مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠٣

مالم يأت اليقين فإذا جاء اليقين لم يجز الشك وكتب إن الله عز وجل يقول : « وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ » (١) قال نزلت في الشاك.

______________________________________________________

تعالى على إحياء الموتى والشك لا يجامع اليقين ، فعدم الجواز بمعنى الامتناع ، الثاني : أن يكون المراد باليقين ما يوجب اليقين ، فالشك بعد ذلك يكون تكلفا للشك وحملا للنفس عليه عنادا ، فالمراد بعدم الجواز عدم كونه معذورا في ذلك الشك ، وهذا يؤيد الوجه الأخير من الوجوه الثلاثة المتقدمة ، وقيل : في الآية وجوه أخر ، منها : أنه إنما سأله ليعلم قدره ومنزلته عند الله تعالى ، لأن الإسعاف بالمطلب الجليل يدل على رفعة شأن السائل ، وحينئذ فمعنى « أَوَلَمْ تُؤْمِنْ » أو لم تؤمن بمنزلتك عندي. ومنها : ما رواه الصدوق في العيون عن الرضا عليه‌السلام أن الله كان أوحى إلى إبراهيم عليه‌السلام إني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته ، فوقع في نفس إبراهيم عليه‌السلام أنه ذلك الخليل ، فقال : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال : أو لم تؤمن قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي على الخلة.

ومنها : أنه أراد أن يكون له ذلك معجزة كما كانت للرسل.

ومنها : أنه كان له علم اليقين بالإحياء وإنما سأل ليعلم كيفية الإحياء كما يشعر به قوله : كيف؟.

ومنها : أنه إنما سأله أن يقدره على إحياء الموتى وتأدب في السؤال فقال : أرني كيف تحيي الموتى.

وقال بعض أهل الإشارة : رأى من نفسه الشك وما شك ، وإنما سأل ليجاب فيزداد قربا.

« وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ » هذه الآية بعد ذكر قصص الأنبياء عليهم‌السلام وهلاك أممهم بمخالفتهم ، قال في المجمع : أي ما وجدنا لأكثر المهلكين من عهد ، أي من وفاء بعهد كما يقال فلان لا عهد له ، أي لا وفاء له بالعهد ، ويجوز أن يكون

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٠١.

١٨١

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن أسباط ، عن أبي إسحاق الخراساني قال كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول في خطبته لا ترتابوا فتشكوا ولا تشكوا فتكفروا.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن خلف بن حماد ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن محمد بن مسلم قال كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام

______________________________________________________

المراد بهذا العهد ما أودع الله العقول من وجوب شكر المنعم وطاعة المالك المحسن واجتناب القبائح ، ويجوز أن يراد به ما أخذ على المكلفين على ألسنة الأنبياء أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا « وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ » اللام وإن للتأكيد ، والمعنى وإنا وجدنا أكثرهم ناقضين للعهد ، مخلفين للوعد ، انتهى.

ولعل تأويله عليه‌السلام يرجع إلى أن الله تعالى أخذ عليهم العهد بما أعطاهم من العقل أن يستعملوا العقل فيما أتاهم مما يوجب اليقين فتركوا ذلك وشكوا بعد مشاهدة المعجزات الباهرة والحجج الظاهرة الواضحة ، فصاروا فاسقين خارجين عن الإيمان ، وقيل : أشار عليه‌السلام بذلك إلى أن الأكثر تقضوا عهد الله وعهد رسوله في الولاية وشكوا فيها وأن الآية نزلت في شكهم وأن كل شاك فاسق.

الحديث الثاني : ضعيف.

وكأنه مرسل لأن أبا إسحاق من أصحاب الرضا عليه‌السلام أو الصادق عليه‌السلام ويحتمل أن يكون مضمرا بأن يكون ضمير قال راجعا إلى أحد الإمامين عليهما‌السلام ، والارتياب الشك والتهمة ، ولعل المراد هنا الخوض في الشبهات التي توجب الشك أو عدم الرضا بقضاء الله واتهامه في قضائه أو التردد الذي هو مبدء الريب والشك ، أو المعنى لا ترخصوا لأنفسكم في الريب في بعض الأمور ، ولا تعتادوها ، فإنه ينتهي إلى الشك في الدين.

