مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

باب

في أن الذنوب ثلاثة

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن حماد ، عن بعض أصحابه رفعه قال صعد أمير المؤمنين عليه‌السلام بالكوفة المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إن الذنوب ثلاثة ثم أمسك فقال له حبة العرني يا أمير المؤمنين قلت الذنوب ثلاثة ثم أمسكت فقال ما ذكرتها إلا وأنا أريد أن أفسرها ولكن عرض لي بهر حال بيني وبين الكلام نعم الذنوب ثلاثة فذنب مغفور وذنب غير مغفور وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه قال يا أمير المؤمنين فبينها لنا؟

قال نعم أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا فالله أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين وأما الذنب الذي لا يغفر فمظالم العباد بعضهم

______________________________________________________

باب في أن الذنوب ثلاثة

الحديث الأول : مرفوع.

« إن الذنوب ثلاثة » أي غير الشرك والكفر ، أو ذنوب المؤمنين وقيل : وجه الحصر أن الذنب إما للتقصير في حق الله أو في حق الناس ، والأول إما أن يرفع العبد العقوبة الدنيوية بالتوبة أولا ، فهذه ثلاثة ، وأما الذنب الذي لا عقوبة عليه في الدنيا ولم يتب منه فالظاهر أنه داخل في القسم الثالث ، وحكمه حكمه ، وإن كان الخوف منه أشد ، وفي النهاية : البهر بالضم ما يعتري الإنسان عند السعي الشديد ، والعدو من التهيج ، وتتابع النفس ، وفي القاموس : البهر بالضم انقطاع النفس من الإعياء.

« فعبد » أي فذنب عبد « عاقبة الله على ذنبه في الدنيا » إما بالحدود والتعزيرات أو بالبلايا والمصائب « فالله أحلم » الفاء للبيان « فمظالم العباد بعضهم » بالجر بدل

٣٢١

لبعض إن الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسما على نفسه فقال وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف ولو مسحة بكف ولو نطحة ما بين القرناء إلى الجماء فيقتص للعباد بعضهم من بعض حتى لا تبقى لأحد على أحد مظلمة ثم يبعثهم للحساب وأما الذنب الثالث فذنب ستره الله على خلقه ورزقه التوبة منه فأصبح خائفا من ذنبه راجيا لربه فنحن له كما هو لنفسه نرجو له الرحمة ونخاف عليه العذاب.

______________________________________________________

اشتمال أو بعض ، والمراد به الظالم « لبعض » المراد به المظلوم ، والمظالم جمع المظلمة بالكسر وهي ما يظلمه الرجل إذا برز لخلقه ، البروز الظهور بعد الخفاء ، ولعله كناية عن ظهور أحكامه وثوابه وعقابه وحسابه ، وقيل : كناية عن أنه سبحانه يتكلم مع جميع الخلائق بنفسه ويحاسبهم مشافهة كما ورد في الأخبار.

« على نفسه » أي ملزما على نفسه « فقال » الفاء للبيان ، ويقال : جازه يجوزه إذا تعداه « ولو كف بكف » لعل المراد بالكف أو لا المنع والزجر ، وبالثاني اليد أي تضرر كف إنسان بكف آخر بغمز وشبهه ، أو تلذذ كف بكف أو يقدر مضاف أي يجازى ضرب كف بضرب كف ، وقيل : أي ضربة كف بكف ، والمراد بالمسحة بالكف ما يشتمل على إهانة وتحقير أو تلذذ ، ويمكن حمل التلذذ في الموضعين على ما إذا كان من امرأة ذات بعل أو قهرا بدون رضاء الممسوح ، ليكون من حق الناس.

والجماء التي لا قرن لها ، قال في النهاية : فيه أن الله ليدين الجماء من ذوات القرون الجماء التي لا قرن لها ، ويدين أي يجزي ، انتهى.

ويدل على حشر الحيوانات أيضا في القيامة كما يدل عليه قوله تعالى : « وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ » وغيره من الآيات والأخبار ، وبه قال أكثر المتكلمين من الخاصة والعامة وإن اختلفوا في خصوصياته من بقائها بعد الحشر أو تفرقها وصيرورتها ترابا وغير ذلك.

٣٢٢

______________________________________________________

ومنهم من أول القرناء بالإنسان القوي القادر على الظلم ، والجماء بالمظلوم الضعيف وهو تكلف مستغنى عنه ، ولا يبعد أن يكون المراد مؤاخذة المكلف بتمكين القرناء من إضرار الجماء ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لتردن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلجاء من الشاة القرناء ، والجلجاء أيضا التي لا قرن لها ، وصرح جماعة من المفسرين في تفسير الآية المتقدمة ببعثها ، وقيل أي جمعت من أطراف الأرض وقيل : أميتت.

وقال الطبرسي (ره) في قوله تعالى : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ » (١) أي يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد ، فيعوض الله ما يستحق العوض منها وينتصف لبعضها من بعض ، وفيما رووه عن أبي هريرة أنه قال : يحشر الله الخلق يوم القيامة البهائم والدواب والطير ، وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا فلذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا.

وعن أبي ذر قال : بينا أنا عند رسول الله إذا انتطحت عنزان فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتدرون فيم انتطحا؟ فقالوا : لا ندري ، قال : لكن الله يدري سيقضي بينهما.

