراة والإيناس ليثبتوا على الإسلام رغبة فيما يصل إليهم من المال ، انتهى.

والمشهور بين أصحابنا أنهم كفار يستمالون للجهاد ، وقال المفيد : المؤلفة قسمان مسلمون ومشركون ، وقال العلامة في القواعد : المؤلفة قسمان كفار يستمالون إلى الجهاد أو إلى الإسلام ، ومسلمون إما من ساداتهم لهم نظراء من المشركين إذا أعطوا رغب النظراء في الإسلام ، وإما سادات مطاعون ترجى بعطائهم قوة إيمانهم ، ومساعدة قومهم في الجهاد ، وإما مسلمون في الأطراف إذا أعطوا منعوا الكفار من الدخول ، وإما مسلمون إذا أعطوا أخذوا الزكاة من مانعيها ، وقيل : المؤلفة الكفار خاصة.

ونقل الشهيد في الدروس عن أبي الجنيد أنه قال : المؤلفة هم المنافقون ، وفي مؤلفة الإسلام قولان أقربها أنهم يأخذون من سهم سبيل الله ، وقال بعض

__________________

(١) سورة التوبة : ٦٠.

٢٢٢

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل : « وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ » (١) قال هم قوم وحدوا الله عز وجل وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم في ذلك شكاك في بعض ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمر الله عز وجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقروابه.

وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم حنين تألف رؤساء العرب من قريش وسائر مضر منهم أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري وأشباههم من الناس فغضبت الأنصار واجتمعت إلى سعد بن عبادة فانطلق بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجعرانة

______________________________________________________

الأصحاب : للإمام أن يتألف هؤلاء إن شاء من سهم المؤلفة ، وإن شاء من سهم المصالح ، وسيأتي تمام القول فيه في كتاب الزكاة إن شاء الله تعالى.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

« وهم في ذلك » أي مع ذلك ، وقال في المصباح : حنين مصغرا واد بين مكة والطائف ، وهو مذكر منصرف ، وقد يؤنث على معنى البقعة ، وقصة حنين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان ، ثم خرج منها ـ وقد بقيت من شهر رمضان أيام لقتال هوازن وثقيف ، فسار إلى حنين ، فلما التقى الجمعان انكشف المسلمون ، ثم أمدهم الله بنصره فعطفوا وانهزم المشركون إلى أوطاس وغنم المسلمون ، أموالهم وأهليهم ثم منهم من سار على نخلة اليمامة ، ومنهم من سلك الثنايا ، وتبعت خيل رسول الله من سلك نخلة ويقال إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام عليها يوما وليلة ، ثم سار إلى أوطاس فاقتتلوا وانهزم المشركون إلى الطائف ، وغنم المسلمون منها أيضا أموالهم وأولادهم ، ثم سار إلى الطائف فقاتلهم بقية شوال ، فلما أهل ذو القعدة رحل عنها راجعا فنزل الجعرانة وقسم بها غنائم أوطاس وحنين ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٦٠.

٢٢٣

فقال : يا رسول الله أتأذن لي في الكلام فقال نعم فقال إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئا أنزله الله رضينا وإن كان غير ذلك لم نرض قال زرارة وسمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا معشر الأنصار أكلكم على قول سيدكم سعد فقالوا سيدنا الله ورسوله ثم قالوا في الثالثة نحن على مثل قوله ورأيه قال زرارة فسمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول فحط الله نورهم وفرض الله للمؤلفة قلوبهم سهما في القرآن.

٣ ـ علي ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن رجل ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال المؤلفة قلوبهم لم يكونوا قط أكثر منهم اليوم.

______________________________________________________

وقيل : كانت ستة آلاف سبي ، انتهى.

ومضر كزفر أبو قبيلة عظيمة ، قريش شعبة منها ، وفي القاموس : الجعرانة وقد تكسر العين وتشدد الراء ، وقال الشافعي : التشديد خطأ موضع بين مكة والطائف ، وفي المصباح على سبعة أميال من مكة ، وكان سبب غضب الأنصار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل بعض قريش عليهم في العطاء تأليفا لقلوبهم « فحط الله نورهم » أي نور إيمانهم ، وجعل درجة إيمانهم نازلة ناقصة فصاروا بحيث قالوا في السقيفة منا أمير ومنكم أمير ، وفرض للمؤلفة قلوبهم سهما في القرآن رغما لهم أو دفعا لاعتراضهم.

الحديث الثالث : مرسل.