الحديث الثالث : صحيح.

ويدل على أن الشك في الله وفي الرسول كفر ، وقوله عليه‌السلام لزرارة « إنما

١٨٢

جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال يا أبا عبد الله ما تقول فيمن شك في الله فقال كافر يا أبا محمد قال فشك في رسول الله فقال كافر قال ثم التفت إلى زرارة فقال إنما يكفر إذا جحد.

٤ ـ عنه ، عن أبيه ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى بن عمران الحلبي ، عن هارون بن خارجة ، عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ » (١) قال بشك.

______________________________________________________

يكفر إذا جحد » يحتمل وجوها :

الأول : أن غرضه عليه‌السلام الرد على زرارة فيما كان بينه وبينه عليه‌السلام من الواسطة بين الإيمان والكفر ، لئلا يتوهم زرارة من حكمه عليه‌السلام بكفر الشاك في الله والرسول كفر الشاك في الإمام أيضا ، بل ما لم يجحد الإمام لا يكفر ، ويؤيده الخبر الأول من الباب الآتي.

الثاني : أن يكون المراد أن الشك في أصول الدين مطلقا إنما يصير سببا للكفر بعد البيان وإقامة الدليل ، ومن لم تتم عليه الحجة ليس كذلك فالمستضعف الذي لا يمكنه التمييز بين الحق والباطل ولم تتم عليه الحجة ليس بكافر كما زعمه زرارة ، وقيل : إنما ذلك في الشك في الرسول وأما الشاك في الله فهو كافر ، لأن الدلائل الدالة على وجوده أوضح من أن يشك فيها ولا ينكره إلا معاند مباهت.

الثالث : ما قيل : المراد بالشاك المقر تارة والجاحد أخرى ، وأنه كلما أقر فهو مؤمن ، وكلما جحد فهو كافر.

الرابع : أن المعنى أن الشك إنما يصير سببا للكفر إذا كان مقرونا لجحود الظاهري وإلا فهو منافق يجري عليه أحكام الإسلام ظاهرا.

الحديث الرابع : صحيح.

« الَّذِينَ آمَنُوا » في المجمع معناه الذين عرفوا الله تعالى وصدقوا به وبما أوجبه

__________________

(١) سورة الأنعام : ٨٢.

١٨٣

______________________________________________________

عليهم ولم يخلطوا ذلك بظلم ، والظلم هو الشرك عن أكثر المفسرين لقوله تعالى : « إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » (١) وروي عن ابن مسعود لما نزلت هذه الآية شق على الناس وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال عليه‌السلام : إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح : « يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » وقال الجبائي : والبلخي يدخل في الظلم كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة ، وتتمة الآية : « أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ».

وأقول : روى العياشي عن الصادق عليه‌السلام في هذه الآية قال : الظلم الضلال فما فوقه ، وفي رواية قال : أولئك الخوارج وأصحابهم وفي رواية أخرى قال : آمنوا بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاية ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان ، وأقول : لا تنافي بين هذه الأخبار والأقوال ، لأن الظلم وضع الشيء في غير محله ، فالعاصي ظالم لأنه وضع المعصية موضع الطاعة وأيضا ظلم نفسه بارتكابها ، والمشرك ظالم لأنه وضع الكفر موضع الإيمان ، والشاك ظالم لأنه وضع الشك موضع اليقين ، وأيضا في جميع ذلك ظلم نفسه ونقص حظه.

قيل : كان السائل سأل عن العام هل هو باق بعمومه أو مختص ببعض أفراده؟ فأجاب عليه‌السلام بأن المراد به ظلم الشك والكفر ، وقيل : فيه دلالة على أنهم كانوا يقولون بالعموم وعلى جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، واعترض بأنه لا دلالة فيه على شيء منهما أما الأول فلان السائل حمل الظلم على ظلم المخالفة ، وشق عليه ذلك لما ترتب عليه من عدم الأمن وعدم الاهتداء فسأل عن ذلك فأجاب عليه‌السلام بحمله على ظلم الشك ، وأما الثاني فلان الآية ليس فيها تكليف بعمل وإنما فيها تكليف باعتقاد صدق الخبر بأن للمؤمنين الأمن والاهتداء فأين الحاجة التي تأخر البيان إليها.

