مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

______________________________________________________

وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، أي بين تجاذب هذين الحزبين وهو الغالب على القلوب أعني التقلب والانتقال من حزب إلى حزب ، أما الثبات على الدوام مع حزب الملائكة أو حزب الشيطان فنادر من الجانبين ، وهذه الطاعات والمعاصي تظهر من خزائن العلم إلى عالم الشهادة بواسطة خزائن القلب ، فإنه من خزائن الملكوت وهي إذا ظهرت كانت علامات تعرف أرباب القلوب سابق القضاء ، فمن خلق للجنة يسرت له الطاعة وأسبابها ، ومن خلق للنار يسرت له أسباب المعصية وسلط عليه أقران السوء وألقي في قلبه حكم الشيطان.

فإنه بأنواع الحكم يغره الحمقى كقوله : الله تعالى رحيم فلا تبال ، وإن الناس كلهم ما يخافون الله فلا تخالفهم فإن العمر طويل فاصبر حتى تتوب غدا يعدهم بالتوبة ويمنيهم بالمغفرة فيهلكهم ، وبهذه الحيل وما يجري مجراها يوسع قلبه لقبول الغرور ويضيقه عن قبول الحق ، إلى آخر ما ذكره مما يوافق مذهب الأشاعرة ، ولسنا نقول به والله يحق الحق وهو يهدي إلى السبيل.

وأما ما ذكره من المؤاخذة على حكم القلب إذا كان اختياريا ، وعلى الهم والعزم إذا كان الصارف غير خوف الله تعالى فهما مخالفان للأخبار المعتبرة فإنها تدل على عدم المؤاخذة مع ترك الفعل مطلقا ، وما استدل به على الأخير فهي أخبار عامية لا تعارض الأخبار المعتبرة ، ويمكن حمل الخبر الأول على أن كتابة الحسنة موقوفة على أن يكون الترك لله وأخبارنا إنما تدل على عدم كتابة السيئة وليس فيها كتابة الحسنة فلا تنافي ، والخبر الثاني غير صريح في المقصود ، والتمثيل الذي ذكره في محل المنع ، والخبر الثالث يمكن أن يكون المراد به الإرادة مع سل السيف والتوجه إلى القاتل والحملة عليه ، بل الإعانة على نفسه ، وسيأتي بعض القول في أصل المطلب آنفا إن شاء الله تعالى.

٢٨١

باب

الاعتراف بالذنوب والندم عليها

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن علي الأحمسي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال والله ما ينجو من الذنب إلا من أقر به.

______________________________________________________

باب الاعتراف بالذنوب والندم عليها

الحديث الأول : مجهول.

« ما ينجو من الذنب » أي من أصل الذنب في الدنيا أو من عقوبته في الدارين إلا من أقر بأنه ذنب فإن من أنكر كونه ذنبا وكان مستحلا له فهو كافر لا يتوب ، ولا يستحق العفو ، ولو كان المراد بالإقرار التوبة فيمكن أن يحمل على النجاة الكاملة أو النجاة قطعا واستحقاقا ، لأنه مع عدم التوبة هو في مشية الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ، فلا ينافي الحصر ويمكن حمله على ما دل عليه الخبر الخامس : وكفى بالندم توبة ، ظاهره الاكتفاء بالندم في التوبة ، ولا يشترط فيه العزم على الترك في المستقبل ، وهو خلاف المشهور وسائر الأخبار إلا أن يحمل على الندم الكامل ، وهو مستلزم للعزم المذكور.

وقيل : إن الله تعالى خلق القلب قابلا للمخاطرات الحسنة والمخاطرات القبيحة والأولى من الملك والثانية من الشيطان ، ثم الثانية إذا أثرت في القلب حصل فيه شوق إلى الذنب وهو يوجب العزم والعزم يوجب تحرك القدرة والقوة إليه ، وتحرك القدرة يوجب تحرك الأعضاء إليه فيصدر منه الذنب ، وإذا أخذت بيده العناية الأزلية وأثرت فيه المخاطرات الحسنة وتحرك حصل له علم بأن الذنوب سموم مهلكة حصل له شوق إلى قرب المبدأ والرجوع إليه ، وزال عنه الشوق إلى الذنب ، فتحصل له ندامة عما كان فيه ، وهو المسمى بالتوبة ، فإذا زال الشوق إلى

٢٨٢

قال وقال أبو جعفر عليه‌السلام كفى بالندم توبة.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال عمن ذكره ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لا والله ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين أن يقروا له بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عمرو بن عثمان ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول إن الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنة

______________________________________________________

الذنب وحصلت له الندامة زال العزم عليه ، ومتى زال العزم زال تحرك القوة فيزول تحرك الأعضاء لأن المسببات تزول بزوال أسبابها ، كما يشعر به قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا الباب : أن الندم على الذنب يدعو إلى تركه ، فمعنى قوله عليه‌السلام : كفى بالندم توبة ، أنه إذا حصل الندم حصلت التوبة والرجوع إلى الله تعالى بالإقلاع عن الذنوب والخروج منه لأنه أصل له ، وسبب مؤد إليه ، ولم يرد أن مجرد الندم من دون كف النفس عن الذنوب كاف في الرجوع إليه إذ ليس مجرد ذلك توبة وندامة ، بل هو شبيه بالاستهزاء ، نعم الندامة المفضية إلى ترك الذنوب توبة وإن لم يستغفر منه.