والمراد بكثرتهم أن أصناف المسلمين لما كثروا وتضاعف أطماعهم وقل الديانون منهم ، كان هذا الصنف الذين كان يتألفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر لا أن حكم التأليف جار في هذا الزمان ، ويحتمل أن يكون المراد أن إمام الحق أيضا بحسب قدرته وبسط يده يفعل ذلك بهم ، لأنهم عليهم‌السلام كان يعطون بعض المخالفين والمستضعفين لتأليف قلوبهم ودفع الضرر عنهم وعن شيعتهم ، وأما أمير المؤمنين عليه‌السلام فالمعروف من سيرته أنه لم يكن مأمورا بذلك ، بل كان يقسم

٢٢٤

٤ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن إسحاق بن غالب قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام يا إسحاق كم ترى أهل هذه الآية : « فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ » (١) قال : ثم قال : هم

______________________________________________________

بالسوية ، نعم كان يعطي الولايات بعض المنافقين كزياد بن أبيه وأمثاله بظاهر الإسلام ، ويظهر من الأخبار أن القائم عليه‌السلام يسير بسيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام ويعمل بمر الحق ، فما ذكرنا أولا أظهر.

واعلم أن الأصحاب اختلفوا في بقاء سهم المؤلفة في زمن الغيبة ، والمشهور بينهم سقوطه ، قال العلامة في النهاية : لو فرضت الحاجة إلى المؤلفة في يومنا بأن ينزل بالمسلمين نازلة واحتاجوا إلى الاستعانة بالكفار ، فالأقوى عندي جواز صرف السهم إليهم ، وفيه رد على بعض العامة ، حيث قال : سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله وكثر أهله سقط ، ولذلك لما تولى أبو بكر منع المؤلفة لكثرة المسلمين وعدم الحاجة إليهم ، ولم يعلم أن إعطاءهم ليس لمحض الجهاد بل قد يكون لرسوخهم في الإسلام ، أو لرغبة نظرائهم أو غير ذلك كما مر.

الحديث الرابع : حسن كالموثق.

« فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا » قيل : لما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غنائم حنين وألف قلوب المؤلفة بتوفير العطاء عليهم قال بعض المنافقين : اعدل يا رسول الله ، قال : ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ فنزل قوله تعالى « وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا » الآية أي منهم من يعيبك وينسبك إلى الجور في تقسيمها ، وقد أشار عليه‌السلام إلى أن المعترضين على الإمام لو ملك الأرض وقسم الغنائم على ما فرضه الله أكثر بكثير من المعترضين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو المعنى أن هؤلاء لو كانوا في ذلك الزمان كانوا من المعترضين ، أو أن كل من تولى قسمة حق من الحقوق يرى ذلك فيهم ، سواء كان من أئمة الحق أو نوابهم من علماء الدين يجدون ذلك في أكثر الناس ،

__________________

(١) سورة التوبة : ٥٨.

٢٢٥

أكثر من ثلثي الناس.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن حسان ، عن موسى بن بكر ، عن رجل قال قال أبو جعفر عليه‌السلام ما كانت المؤلفة قلوبهم قط أكثر منهم اليوم وهم قوم وحدوا الله وخرجوا من الشرك ولم تدخل معرفة محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قلوبهم وما جاء به فتألفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتألفهم المؤمنون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكيما يعرفوا.

باب

في ذكر المنافقين والضلال وإبليس في الدعوة

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل قال كان الطيار يقول لي إبليس ليس من الملائكة وإنما أمرت الملائكة بالسجودلآدم عليه‌السلام فقال إبليس لا أسجد فما لإبليس يعصي حين لم يسجد وليس هو من الملائكة؟ قال

______________________________________________________

ولا يخفى ذلك على من تصدى بشيء من ذلك.

الحديث الخامس : ضعيف.

وظاهره بقاء سهم المؤلفة في سائر الأزمنة ، وإن احتمل أن يكون المراد بالمؤمنين الأئمة عليهم‌السلام ، ولا يبعد شموله لنوابهم عليهم‌السلام في زمن الغيبة ، بناء على التعليل الوارد في تلك الأخبار ، فإنه غير ما ذكره الأصحاب والله يعلم.

باب في ذكر المنافقين والضلال وإبليس في الدعوة

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

« وإنما أمرت الملائكة » الحصر ممنوع وإنما يتم لو قال الله تعالى : يا ملائكتي اسجدوا أو نحو ذلك ، وذلك غير معلوم لجواز أن يكون الخطاب اسجدوا مخاطبا لهم مشافهة بدون ذكر الملائكة ، نعم في قوله تعالى : « وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ » تجوز لما ذكره عليه‌السلام أو تغليب ، والمنافقون هم المقرون بالنبي ظاهرا والمنكرون

٢٢٦

فدخلت أنا وهو على أبي عبد الله عليه‌السلام قال فأحسن والله في المسألة فقال جعلت فداك أرأيت ما ندب الله عز وجل إليه المؤمنين من قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » أدخل في ذلك المنافقون معهم قال نعم والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة وكان إبليس ممن أقر بالدعوة الظاهرة معهم.