وأجيب عن الأول بأن ظلم المخالفة يتنوع إلى كبائر وصغائر لا تنحصر ، وإنما

__________________

(١) سورة لقمان : ١٣.

١٨٤

٥ ـ الحسين بن محمد ، عن أحمد بن إسحاق ، عن بكر بن محمد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الشك والمعصية في النار ليسا منا ولا إلينا.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن عثمان بن عيسى ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من شك في الله بعد مولده على الفطرة لم يفئ إلى خير أبدا.

٧ ـ عنه ، عن أبيه رفعه إلى أبي جعفر عليه‌السلام قال لا ينفع مع الشك والجحود عمل.

______________________________________________________

شق. عليه حمله على ظلم المخالفة إذا عم جميع صورها فأخذ العموم لازم ، سواء جعل من تعميم الجنس في أنواعه ، أو من تعميم النوع في أفراده. وعن الثاني بأن الآية وإن كانت خبرا فهو في معنى النهي عن ليس الإيمان بالظلم ، فهي عملية من هذا الوجه على أن الفرق في تأخير البيان بين المسائل العلمية والعملية غير ظاهر ، والدليل في المسألة مشترك.

الحديث الخامس : صحيح.

الحديث السادس : مرسل.

« لم يفيء إلى خير » هو من الفيء بمعنى الرجوع أما بإثبات الهمزة أو بالقلب والحذف تخفيفا ، وظاهره عدم قبول توبة المرتد الفطري كما هو المشهور ، قال الشهيد الثاني قدس الله روحه : لا تقبل توبته ظاهرا وفي قبولها باطنا قول قوي حذرا من تكليف ما لا يطاق لو كان مكلفا بالإسلام أو خروجه عن التكليف ما دام حيا كامل العقل وهو باطل بالإجماع ، وقال في المهذب : لو تاب المرتد عن فطرة لم تقبل بالنسبة إلى إسقاط الحد وملك المال وبقاء النكاح وابتداء النكاح مطلقا ، وتقبل بالنسبة إلى الطهارة وصحة العبادات وإسقاط عقوبة الآخرة واستحقاق الثواب ، ولا ينافي ذلك وجوب قتله كما لو تاب المحصن بعد قيام البينة.

الحديث السابع : مرفوع.

« لا ينفع مع الشك والجحود عمل » يدل على أن قبول الأعمال مشروط باليقين

١٨٥

٨ ـ وفي وصية المفضل قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول من شك أو ظن وأقام على أحدهما أحبط الله عمله إن حجة الله هي الحجة الواضحة.

٩ ـ عنه ، عن علي بن أسباط ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال قلت إنا لنرى الرجل له عبادة واجتهاد وخشوع ولا يقول بالحق فهل ينفعه ذلك شيئا فقال يا أبا محمد إنما مثل أهل البيت مثل أهل

______________________________________________________

في جميع أصول الدين التي منها الإمامة.

الحديث الثامن : مرسل أيضا.

« أو ظن » أي في خلاف الحق أو في الحق فإنه لا بد في الأصول من العلم واليقين « أحبط الله عمله » أي إذا طرأ أحدهما بعد اليقين بناء على إمكانه ، وسيأتي القول فيه إنشاء الله أو المراد بالإحباط الرد وعدم القبول.

« إن حجة الله هي الحجة الواضحة » أي حجة الله في أصول الدين واضحة توجب اليقين فليس الشك والظن مما يعذر المرء فيه ، وإنما نشأ ذلك من تقصيره ، أو الأعم من الأصول والفروع ، فإن الظن المعتبر شرعا في قوة اليقين فإن ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم.