الحديث الثاني : مرسل ، والمراد بالإقرار بالنعم معرفة المنعم وقدر نعمته وأنها منه تفضلا ، وهو شكر والشكر يوجب الزيادة لقوله تعالى : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » (١) وبالإقرار بالذنوب الإقرار بها مجملا ومفصلا ، وهو ندامة منها ، والندامة توبة ، والتوبة توجب غفران الذنوب ، ويمكن أن يكون الحصر حقيقيا إذ يمكن إدخال كلما أراد الله فيهما ، وقوله : لا والله ، رد على المدعين للصلاح المغترين بأعمالهم الذاهلين عن شرائط القبول وأسباب الوصول.

الحديث الثالث : كالسابق سندا ومؤيدا له متنا ، ويدل على أن الذنب

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٧.

٢٨٣

قلت يدخله الله بالذنب الجنة قال نعم إنه ليذنب فلا يزال منه خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه‌الله فيدخله الجنة.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن معاوية بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إنه والله ما خرج عبد من ذنب بإصرار وما خرج عبد من ذنب إلا بإقرار.

٥ ـ الحسين بن محمد ، عن محمد بن عمران بن الحجاج السبيعي ، عن محمد بن وليد ، عن يونس بن يعقوب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول من أذنب ذنبا فعلم أن الله مطلع عليه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له غفر له وإن لم يستغفر.

______________________________________________________

الذي يوجب الخضوع والتذلل خير من الطاعة التي توجب العجب والتدلل.

الحديث الرابع : ضعيف على المشهور صحيح عندي.

« من ذنب » أي من أثره واستحقاق العقوبة بسببه « بإصرار » الباء للملابسة والظرف صفة للذنب ، والباء في قوله : بإقرار ، للملابسة أو السببية ، وعلى الأول تقديره إلا ذنب بإقرار ، وعلى الثاني بشيء إلا بإقرار ، والإصرار إما فعلي وهو المواظبة على نوع ذلك الذنب أو مطلقا ، أو حكمي وهو العزم على فعله ثانيا وإن لم يفعل كما صرح به بعض الأصحاب ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله ، وهو محمول على الخروج على سبيل القطع والاستحقاق كما مر.

الحديث الخامس : مجهول.

« فعلم أن الله مطلع عليه » لعل المراد الذي يؤثر في النفس ويثمر العمل ، وإلا فكل مسلم يقر بهذه الأمور ، ومن أنكر شيئا من ذلك فهو كافر ، ومن داوم على مراقبة هذه الأمور وتفكر فيها تفكرا صحيحا لا يصدر منه ذنب إلا نادرا ولو صدر منه يكون بعده نادما خائفا فهو تائب حقيقة وإن لم يستغفر باللسان ، ولو عاد إلى الذنب مكررا لغلبة الشهوة عليه ، ثم يصير خائفا مشفقا لائما نفسه فهو مفتن تواب.

٢٨٤

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن علي ، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي هاشم ، عن عنبسة العابد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله يحب العبد أن يطلب إليه في الجرم العظيم ويبغض العبد أن يستخف بالجرم اليسير.

٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن إسماعيل بن سهل ، عن حماد ، عن ربعي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : إن الندم على الشر يدعو إلى تركه.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن علي بن الحسين الدقاق ، عن عبد الله بن محمد ، عن أحمد بن عمر ، عن زيد القتات ، عن أبان بن تغلب قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ما من عبد أذنب ذنبا فندم عليه إلا غفر الله له قبل أن يستغفر وما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف أنها من عند الله إلا غفر الله له قبل أن يحمده.

______________________________________________________

الحديث السادس : ضعيف.

« أن يطلب » أي بأن يطلب أو هو بدل اشتمال للعبد ، وتعدية الطلب بإلى لتضمين معنى التوجه ونحوه.

الحديث السابع : ضعيف.

« إن الندم على الشر » أي الندامة بعد الفعل وإن لم يكن مع العزم على الترك يدعو إلى التوبة والعزم على الترك بالكلية.

الحديث الثامن : مجهول.

« إلا غفر الله له قبل أن يحمده » الأنسب بالجزء الثاني إلا زاد الله له أو حكم له بالزيادة له.