______________________________________________________

له باطنا ، والضلال هم المقرون به ظاهرا وباطنا إلا أنهم أخطأوا سبيل الحق ولم يعرفوا الحجة ، فضلوا.

إذا عرفت هذا فنقول : لما علم الطيار أن المنافقين غير مؤمنين حقيقة لعدم اتصافهم بالإيمان وهو الإقرار باطنا ، وكذا إبليس لم يكن من الملائكة وإن شاركهم في الصورة الظاهرة والمخالفة والكون معهم ، أحسن في المسألة واستفهم عن دخولهم في خطاب المؤمنين وعدمه ليجعله ذريعة إلى ما هو مقصوده ، ولم يكن موهما للاعتراض على الله تعالى ، أو إن أجاب عليه‌السلام بعدم الدخول كانت شبهته أقوى ، والأول أقرب إلى الأدب ، فأجاب عليه‌السلام بأنهم داخلون في خطاب المؤمنين باعتبار أن المراد بالمؤمنين المؤمنون بحسب الظاهر.

ثم إنه عليه‌السلام لما علم بالإعجاز مقصوده من هذا السؤال صرح به وبين أن إبليس كان داخلا في خطاب الملائكة ، باعتبار أن المراد بالملائكة من هو بصورتهم الظاهرة ، فيشمل إبليس لأنه كان معهم وفي صورتهم بحسب الظاهر ، والحاصل أن الأمر بالسجود من الله تعالى إنما توجه إلى من كان ظاهرا من الملائكة ومخلوطا بهم ، وإن لم يكن منهم ، وكان إبليس لا طاعته ظاهرا وإقراره بالدعوة الظاهرة مخلوطا معهم ومعدودا منهم ، كما أن المنافقين وإن لم يكونوا مؤمنين واقعا شملهم خطاب المؤمنين لكونهم ظاهرا في عدادهم.

وأقول : إن المخالفين اختلفوا في كون إبليس من الملائكة أو الجن ، والمشهور بين أصحابنا الإمامية كونه من الجن ، وذهب الشيخ في التبيان إلى أنه كان من

٢٢٧

باب

في قوله تعالى « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ »

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن الفضيل وزرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ » (١) قال زرارة سألت عنها أبا جعفر عليه‌السلام فقال هؤلاء قوم عبدوا الله وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله وشكوا في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به فتكلموا

______________________________________________________

الملائكة وظاهر الآية والأخبار المعتبرة كهذا الخبر هو الأول ، وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا الكبير.

باب في قوله تعالى « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ »

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ » في القاموس أي وجه واحد وهو أن يعبده على السراء والضراء أو على شك أو على غير طمأنينة على أمره ، أي لا يدخل في الدين متمكنا.

وقال البيضاوي : أي على طرف من الدين لإثبات له فيه ، كالذي يكون على طرف الجيش إن أحس بظفر قر وإلا فر ، روي أنها نزلت في أعاريب قدموا إلى المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته ، قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شرا وانقلب.

وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشأم بالإسلام فأتى النبي

__________________

(١) سورة الحجّ : ١١.

٢٢٨

بالإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقروا بالقرآن وهم في ذلك شاكون في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به وليسوا شكاكا في الله قال الله عز وجل : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ » يعني على شك في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به « فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ » يعني عافية في نفسه وماله وولده « اطْمَأَنَّ بِهِ » ورضي به « وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ » يعني بلاء في جسده أو ماله تطير وكره المقام على الإقرار بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرجع إلى الوقوف والشك فنصب العداوة لله ولرسوله والجحود بالنبي وما جاء به.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن موسى بن بكر ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ » قال هم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله فخرجوا من الشرك ولم يعرفوا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله فهم يعبدون الله على شك في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا ننظر فإن كثرت

______________________________________________________

عليه‌السلام فقال : أقلني. فقال : إن الإسلام لا يقال ، فنزلت.

قوله : « وشهدوا » أي باللسان لا بالجنان بقرينة نسبة الشك إليهم في موضعين ، وقال الجوهري : تطيرت من الشيء وبالشيء والاسم منه الطيرة كالغيبة ، وهو ما يتشأم به من الفال « إلى الوقوف » أي على الكفر أو التوقف في أمر الدين.

الحديث الثاني : ضعيف كالموثق وسنده الثاني مرسل.