ثم اعلم أن هذه الأخبار مما يدل على اعتبار العلم اليقيني في الإيمان ، وأن الشاك في العقائد الإيمانية كافر ، بل الظان أيضا فإن الشك يطلق في الأخبار على مطلق التردد وتجويز النقيض وإن كان أحد الطرفين راجحا ، بل في اللغة أيضا كذلك ، وقد قال تعالى : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا » (١) والآيات الناهية عن الظن كثيرة وغاية ما يمكن أن يقال فيها أن تخص بأصول الدين وقد مر بعض القول في ذلك في صدر هذا المجلد.

الحديث التاسع : موثق.

« فهل ينفعه ذلك شيئا » قوله : شيئا قائم مقام المفعول المطلق أي نفعا قليلا كذا قيل ، « إن مثل أهل البيت » كان فيه تقدير مضاف أي مثل أصحاب أهل

__________________

(١) سورة الحجرات :

١٨٦

بيت كانوا في بني إسرائيل كان لا يجتهد أحد منهم أربعين ليلة إلا دعا فأجيب وإن رجلا منهم اجتهد أربعين ليلة ثم دعا فلم يستجب له فأتى عيسى ابن مريم عليه‌السلام يشكوا إليه ما هو فيه ويسأله الدعاء قال فتطهر عيسى وصلى ثم دعا الله عز وجل فأوحى الله عز وجل إليه يا عيسى إن عبدي أتاني من غير الباب الذي أوتى منه إنه دعاني وفي قلبه شك منك فلو دعاني حتى ينقطع عنقه وتنتثر أنامله ما استجبت له قال فالتفت إليه عيسى عليه‌السلام فقال تدعو ربك وأنت في شك من نبيه فقال يا روح الله وكلمته قد كان والله ما قلت فادع الله [ لي ] أن يذهب به عني قال فدعا له عيسى عليه‌السلام فتاب الله عليه وقبل منه وصار في حد أهل بيته.

______________________________________________________

البيت أو المراد بأهل البيت الموالون لهم واقعا ، وقيل : مثل في الموضعين بكسر الميم وسكون المثلثة والأول خبر مبتدإ محذوف ، أي هو مثل ، والثاني بدل الأول كما في قوله تعالى : « بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ » (١) والأول أظهر ، والاجتهاد المبالغة والاهتمام في الطاعات والاجتناب عن المنهيات ، والإخلاص في الأعمال كما ورد : من أخلص لله أربعين صباحا فتح الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ، ويدل على أن لخصوص الأربعين في ذلك تأثيرا ، ويؤيده أن بعد الأربعين أنزل الله على موسى الكتاب المبين ، واستجاب دعاءه ، وفتح عليه أبواب علوم الدين ويدل على عدم قبول العمل مع الشك في النبي أو الإمام عليهما‌السلام ، وأن التوبة بعده مقبولة ، ويمكن حمله على أنه من خصائص تلك الشريعة ، أو على أنه كان مليا أو مستضعفا ، أو على أن عدم قبول التوبة مع الجحد والإنكار.

__________________

(١) سورة العلق : ١٦.

١٨٧

باب الضلال

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن هاشم صاحب البريد قال كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطاب مجتمعين فقال لنا أبو الخطاب ما تقولون فيمن لم يعرف هذا الأمر فقلت من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر فقال أبو الخطاب ليس بكافر حتى تقوم عليه الحجة فإذا قامت عليه الحجة فلم يعرف فهو كافر فقال له محمد بن مسلم سبحان الله ما له إذالم يعرف ولم

______________________________________________________

باب الضلال

الحديث الأول : مجهول.

وقال في النهاية : البريد كلمة فارسية يراد بها في الأصل البغل ، وأصلها « بريدة دم » أي محذوف الذنب ، لأن بغال البريد كانت كالعلامة لها ، فأعربت وخففت ثم سمي الرسول الذي يركبه بريدا ، والمسافة التي بين السكتين بريدا ، والسكة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبة أو رباط ، وكان يرتب في كل سكة بغال ، وبعد ما بين السكتين فرسخان وقيل : أربعة ، انتهى.