٢٨٥

باب ستر الذنوب

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن علي ، عن العباس مولى الرضا عليه‌السلام قال سمعته عليه‌السلام يقول المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور له.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن صندل ، عن ياسر ، عن اليسع بن حمزة ، عن الرضا عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له.

______________________________________________________

باب ستر الذنب

الحديث الأول : ضعيف.

« مولى الرضا عليه‌السلام » أي كان من شيعته أو ممن أعتقه ويقال المولى أيضا لمن التحق بقبيلة ولم يكن منهم و « المستتر » على بناء الفاعل ، والباء للتعدية و « يعدل » على بناء المجرد ، وفي الأول تقدير أي فعل المستتر وسيأتي في كتاب الزكاة تعدل سبعين حجة ، وقيل : الباء للمصاحبة مثل « اهْبِطْ بِسَلامٍ » (١) « وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ » (٢) « فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ » ويعدل على بناء التفعيل أي يسوي ويحصل « والمذيع بالسيئة » لعدم المبالاة بالشرع ولقلة الحياء « مخذول » يسلب عنه التوفيق « والمستتر بها » أي بالسيئة حياءا لا نفاقا « مغفور له » ويدل الخبر على أن إخفاء الطاعات أحسن من إظهارها لبعدها من الرياء والسمعة ، وقيل : إظهارها أفضل وقيل : بالتفصيل بأن في الواجبات الإظهار أفضل لعدم التهمة ، وفي المستحبات الإخفاء أفضل ، وقد يفصل بوجه آخر وهو أنه إن كان مأمونا من الرياء والسمعة ، فالإظهار أفضل لأنه يصير سببا لتأسي الغير به وعدم التهمة ، وإلا فالإخفاء أفضل وقد مر القول فيه.

الحديث الثاني : مجهول.

__________________

(١) سورة هود : ٤٨.

(٢) سورة المائدة : ٦١.

٢٨٦

باب

من يهم بالحسنة أو السيئة

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن حديد ، عن جميل بن دراج ، عن زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال إن الله تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا

______________________________________________________

باب من يهم بالحسنة أو السيئة

الحديث الأول : ضعيف.

ويدل على أنه لا مؤاخذة على قصد المعاصي إذا لم يعمل بها ، وهو يحتمل وجهين ، الأول : أن تكون سيئة ضعيفة يكفرها تركها ، الثاني : أن لا يكون القصد متصفا بالحسن والقبح أصلا كما ذهب إليه جماعة ، والأول أظهر ، نعم لو كان بمحض الخطور بدون اختياره لا يتعلق به التكليف وقد مر تفصيل ذلك في باب أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن ، وفي باب الوسوسة.

وقال المحقق الطوسي قدس‌سره في التجريد : إرادة القبيح قبيحة وتفصيله أن ما في النفس ثلاثة أقسام : الأول : الخطرات التي لا تقصد ولا تستقر وقد مر أن لا مؤاخذة بها ولا خلاف فيه بين الأمة ظاهرا ، والثاني : الهم وهو حديث النفس اختيارا أن تفعل شيئا أو أن لا تفعل فإن كان ذلك حسنة كتبت له حسنة واحدة ، فإن فعلها كتبت له عشر حسنات ، وإن كانت سيئة لم تكتب عليه ، فإن فعلها كتبت عليه سيئة واحدة ، كل ذلك مقتضى أحاديث هذا الباب ، وكأنه لا خلاف فيه أيضا بين الأمة إلا أن بعض العامة صرح بأن هذه الكرامة مختصة بهذه الأمة ، وظاهر هذا الخبر أنها كانت في الأمم السابقة أيضا.

الثالث : العزم وهو التصميم وتوطين النفس على الفعل أو الترك ، وقد اختلفوا فيه ، فقال أكثر الأصحاب : أنه لا يؤاخذ به لظاهر هذه الأخبار ، وقال أكثر العامة

٢٨٧

ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه سيئة ومن هم بها وعملها كتبت عليه سيئة.

______________________________________________________

والمتكلمين والمحدثين أنه يؤاخذ به لكن بسيئة العزم لا بسيئة المعزوم عليه ، لأنها لم تفعل فإن فعلت كتبت سيئة ثانية لقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » (١) وقوله : « اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ » (٢).

ولكثرة الأخبار الدالة على حرمة الحسد واحتقار الناس وإرادة المكروه بهم ، وحملوا الأحاديث الدالة على عدم المؤاخذة على الهم.

والمنكرون أجابوا عن الآيتين بأنهما مخصصات بإظهار الفاحشة والمظنون كما هو الظاهر من سياقهما ، وعن الثالث أن العزم المختلف فيه ماله صورة في الخارج كالزنا وشرب الخمر ، وأما ما لا صورة له في الخارج كالاعتقاديات وخبائث النفس مثل الحسد وغيره فليس من صور محل الخلاف ، فلا حجة فيه على ما نحن فيه ، وأما احتقار الناس وإرادة المكروه بهم فإظهارهما حرام يؤاخذه به ولا نزاع فيه ، وبدونه أول المسألة.