وقال الرازي : قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص ، وقالت المعتزلة : إن الله يحشر الحيوانات كلها في ذلك اليوم ليعوضها آلامها التي وصلت إليها في الدنيا بالموت والقتل وغير ذلك ، فإذا عوضت عن تلك الآلام فإن شاء الله أن يبقى بعضها في الجنة إذا كان مستحسنا فعل وإن شاء أن يفنيه أفناه على ما جاء به الخبر ، وأما أصحابنا فعندهم أنه لا يجب على الله شيء بحكم الاستحقاق ، ولكنه تعالى يحشر الوحوش كلها فيقتص للجماء من القرناء ، ثم يقال لها : موتي فتموت

__________________

(١) سورة الأنعام : ٣٨.

٣٢٣

______________________________________________________

انتهى.

وقال بعض شراح صحيح مسلم : اضطرب العلماء في بعث البهائم ، وأقوى ما تعلق به من يقول ببعثها قوله تعالى : « وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ » وأجاب الآخر بأن معنى حشرت ماتت ، قال : والأحاديث الواردة ببعثها آحاد تفيد الظن والمطلوب في المسألة القطع ، وحمل البعض العود المذكور في الحديث على أنه ليس حقيقة وإنما هو ضرب مثل إعلاما للخلق بأنها دار جزاء لا يبقى فيها حق عند أحد ، ثم قال : ويصح عندي أن يخلق الله تعالى هذه الحركة للبهائم يوم القيامة ليشعر أهل المحشر بما هم صائرون إليه من العدل ، وسمي ذلك قصاصا لا أنه قصاص تكليف ومجازاة ، ومن توقف في بعثها إنما توقف في القطع بذلك كما يقطع ببعث المكلفين والأحاديث الواردة ليست نصوصا ولا متواترة ، وليست المسألة عملية حتى يكتفي فيها بالظن والأظهر حشر المخلوقات كلها بمجموع ظواهر الآي والأحاديث ، وليس من شرط الإعادة المجازاة بعقاب أو ثواب للإجماع على أن أولاد الأنبياء عليهم‌السلام في الجنة ولا مجازاة على الأطفال ، واختلف في أولاد من سواهم اختلافا كثيرا انتهى.

وقال القرطبي : حمل بعضهم الحديث على ظاهره لأنه قال : يؤتى يوم القيامة بالبهائم فيقال لها : كوني ترابا بعد ما يقاد للجماء من القرناء ، وحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ، ويدل على أنها ضرب مثل ما جاء في بعض الروايات من الزيادة في هذا الحديث ، يريد الحديث الذي نقله مسلم قال : حتى يقاد للجلجاء من القرناء وللحجرلم ركب على حجر ، وللعود لم خدش العود ، لأن الجمادات لا تعقل كلاما فلا ثواب ولا عقاب لها ، وهو في التمثيل مثل قوله تعالى : « وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً » (١) الآية.

__________________

(١) سورة الرعد : ٣١.

٣٢٤

______________________________________________________

وقوله تعالى : « لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ » (١).

وقال الآبي : المسائل العلمية التي لا يرجع للذات ولا للصفات كهذه يصح التمسك فيها بالآحاد ، والاستدلال بمجموع ظواهر الآي والأحاديث يرجع إلى التواتر المعنوي والاختلاف فيمن سوى أولاد الأنبياء عليهم‌السلام إنما هو في محلهم بعد البعث لا في بعثهم كذا أظنه توقف الأشعري في بعث المجانين ومن لم يبلغه الدعوة فجوز أن يبعثوا وجوز أن لا يبعثوا ، ولم يرد عنه قاطع في ذلك ثم قال : لا معنى لتوقفه لأن ظاهر الآي والأحاديث بعث الجميع ، والمسألة علمية لا ترجع للذات ولا للصفات ، فيصح التمسك فيها بالآحاد كما تقدم ، أو يقال مجموع الآي والأحاديث يفيد التواتر المعنوي كما تقدم ، انتهى.

وأقول : تمام الكلام في ذلك موكول إلى كتابنا الكبير.

وأما الذنب الثالث فالخوف بعد التوبة ، لاحتمال عدم حصول شرائط التوبة وعدم القطع بقوله فينبغي أن يكون التائب أيضا بين الخوف والرجاء.

ولنذكر هنا بعض الفوائد التي لا بد من التعرض لها.

الأولى : في معنى التوبة وهي لغة الرجوع وتنسب إلى العبد وإلى الله سبحانه ومعناها على الأول الرجوع عن المعصية إلى الطاعة وعلى الثاني الرجوع عن العقوبة إلى اللطف والتفضل ، وفي الاصطلاح قيل : هي الندم عن الذنب لكونه ذنبا فخرج الندم على شرب الخمر مثلا لإضراره بالجسم ، وقد يزاد مع العزم على ترك المعاودة أبدا ، والظاهر أن هذا لازم لذلك الندم غير منفك عنه كما مرت الإشارة إليه.

وقال الشيخ البهائي قدس‌سره : والكلام الجامع في هذا الباب ما قاله بعض ذوي الألباب : من أن التوبة لا تحصل إلا بحصول أمور ثلاثة : أولها معرفة ضرر

__________________

(١) سورة الحشر : ٢١.