وكأنه لقب بذلك لأنه كان موكلا بتلك البغال أو الرجال « فقال : لنا » وفي بعض النسخ له فالضمير لمحمد « فقلت من لم يعرف » الفرق بين الأقوال الثلاثة أنه ذهب صاحب البريد إلى أن غير العارف كافر سواء قامت عليه الحجة أم لم تقم ، وسواء جحد أم لم يجحد ، وعلى هذا فلا واسطة بين المؤمن والكافر ، وذهب أبو الخطاب إلى أنه كافر إن قامت عليه الحجة جحد أم لم يجحد ، فبينهما واسطة وهي غير العارف قبل قيام الحجة ، وذهب محمد بن مسلم إلى أنه كافر إذا جحد وإذا لم يجحد فليس بكافر ، وعلى هذا أيضا بينهما واسطة وهي من لم يعرف ولم يجحد ويسمى مستضعفا وضالا وقيل : كان المراد بالضال في هذا الباب هذا المعنى وإن كان يطلق كثيرا على الأعم منه ، وهو

١٨٨

يجحد يكفر ليس بكافر إذا لم يجحد قال فلما حججت دخلت على أبي عبد الله فأخبرته بذلك فقال إنك قد حضرت وغابا ولكن موعدكم الليلة الجمرة الوسطى بمنى.

فلما كانت الليلة اجتمعنا عنده وأبو الخطاب ومحمد بن مسلم فتناول وسادة فوضعها في صدره ثم قال لنا ما تقولون في خدمكم ونسائكم وأهليكم أليس يشهدون أن لا إله إلا الله قلت بلى قال أليس يشهدون أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قلت بلى قال أليس يصلون ويصومون ويحجون قلت بلى قال فيعرفون ما أنتم عليه قلت لا قال فما هم عندكم قلت من لم يعرف [ هذا الأمر ] فهو كافر.

قال سبحان الله أما رأيت أهل الطريق وأهل المياه قلت بلى قال أليس يصلون ويصومون ويحجون أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قلت بلى قال فيعرفون ما أنتم عليه قلت لا قال فما هم عندكم قلت من لم يعرف [ هذا الأمر ] فهو كافر.

قال : سبحان الله أما رأيت الكعبة والطواف وأهل اليمن وتعلقهم بأستار

______________________________________________________

من لم يتمسك بالحق من فرق المسلمين ، وكان المراد بالكافر هنا من يجري عليه أحكام الكفر في الدنيا مثل النجاسة وعدم جواز المباشرة والمناكحة وغيرها كما هو مذهب بعض الأصحاب وإلا فلا خلاف في استحقاق العقوبة وخلود بعضهم في النار ، ولو قيل بخلافه وتحقق القول به فهو نادر سخيف كما ستعرفه.

« فإنك قد حضرت وغابا » لعل تأخيره عليه‌السلام بيان الحكم لتبيين مرادهم أو ليعلموا أيضا الحكم ، قيل : ويدل على أنه ينبغي للحاكم أن يترك الحكومة والتكلم فيها حتى يحضر الخصوم جميعا ومن ثم قال بعض الأكابر : إذا جاءك الحكم وقد فقئت عينه فلا تحكم له ، فلعله يأتيك خصمه وقد فقئت عيناه.

قوله : وأبو الخطاب عطف على ضمير اجتمعنا ، وعدم الإتيان بالمنفصل للفاصلة

١٨٩

الكعبة قلت بلى قال أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويصلون ويصومون ويحجون قلت بلى قال فيعرفون ما أنتم عليه قلت لا قال فما تقولون فيهم قلت من لم يعرف فهو كافر.

قال سبحان الله هذا قول الخوارج ثم قال إن شئتم أخبرتكم فقلت أنا :

______________________________________________________

« وأهليكم » أي أولادكم « هذا قول الخوارج » فإنهم يقولون كل من فعل كبيرة أو صغيرة وأصر عليها فهو كافر خارج عن الإسلام ، مستحق للقتل ، ولذا حكموا بكفر أمير المؤمنين عليه‌السلام للتحكيم مع أنهم جبروه عليه‌السلام على التحكيم ، وعلى الحكم الجائر الأحمق الحائر البائر الذي كان من أعداء أمير المؤمنين عليه‌السلام وأيضا أنه عليه‌السلام لم يرض بحكمهما مطلقا بل بحكمهما إذا حكما بالكتاب والسنة ، وهما لعنة الله عليهما حكما على خلاف الكتاب والسنة ، وما فعله عليه‌السلام لم يكن معصية ، وبسط القول في ذلك موكول إلى كتابنا الكبير.