ثم الظاهر أنه لا فرق في قوله : ومن هم بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه بين أن يعملها خوفا من الله أو خوفا من الناس وصونا لعرضه.

ثم إن عشر أمثال الحسنة مضمونة البتة لدلالة نص القرآن عليه ، وإن الله قد يضاعف لمن يشاء إلى سبعمائة ضعف ، كما جاء في بعض الأخبار ، وإلى ما لا حساب له كما قال سبحانه : « إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ » (٣).

ثم اعلم أن الظاهر أن عدم المؤاخذة بإرادة المعصية إنما هو للمؤمنين فلا ينافي ما مر مرويا عن الصادق عليه‌السلام أنه إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم

__________________

(١) سورة النور : ١٩.

(٢) سورة الحجرات : ١٢.

(٣) سورة الزمر : ١٠.

٢٨٨

______________________________________________________

كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا ، ولو سلم العموم فإنما يعفى عنه إذا بقي زمانا عزم على فعله في ذلك الزمان ولم يفعل ، وفي الكافر ليس كذلك لأنه لم يبق الزمان الذي عزم على الفعل فيه.

فإن قيل : لعله كان لو بقي في أزمنة الأبد عاد ولم يفعل؟

قلنا : يعلم الله خلاف ذلك منهم ، لقوله سبحانه : « وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ » (١) وقد يجاب بأنه لا منافاة بينهما ، إذ دل أحدهما على عدم المؤاخذة بنية المعصية إذا لم يفعلها ، ودل الآخر على المؤاخذة بنية المعصية إذا فعلها ، فإن المنوي كالكفر واستمراره مثلا موجود في الخارج ، فهذه النية ليست داخلة في النية بالسيئة التي لم يعملها ، واعترض عليه بأن المعصية ليست سببا للخلود على ما يفهم من الحديث المذكور ، لكونها في زمان منقطع محصور هو مدة العمر ، كذلك نيتها لأنها تنقطع أيضا عند انقطاع العمر لدلالة الآيات والروايات على ندامة العاصي عند الموت ، ومشاهدة أحوال الآخرة فينبغي أن يكون ناويها في النار بقدر كونها في الدنيا لا مخلدا.

فأجيب أولا : بأن هذه النية موجبة للخلود لدلالة الحديث عليه بلا معارض ، فوجب التسليم والقبول ، وثانيا : بأن صاحبها في هذه الدنيا التي هي دار التكليف لم يفعل شيئا يوجب نجاته من النار ، وندامته بعد الموت لا تنفع لانقطاع زمان التكليف ، وثالثا : أن سبب الخلود ليس ذات المعصية ونيتها من حيث هي بل هو المعصية ونيتها على فرض البقاء أبدا ، ولا ريب في أنها معصية أبدية موجبة للخلود أبدا انتهى.

وأقول : لا يخفى ما في الجميع من الوهن والضعف ، وقد مر بعض القول منا فيه في باب النية ، وقال الشهيد رفع الله درجته في القواعد : لا يؤثر نية المعصية

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢٨.

٢٨٩

______________________________________________________

عقابا ولا ذما ما لم يتلبس بها ، وهو مما ثبت في الأخبار العفو عنه ، ولو نوى المعصية وتلبس بما يراه معصية ، فظهر خلافها ففي تأثير هذه النية نظر من حيث إنها لم تصادف المعصية فقد صارت كنية مجردة وهي غير مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاكه الحرمة وجرأته على المعاصي ، وقد ذكر بعض الأصحاب أنه لو شرب المباح مشتبها بشراب المسكر فعل حراما ، ولعله ليس لمجرد النية بل بانضمام فعل الجوارح إليها.

ويتصور محل النظر في صور : منها : ما لو وجد امرأته في منزل غيره فظنها أجنبية فأصابها فتيقن أنها زوجته أو أمته ، ومنها : ما لو وطئ زوجته فظنها حائضا فبان طاهرا ، ومنها : لو هجم على طعام بيد غيره فأكل منه فتبين ملك الآكل ومنها : لو ذبح شاة فظنها للغير بقصد العدوان فظهرت ملكه ، ومنها : إذا قتل نفسا بظنها معصومة فبانت مهدورة.

وقد قال بعض العامة : يحكم بفسق متعاطي الملك لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ويعاقب في الآخرة ما لم يتب عقابا متوسطا بين عقاب الكبيرة والصغيرة ، وكل منهما تحكم وتخرص على الغيب ، انتهى.