٣٢٥

______________________________________________________

الذنوب وكونها حجابا بين العبد ومحبوبة ، وسموما قاتلة لمن يباشرها ، فإذا عرف ذلك وتيقنه حصل له من ذلك حالة ثانية هي التألم لفوات المحبوب ، والتأسف من فعل الذنوب وهذا التألم والتأسف هو المعبر عنه بالندم ، وإذا غلب هذا الألم حصل حالة ثالثة هي القصد إلى أمور ثلاثة لها تعلق بالحال والاستقبال والمضي ، فالمتعلق بالحال هو ترك ما هو مقيم عليه من الذنوب ، والمتعلق بالاستقبال هو العزم على عدم العود إليها إلى آخر العمر والمتعلق بالماضي تلافى ما يمكن تلافيه من قضاء الفوائت والخروج من المظالم ، فهذه الثلاثة أعني المعرفة والندم والقصد إلى المذكورات أمور مترتبة في الحصول ، وقد يطلق على مجموعها اسم التوبة ، وكثيرا ما يطلق على الثاني أعني الندم وحده ، وتجعل المعرفة مقدمة لها ، وذلك القصد ثمرة متأخرة عنها ، وقد يطلق على مجموع الندم والعزم هذا ، وقد عرفها بعض أصحاب القلوب برجوع الآبق عن الجرم السابق ، وبعضهم بإذابة الأحشاء لما سلف من الفحشاء ، وبعضهم بأنها خلع لباس الجفاء وبسط بساط الوفاء ، انتهى.

وأقول : إذا عرفت أن عدم العود إلى الذنب فيما بقي من العمر لا بد منه في التوبة ، فهل إمكان صدوره منه في بقية العمر شرط ، حتى لو زنا ثم جب وعزم على أن لا يعود إلى الزنا على تقدير قدرته عليه لم تصح توبته ، أم ليس بشرط فتصح؟ الأكثر على الثاني ، بل نقل بعض المتكلمين إجماع السلف عليه ، وأولى من هذا بصحة التوبة من تاب في مرض مخوف غلب على ظنه الموت فيه.

أما التوبة عند حضور الموت وتيقن الفوت وهو المعبر عنه بالمعاينة فقد انعقد الإجماع على عدم صحتها ونطق بذلك القرآن العظيم ، قال سبحانه : « وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً » (١) وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) سورة النساء : ١٨.

٣٢٦

______________________________________________________

إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ، والغرغرة تردد الماء وغيره من الأجسام المائعة في الحلق ، والمراد هنا تردد الروح عند النزع.

والأخبار عن أئمتنا عليهم‌السلام كثيرة في أنه لا تقبل التوبة عند حضور الموت وظهور علاماته ومشاهدة أهواله ، كتوبة فرعون وسائر الكفرة الذين نزل عليهم العذاب ، وقد مر بعضها ، وعلل ذلك بأن الإيمان برهان ، ومشاهدة تلك العلامات والأهوال في ذلك الوقت تصير الأمر عيانا فيسقط التكليف كما أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقطت التكاليف عنهم ، قال بعض المفسرين : ومن لطف الله بالعباد أن أمر قابض الأرواح بالابتداء في نزعها من أصابع الرجلين ثم يصعد شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى الصدر ، ثم تنتهي إلى الحلق ليتمكن في هذه المهلة من الإقبال بالقلب على الله تعالى ، والوصية والتوبة ما لم يعاين والاستحلال ، وذكر الله على لسانه فيرجى بذلك حسن خاتمته ، رزقنا الله ذلك بفضله وكرمه.

الثانية : لا خلاف في وجوب التوبة في الجملة والأظهر أنها إنما تجب لما لم يكفر من الذنوب كالكبائر والصغائر التي أصرت عليها ، فإنها ملحقة بالكبائر والصغائر التي لم يجتنب معها الكبائر ، فأما مع اجتناب الكبائر فهي مكفرة إذا لم يصر عليها ، ولا يحتاج إلى التوبة منها ، لقوله تعالى : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » (١) قال المحقق الطوسي قدس‌سره في التجريد : التوبة واجبة لدفعها الضرر ، ولوجوب الندم على كل قبيح أو إخلال بواجب ، وقال العلامة (ره) في شرحه : التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية ، والعزم على ترك المعاودة في المستقبل : لأن ترك العزم يكشف عن نفي الندم ، وهي واجبة بالإجماع ، لكن اختلفوا.

فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر أو

__________________

(١) سورة النساء : ٣١.

٣٢٧

______________________________________________________

المظنون فيها ذلك ، ولا يجب من الصغائر المعلوم أنها صغائر.

وقال آخرون : إنها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل ، وقال آخرون : إنها تجب من كل كبير وصغير من المعاصي أو الإخلال بالواجب ، سواء تاب منها قبل أو لم يتب ، وقد استدل المصنف على وجوبها بأمرين : الأول : أنها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف فيه ، ودفع الضرر واجب ، الثاني : أنا نعلم قطعا وجوب الندم على فعل القبيح أو الإخلال بالواجب.