والحاصل أن للكفر معان شتى ، ولكل منها أحكام يترتب عليها كالإيمان ، والخوارج لما سمعوا إطلاق الكفر وسلب الإيمان على أصحاب الكبائر بل الصغائر أيضا ولم يفرقوا بين معانيه وأحكامه أجروا جميع أحكام الكفر في الدنيا والآخرة على الفساق وضيقوا الأمر على المسلمين وحكموا بأن أصحاب الكبائر بل الصغائر أيضا كفار بالمعنى الذي يطلق على من لم يشهد الشهادتين ، وليس كذلك بل الكفر ببعض معانيه يجتمع مع الإسلام ببعض معانيه ، وليس كل من أطلق عليه الكفر في الأخبار يستحق القتل وتحرم مناكحته ومعاشرته ، وليس كل من سلب عنه الإيمان في الآيات والأخبار يجب خلوده في النار ، فالكفر يطلق على من أنكر شيئا من ضروريات دين الإسلام ظاهرا وباطنا كالشهادتين أو المعاد ، فهو يجري عليه أحكام الكفار في الدنيا ويخلد في النار في الآخرة إلا أن أهل الكتاب اختلف الأصحاب في نجاستهم وعدم جواز مناكحتهم على التفصيل الذي سيأتي في محله إن شاء الله.

ويطلق على من أخل بشيء من العقائد الإيمانية وإن لم يكن ضروريا لدين

١٩٠

لا فقال أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا قال فظننت أنه

______________________________________________________

الإسلام كالإمامة ، والمشهور أنهم في الآخرة بحكم الكفار وهم مخلدون في النار كالمخالفين وسائر فرق الشيعة سوى الإمامية ، وقد دلت عليه أخبار كثيرة أوردناها في كتابنا الكبير ، لكن قد عرفت أنه يظهر من كثير من الأخبار أنه يمكن نجاة بعض المخالفين من النار كالمستضعفين والمرجون لأمر الله ، وقد ذكر العلامة وغيره قولا بعدم خلود المخالفين في النار ، وهو في غير المستضعفين وأشباههم في غاية الضعف لأن الإمامة عند الشيعة من أصول الدين ، وقد ورد متواترا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى.

وأما الأحكام الدنيوية أيضا كالطهارة والتناكح والتوارث فالمشهور أنهم في جميع ذلك بحكم المسلمين ، وذهب السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه وجماعة إلى أنهم في الأمور الدنيوية أيضا بحكم الكفار ، والذي يظهر من بعض الأخبار أنهم واقعا في جميع الأحكام بحكم الكفار لكن الله تعالى لما علم أن للمخالفين دولة وغلبة على الشيعة ولا بد لهم من معاشرتهم رخص لهم في جميع ذلك وأجرى على المخالفين في زمان الهدنة والتقية أحكام المسلمين وفي زمن القائم عليه‌السلام لا فرق بينهم وبين الكفار ، وبه يمكن الجمع بين الأخبار.

وقد يطلق على مرتكبي الكبائر من غير توبة وأثره احتمال العقاب الطويل لا الخلود ، ولا جريان حكم الكفار عليهم في الدنيا ، بل يمكن سقوط بعض الحقوق التي تكون للمؤمنين ، وقد يطلق على مطلق مرتكبي المعاصي.