وقال شيخنا البهائي قدس‌سره في بعض تعليقاته على الكتاب المذكور : قوله لا يؤثر نية المعصية عقابا ولا ذما إلى آخره ، وغرضه طاب ثراه أن نية المعصية وإن كانت معصية إلا أنه لما وردت الأخبار بالعفو عنها لم يترتب على فعلها عقاب ولا ذم وإن ترتب استحقاقهما ، ولم يرد أن قصد المعصية والعزم على فعلها غير محرم كما يتبادر إلى بعض الأوهام ، حتى لو قصد الإفطار مثلا في شهر رمضان ولم يفطر لم يكن آثما ، كيف والمصنف مصرح في كتب الفروع بتأثيمه.

والحاصل أن تحريم العزم على المعصية مما لا ريب فيه عندنا وكذا عند العامة وكتب الفريقين من التفاسير وغيرها مشحونة بذلك ، بل هو من ضروريات الدين

٢٩٠

______________________________________________________

ولا بأس بنقل شيء من كلام الخاصة والعامة في هذا الباب ليرتفع به جلباب الارتياب : في الجوامع عند تفسير قوله تعالى : « إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً » (١) يقال : للإنسان لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه؟ ولم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه؟ انتهى.

وكلامه رحمه‌الله في مجمع البيان قريب من كلامه هذا.

وقال البيضاوي وغيره من علماء العامة عند تفسير هذه الآية : فيها دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية ، انتهى.

وعبارة الكشاف موافقة لعبارة الطبرسي ، وكذا عبارة التفسير الكبير للفخر وقال السيد المرتضى علم الهدى أنار الله برهانه في كتاب تنزيه الأنبياء عند ذكر قوله تعالى : « إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما » (٢) إنما أراد تعالى أن الفشل خطر ببالهم ولو كان الهم في هذا المكان عزما لما كان وليهما ، ثم قال : وإرادة المعصية والعزم عليها معصية ، وقد تجاوز قوم حتى قالوا العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الكفر كفرا ، انتهى كلامه نور الله مرقده.

وكلام صاحب الكشاف في تفسير هذه الآية مطابق لكلامه طاب ثراه ، وكذا كلام البيضاوي وغيره ، وأيضا فقد صرح الفقهاء بأن الإصرار على الصغائر الذي هو معدود من الكبائر إما فعلي وهو المداومة على الصغائر بلا توبة ، وإما حكمي وهو العزم على فعل الصغائر متى تمكن منها ، وبالجملة فتصريحات المفسرين والفقهاء والأصوليين بهذا المطلب أزيد من أن يحصى ، والخوض فيه من قبيل توضيح الواضحات ومن تصفح كتب الخاصة والعامة لا يعتريه ريب فيما تلوناه.

فإن قلت : قد ورد عن أئمتنا عليهم‌السلام أخبار كثيرة وتشعر بأن العزم على المعصية

__________________

(١) سورة الإسراء : ٣٦.

(٢) سورة آل عمران : ١٢٢.

٢٩١

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن المؤمن ليهم بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات وإن المؤمن ليهم بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه.

٣ ـ عنه ، عن علي بن حفص العوسي ، عن علي بن السائح ، عن عبد الله بن

______________________________________________________

ليس معصية ثم ذكر هذا الخبر والذي بعده ثم قال : والأحاديث الواردة في الكافي وغيره بهذا المضمون كثيرة؟

قلت : لا دلالة في تلك الأحاديث على ما ظننت من أن العزم على المعصية ليس معصية ، وإنما دلت على أن من عزم على معصية كشرب الخمر أو الزنا مثلا ولم يعملها لم يكتب عليه تلك المعصية التي عزم عليها وأين هذا عن المعنى الذي ظننته؟

قوله : فهو غير مؤاخذ بها ، أي غير معاقب عليها لأنها معفو عنها ، قوله : منها لو وجد امرأته « إلخ » عد بعضهم من هذه الصور ما لو صلى في ثوب يظن أنه حرير أو مغصوب عالما بالحكم فظهر بعد الصلاة أنه ممزوج أو مباح ، وفرع على ذلك التردد في بطلان صلاته ، والأولى عدم التردد في بطلانها ، نعم يتمشى صحتها عند القائل بعدم دلالة النهي في العبادة على الفساد.

قوله : وكلاهما ، أي الحكم بفسق متعاطي ذلك وبعقابه عقابا متوسطا قول بلا دليل ، وفيه : أن دليل الأول مذكور وسيما على القول بأن العزم على الكبيرة كبيرة فتأمل.

قوله : وتخرص بالخاء المعجمة والصاد المهملة ، أي كذب وتخمين باطل ، انتهى.

الحديث الثاني : موثق.

الحديث الثالث : مجهول.