والشكاك بضم الشين وتشديد الكاف جمع شاك (١) « وقالوا ننظر » جعلوا حصول المعافاة وكثرة الأموال والأولاد دليلا على صدق الرسول وحقيته لزعمهم أن كل ما يورث ذلك فهو مبارك وكل ما هو بخلافه فهو شؤم ، ولم يعلموا أن نزول البلايا والمصائب على المؤمنين من لدن آدم عليه‌السلام إلى آخر الدهر كان أكثر من نزولها على غيرهم ، وأن بناءه كأصل التكليف على الاختيار والامتحان ، وقد

__________________

(١) كذا في النسخ والظاهر أنّ هذا من تتمة ما ذكره في شرح الحديث الأوّل لأنّ لفظ الشكاك موجود فيه دون الحديث الثاني.

٢٢٩

أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنه صادق وأنه رسول الله وإن كان غير ذلك نظرنا.

قال الله عز وجل : « فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ » يعني عافية في الدنيا : « وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ » يعني بلاء في نفسه [ وماله ] « انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ » انقلب على شكه إلى الشرك « خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ » قال ينقلب مشركا يدعو غير الله ويعبد غيره فمنهم من يعرف ويدخل الإيمان قلبه فيؤمن ويصدق ويزول عن منزلته من الشك إلى الإيمان ومنهم من يثبت على شكه ومنهم من ينقلب إلى الشرك.

علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن رجل ، عن زرارة مثله.

______________________________________________________

أشار إليه عز وجل بقوله : « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ » إلى قوله : « وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ » (١).

« انقلب على وجهه » كأنه عليه‌السلام فسر الوجه بالحالة التي هو عليها أي رجع من حالة الشك إلى الشرك ، أو بسبب تلك الحالة إلى الشرك ، أو يكون بيانا لحاصل المعنى أي رجع إلى الجهة التي أتى منه ، والحاصل أنه ينتقل من شكه في رسول الله بعد نزول البلايا إلى الشرك بالله.

« خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ » أما خسرانه في الدنيا فلورود البلايا عليه وذهاب عصمته ، وأما خسرانه في الآخرة فلحبوط عمله بالارتداد ، وذلك هو الخسران المبين لخسرانه في منافع الدارين جميعا « يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ » أي يعبد جمادا لا يضر بنفسه ولا ينفع « فمنهم من يعرف » قسم عليه‌السلام من خرج عن الشرك وشك في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به على ثلاثة أقسام ، فمنهم من يعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقربه ظاهرا وباطنا ويزول عنه الشك بمشاهدة الآيات والمعجزات والهدايات الخاصة ، ومنهم من يثبت على شكه فيه ويقيم عليه ، ومنهم من ينتقل

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٥.

٢٣٠

باب

أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أو كافرا أو ضالا

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن ابن أذينة ، عن أبان بن عياش ، عن سليم بن قيس قال سمعت عليا صلوات الله عليه يقول وأتاه رجل فقال له ما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا وأدنى ما يكون به العبد كافرا وأدنى ما يكون به العبد ضالا فقال له قد سألت فافهم الجواب أما أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرفه الله تبارك وتعالى نفسه فيقر له بالطاعة ويعرفه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقر له بالطاعة ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة قلت له يا أمير المؤمنين وإن جهل

______________________________________________________

من الشك إلى الشرك.

باب نادر

وفي بعض النسخ : باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أو كافرا أو ضالا.

الحديث الأول : مختلف فيه معتبر عندي.

ومفعول يقول محذوف يدل عليه ، فقال له قد سألت ، إلى آخر الكلام.

« أن يعرفه الله تعالى نفسه » تعريف الرب يتحقق بما أظهر من آيات وجوده وقدرته وعلمه وحكمته وسائر صفاته الكمالية والفعلية في الآفاق والأنفس ، ويتحقق تعريف النبي بما خصه من المعجزات البينات والأفعال الخارقة للعادات ، ويتحقق تعريف الحجة بالنصوص النبوية والعلوم الدينية والمعجزات الجلية والكرامات العلية ، والمراد بالإقرار الإقرار بالجنان أو الأعم منه ومن الإقرار باللسان ، وظاهره أن الإيمان هو التصديق والإذعان مع الإقرار الظاهري وقد مر أنه يشترط فيه عدم فعل ما يتضمن الإنكار ، وأما اشتراط الأعمال الصالحة

٢٣١

جميع الأشياء إلا ما وصفت قال نعم إذا أمر أطاع وإذا نهي انتهى.

وأدنى ما يكون به العبد كافرا من زعم أن شيئا نهى الله عنه أن الله أمر به ونصبه دينا يتولى عليه ويزعم أنه يعبد الذي أمره به وإنما يعبد الشيطان.

