مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

باب

في تنقل أحوال القلب

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد جميعا ، عن ابن محبوب ، عن محمد بن النعمان الأحول ، عن سلام بن المستنير قال كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فدخل عليه حمران بن أعين وسأله عن أشياء فلما هم حمران بالقيام قال لأبي جعفر عليه‌السلام أخبرك أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك أنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا قال فقال أبو جعفر

______________________________________________________

باب في تنقل أحوال القلب

الحديث الأول : مجهول.

« وتسلو أنفسنا عن الدنيا » في القاموس سلاه وعنه كدعاه ورضيه سلوا وسلوا نسيه ، وأسلاه عنه فتسلى « إنما هي القلوب » أي إنما سمي بالقلب لتقلب أحواله « مرة تصعب » أي عن الإقبال على عالم القدس ورفض الدنيا « ومرة تسهل » وتلين وتطيع العقل وتترك الشهوات بسهولة ، ووجه ذلك أن سنة الله في عالم الإنسان أن يكون متوسطا بين عالم الملائكة وعالم الشياطين.

فالملائكة ثابتون في مقام القدس كما قالوا : « وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ » (١) « وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » (٢) و « يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ » (٣) والشياطين منهمكون في الشرور والخطيئات داعون إلى المعاصي والسيئات وكذلك البهائم

__________________

(١) سورة الصافّات : ١٦٤.

(٢) سورة التحريم : ٦.

(٣) سورة الأنبياء : ٢٠.

٢٦١

عليه‌السلام إنما هي القلوب مرة تصعب ومرة تسهل.

ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام أما إن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا يا رسول الله نخاف علينا النفاق قال فقال ولم تخافون ذلك قالوا إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأنا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحول عن الحال التي كنا عليها عندك وحتى كأنا لم نكن على شيء أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم

______________________________________________________

شأنهم الميل إلى الشهوات والرغبة في اللذات ، والإنسان عالم بين العالمين مركب من النشأتين ، فإن له روحا قدسيا وجسدا بهيميا فهو مختلف الشؤون منتقل الأحوال ، ولو لم يكن كذلك لم يتيسر له الترقي إلى أعلى مدارج الكمال وأقوى الدواعي إلى الصعود على أحسن الأحوال ، وأنفع الجنود لدفع وساوس الشياطين والتخلص عن الأهوال بمجالسة الصالحين ومعاشرتهم ومتابعتهم في الأقوال والأفعال كما يرشد إليه هذا الحديث.

والشمم القرب والدنو ، وكان المراد هنا الالتذاذ بقربهم والنظر إليهم تشبيها لهم بالرياحين ، والأهل : الزوجة وذكرها تخصيص بعد تعميم « كانا لم نكن على شيء » أي من الحالة الأولى.

« إن هذه خطوات الشيطان » إشارة إلى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ، وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (١) وفي القاموس : الخطوة ويفتح ما بين القدمين والجمع خطا وخطوات ، وبالفتح المرة والجمع خطوات ، والمعنى أن ذلك بسبب وساوس

__________________

(١) سورة النور : ٢١.

٢٦٢

______________________________________________________

الشيطان وأتباعه ، فإن وفق الله للتوبة لا يضر ذلك ولا ينتهي إلى النفاق أي باطنكم مؤمن موقن وقد تعرض لكم الغفلة بسبب وساوس الشيطان ، حيث أنه لم يكن له تصرف في أيمان المؤمن يتوسل بما يوجب نقص إيمانه ، والمنافق باطنه غير مؤمن وهو في الغفلة دائما فبينهما بون بعيد.

وقيل : ينبغي أن يعلم أن قلب المؤمن في الحقيقة عرش الرحمن يطوف به قوافل وإرادات من الحق وإلهاماته ، ويشرق فيه لوامع أنواره وطوالع إسراره ، ولذلك يجب تطهيره عن أدناس التعلقات وأرجاس الشهوات ، وقد قيل : له بابان باب شرقي أيمن مفتوح إلى مشرق نور الحق. وحظيرة القدس ، يطلع من ذلك الباب شوارق ألطاف الربوبية والمواعظ اللاهوتية ، وباب غربي أيسر إلى مغرب الجسد والأعضاء ومنه يظهر آثار تلك الشوارق والمواعظ إلى الأعضاء فتخضع بالأعمال الصالحة تواضعا ويسهل القلب عند ذلك وتتم النعمة ظاهرة وباطنة وكثيرا ما يتصرف فيه الشيطان ويلقي إليه من الباب الغربي كذبا وزورا ، ويوحى إليه زخرف القول غرورا فيميله إلى الدنيا ويحدث فيه صداء ورينا ، فإن استيقظ من نداء الغيب ودعوة أهل الحق واستغفر زال عنه ، وإن استمر يسري ذلك من الباب الشرقي إلى عالم القدس ويمنع الواردات اللاهوتية وأنوار الربوبية فيسود لوح القلب ويصدر من الجوارح أعمال قبيحة مظلمة ، وتنعكس ظلمتها إليه ، فينطمس نوره بريح الشهوات ، وتراكم الظلمات ، ظلمات بعضها فوق بعض ، فلا يقبل الحق أبدا.