٢٩٢

موسى بن جعفر ، عن أبيه قال سألته عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله أو الحسنة فقال ريح الكنيف وريح الطيب سواء قلت لا قال إن العبد إذا هم بالحسنة خرج نفسه طيب الريح فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال قم فإنه قد هم بالحسنة فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده فأثبتها له وإذا هم بالسيئة خرج نفسه منتن الريح فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين قف فإنه قد هم بالسيئة فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده وأثبتها عليه.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن فضل بن عثمان المرادي قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك يهم العبد بالحسنة فيعملها فإن هو

______________________________________________________

والطيب بفتح الطاء وتشديد الياء أو بكسر الطاء ، وكان هذان ريحان معنويان يجدهما الملائكة لصاحب الشمال « قم » أي أبعد عنه ليس لك شغل به ، أو كناية عن التوقف وعدم الكتابة كما أن في بعض النسخ قف ، وقول صاحب الشمال قف بهذا المعنى ، أو إشارة إلى أن صاحب اليمين يكتب له في كل نفس حسنة ما لم يفعل السيئة أو يهم بها وعدم ذكر كتابة الحسنة مع عدم الفعل على الأول لا يدل على العدم ولا ينافي سائر الأخبار ، ويدل على أن الملك جسم كما اتفق عليه المسلمون.

الحديث الرابع : صحيح.

وأربع مبتدأ والموصول بصلته خبر ، وتأنيث الأربع باعتبار الخصال أو الكلمات ، وقد يكون المبتدأ نكرة إذا كان مفيدا وقيل : في قول الشاعر :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر

ثلاثة خبر وشمس مبتدأ ، ولا يخفى أنه لا يناسب هذا المقام ، وقيل في الشعر : ثلاثة مبتدأ وخبره محذوف أي لنا ثلاثة وشمس بدل ثلاثة ومن اسم موصول

٢٩٣

لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيته وإن هو عملها كتب الله له عشرا ويهم بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن هو عملها أجل سبع ساعات وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها فإن الله عز وجل يقول « إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ » (١) أو الاستغفار فإن هو قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذا الجلال والإكرام وأتوب إليه لم يكتب عليه شيء

______________________________________________________

مبتدأ فله عائدان الأول ضمير فيه ، والثاني المستتر في لم يهلك ، وهذا المستتر منه لقوله : إلا هالك ، لأن مرجعه من ألفاظ العموم ، وليس إلا هالك استثناء مفرغا والمراد بمن كن فيه أن يكون مؤمنا مستحقا لهذه الخصال ، فإن هذه الخصال ليست في غير المؤمن كما عرفت ، وقيل : معنى كن فيه أن يكون معلوما له ، وما ذكرنا أظهر.

واعلم أن الهلاك في قوله : يهلك بمعنى الخسران واستحقاق العقاب وفي قوله : هالك بمعنى الضلال والشقاوة الجبلية ، وتعديته بكلمة على إما بتضمين معنى الورود ، أي لم يهلك حين وروده على الله ، أو معنى الاجتراء أي مجترئا على الله ، أو معنى العلو والرفعة كان من يعصيه تعالى يترفع عليه ويخاصمه ، ويحتمل أن يكون على بمعنى في ، نحوه في قوله تعالى : « عَلى حِينِ غَفْلَةٍ » (٢) أي في معرفته وأوامره ونواهيه ، أو بمعنى من بتضمين معنى الخبيثة كما في قوله تعالى : « إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ » (٣) أو بمعنى عن بتضمين معنى المجاوزة ، أو بمعنى مع أي حالكونه معه ومع ما هو عليه من اللطف والعناية كما قيل في قوله سبحانه : « وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ » (٤) وجملة بهم إلى آخره استيناف بياني.

__________________

(١) سورة هود : ١١٥.

(٢) سورة القصص : ١٥.

(٣) سورة المطفّفين : ٢.

(٤) سورة الدخان : ٣٢.

٢٩٤

وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة واستغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات اكتب على الشقي المحروم.

باب التوبة

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إذا تاب العبد « تَوْبَةً نَصُوحاً »

______________________________________________________

وقوله : فيعملها بالفاء السببية لتضمن ما قبله معنى الترجي ، وقوله : أن يعملها بدل اشتمال للسيئة ، أو هو بتقدير لأن يعملها وقوله : فإن الله ، كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو من تتمة كلام الملك أو الاستغفار مجرور معطوف على قوله حسنة ، وقوله : فإن قال بيان لأفضل أفراد الاستغفار وليس الغرض الانحصار.

باب التوبة

الحديث الأول : صحيح.

وقال في النهاية في حديث أبي : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التوبة النصوح فقال : هي الخالصة التي لا يعاود بعدها الذنب ، وفعول من أبنية المبالغة يقع على الذكر والأنثى ، فكأن الإنسان بالغ في نصح نفسه بها.