وأدنى ما يكون به العبد ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر الله عز وجل بطاعته وفرض ولايته قلت يا أمير المؤمنين صفهم لي فقال الذين قرنهم الله عز وجل بنفسه ونبيه فقال : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » (١) قلت يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك أوضح لي فقال الذين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في آخر خطبته يوم قبضه الله

______________________________________________________

وترك المعاصي فالمشهور أنها شرط لكمال الإيمان وقد مر الكلام فيه مفصلا.

« من زعم » أي حال من زعم أن الله أمر به ، ظاهره أن الابتداع في الدين يوجب الكفر ، فلو كان في أصول الدين أو متضمنا لإنكار بعض ضرورياته فلا ريب فيه ، ومنه إنكار إمامة أحد من الأئمة عليهم‌السلام ، وأما إذا كان في الفروع ولم يكن ضروريا للدين فالكفر بالمعنى الذي يطلق على أصحاب الكبائر « ويزعم أنه يعبد الذي أمره به » أي يزعمه وهو الرب تعالى وإلا فالآمر والمعبود واحد وهو الشيطان « أن لا يعرف حجة الله » عدم معرفة الحجة وإن كان أعم من الاعتقاد بعدم كونه حجة ومن عدم الاعتقاد مطلقا ، لكن المراد هنا هو الثاني لأن الأول كفر ، ومن قدم الطاغوت على الحجة فهو داخل في الأول ، وفي الكلام السابق إشعار به.

« أطيعوا الله » إلخ حذف مفعول الإطاعة للدلالة على التعميم ، فوجب إطاعة أولي الأمر في جميع الأمور كما وجب إطاعة الله وإطاعة رسوله فيها ، فلا يجوز أن يراد بأولى الأمر السلطان الجائر ، بل غير المعصوم مطلقا ، إذ لا يجوز إطاعته في أكثر الأمور ، وقد مر تفصيله في باب ما نص الله ورسوله على الأئمة عليهم‌السلام.

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٥.

٢٣٢

عزوجل إليه إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهماكتاب الله وعترتي أهل بيتي فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين وجمع بين مسبحتيه ولا أقول كهاتين وجمع بين المسبحة والوسطى فتسبق إحداهما الأخرى فتمسكوا بهما لا تزلوا ولا تضلوا ولا تقدموهم فتضلوا.

______________________________________________________

« إني قد تركت فيكم أمرين » لو كان لهذه الأمة متمسك غيرهما لذكره ، والحديث متفق عليه بين الخاصة والعامة ، وعدم الافتراق باعتبار أن الكتاب يدل على إمامتهم ، وهم يشهدون بحقية الكتاب ويثبتونه ، أو أن تمام القرآن لفظا وتفسيره وتأويله معنى عندهم فهما لا يفترقان ، أو هما متساوقان في الشرف والفضل والحجية ، وكونهما وسيلة لنجاة الأمة ، أو أنهما متحدان حقيقة ، وقد قال أمير المؤمنين عليه‌السلام أنا كلام الله الناطق وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القرآن إنشاء الله.

وقيل : أي لن يفترقا في وجوب التمسك والحجية فلو كان علي عليه‌السلام حجة بعد الثلاث وقد كان القرآن حجة بعد النبي بلا فصل لزم الافتراق وأنه باطل.

« ولا تقدموهم » أي لا تتقدموهم ، والضمير للعترة وقد يقال أنه من باب التفعيل والضمير للغاصبين الثلاثة ، ولا يخفى بعده.

٢٣٣

باب

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن بني أمية أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه.

______________________________________________________

باب أي نادر

الحديث الأول : ضعيف.

« أطلقوا للناس » قال والد شيخنا البهائي قدس‌سره : قيل : في معناه أن المراد أطلقوهم ولم يكلفوهم تعليم الإيمان ، وجعلوهم فارغين من ذلك لأنهم لو حملوهم وكلفوهم تعليم الإيمان لما عرفوه ، وذلك إنما هو أهل البيت عليهم‌السلام وهم أعداء أهل البيت ، فكيف يكلفون الناس تعليم شيء يكون سببا لزوال دولتهم وحكمهم وزيادتهم بخلاف الشرك ، ولا يخفى بعده ، بل الظاهر أن المراد أنهم لم يعلموهم ما يخرجهم من الإسلام من إنكار نص النبي والخروج على أمير المؤمنين عليه‌السلام وسبه وإظهار عداوة النبي وأهل بيته وغير ذلك ، لئلا يأبوا عنها إذا حملوهم عليها ، ولم يعرفوا أنها شرك وكفر.