ثم أشار صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن الحالة الأولى حالة حسنة شريفة ، والدوام عليها يوجب التشبيه بالملائكة ، والوصول إلى مقامات عالية ، وإلى أن الحالة الثانية والتعرض للذنب والاستغفار بعده لا تخلو من حكمة إلهية ومصلحة ربانية ، بقوله : « والله لو تدومون » إلخ.

لأن المانع من ظهور تلك الآثار هو الكدورات الجسمانية ، والتعلقات

٢٦٣

أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء ولو لا أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر الله لهم إن المؤمن مفتن

______________________________________________________

البشرية والوساوس الشيطانية ، والميل إلى الزهرات الدنيوية ، فإذا زالت عن العبد تلك الموانع دائما يصير نورا صرفا وروحا محضا ، ويتصف بصفات الملائكة ، ويلتحق بالروحانيين ويصافحهم ، ويكون معهم ويمشي على الماء مثلهم.

وإن شئت توضيح ذلك فنقول : أن للروح الإنساني منازل في السير إلى الله ، أولها المحسوسات ، وثانيها المتخيلات ، وثالثها الموهومات ، ورابعها المعقولات ، وهو في هذا المنزل يمتاز عن سائر الحيوانات ، ويرى فيه ما هو خارج عن عالم الحس والخيال والوهم ، ويعلم روح الأشياء وحقائقها ، وله عرض عريض أوله أول عالم الإنسان ، وآخره عالم الملائكة بل فوقه ، وهو معراج الإنسان وأعلى عليين له ، كما أن الثلاثة الأول أسفل السافلين له ، وأعظم أسباب معراجه قطع التعلق عن الدنيا والإعراض عنها بالكلية ، ثم الدوام على هذه الحالة فإنه يوجب الوصول إلى حالة شريفة هي مرتبة عين اليقين ، وله في تلك المرتبة قدرة على أفعال غريبة وآثار عجيبة بإذن الله تعالى ، كمصافحة الملائكة والمشي على الماء والهواء وغيرها ، ومنه يعلم أن الكرامات غير منكرة من الأولياء كما زعمه بعض العلماء.

« ولو لا أنكم تذنبون. » أقول : يدل على أن لله تعالى مصلحة عظيمة في هذا النوع من الخلق ، لتظهر غفاريته ولطفه ورحمته ، بل الظاهر أن هذا سبب لرفعة درجاتهم وتضاعف كمالاتهم ، ولا ينافي ذلك عدم صدور تلك الأفعال وظهور تلك الآثار منهم ، كما أن أكثر أفراد المؤمنين أفضل من كثير من الملائكة مع ظهور تلك الأمور من الملائكة دونهم ، ولا يبعد أن يكون التلوث بالخطيئات سببا للتذلل والخضوع ورفع الدرجات ، حتى أن أكثر الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ابتلوا بارتكاب ترك الأولى والمكروهات ، فارتقوا بعد ذلك إلى أعالي الدرجات ، كما يومئ إليه قوله

٢٦٤

تواب أما سمعت قول الله عز وجل : « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » (١) وقال « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ » (٢)

______________________________________________________

سبحانه : « وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى » (٣) وقال سبحانه : « وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ » (٤) ومثله كثير في الكتاب ، والقصار يلوث الثوب بأشياء ثم يغسله ليصير أحسن وألطف وأشد بياضا مما كان ، كما أن آدم عليه‌السلام قبل ارتكاب ترك الأولى في الجنة كان في عداد الملائكة وشبيها بهم ، وإن كان أفضل منهم ومسجودا لهم ، ولما ارتكب ترك الأولى وهبط إلى الأرض واستغفر وبكى على ما صدر عنه سنين متطاولة كملت محبته ، وصفى وزكى وصار نبيا مصطفى وعمر الله به وبأولاده الأرض ، وتمت حكمة الله البالغة ، وظهرت رحمته السابغة وهذا سر من أسرار القدر والقضاء يتحير فيه ألباب الحكماء.

« إن المؤمن » كأنه كلام الباقر عليه‌السلام وفي النهاية في الحديث : المؤمن خلق مفتنا أي ممتحنا يمتحنه الله بالذنب ثم يتوب ، ثم يعود ثم يتوب يقال : فتنته افتنه فتونا إذا امتحنته ، ويقال فيها افتتنته أيضا وهو قليل ، وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختيار للمكروه ، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة ، والصرف عن الشيء ، ومنه أنه يحب المفتن التواب ، أي الممتحن بالذنب ثم يتوب ، انتهى.

« أما سمعت » يمكن أن يكون الاستشهاد باعتبار تقديم التوابين وحبهم بناء على أن المراد بالمتطهرين المتطهرون من الذنوب ، لكن ورد في بعض الأخبار أن المراد بهم المتطهرون بالماء ، فالاستشهاد بمحض حبهم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٢) سورة هود : ٣.

(٣) سورة طه : ١٢١.

(٤) سورة ص : ٢٤.