إذا عرفت هذا فنقول : إنها تجب من كل ذنب لأنها تجب من المعصية لكونها معصية ، ومن الإخلال بواجب لكونه كذلك ، وهذا عام في كل ذنب وإخلال بواجب ، انتهى.

أقول : ظاهر كلامه وجوب التوبة من الذنب الذي تاب منه ، وكأنه نظر إلى أن الندم على القبيح واجب في كل حال ، وكذا ترك العزم على الحرام واجب دائما ، وفيه أن العزم على الحرام ما لم يأت به لا يترتب عليه إثم ، إلا أن يقول : أن العفو عنه تفضلا لا ينافي كونه منهيا عنه كما مر ، وأما الندم على ما صدر عنه سابقا فلا نسلم وجوبه بعد تحقق الندم مرة ، وسقوط العقاب به ، وإن كان القول بالوجوب لا يخلو من قوة ، وقال الشيخ البهائي : دفع ضرر العقاب لا يدل على وجوب التوبة عن الصغائر ممن يجتنب الكبائر لكونها مكفرة ، ولهذا ذهبت البهشمية إلى وجوبها عن الصغائر سمعا لا عقلا.

نعم الاستدلال بأن الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح يعم القسمين ، وأما فورية الوجوب فقد صرح به المعتزلة فقالوا يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة منه أيضا ، حتى أن من أخر التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة فقد فعل كبيرتين وساعتين أربع كبائر ، الأولتان وترك التوبة عن كل منهما ، وثلاث ساعات ثمان كبائر وهكذا ، وأصحابنا يوافقونهم على الفورية لكنهم لم يذكروا

٣٢٨

______________________________________________________

هذا التفصيل فيما رأيته من كتبهم الكلامية.

وقال رحمه‌الله : لا ريب في وجوب التوبة على الفور فإن الذنوب بمنزلة السموم المضرة بالبدن وكما يجب على شارب السم المبادرة إلى الاستفراغ تلافيا لبدنه المشرف على الهلاك ، كذلك يجب على صاحب الذنوب المبادرة إلى تركها والتوبة منها تلافيا لدينه المشرف على التهافت والاضمحلال ، ومن أهمل المبادرة إلى التوبة وسوفها من وقت إلى وقت فهو بين خطرين عظيمين إن سلم من واحد فلعله لا يسلم من الآخر.

أحدهما : أن يعاجله الأجل فلا يتنبه من غفلته إلا وقد حضره الموت وفات وقت التدارك ، وانسدت أبواب التلافي ، وجاء الوقت الذي أشار إليه سبحانه بقوله : « وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ » (١) وصار يطلب المهلة والتأخير يوما أو ساعة ، فيقال : لا مهلة لك كما قال سبحانه : « مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ » (٢) قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية إن المحتضر يقول عند كشف الغطاء : يا ملك الموت أخرني يوما أعتذر فيه إلى ربي وأتوب إليه وأتزود عملا صالحا فيقول فنيت الأيام فيقول أخرني ساعة فيقول : فنيت الساعات فيغلق عنه باب التوبة ويغرغر بروحه إلى النار ويجرع غصة اليأس وحسرة الندامة على تضييع العمر ، وربما اضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأهوال نعوذ بالله من ذلك.

وثانيهما أن تتراكم ظلمة المعاصي على قلبه إلى أن تصير رينا وطبعا فلا تقبل المحو فإن كل معصية يفعلها الإنسان يحصل منها ظلمه في قلبه كما تحصل من نفس الإنسان ظلمه في المرآة فإذا تراكمت ظلمة الذنوب صارت رينا كما تصير بخار النفس عند تراكمه على المرآة ، وإذا تراكم الرين صار طبعا تطبع على قلبه

__________________

(١) سورة سبأ : ٥٤.

(٢) سورة المنافقون : ١٠.

٣٢٩

______________________________________________________

كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم بعضه فوق بعض ، وطال مكثه وغاص في جرمها ، وأفسدها فصار لا تقبل الصيقل أبدا.

وقد يعبر عن هذا القلب بالقلب المنكوس والقلب الأسود كما مر في الخبر. أنه يصير أعلاه أسفله ، وفي خبر آخر إن تمادى في الذنوب زاد السواد حتى يغطى البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا وهو قول الله عز وجل : « كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ » (١) فقوله : لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا يدل على أن صاحب هذا القلب لا يرجع عن المعاصي ولا يتوب منها أبدا ، ولو قال بلسانه تبت إلى الله يكون هذا القول مجرد تحريك اللسان من دون موافقة القلب ، فلا أثر له أصلا كما أن قول القصار : غسلت الثوب لا يصير الثوب نقيا من الأوساخ.

وربما يؤول حال صاحب هذا القلب إلى عدم المبالاة بأوامر الشريعة ونواهيها فيسهل أمر الدين في نظره ويزول وقع الأحكام الإلهية من قلبه ، وينفر عن قبولها طبعه ، وينجر ذلك إلى اختلاف عقيدته وزوال إيمانه ، فيموت على غير الملة وهو المعبر عنه بسوء الخاتمة نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

الثالثة : سقوط العقاب بالتوبة مما أجمع عليه أهل الإسلام ، وإنما الخلاف في أنه هل يجب علي الله حتى لو عاقب بعد التوبة كان ظلما أو هو تفضل يفعله سبحانه كرما منه ورحمة بعبادة؟ المعتزلة على الأول ، والأشاعرة على الثاني وإليه ذهب الشيخ أبو جعفر الطوسي قدس‌سره في كتاب الاقتصاد ، والعلامة رحمه‌الله في بعض كتبه الكلامية ، وتوقف المحقق الطوسي طاب ثراه في التجريد.