وبعبارة أخرى يعني أنهم لحرصهم على إطاعة الناس إياهم اقتصروا لهم على تعريف الإيمان ولا يعرفوهم معنى الشرك لكي إذا حملوهم على إطاعتهم إياهم لم يعرفوا أنها من الشرك فإنهم إذا عرفوا أن إطاعتهم شرك لم يطيعوهم.

٢٣٤

باب

ثبوت الإيمان وهل يجوز أن ينقله الله

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن حسين بن نعيم الصحاف قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام لم يكون الرجل عند الله مؤمنا قد ثبت له الإيمان عنده ثم ينقله الله بعد من الإيمان إلى الكفر قال فقال إن الله عز وجل هو العدل إنما دعا العباد إلى الإيمان به لا إلى الكفر ولا يدعو أحدا إلى الكفر به فمن آمن بالله ثم ثبت له الإيمان عند الله لم ينقله الله

______________________________________________________

باب ثبوت الإيمان وهل يجوز أن ينقله الله

الحديث الأول : صحيح.

« لم ينقله الله » لعل المراد أن الله لم ينقله بل ينتقل هو بنفسه ، أو المعنى أن ما ينقله الله يظهر أنه لم يكن مؤمنا باطنا عند الله وتفصيله أنه سأل عن سبب نقل ثابت الإيمان منه إلى الكفر إلا أنه نسب النقل إلى الله عز وجل مجازا باعتبار خذلانه له وسلب لطفه وتوفيقه منه ، أو عن سبب نقله عز وجل إياه حقيقة لزعمه أن الكفر والإيمان من فعله عزوجل.

والجواب على الأول أن الله عادل ومن عدله أنه دعا الناس إلى الإيمان لا إلى الكفر ، فمن آمن به وثبت إيمانه في علمه لم ينقله من الإيمان إلى الكفر ، ولم يسلب عنه لطفه وتوفيقه أبدا وهو يخرج من الدنيا مؤمنا ، وما قد يتفق من نقل المؤمن إلى الكفر فإنما هو إذا كان الإيمان مستودعا غير ثابت.

وعلى الثاني أنه تعالى عادل لا يجور ، ولو كان الإيمان والكفر والنقل من الأول إلى الثاني من فعله تعالى لزم الجور والظلم ، وإنما فعله دعاء الناس إلى الإيمان لا إلى الكفر وهدايتهم إلى منافع الأول ومضار الثاني ، فمن آمن به وثبت له

٢٣٥

عز وجل [ بعد ذلك ] من الإيمان إلى الكفر قلت له فيكون الرجل كافرا قد ثبت له الكفر عند الله ثم ينقله بعد ذلك من الكفر إلى الإيمان قال فقال إن الله

______________________________________________________

الإيمان واستقر في قلبه لم ينقله إلى الكفر ، ولم يسلب عنه توفيقه.

« وقلت له : فيكون الرجل كافرا » يحتمل الخبر والاستفهام ، أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلان السائل لما علم بالجواب المذكور أن من ثبت إيمانه لم ينقله الله إلى الكفر بسلب التوفيق عنه ، سأل عن حال من ثبت كفره هل ينقله الله من الكفر إلى الإيمان بهذا التوفيق واللطف أم لا؟ وانطباق الجواب على الأول ظاهر ، لإشعاره بأنه ممن هداه لعدم إبطاله الفطرة الأصلية بالكلية ، فلذلك تداركته العناية الإلهية ، وأما انطباقه على الثاني ففيه خفاء إذ لم يصرح عليه‌السلام بما سأله عنه إلا أنه أشار إلى تقرير قاعدة كلية للتنبيه على أن المقصود الأهم هو معرفتها والتصديق بها.

وهي أن الله تعالى خلق الناس على نحو من الفطرة ، وهي كونهم قابلين للخير والشر وهداهم إليها ببعث الرسل ، وهم يدعونها إلى الإيمان وإلى سبيل الخير ، وينهونهم عن سبيل الكفر والشر ، فمنهم من هداه الله عز وجل بالهدايات الخاصة لعدم إبطاله الفطرة الأصلية وتفكره في أنه من أين جاء وإلى أين نزل ، وأي شيء يطلب منه ، واستماعه إلى نداء الحق ، فإنه عند ذلك يتلقاه اللطف والتوفيق والرحمة ، كما قال عز وجل : « وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا » (١).

ومنهم من لم يهده الله عز وجل لإبطاله فطرته وعدم تفكره فيما ذكر وإعراضه عن سماع نداء الحق ، فيسلب عنه الرحمة واللطف والتوفيق ، وهو المراد من عدم هدايته له.