٢٦٥

باب

الوسوسة وحديث النفس

١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن محمد بن حمران قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الوسوسة وإن كثرت فقال لا شيء فيها تقول لا إله إلا الله.

______________________________________________________

باب الوسوسة وحديث النفس

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« وإن كثرت » بالكسر ، وربما يقرأ بالفتح على أنها مخففة من المثقلة عطفا على الوسوسة ، والوسوسة حديث النفس مثل من خلق الله؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ ومتى هو؟ والوساوس في أحوال الخلق ونسبة المعاصي إليهم كما هو أحد معاني التفكر في الوسوسة في الخلق ، أو إرادة المعاصي أو الأعم وهو إذا خطر ذلك في القلب من غير قصد ولا عقد ولا تكلم به لقصد التشهير والتزويج ، وربما يفرق بين الوسوسة وحديث النفس بأن الوسوسة آكد ، مثلا إن خطر ببالك النظر إلى امرأة فهو حديث النفس وإن حصلت الرغبة وحركتك الشهوة فهو الوسوسة ولا شيء فيهما.

ومن أراد دفع كراهة ذلك وطرد الخبيث عن نفسه فليقل : لا إله إلا الله ، أو ليقل آمنا بالله وبرسوله لا حول ولا قوة إلا بالله ، أو ليذكر الله وحده.

قيل : أمره بالتوحيد لوجوه : الأول : أن لا يأتيه الموت وهو على تلك الحال.

الثاني : نفي ما ألقى في نفسه من أن للإله إلها آخر ، حيث صرح بأن الإله واحد ليس إلا هو.

الثالث : أن تلك الكلمة تطرد الخبيث وتدفعه عن قائلها ، ولذلك يلقن

٢٦٦

______________________________________________________

المحتضر بها.

الرابع : إفادتها أن سلسلة الممكنات منتهية إليه فلا يكون له موجد.

الخامس : أن من اتصف بجميع صفات الكمال لا يتصف بالمخلوقية والاحتياج.

السادس : أنه لو كان له إله لزم الدور أو التسلسل ، فوجب حصر الألوهية في واحد ، وروى العامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسهم ما لم يتكلم به أو يعمل به ، قال بعضهم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا بعد نزول النسخ أو التخفيف ، لقوله تعالى : « إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » (١) فقال بعض الصحابة : من يطيق هذا؟ فقال : أتريدون أن تقولوا ما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا ، قولوا سمعنا وأطعنا فقالوا ، فأنزل الله التخفيف بقوله : « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها » (٢) الآية ، فقال عليه‌السلام كالمبين والمفصل لجملتها : إن الله تعالى تجاوز لي ، إلى آخره.

فبين لهم ما رفع عنهم مما لا يطيقونه ، وهو حديث النفوس فأعلمهم أن له سبحانه أن يكلفهم ما يعلم أنه يشق عليهم معاناته بمقتضى عدله ، وعدله حسن ثم خفف عنهم برفع ما يعجزون عنه إظهارا لفضله ، والفضل عليهم أحسن ، والمراد بحديث النفس المعفو عنه ما لا يدخل تحت كسب العبد من الخواطر أولا ، والفكر فيما يخطر للنفس ثانيا ، فيتأمله ويتحدث هل يعمله أم لا ، فهذا معفو إلى أن يترجح في القلب الفعل أو الترك فيهتم به ، فإن كان خيرا كتب له حسنة ، وإن كان شرا لم يكتب ، فإذا قوي العزم صار نية فيعزم القلب وينوي ، فمن هناك يتحقق كسبه وفعله ، فتقع المؤاخذة والمحاسبة لقوله تعالى : « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » (٣)

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٤.

(٢) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٣) سورة البقرة : ٢٢٥.

٢٦٧

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له إنه يقع في قلبي أمر عظيم فقال قل لا إله إلا الله قال جميل فكلما وقع في قلبي شيء قلت لا إله إلا الله فيذهب عني.

٣ ـ ابن أبي عمير ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله هلكت فقال له عليه‌السلام أتاك الخبيث فقال لك من خلقك فقلت الله فقال لك الله من خلقه فقال إي والذي بعثك بالحق لكان كذا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذاك والله محض الإيمان.

______________________________________________________

ثم استدرك عليه‌السلام بعد ذكر ما عفي عنه ما يحاسب عليه فقال : ما لم تتكلم به وهو عمل اللسان ، أو تعمل به ، وهو عمل القلب وكسبه وهو عزمه ونيته وأفعال الجوارح والأركان ، فهذا ما لم يعف عنه وإن جاز العفو عنه بعد إثباته والمحاسبة عليه فضلا ، كما روي : أن الله تعالى يقول للمحافظين : فإذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها وآخذه أو أغفر.

وقوله عليه‌السلام : إن الله تجاوز لي ، يشعر بفضيلته فإن الله تعالى خصه في حق أمته بهذا العفو دون من قبله من الأنبياء ، كما خصه بقوله : نصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ولم يحل لأحد قبلي ، ونصرت بالصبا ، إلى غير ذلك وأكرمه ، انتهى كلامه.