وقال الطبرسي (ره) في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : « فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ » (٢) في هذه الآية دلالة على أن إسقاط العقاب عند التوبة

__________________

(١) سورة المطفّفين : ١٤.

(٢) سورة غافر : ٧.

٣٣٠

______________________________________________________

تفضل من الله تعالى إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج إلى مسألتهم ، بل كان يفعله سبحانه لا محالة ، واعترض عليه بأنه يحتمل أن يكون من قبيل قوله تعالى : « رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا » (١) ، والحق ما اختاره الشيخ كما يظهر من كثير من الأخبار وأدعية الصحيفة الكاملة وغيرها ، ودليل الوجوب ضعيف.

الرابعة : الذنب إن لم يستتبع أمر آخر يلزم الإتيان به شرعا كلبس الحرير مثلا ، كفى الندم عليه والعزم على عدم العود إليه ، ولا يجب شيء آخر سوى ذلك ، وإن استتبع أمر آخر من حقوق الله تعالى أو من حقوق الناس ماليا أو غير مالي وجب مع التوبة الإتيان به ، وربما كان المكلف مخيرا بين الإتيان بذلك الأمر وبين الاكتفاء بالتوبة من الذنب المستتبع له.

فحقوق الله المالية كالعتق في الكفارة مثلا يجب الإتيان بها مع القدرة ، وغير المالية إن كان غير حد كقضاء الفوائت وصوم الكفارة فكذلك ، وإن كان حدا فالمكلف مخير إن شاء أقر بالذنب عند الحاكم ليقام عليه الحد ، وإن شاء ستره واكتفى بالتوبة منه فلا حد عليه حينئذ إن تاب قبل قيام البينة به عند الحاكم.

وأما حقوق الناس المالية فتجب تبرئة الذمة منها بقدر الإمكان ، فإن مات صاحب الحق فورثته في كل طبقة قائمون مقامه ، فمتى دفعه إليهم هو أو ورثته أو أجنبي متبرع برئت ذمته وإن بقي إلى يوم القيامة فلفقهائنا رضوان الله عليهم في مستحقه وجوه.

الأول : أنه لصاحبه الأول ، الثاني : أنه لآخر وارث ولو بالعموم كالإمام ، الثالث : أنه ينتقل إلى الله سبحانه والأول هو الأصح ، وقد دلت عليه الرواية الصحيحة عن الصادق عليه‌السلام.

وأما حقوقهم الغير المالية فإن كان إضلالا وجب الإرشاد بل قد ورد في بعض

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٦.

٣٣١

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن حمران قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل أقيم عليه الحد في الرجم

______________________________________________________

الأخبار أنه لا تقبل توبته إلا بأن يحيي من مات على تلك الضلالة ويرده عنها ، وإن كان قصاصا وجب إعلام المستحق له وتمكينه من استيفائه ، فيقول : أنا الذي قتلت أباك مثلا ، فإن شئت فاقتص مني ، وإن شئت فاعف عني ، وإن كان حدا كما في القذف فإن كان المستحق له عالما بصدور ما يوجبه وجب التمكين أيضا وإن كان جاهلا به فهل يجب إعلامه به وجهان ، من كونه حق آدمي فلا يسقط إلا بإسقاطه ، ومن كون الإعلام تجديدا للأذى وتنبيها على ما يوجب البغضاء ، ومثل هذا يجري في الغيبة أيضا.

وكلام المحقق الطوسي وتلميذه العلامة طاب ثراهما يعطي عدم الإعلام بها ، وقد مر في باب الغيبة أن الأقوى أنه إذا علم بها يجب الاستحلال منه ، وإن لم يعلم فكفارته الاستغفار له.

ثم المشهور بين المتكلمين أن الإتيان بما يستتبعه الذنوب من فضاء الفوائت وأداء الحقوق والتمكين من القصاص والحد ونحو ذلك ليس شرطا في صحة التوبة ، بل هذه واجبات برأسها ، والتوبة صحيحة بدونها ، وبها تصير أكمل وأتم.

الخامسة : اختلفوا في التوبة المبعضة والموقتة والمجملة ، والأصح صحة المبعضة ، وإلا لما صحت عن الكفر مع الإصرار على صغيرة ، وأما الموقتة كان يتوب عن الذنوب سنة فاشتراط العزم على عدم العود أبدا يقتضي بطلانها ، وأما المجملة كان يتوب عن الذنوب على الإجمال من دون ذكر تفصيلها وهو ذاكر للتفصيل فقد توقف فيها المحقق الطوسي قدس‌سره ، والقول بصحتها غير بعيد ، إذ لا دليل على اشتراط التفصيل ، وقد بسطنا القول في أكثر تلك المباحث في كتابنا الكبير.

الحديث الثاني : حسن موثق كالصحيح.

وظاهره أن من أقيم عليه الحد يسقط عنه العقاب وإن لم يتب كما هو

٣٣٢

أيعاقب عليه في الآخرة قال إن الله أكرم من ذلك.