وقال الشيخ البهائي قدس‌سره : قد ذكر المفسرون في معنى التوبة النصوح وجوها : منها : أن المراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها لظهور آثارها الجميلة في صاحبها أو تنصح صاحبها فيقلع عن الذنوب ثم لا يعود إليها أبدا.

ومنها : أن النصوح ما كانت خالصة لوجه الله سبحانه من قولهم عسل نصوح إذا كان خالصا من الشمع بأن يندم على الذنوب لقبحها أو كونها خلاف رضا الله سبحانه لا لخوف النار مثلا ، وقد حكم المحقق الطوسي طاب ثراه في التجريد بأن الندم على الذنوب خوفا من النار ليس توبة.

٢٩٥

أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة فقلت وكيف يستر عليه قال ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ويوحي

______________________________________________________

ومنها : أن النصوح من النصاحة وهي الخياطة لأنها تنصح من الدين ما مزقته الذنوب أو يجمع بين التائب وبين أولياء الله وأحبائه كما تجمع الخياطة بين قطع الثوب.

ومنها : أن النصوح وصف للتائب وإسناده إلى التوبة من قبيل الإسناد المجازي أي توبة ينصحون بها أنفسهم بأن يأتوا بها على أكمل ما ينبغي أن تكون عليه حتى تكون قالعة لآثار الذنوب من القلوب بالكلية ، وذلك بإذابة النفس بالحسرات ، ومحو ظلمة السيئات بنور الحسنات.

روى الشيخ الطبرسي عند تفسير هذه الآية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أن التوبة تجمعها ستة أشياء ، على الماضي من الذنوب الندامة ، وللفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تعزم على أن لا تعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي.

وأورد السيد الرضي رضي‌الله‌عنه في كتاب نهج البلاغة أن قائلا قال بحضرته : أستغفر الله ، فقال له : ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إن الاستغفار درجة العليين ، وهو اسم واقع على ستة معان أولها : الندم على ما مضى ، الثاني : العزم على ترك العود إليه أبدا ، الثالث : أن يؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة ، الرابع : أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها ، الخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد باللحم ، وينشأ بينهما لحم جديد ، السادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

وفي كلام بعض الأكابر أنه لا يكفي في جلاء المرآة قطع الأنفاس والأبخرة المسودة لوجهها ، بل لا بد من تصقيلها وإزالة ما حصل في جرمها من السواد ،

٢٩٦

إلى بقاع الأرض اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب.

______________________________________________________

كذلك لا يكفي في جلاء القلب من ظلمات المعاصي وكدوراتها ، مجرد تركها وعدم العود إليها ، بل يجب محو آثار تلك الظلمات بأنوار الطاعات فإنه كما يرتفع إلى القلب من كل معصية ظلمة وكدورة كذلك يرتفع إليه من كل طاعة نور وضياء ، فالأولى محو ظلمة كل معصية بنور طاعة تضادها بأن ينظر التائب إلى سيئاته مفصلة ، ويطلب لكل سيئة منها حسنة تقابلها ، فيأتي بتلك الحسنة على قدر ما أتى بتلك السيئة.

فيكفر استماع الملاهي مثلا باستماع القرآن والحديث والمسائل الدينية ، ويكفر مس خط المصحف محدثا بإكرامه وكثرة تقبيله وتلاوته ، ويكفر المكث في المسجد جنبا بالاعتكاف فيه وكثرة التعبد في زواياه وأمثال ذلك.

وأما في حقوق الناس فيخرج من مظالمهم أولا بردها عليهم ، والاستحلال منهم ، ثم يقابل إيذاءه لهم بالإحسان إليهم ، وغصب أموالهم بالتصدق بماله الحلال ، وغيبتهم بالثناء على أصل الدين وإشاعة أوصافهم الحميدة ، وعلى هذا القياس يمحو كل سيئة من حقوق الله أو حقوق الناس بحسنة تقابلها من جنسها ، كما يعالج الطبيب الأمراض بأضدادها ، نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لذلك بمنه وكرمه. « ما كتبا عليه » كان النسبة إليهما على التغليب أو لكون كتابة صاحب الشمال بأمر صاحب اليمين كما مر ، وقيل : الوحي إلى الجوارح والبقاع كناية عن محو الآثار التي تدل على المعصية عنهما ، وقيل : المراد بكتمان الجوارح وبقاع الأرض ذنوبه إما نسيانهما كما في الملكين ، أو عدم الشهادة بها ، والأول أظهر ، ويؤيده ما روي من طرق العامة أنه تعالى ينسى أيضا جوارحه وبقاع الأرض ذنوبه ، بل ربما يقال أنه يمحوها عن لوح نفسه أيضا ليكمل استعداده لإفاضة الفيض والرحمة عليه ، ويرتفع عنه الانفعال عند لقاء الرب.