وقد أشار عليه‌السلام بتقرير هذه المقدمة إلى أن الواجب عليكم أن تعلموا وتصدقوا بأن كل من آمن به فإنما آمن لأجل هدايته الخاصة ، وكل من

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

٢٣٦

عز وجل خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة ولا كفرا بجحود ثم بعث الله الرسل تدعوا العباد إلى الإيمان به « فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ » ومنهم من لم يهده الله.

______________________________________________________

لم يؤمن به فلفقد استحقاقه تلك الهداية كذا قيل.

وأقول : الظاهر أن كلام السائل استفهام ، وحاصل الجواب أن الله تعالى خلق العباد على الفطرة قابلة للإيمان ، وأتم على جميعهم الحجة بإرسال الرسل وإقامة الحجج ، فليس لأحد منهم حجة على الله في القيامة ولم يكن أحد منهم مجبورا على الكفر لا بحسب الخلقة ولا من تقصير في الهداية ، وإقامة الحجة ، لكن بعضهم استحق الهدايات الخاصة منه تعالى ، فصارت مؤيدة لإيمانهم وبعضهم لم يستحق ذلك لسوء اختياره ، فمنعهم تلك الألطاف فكفروا ومع ذلك لم يكونوا مجبورين ولا مجبولين على الكفر ، وهذا معنى الأمر بين الأمرين كما عرفت مرارا.

ويحتمل أن يكون المراد بقوله : فمنهم من هدى الله ، منهم من اهتدى بتلك الهداية العامة ، ومنهم من لم يهده الله أي لم يهتد بتلك الهداية ، وهذا أوفق بمسلك المتكلمين ، والأول أنسب بسائر الأخبار والله أعلم بحقيقة الأسرار.

ثم اعلم أنه اختلف أصحابنا في أنه هل يمكن زوال الإيمان بعد تحققه حقيقة أم لا ، قال الشهيد الثاني قدس‌سره في رسالة حقائق الإيمان : المؤمن بعد اتصافه بالإيمان الحقيقي في نفس الأمر هل يمكن أن يكفر أم لا؟ ولا خلاف أنه لا يمكن ما دام الوصف ، وإنما النزاع في إمكان زواله بضد أو غيره ، فذهب أكثر الأصوليين إلى جواز ذلك بل إلى وقوعه ، وذلك لأن زوال الضد بطريان ضده أو مثله على القول بعدم اجتماع الأمثال أمر ممكن ، لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال.

لا يقال : نمنع عدم لزوم المحال من فرض وقوعه وذلك لأن زوال الضد

٢٣٧

______________________________________________________

بطريان الآخر يلزم منه الترجيح من غير مرجح ، بل ترجيح المرجوح لأن الضد الموجود راجح الوجود لوجوده ، والمعدوم مرجوح فكيف يترجح على الراجح وكلاهما محال؟ وكذا الحكم في الأمثال.

لأنا نقول : المرجح موجود وهو الفاعل المختار القادر على الإيجاد والإعدام ، حتى في الحقائق الوجودية فكيف بالحقائق الاعتبارية ولا ريب أن الإيمان والكفر حقيقتان اعتباريتان للشارع ، فاعتبر الاتصاف بالإيمان عند حصول عقائد مخصوصة ، وانتفائه عند انتفائها ، وكلاهما مقدوران للمعتقد ، وظاهر كثير من الآيات الكريمة دال عليه ، كقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً » (١) وقوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ » (٢).

وذهب بعضهم إلى عدم جواز زوال الإيمان الحقيقي بضد أو غيره ، ونسب ذلك إلى السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه مستدلا بأن ثواب الإيمان دائم والإحباط والموافاة عنده باطلان.

أما الإحباط فلاستلزام أن يكون الجامع بين الإحسان والإساءة بمنزلة من لم يفعلهما مع تساويهما ، أو بمنزلة من لم يحسن إن زادت الإساءة وبمنزلة من لم يفعلهما مع تساويهما ، أو بمنزلة من لم يحسن إن زادت الإساءة وبمنزلة من لم يسيء مع العكس ، واللازم بقسميه باطل قطعا فالملزوم مثله.

وأما الموافاة فليست عندنا شرطا في استحقاق الثواب بالإيمان لأن وجوه الأفعال وشروطها التي يستحق بها ما يستحق لا يجوز أن يكون منفصلة عنها ولا متأخرة عن وقت حدوثها ، والموافاة منفصلة عن وقت حدوث الإيمان ، فلا يكون

__________________

(١) سورة النساء : ١٣٧.

(٢) كذا في النسخ والآية في سورة آل عمران (١٠٠) هكذا : « ان تتبعوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ ... ».