باب

تعجيل عقوبة الذنب

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، عن حمزة بن حمران ، عن أبيه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن الله عز وجل إذا كان من أمره أن يكرم عبدا وله ذنب ابتلاه بالسقم فإن لم يفعل ذلك له ابتلاه بالحاجة فإن لم يفعل به ذلك شدد عليه الموت ليكافيه بذلك الذنب قال وإذا كان من أمره أن يهين عبدا وله عنده حسنة صحح بدنه فإن لم يفعل به ذلك وسع عليه في رزقه فإن هو لم يفعل ذلك به هون عليه الموت ليكافيه بتلك الحسنة.

______________________________________________________

ظاهر الأصحاب ، ويشكل القول بسقوط وجوب التوبة عنه إلا أن يقال : يعفى عنه تفضلا ، وإن استحقه كما يومئ إليه الخبر ، أو يقال : يسقط عنه عقاب ما يوجب الحد كالزنا مثلا ، وإن بقي عليه عقاب ترك التوبة ، والخبر لا يأتي عنه بل يشعر به أيضا.

باب تعجيل عقوبة الذنب

الحديث الأول : مجهول.

« من أمره » أي من شأنه وتدبيره « أن يكرم عبدا » أي في الآخرة بإيمانه بأن لا يعذبه فيها « فإن لم يفعل » أي الرب أو الذنب « ذلك » أي السقم أو الابتلاء به ، أو المعنى إن لم يفعل السقم ذلك أي تكفير الذنب أو استحقاق الإكرام به أي بالعبد ، والاحتمالات جارية في سائر الفقرات والأول في الكل أظهر ، وفي رواية : إن بقي عليه ذنب يكافيه بضغطة القبر ، وظاهره أن المؤمن لا يعذب في الآخرة ، وقد يخص بحقوق الله « أن يهين عبدا » أي بنفاقه فإنه لا يستحق ثواب

٣٣٣

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن الحكم بن عتيبة قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها ابتلاه بالحزن ليكفرها.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمد الأشعري ، عن ابن القداح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله عز وجل وعزتي وجلالي لا أخرج عبدا من الدنيا وأنا أريد أن أرحمه حتى أستوفي منه كل خطيئة عملها إما بسقم في جسده وإما بضيق في رزقه وإما بخوف في دنياه فإن بقيت عليه بقية شددت عليه عند الموت وعزتي وجلالي لا أخرج عبدا من الدنيا وأنا أريد أن أعذبه حتى أوفيه كل حسنة عملها إما بسعة في رزقه وإما بصحة في جسمه وإما بأمن في دنياه فإن بقيت عليه بقية هونت عليه بها الموت.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبان بن تغلب قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن المؤمن ليهول عليه

______________________________________________________

الآخرة فيعطيه عوضه في الدنيا كإبليس ، وذلك من فضل الله سبحانه لأنه لا يستحق الجزاء لإخلاله بأعظم الشرائط وهو الإيمان ، ويمكن تعميمه بحيث يشمل بعض الظلمة والفساق أيضا.

الحديث الثاني : ضعيف.

« إن العبد » أي المؤمن « ولم يكن عنده » أي عند العبد أو الرب والأول أظهر « بالحزن » أي بسبب ظاهر أو بغيره.

الحديث الثالث : ضعيف.

« وأنا أريد أن أرحمه » أي استحق رحمتي.

الحديث الرابع : صحيح.

« ليهول » على بناء المجهول من التفعيل ، في القاموس : هاله هولا أفزعه كهوله فاهتاله ، والهول مخافة لا يدري ما هجم عليه ، وقال : مهنة كمنعه ونصره

٣٣٤

في نومه فيغفر له ذنوبه وإنه ليمتهن في بدنه فيغفر له ذنوبه.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن السري بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا وإذا أراد بعبد سوءا أمسك عليه ذنوبه حتى يوافي بها يوم القيامة.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسن بن شمون ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » (١) ليس من التواء عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم

______________________________________________________

وخدمه وضربه وجهده ، وامتهنه استعمله فامتهن هو لازم متعد ، والمهين الحقير والضعيف ، وفي النهاية : امتهنوني أي ابتذلوني في الخدمة ، وربما يقرأ ليمهن وهو تصحيف ، وفي الصحاح امتهنت الشيء ابتذلته وأمهنته أضعفته.

والحاصل أنه تبتليه في بدنه بالبلايا والأمراض والأحزان والذل كأنه استخدمه أو ابتذله واستعمله كثوب البذلة ، وفي الصحيفة السجادية وامتهنك بالزيادة والنقصان.

الحديث الخامس : مجهول.

« أمسك عليه ذنوبه » أي لم يكفرها بالعقوبة في الدنيا.

الحديث السادس : ضعيف.

« وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ » قال في مجمع البيان : أي من بلوى في نفس أو مال « فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » من المعاصي « وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » منها فلا يعاقب بها ، قال الحسن : الآية خاصة بالحدود التي يستحق على وجه العقوبة ، وقال قتادة : هي عامة ، وروي عن علي عليه‌السلام أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خير آية في كتاب الله هذه الآية ، يا علي ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب ، وما عفا الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه ، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني

__________________

(١) سورة الشورى : ٣٠.