وأقول : قد مر بعض القول في ذلك في باب أن الإيمان مبثوث بجوارح البدن.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح وهو مثل السابق.

والأمر العظيم أما شيء من الخواطر لو تكلم به أو اعتقده يكون كفرا موجبا للقتل والارتداد ، أو إرادة ذنب من الكبائر كما عرفت.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

« ذلك والله محض الإيمان » قيل فيه وجوه : أحسنها ما رواه عبد الرحمن بأن يكون ذلك إشارة إلى خوفه من الهلاك ، فإن الكافر لا يخاف من هذه ولا من

٢٦٨

قال ابن أبي عمير فحدثت بذلك عبد الرحمن بن الحجاج فقال حدثني أبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما عنى بقوله هذا والله محض الإيمان خوفه أن يكون قد هلك حيث عرض له ذلك في قلبه.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد جميعا ، عن علي بن مهزيار قال كتب رجل إلى أبي جعفر عليه‌السلام يشكو إليه لمما يخطر على باله فأجابه في بعض كلامه إن الله عز وجل إن شاء ثبتك فلا يجعل لإبليس عليك طريقا قد شكا قوم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمما يعرض لهم لأن تهوي

______________________________________________________

أعظم منها.

الثاني : أن تلك الخطورات لإبطال الاحتمالات الباطلة ، ليصير في الحق على يقين ، فإن من أراد إقامة الدليل على مطلب يتفكر في الاحتمالات المضادة له ليبطلها ويتم برهانه على الحق.

الثالث : أن الشيطان لما يئس من الخلل في إيمان العبد يتعرض له بتلك الخواطر كما يرشد إليه حديث آخر الباب.

الحديث الرابع : صحيح.

وقال في النهاية في حديث ابن مسعود : لابن آدم لمتان لمة من الملك ولمة من الشيطان ، اللمة الهمة والخطرة تقع في القلب ، أراد إلمام الملك والشيطان به والقرب منه ، فما كان من خطرات الخير فهو من الملك ، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان ، وفي القاموس : اللمم محركة الجنون وصغار الذنوب وأصابته من الجن لمة ، أي مس أو قليل ، وقيل : إنما جعل الوسوسة لمما أي ذنبا صغيرا لزعمه أنها من صغائر الذنوب أو لأنها قد تؤول إلى الذنب ، وإلا فهي ليست من الذنوب ولا يخفى أنه لا حاجة إلى هذا التكلف كما عرفت ، والهوى السقوط من أعلى إلى أسفل ، وفعله من باب ضرب ، ومنه قوله تعالى : « أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي

٢٦٩

بهم الريح أو يقطعوا أحب إليهم من أن يتكلموا به فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتجدون ذلك قالوا نعم فقال والذي نفسي بيده إن ذلك لصريح الإيمان فإذا وجدتموه فقولوا آمنا بالله ورسوله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن إسماعيل بن محمد ، عن محمد بن بكر بن جناح ، عن زكريا بن محمد ، عن أبي اليسع داود الأبزاري ، عن

______________________________________________________

مَكانٍ سَحِيقٍ » (١) أي بعيد ، والباء في بهم للتعدية وهم جعلوا التكلم باللمم وإظهاره أشد عليهم من أن يسقطهم الريح إلى مكان بعيد عميق ، أو من أن تقطع أعضاؤهم استقباحا لشأنه واستعظاما لأمره.

والاستفهام في قوله : أتجدون ذلك؟ على حقيقته أو للتعجب أو للتقرير ، ولفظة « ذلك » إشارة إلى كون الهوى والتقطيع أحب إليهم من التكلم به أو أصل اللمم والأول أظهر والإشارة الثانية أيضا تحتمل الوجهين كما عرفت.

وقد روي مثل ذلك في طرق العامة قال في النهاية في حديث الوسوسة : ذلك صريح الإيمان أي كراهتكم له وتفاديكم منه صريح الإيمان ، والصريح الخالص من كل شيء وهو ضد الكناية يعني أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم لقبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم حتى يصير ذلك وسوسة لا يتمكن في قلوبكم ولا تطمئن إليه نفوسكم ، وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان لأنها تتولد من فعل الشيطان وتسويله فكيف يكون إيمانا صريحا.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم : أي استعظامكم التكلم به فإن شدة خوفكم منه فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان ، وفي الرواية الثانية وإن لم يذكر الاستعظام لكنه مراد ، وقيل : سبب الوسوسة علامة محض الإيمان فإن الشيطان إنما يوسوس لمن آيس عن إغوائه.

الحديث الخامس : مجهول ، وقد مضى الكلام فيه.

__________________

(١) سورة الحجّ : ٣١.

٢٧٠

حمران ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله إنني نافقت فقال والله ما نافقت ولو نافقت ما أتيتني تعلمني ما الذي رابك أظن العدو الحاضر أتاك فقال لك من خلقك فقلت الله خلقني فقال لك من خلق الله قال إي والذي بعثك بالحق لكان كذا فقال إن الشيطان أتاكم من قبل الأعمال فلم يقو عليكم فأتاكم من هذا الوجه لكي يستزلكم فإذا كان كذلك فليذكر أحدكم الله وحده.