٢٩٧

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام في قول الله عزوجل : « فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ » (١) قال الموعظة التوبة.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن محمد بن علي ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي الصباح الكناني قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً » (٢) قال يتوب العبد من الذنب

______________________________________________________

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

« فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ » أي في الربا قال البيضاوي : أي فمن بلغه وعظ من الله وزجر عن الربا « فَانْتَهى » أي فاتعظ وتبع النهي « فَلَهُ ما سَلَفَ » أي تقدم أخذه قبل نزول التحريم ولا يسترد منه ، قال : الموعظة التوبة ، أي ما تدعو إلى التوبة وهي الموعظة المؤثرة التي تترتب عليها التوبة ، أو المراد بالموعظة أثرها ، فالمراد بقوله : فانتهى الاستمرار على التوبة وعدم العود ، ويحتمل أن يكون التوبة تفسيرا للجزءين معا.

الحديث الثالث : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : وأحب العباد ، كان المراد أن الله تعالى أمر بالتوبة النصوح ، لكن إذا أذنب ثم تاب يحبه الله أيضا فالأحبية إضافية أو المعنى أنه يتوب من ذنب توبة نصوحا ثم يعود في ذنب آخر أو المراد بعدم العود العزم على عدم العود ، وقيل : لعل المراد بالمفتون التواب من لا يعود إلى الذنب بعد التوبة ، فيكون تأكيدا لما قبله ، وكونه أحب بالنظر إلى من يتوب ثم يعود ثم يتوب وهكذا ، لا بالنظر إلى من لم يذنب أبدا.

ويحتمل أن يراد بها كثير التوبة بأن يتوب ثم يذنب ثم يتوب وهكذا

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٥.

(٢) سورة التحريم : ٨.

٢٩٨

ثم لا يعود فيه.

قال محمد بن الفضيل سألت عنها أبا الحسن عليه‌السلام فقال يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه وأحب العباد إلى الله تعالى المفتنون التوابون.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن أبي أيوب ، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً » قال هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا قلت وأينا لم يعد فقال يا أبا محمد إن الله يحب من عباده المفتن التواب.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا رفعه قال إن الله عز وجل أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل

______________________________________________________

وهو أحب ممن يتوب عن الذنوب كلها توبة واحدة ، وممن يذنب ذنوبا ثم يتوب منها ثم يذنب ذنوبا ثم يتوب منها ، وقيل : اللام في العباد للعهد ، والمفضل عليه من مات بلا توبة.

الحديث الرابع : حسن كالصحيح وهو كالسابق.

قوله : هو الذنب أي التوبة من الذنب ، وقد مر معنى المفتن في باب تنقل أحوال القلب.

الحديث الخامس : مرفوع كالحسن.

« ثلاث خصال » الأولى أنه يحبهم ، والثانية أن الملائكة يستغفرون لهم.

والثالثة أنه عز وجل وعدهم الأمن والرحمة ، وقال تعالى في سورة البقرة : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ » ثم قال : « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » فقيل : إن المعنى يحب التوابين عن النجاسات

٢٩٩

السماوات والأرض لنجوا بها قوله عز وجل : « إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » (١) فمن أحبه الله لم يعذبه وقوله « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً

______________________________________________________

الباطنة وهي الذنوب ، ويحب المتطهرين من النجاسات الظاهرة بالماء ، وقيل : يحب التوابين من الذنوب والمتطهرين الذين لم يذنبوا ، وقيل : التوابين من الكبائر والمتطهرين من الصغائر ، وقيل : التائبين من المحرمات والمتطهرين من المكروهات كالوطي بعد الحيض وقيل : الغسل ، وورد في الحديث أنها وردت في المتطهرين بالماء في الاستنجاء.

« الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ » وقال البيضاوي : الكروبيون أعلى طبقات الملائكة وأولهم وجودا وحملهم إياه وحفيفهم حوله مجاز عن حفظهم وتدبيرهم له ، أو كناية عن قربهم من ذي العرش ومكانتهم عنده وتوسيطهم في نفاذ أمره « يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ » يذكرون الله بجوامع الثناء من صفات الجلال والإكرام ، وجعل التسبيح أصلا والحمد حالا ، لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح.

« وَيُؤْمِنُونَ بِهِ » أخبر عنهم بالإيمان إظهارا لفضله وتعظيما لأهله ، ومساق الآية لذلك كما صرح به بقوله : « وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا » وإشعارا بأن حملة العرش وسكان الفرش في معرفته سواء ردا على المجسمة واستغفارهم شفاعتهم وحملهم على التوبة ، وإلهامهم بما يوجب المغفرة.

وفيه تنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح والشفقة ، وإن تخالفت الأجناس لأنها أقوى المناسبات كما قال : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ».

« رَبَّنا » أي يقولون ربنا وهو بيان ليستغفرون أو حال « وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً » أي وسعت رحمته وعلمه فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٢.

٣٠٠