٣٣٥

ولا خدش عود إلا بذنب ولما يعفو الله أكثر فمن عجل الله عقوبة ذنبه في الدنيا فإن الله عز وجل أجل وأكرم وأعظم من أن يعود في عقوبته في الآخرة.

٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن العباس بن موسى الوراق ، عن علي الأحمسي ، عن رجل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________________________________

على عبده ، وقال أهل التحقيق : أن ذلك خاص وإن خرج مخرج العموم لما يلحق من مصائب الأطفال والمجانين ، ومن لا ذنب له من المؤمنين ، ولأن الأنبياء والأئمة يمتحنون بالمصائب وإن كانوا معصومين من الذنوب لما يحصل لهم في الصبر عليها من الثواب ، انتهى.

وأقول : سيأتي استثناء المعصومين عليهم‌السلام منها ، والالتواء الانفتال والانعطاف ، في القاموس : لواه يلويه ليا فتله وثناه فالتوى وتلوى ، وبرأسه أمال ، والنباقة بذنبها حركت ، والتوى القدح اعوج وتلوى انعطف ، وقال : نكب الحجارة رجله لتمتها أو أصابتها فهو منكوب ، وفي النهاية : وقد نكب بالحرة أي نالته حجارتها وأصابته ، ومنه النكبة وهي ما يصيب الإنسان من الحوادث ، ومنه الحديث أنه نكبت إصبعه أي نالتها الحجارة ، والخدش جراحة في ظاهر الجلد سواء دمي الجلد أولا.

« ولما يعفو الله » بفتح اللام وتخفيف الميم.

الحديث السابع : مجهول.

والهم والغم إما مترادفان أو الغم ما يعلم سببه ، والهم ما لم يعلم سببه ، أو الهم الحزن الذي يذيب الجسد فهو أخص ، أو الهم ما كان لفقد محبوب ، والغم لوجود مكروه.

وفي الدعاء : أعوذ بك من الهم والغم والحزن ، قيل : الفرق بين الثلاثة هو أن الهم قبل نزول الأمر ويطرد النوم ، والغم بعد نزول الأمر ويجلب النوم ، والحزن الأسف على ما فات وخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم ، وقال الكرماني

٣٣٦

ما يزال الهم والغم بالمؤمن حتى ما يدع له ذنبا.

٨ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن الحارث بن بهرام ، عن عمرو بن جميع قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن العبد المؤمن ليهتم في الدنيا حتى يخرج منها ولا ذنب عليه.

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن علي الأحمسي ، عن رجل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لا يزال الهم والغم بالمؤمن حتى ما يدع له من ذنب.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله عز وجل ما من

______________________________________________________

الغم هو ما يلحقه بحيث يضمه كأنه يضيق عليه ، ويقرب أن يغمى عليه ، فهو أخص من الحزن ، وهو شامل لجميع أنواع المكروهات ، والهم بحسب ما يقصده ، والحزن ما يلحقه بسبب مكروه في الماضي ، والغم على المستقبل.

وقيل : الهم والحزن بمعنى وقيل : الهم لما يتصور من المكروه الحالي والحزن لما في الماضي.

وقال الطيبي : الحزن خشونة في النفس لحصول غم ، والهم حزن يذيب الإنسان فهو أخص من الحزن ، وقيل : هو بالآتي والحزن بالماضي.

الحديث الثامن : ضعيف.

« ليهتم » أي يصيبه الهم والحزن كثيرا ، في القاموس : الهم الحزن ، وهمه الأمر هما ومهمة حزنه كأهمه فاهتم ، وفي بعض النسخ : ليهم على بناء المفعول.

الحديث التاسع : مجهول ، وقد مر.

الحديث العاشر : صحيح.

« أريد أن أدخله الجنة » أي لإيمانه وقد عمل بالمعاصي ، وليست له حسنة

٣٣٧

عبد أريد أن أدخله الجنة إلا ابتليته في جسده فإن كان ذلك كفارة لذنوبه وإلا شددت عليه عند موته حتى يأتيني ولا ذنب له ثم أدخله الجنة وما من عبد أريد أن أدخله النار إلا صححت له جسمه فإن كان ذلك تماما لطلبته عندي وإلا آمنت خوفه من سلطانه فإن كان ذلك تماما لطلبته عندي وإلا وسعت عليه في رزقه فإن كان ذلك تماما لطلبته عندي وإلا هونت عليه موته حتى يأتيني ولا حسنة له عندي ثم أدخله النار.

١١ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن أورمة ، عن النضر بن سويد ، عن درست بن أبي منصور ، عن ابن مسكان ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال مر نبي من أنبياء بني إسرائيل برجل بعضه تحت حائط وبعضه خارج منه قد شعثته الطير ومزقته الكلاب ثم مضى فرفعت له مدينة فدخلها فإذا هو بعظيم من عظمائها ميت على سرير مسجى بالديباج حوله المجمر فقال يا رب

______________________________________________________

تكفرها ولم يعف عنها « فإن كان » الجزاء مقدر أي فاكتفى به أو مثله « تماما » أي متمما ، في القاموس : تم يتم تما وتماما مثلثتين ، وتمام الشيء ما يتم به.