٢٣٨

______________________________________________________

وجها ولا شرطا في استحقاق الثواب ، لا يقال : الثواب إنما يستحقه العبد على الفعل كما هو مذهب العدلية ، والإيمان ليس فعلا للعبد وإلا لما صح الشكر عليه ، لكن التالي باطل إذ الأمة مجتمعة على وجوب شكر الله تعالى على نعمة الإيمان ، فيكون الإيمان من فعل الله تعالى إذ لا يشكر على فعل غيره ، وإذا لم يكن من فعل العبد فلا يستحق عليه ثوابا فلا يتم دليله على أنه لا يتعقبه كفر لأن مبناه على استحقاق الثواب على الإيمان ، لأنا نقول : هو من فعل العبد ونلتزم عدم صحة الشكر عليه ، ونمنع بطلانه.

قولك في إثباته : الأمة مجتمعة « إلخ » قلنا : الشكر إنما هو على مقدمات الإيمان وهي تمكين العبد من فعله وأقداره عليه ، وتوفيقه على تحصيل أسبابه ، وتوفيق ذلك له لا على نفس الإيمان الذي هو فعل العبد ، فإن ادعى الإجماع على ذلك سلمناه ولا يضرنا ، وإن ادعى الإجماع على غيره منعناه فلا ينفعهم.

والاعتراض عليه رحمه‌الله من وجوه : « أحدها » توجه المنع إلى المقدمة القائلة بأن الموافاة ليست شرطا في استحقاق الثواب وما ذكره في إثباتها من أن وجوه الأفعال وشروطها التي يستحق بها ما يستحق لا يجوز أن يكون منفصلة عنها ، والموافاة منفصلة عن وقت الحدوث فلا يكون وجها ، لا دلالة له على ذلك بل إن دل فإنما يدل على أن الموافاة ليست من وجوه الأفعال ، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون شرطا لاستحقاق الثواب ، فلم لا يجوز أن يكون استحقاق الثواب مشروطا بوجوه الأفعال مع الموافاة أيضا ، لا بد لنفي ذلك من دليل.

ثانيها : الآيات الكريمة التي مر بعضها فإنها تدل على إمكان عروض الكفر بعد الإيمان ، بل بعضها على وقوعه ، وأجاب السيد عن ذلك بأن المراد والله أعلم من وصفهم بالإيمان الإيمان اللساني دون القلبي ، وقد وقع مثله كثيرا في القرآن

٢٣٩

______________________________________________________

العزيز ، كقوله تعالى : « آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ » (١) وحيث أمكن صحة هذا الإطلاق ولو مجازا سقط الاستدلال بها.

ثالثها : أن الشارع جعل للمرتد أحكاما خاصة به لا يشاركه فيها الكافر الأصلي كما هو مذكور في كتب الفروع وهذا أمر لا يمكن دفعه ، ولا مدخل للطعن فيه ، فإن الكتاب العزيز والسنة المطهرة ناطقان بذلك ، والإجماع واقع عليه كذلك ، ولا ريب أن الارتداد هو الكفر المتعقب للإيمان ، كما دل عليه قوله تعالى : « مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ » (٢) الآية ، فقد دل على ما ذكرناه من أن المؤمن يمكن أن يكفر.

أقول : وللسيد رحمه‌الله أن يجيب عن ذلك بأن ما ذكرناه إنما يدل على أن من اتصف في ظاهر الشرع بالارتداد فحكمه كذا وكذا ، ولا يدل على أنه صار مرتدا بذلك في نفس الأمر ، فلعله كان كافرا في الأصل ، وحكمنا بأنه ظاهرا للإقرار بما يوجب الإيمان مع بقائه على كفره عند الله تعالى ، وبفعله ما يوجب الارتداد ظاهرا حكمنا بارتداده ، أو كان مؤمنا في الأصل وهو باق على إيمانه عند الله تعالى ، لكن لاقتحامه حرمات الشارع وتعديه هذه الحدود العظيمة جعل الشارع الحكم بالارتداد عليه عقوبة له لتنحسم بذلك مادة الاقتحام والتعدي من المكلفين فيتم نظام النواميس الإلهية.

وأقول : الحق أن المعلومات التي يتحقق الإيمان بالعلم بها أمور متحققة ثابتة لا تقبل التغير والتبدل ، إذ لا يخفى أن وحدة الصانع تعالى ووجوده وأزليته وأبديته وعلمه وقدرته وحياته إلى غير ذلك من الصفات أمور تستحيل تغيرها ، وكذا كونه تعالى عدلا لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب ، وكذا النبوة والمعاد ،

__________________

(١) كذا في النسخ والآية في سورة المائدة (٤١) هكذا « قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ. ».

(٢) سورة المائدة : ٥٤.

٢٤٠