______________________________________________________

تحقيق

قال بعض المحققين في بيان ما يؤاخذ العبد به من الوساوس وما يعفى عنه : اعلم أن هذا أمر غامض وقد وردت فيه آيات وأخبار متعارضة يلتبس طريق الجمع بينها إلا علي سماسرة العلماء (١) فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : عفي عن أمتي ما حدثت به نفوسها ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يقول الله للحفظة : إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإن هم بحسنة ولم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا ، وهو دليل على العفو عن عمل القلب وهمه بالسيئة.

فأما ما يدل على المؤاخذة فقوله سبحانه : « وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ » (٢) وقال تعالى : « وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً » (٣) فدل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه ، وقال تعالى : « وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » (٤) وقال سبحانه : « لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ

__________________

(١) السماسرة جمع السمسار.

(٢) سورة البقرة : ٢٨٤.

(٣) سورة الإسراء : ٣٦.

(٤) سورة البقرة : ٢٨٣.

٢٧١

______________________________________________________

فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » (١).

فالحق في هذه المسألة عندنا أنه لا يوقف عليه ما لم يقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدء ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح فنقول : أول ما يرد على القلب الخاطر كما لو خطر له مثلا صورة امرأة وأنها وراء ظهره في الطريق لو التفت إليها لرآها ، والثاني : هيجان الرغبة وهو حركة الشهوة التي في الطبع وهذا يتولد في الخاطر الأول ونسميه ميل الطبع ، والأول يسمى حديث النفس ، والثالث : حكم القلب بأن هذا ينبغي أن يفعل أي ينبغي أن ينظر إليها ، فإن الطبع إذا مال لم تنبعث الهمة والنية ما لم تندفع الصوارف ، فإنه قد يمنعه حياء أو خوف من الالتفات ، وعدم هذه الصوارف ربما يكون بتأمل وهو على كل حال حكم من جهة العقل ويسمى هذا اعتقادا وهو يتبع الخاطر ، والميل الرابع تصميم العزم على الالتفات وجزم النية فيه ، وهذا نسميه هما بالفعل ونية وقصدا.

وهذه الهمة قد يكون لها مبدء ضعيف ولكن إذا أصغى القلب إلى الخاطر الأول حتى طالت مجاذبته للنفس تأكدت هذه الهمة وصارت إرادة مجزومة ، فإن انجزمت الإرادة فربما يندم بعدم الجزم فيترك العمل ، وربما يغفل بعارض فلا يعمل بها ولا يلتفت إليه ، وربما يعوقه عائق فيعتذر عليه العمل.

وهيهنا أحوال للقلب قبل العمل بالجارحة ، والخاطر وهو حديث النفس ، ثم الميل ، ثم الاعتقاد ، ثم الهم ، فنقول : أما الخاطر فلا تؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار ، وكذلك الميل وهيجان الشهوة لأنهما أيضا لا يدخلان تحت الاختيار وهما المرادان بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عفي عن أمتي ما حدثت به نفوسها ، فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ، ولا يتبعها عزم على الفعل ، فأما العزم والهم فلا يسمى حديث النفس ، بل حديث النفس كما روي عن عثمان بن مظعون

__________________

(١) سورة المائدة : ٨٩.

٢٧٢

______________________________________________________

حيث قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة؟ قال : مهلا إن من سنتي النكاح ، قال : نفسي تحدثني أن أجب نفسي؟ قال : مهلا إخصاء أمتي دؤب الصيام ، قال : نفسي تحدثني أن أترهب؟ قال : مهلا رهبانية أمتي الجهاد والحج قال : نفسي تحدثني أن أترك اللحم؟ قال : مهلا فإني أحبه ولو أصبته في كل يوم لأكلته ولو سألت الله لأطعمنيه.

فهذه الخواطر التي ليس معها عزم على الفعل هي حديث النفس ، ولذلك شاور فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يكن معها عزم وهم بالفعل ، وأما الثالث وهو الاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا مردد بين أن يكون اضطرارا أو اختيارا والأحوال تختلف فيه ، فالاختياري منه يؤاخذ به ، والاضطراري لا يؤاخذ به ، وأما الرابع وهو الهم بالفعل فإنه يؤاخذ به إلا أنه إن لم يفعل نظر فإن تركه خوفا من الله تعالى وندم على همه كتبت له حسنة ، لأن همه سيئة وامتناعه ومجاهدته نفسه حسنة ، والهم على وفق الطبع لا يدل على تمام الغفلة عن الله ، والامتناع بالمجاهدة على خلاف الطبع يحتاج إلى قوة عظيمة فجده في مخالفة الطبع وهو العمل لله سبحانه أشد من جده في موافقة الشيطان بموافقة الطبع ، فكتبت له حسنة لأنه رجح جهده في الامتناع ، وهمه به على همه بالفعل ، وإن تعوق الفعل لعائق أو تركه لعذر لا خوفا من الله تعالى كتبت عليه سيئة فإن همه فعل اختياري من القلب.