الحديث الحادي عشر : ضعيف.

والتشعيث التفريق ، وفي المصباح مزقت الشيء أمزقه ومزقته خرقته ، ومزقهم الله كل ممزق ، فرقهم في كل وجه من البلاد « فرفعت » على بناء المفعول أي ظهرت ، قال الكرماني في شرح البخاري : فيه فرفع لي البيت المعمور أي قرب وكشف وعرض.

وفي القاموس : تسجية الميت تغطيته ، وفي المصباح : الديباج ثوب سداه ولحمته إبريسم ، ويقال هو معرب ثم كثر حتى اشتقت العرب منه فقالوا دبج الغيث الأرض دبجا من باب ضرب إذا سقاها فأنبتت أزهارا مختلفة ، لأنه عندهم اسم للمنقش ، واختلف في الياء فقيل زائدة ووزنه فيعال ، ولهذا يجمع بالياء فيقال دبابيج ، وقيل : هي أصل والأصل دباج بالتضعيف فأبدل من إحدى المضعفين حرف العلة ، ولهذا يرد

٣٣٨

أشهد أنك حكم عدل لا تجور هذا عبدك لم يشرك بك طرفة عين أمته بتلك الميتة وهذا عبدك لم يؤمن بك طرفة عين أمته بهذه الميتة فقال عبدي أنا كما قلت حكم عدل لا أجور ذلك عبدي كانت له عندي سيئة أو ذنب أمته بتلك الميتة لكي يلقاني ولم يبق عليه شيء وهذا عبدي كانت له عندي حسنة فأمته بهذه الميتة لكي يلقاني وليس له عندي حسنة.

١٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن أبي الصباح الكناني قال كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فدخل عليه شيخ فقال يا أبا عبد الله أشكو إليك ولدي وعقوقهم وإخواني وجفاهم عند كبر سني فقال أبو عبد الله عليه‌السلام يا هذا إن للحق دولة وللباطل دولة وكل واحد منهما في دولة صاحبه ذليل وإن أدنى ما يصيب المؤمن في دولة الباطل العقوق من ولده والجفاء من إخوانه وما من

______________________________________________________

في الجمع إلى أصله ، فيقال دبابيج بباء موحدة بعد الدال.

« أشهد أنك حكم » بالتحريك وهو منفذ الحكم أي أعلم مجملا أن هذا من عدلك لأنك حاكم عادل ، لكن لا أعلم بخصوص السبب « أو ذنب » الترديد من الراوي.

الحديث الثاني عشر : صحيح.

« دولة » بالفتح أي غلبة أو نوبة ، قال الجوهري : الدولة في الحرب أن تداول إحدى الفئتين على الأخرى ، والدولة بالضم في المال يقال : صار الفيء دولة بينهم يتداولونه يكون مرة لهذا ومرة لهذا ، وقال أبو عبيد : الدولة بالضم اسم الشيء الذي يتداول به بعينه ، والدولة بالفتح الفعل ، وقيل : بالضم في المال وبالفتح في الحرب ، وأدالنا الله من عدونا ، من الدولة والإدالة الغلبة ، ودالت الأيام أي دارت ، والله يداولها بين الناس ، وتداولته الأيدي أي أخذته هذه مرة وهذه مرة.

وقال : رجل رأفة أي وادع وهو في رفاهة من العيش ، أي سعة ورفاهية على فعالية ، انتهى.

٣٣٩

مؤمن يصيبه شيء من الرفاهية في دولة الباطل إلا ابتلي قبل موته إما في بدنه وإما في ولده وإما في ماله حتى يخلصه الله مما اكتسب في دولة الباطل ويوفر له حظه في دولة الحق فاصبر وأبشر.

باب

في تفسير الذنوب

١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن أحمد بن محمد ، عن العباس بن العلاء ، عن مجاهد ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال الذنوب التي تغير النعم البغي والذنوب التي تورث الندم القتل والتي تنزل النقم الظلم والتي تهتك الستر

______________________________________________________

والمراد به إما مطلق الرفاهية أو الرفاهية بالباطل ، ولعل الأخير أظهر ، وعلى الأول الابتلاء في رفاهية الحلال ليفوز بثواب الصابرين ، ولحصول الرفاهية له في دولة الحق ولو في الرجعة ، وللتشبيه بأولياء الله في دولة الباطل.

باب تفسير عقوبات الذنوب

الحديث الأول : ضعيف.

وحمل البغي على الذنوب باعتبار كثرة أفراده ، وكذا نظائره ، والبغي في اللغة تجاوز الحد ويطلق غالبا على التكبر والتطاول ، وعلى الظلم قال تعالى : « يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ » (١) وقال : « إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ » (٢) و « بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ » (٣) « إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ » (٤) « فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي » (٥) وقد روي أن الحسن عليه‌السلام طلب المبارز في صفين فنهاه أمير المؤمنين عن ذلك وقال : إنه بغى ولو بغى جبل على جبل لهد الله الباغي ،

__________________

(١) سورة الشورى : ٤٢.

(٢) سورة يونس : ٢٣.

(٣) سورة الحجّ : ٦٠.

(٤) سورة القصص : ٧٦.

(٥) سورة الحجرات : ٩.

٣٤٠