والدليل على هذا التفصيل ما ورد في الصحيح قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر فقال : ارقبوه فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها لأجلي ، وحيث قال : لم يعملها أراد به تركها لله ، فأما إذا عزم على فاحشة وتعذرت عليه بسبب أو غفلة فكيف يكتب له حسنة ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنما يحشر الناس على

٢٧٣

______________________________________________________

نياتهم ، ونحن نعلم أن من عزم ليلا على أن يصبح ويقتل مسلما أو يزني بامرأة فمات تلك الليلة مات مصرا ويحشر على نيته وقد هم بسيئة ولم يعملها ، والدليل القاطع فيه ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : لأنه أراد قتل صاحبه ، وهذا نص في أنه صار من أهل النار بمجرد الإرادة ، مع أنه قتل مظلوما فكيف تظن أن الله لا يؤاخذ بالنية والهم ، بل كل ما دخل تحت اختيار العبد فهومأخوذ به ، إلا أن يكفره بحسنة ، ونقض العزم بالندم حسنة فلذلك كتب حسنة ، وأما فوات المراد بعائق فليس بحسنة.

وأما الخواطر وحديث النفس وهيجان الرغبة فكل ذلك لا يؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار ، والمؤاخذة به تكليف لما لا يطاق ، ولذلك لما نزل قوله تعالى : « وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ » )١( جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله ٦ وقالوا : كلفنا ما لا نطيق إن أحدنا ليتحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ثم يحاسب بذلك؟ فقال رسول الله ٦ : لعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا سمعنا وأطعنا ، فأنزل الله تعالى الفرج بقوله تعالى « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها » فظهر به أن كل ما لا يدخل تحت الوسع من أعمال القلب هو الذي لا يؤاخذ به ، وكل من يظن أن كل ما يجري على القلب يسمى حديث النفس ، ومن لم يفرق بين هذه الأقسام الثلاثة فلا بد وأن يغلط وكيف لا يؤاخذ بأعمال القلوب والكبر والعجب والرياء والنفاق والحسد وجملة الخبائث من أعمال القلب ، بل السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ، أي مما يدخل تحت الاختيار ، فلو وقع البصر بغير اختياره

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٤.

٢٧٤

______________________________________________________

على غير محرم لم يؤاخذ بها فإن أتبعها نظرة ثانية كان مؤاخذا بها ، لأنه لا محالة مختار.

وكذا خواطر القلب تجري هذا المجرى ، بل القلب أولى بمؤاخذته لأنه الأصل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التقوى هيهنا وأشار إلى القلب ، وقال الله عز وجل : « لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ » (١) والتقوى في القلب ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البر ما اطمأن إليه القلب وإن أفتوك وأفتوك.

حتى أنا نقول : إذا حكم قلب الفتى بإيجاب شيء وكان مخطئا صار مثابا على فعله ، بل من ظن أنه متطهر فعليه أن يصلي وإن صلى ثم ذكر كان له ثواب بفعله ، فإن ترك ثم تذكر كان معاقبا ، ومن وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته لم يعص بوطئها وإن كانت أجنبية ، وإن ظن أنها أجنبية عصى بوطئها ، وإن كانت امرأته ، كل ذلك نظر إلى القلب دون الجوارح.

ثم قال : الوسواس ثلاثة أصناف الصنف الأول أن يكون من جهة التلبيس للحق ، فإن الشيطان قد يلبس فيقول للإنسان : لا تترك التنعم واللذات ، فإن العمر طويل والصبر عن الشهوات طول العمر ألمه عظيم ، فعند هذا إذا ذكر العبد عظيم حق الله تعالى وعظيم ثوابه وعقابه وقال : الصبر عن الشهوات شديد ولكن الصبر على النار أشد منه ولا بد من أحدهما ، فإذا ذكر العبد وعد الله ووعيده وجدد إيمانه ويقينه خنس الشيطان وهرب ، إذ لا يستطيع أن يقول : ليس النار أشد من الصبر على المعاصي ، ولا يمكنه أن يقول : المعصية لا تقضي إلى النار ، فإن إيمانه بكتاب الله يدفعه عن ذلك ، فينقطع وسواسه.

وكذلك يوسوس إليه بالعجب في علمه وعمله ، فيفكر العبد أن معرفته وقدرته وقلبه وأعضاءه التي بها علمه وعمله كل ذلك من خلق الله فيخنس الشيطان ، فهذا

__________________

(١) سورة الحجّ : ٣٧.

٢٧٥

______________________________________________________

نوع من الوسوسة تنقطع بالكلية عن العارفين المستبصرين بنور الإيمان والمعرفة.

الصنف الثاني : أن يكون وسواسه بتحريك الشهوة وتهييجها ، وهذا ينقسم إلى ما يعرف العبد يقينا أنه معصية وإلى ما يظنه بغالب الظن فإن علم يقينا خنس الشيطان عن تهييج يؤثر في التحريك ، ولم يخنس عن التهييج ، وإن كان مظنونا ربما يبقى مؤثرا بحيث يحتاج إلى مجاهدة في دفعه ، فيكون الوسوسة موجودة ، ولكنها مدفوعة غير غالبة.

الصنف الثالث : أن يكون وسواسه بمجرد الخواطر وتذكر الأحوال الغائبة والتفكر في الصلاة في غير أمر الصلاة مثلا ، فإذا أقبل على الذكر تصور أن يندفع ويعود ويعاقب الذكر والوسوسة ، وتصور أن يتساوقا جميعا حتى يكون الفهم مشتملا على فهم معنى القراءة ، وعلى تلك الخواطر كأنهما في موضعين من القلب وبعيد جدا أن يندفع هذا الخنس بالكلية بحيث لا يخطر ، ولكنه ليس محالا إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من صلى ركعتين لم يحدث فيهما بشيء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فلو لا أنه متصور لما ذكره ، إلا أنه لا يتصور ذلك إلا في قلب استولى عليه الحب حتى صار كالمستهتر ولكن ذلك عزيز.

ثم قال : اعلم أن القلب كما ذكرناه مكتنفة بالصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب ، فإذا أصابه شيء وتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فيغير وصفه ، فإن نزل الشيطان به ودعاه إلى الهوي والتفت القلب إليه نزل الملك به وصرفه عنه ، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره ، وإن جذبه ملك إلى خير جذبه ملك آخر إلى غيره ، فتارة يكون متنازعا بين ملكين ، وتارة بين شيطانين وتارة بين ملك وشيطان ، ولا يكون قط مهملا ، وإليه الإشارة بقوله

٢٧٦

______________________________________________________

تعالى : « وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ » (١).

ولاطلاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عظيم صنع الله في عجائب القلب وتقلبه كان يحلف به وكان يقول : ولا مقلب القلوب ، وكان كثيرا ما يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، قالوا : أو تخاف يا رسول الله؟ فقال : وما يؤمنني والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ، وفي لفظ آخر : إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ، وضرب له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أمثلة فقال : مثل القلب مثل العصفور تنقلب في كل ساعة ، وقال : مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استحمت غليانا وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مثل القلب كمثل ريشة في أرض فلاة تقلبها الرياح ظهر البطن ، وهذه التقلبات من عظيم صنع الله في تقليبه من حيث لا يهتدى إليه ، لا يعرفه إلا المراقبون لقلوبهم ، والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى ، والقلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما ثلاثة ، قلب عمر بالتقوى وزكى بالرياضة ، وطهر من خبائث الأخلاق ، فينقدح فيه خواطر الخير من خزائن الغيب ، ومداخل الملكوت ، فيتصرف العقل إلى التفكر فيما خطر ليعرف دقائق الخير فيه ، ويطلع على أسرار فوائده ، فينكشف له بنور البصيرة وجهه ، فيحكم بأنه لا بد من فعله ، ويستحث عليه ، ويدعو إلى العمل به ، فينظر الملك إلى القلب فيجده طيبا في جوهره ، طاهرا بتقواه مشيرا بضياء العقل ، معمورا بأنوار المعرفة ، ويراه صالحا لأن يكون مستقرا له ، فعند ذلك يمده بجنود لا ترى ويهديه إلى خيرات أخرى حتى ينجر الخير إلى الخير.

وكذلك على الدوام لا يتناهى إمداده بالترغيب في الخير ويتيسر الأمر عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى : « فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى » (٢) وفي مثل هذا القلب يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية حتى لا

__________________

(١) سورة الأنعام : ١١٠.

(٢) سورة الليل : ٦.

٢٧٧

______________________________________________________

يخفى فيه الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء ، ولا تخفى على هذا النور خافية ، ولا يروج عليه شيء من مكائد الشيطان ، بل يقف عليه الشيطان ويوحي زخرف القول غرورا ، ولا يلتفت إليه.

وهذا القلب بعد طهارته من المهلكات يصير على القرب معمورا بالمنجيات من الشكر والصبر والخوف والرجاء والزهد والمحبة والرضا والتوكل والتفكر والمحاسبة والمراقبة وأمثالها.

وهو القلب الذي أقبل الله تعالى عليه بوجهه ، وهو القلب المطمئن المراد بقوله تعالى : « أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » (١) وبقوله عز وجل : « يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ » (٢).

القلب الثاني : القلب المخذول المشحون بالهوى ، المدنس بالخبائث الملوث بالأخلاق الذميمة ، المفتحة فيه أبواب الشياطين ، المسدودة عنه أبواب الملائكة ومبدء الشر فيه أن ينقدح فيه خاطر من الهوى ويهجس فيه ، فينظر القلب إلى حاكم العقل ليستغني عنه ، ويستكشف وجه الصواب فيه فيكون العقل قد ألف خدمة الهوى فأنس به ، واستمر على استنباط الحيل له في موافقة الهوى ومساعدته ، فيسول النفس له ويساعده عليه ، فينشرح الصدر بالهوى وينبسط فيه ظلماته لانخناس جند العقل عن مدافعته فيقوي سلطان الشيطان لاتساع مكانه بسبب انتشار الهوى ، فيقبل عليه بالتزيين والغرور والأماني ، ويوحى بذلك زخرف القول غرورا ، فيضعف سلطان الإيمان بالوعد والوعيد ، ويخبو نور اليقين بخوف الآخرة أن يتصاعد من الهوى دخان مظلم إلى القلب يملأ حواسه حتى تنطفي أنواره فيصير العقل كالعين التي ملأ الدخان أجفانها ، فلا يقدر على أن تنظر وهكذا تفعل غلبة

__________________

(١) سورة الرعد : ٢٨.

(٢) سورة الفجر : ٢٨.

٢٧٨

______________________________________________________

الشهوة في القلب حتى لا يبقى للقلب إمكان التوقف والاستبصار ، ولو بصره واعظ وأسمعه ما هو الحق فيه عمى عن الفهم ، وصم عن السمع ، وهاجت الشهوة ونشط الشيطان وتحركت الجوارح على وفق الهوى ، وظهرت المعصية إلى عالم الشهادة من خزائن الغيب بقضاء من الله وقدره.

وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله تعالى : « أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً » (١) وبقوله عز وجل : « لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » (٢) إلى قوله : « أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » ورب قلب هذا حاله بالإضافة إلى جميع الشهوات ، ورب قلب هذا حاله بالإضافة إلى بعض الشهوات ، كالذي يتورع عن بعض الأشياء ولكنه إذا رأى وجها حسنا لا يملك عينه وقلبه وطاش عقله وسقط مساك قلبه ، أو كالذي لا يملك لنفسه عند الغضب مهما استحقر وأذكر عيب من عيوبه ، أو كالذي لا يملك نفسه عند القدرة على أخذ درهم أو دينار بل يتهالك عليه تهالك الواله المستهتر فتنسرح منه المروة والتقوى.

وكل ذلك لتصاعد دخان الهوي إلى القلب حتى يظلم وينطفئ منه أنوار البصيرة ، فينطفي منه نور الحياة والمروة والإيمان ، ويسعى في تحصيل مراد الشيطان.

القلب الثالث : قلب يبتدأ فيه خواطر الهوى ، فيدعوه إلى الشر فيلحقه خاطر الإيمان ، فيدعوه إلى الخير فتنبعث النفس بشهواتها إلى نصرة خاطر الشر وتحس التمتع والتنعم فينبعث العقل إلى خاطر الخير ، ويدفع في وجه الشهوة ويقبح فعلها وينسبها إلى الجهل ، ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر ، وقلة اكتراثها بالعواقب.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٤٤.

(٢) سورة يس : ٧.

٢٧٩

______________________________________________________

فتميل النفس إلى نصح العقل ، فيحمل الشيطان حملة على العقل ويقوي داعية الهوى ويقول ما هذا التحرج البارد ، ولم تمتنع عن هواك فتؤذى نفسك ، وهل ترى أحدا من أهل عصرك يخالف هواه أو يترك غرضه؟ أفتترك ملاذ الدنيا لهم فيتمتعون فيها ، وتحجر على نفسك فتبقى محروما شقيا متعوبا يضحك عليك أهل الزمان ، أتريد أن يزيد منصبك على فلان وفلان وقد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يمتنعوا ، أما ترى العالم الفلاني ليس يحترز عن فعل ذلك ولو كان شرا لامتنع عنه فتميل النفس إلى الشيطان وتنقلب إليه فيحمل الملك حملة على الشيطان فيقول هل هلك إلا من اتبع لذة الحال ونسي العاقبة أفتقنع بلذة يسيرة وتترك لذة الجنة ونعيمها أبد الآباد؟ أم تستثقل ألم الصبر عن شهوة ولا تستثقل ألم النار؟ أتغتر بغفلة الناس عن أنفسهم واتباعهم هواهم ومساعدتهم الشيطان؟ مع أن عذاب النار لا يخفف عنك بمعصية غيرك؟ أرأيت لو كنت في صيف ووقف الناس كلهم في الشمس وكان لك بيت بارد أكنت تساعد الناس أم تطلب لنفسك الخلاص فكيف تخالف الناس خوفا من حر الشمس ولا تخالفهم خوفا من حر النار.

فعند ذلك تميل النفس إلى قول الملك ، فلا يزال القلب يتردد بين الجندين متجاذبا بين الحزبين إلى أن يغلب على القلب من هو أولى به فإن كانت الصفات التي في القلب الغالب عليها الصفات الشيطانية التي ذكرناها غلبه الشيطان ومال القلب إلى جنسه من أحزاب الشياطين ، معرضا عن حزب الله تعالى وأوليائه ومساعدا لحزب الشيطان وأوليائه ، وجرى على جوارحه بسابق القدر ما هو سبب بعده عن الله تعالى.

وإن كان الغالب على القلب الصفات الملكية لم يصغ القلب إلى إغواء الشيطان وتحريضه إياه على العاجلة وتهوينه أمر الآجلة ، بل مال إلى حزب الله تعالى وظهرت الطاعة بموجب ما سبق من القضاء على جوارحه.

٢٨٠