وبالجملة له معان كثيرة وأحكام متباينة كما يظهر بالتتبع قال الشهيد الثاني (ره) في رسالة حقائق الإيمان : اعلم أن جمعا من علماء الإمامية حكموا بكفر أهل الخلاف والأكثر علي الحكم بإسلامهم ، فإن أرادوا بذلك كونهم كافرين في نفس الأمر لا في الظاهر ، فالظاهر أن النزاع لفظي إذ القائلون بإسلامهم يريدون ما ذكرناه من الحكم بصحة جريان أكثر أحكام المسلمين عليهم في الظاهر ، لا أنهم مسلمون في

١٩١

يديرنا على قول محمد بن مسلم.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن رجل ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قلت له فما تقول في مناكحة الناس فإني قد بلغت ما تراه وما تزوجت قط فقال وما يمنعك من ذلك فقلت ما يمنعني إلا أنني أخشى أن لا تحل لي مناكحتهم فما تأمرني فقال فكيف تصنع وأنت شاب أتصبر قلت أتخذ الجواري قال فهات الآن فبما تستحل الجواري قلت إن الأمة ليست بمنزلة الحرة إن رابتني بشيء بعتها واعتزلتها قال فحدثني بما استحللتها؟

______________________________________________________

نفس الأمر ، فلذا نقلوا الإجماع على دخولهم في النار ، وإن أرادوا بذلك كونهم كافرين باطنا وظاهرا فهو ممنوع ، ولا دليل عليه بل الدليل قائم على إسلامهم ظاهرا كقوله عليه‌السلام : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.

الحديث الثاني : مرسل.

« أخشى أن لا تحل لي مناكحتهم » منشأ الخشية ما عرفت من إصرار زرارة علي نفي الواسطة بين الإيمان والكفر ، وأن المخالفين كلهم ولو كانوا من فرق الشيعة غير الإمامية كفار عنده يجري عليهم جميع أحكام الكفار في الدنيا والآخرة. « قال : فهات الآن » هات اسم فعل بمعنى أعطني ، والحاصل أن وطي الكافرة حرام لا سيما من غير أهل الكتاب ، كما أن نكاح الكافرة حرام فبما تفرق بينهما « إن رابتني بشيء بعتها » يقال : رابه وأرابه أي شككه وأوهمه ، ولعله توهم الفرق بين الحرة والأمة ، بأن الحرة إذا لم توافقه وظهرت منه أمارات المخالفة وطلقها ذهبت بطلاقة ، وربما شهرته بالتشيع وفيه قباحة أيضا عرفا بخلاف الأمة ، فإنه يمكن بيعها ولا يقبل منها ما يقبل من الحرة وليس فيه عار.

وقوله عليه‌السلام : بما استحللتها ، إثبات الألف مع حرف الجر شاذ ، أي أنك قبل أن تدخلها في دينك وتكلمها في ذلك كيف جاز لك وطيها على زعمك ، وقيل : لما لم يكن الجواب مطابقا للسؤال عاد عليه‌السلام السؤال بعينه للتنبيه على خطائه ، قوله :

١٩٢

قال : فلم يكن عندي جواب.

فقلت له : فما ترى أتزوج فقال ما أبالي أن تفعل قلت أرأيت قولك ما أبالي أن تفعل فإن ذلك على جهتين تقول لست أبالي أن تأثم من غير أن آمرك فما تأمرني أفعل ذلك بأمرك فقال لي قد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوج وقد كان من أمر امرأة نوح وامرأة لوط ما قد كان إنهما قد « كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا

______________________________________________________

تقول لست أبالي ، لعله أحال الوجه الآخر على الظهور فأجاب عليه‌السلام باختيار الوجه المتروك ضمنا وكناية وكأنه سقط الشق الآخر من النساخ ، ويؤيده أنه ذكر هذا الحديث أبو عمرو الكشي في ترجمة زرارة بأدنى تغيير في اللفظ ، وقال فيه يعني زرارة فتأمرني أن أتزوج قال له ذاك إليك « قال : فقال زرارة » هذا الكلام ينصرف على ضربين إما أن لا تبالي أن أعصي الله إذا لم تأمرني بذلك ، والوجه الآخر أن يكون مطلقا لي قال فقال عليك بالبلهاء إلى آخر الخبر.

« تزوج » أي بعائشة وحفصة مع أنهما فعلتا ما فعلتا من إيذائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخيانة معه وإفشاء سره وما ظهر له من نفاقهما كما ذكره الله تعالى في القرآن ، ومثل حالهما بحال امرأة نوح وامرأة لوط في أنهما بالنفاق واستبطان الكفر وعدم الإخلاص كفرتا وخرجتا من الإيمان فلم يغن نوح ولوط عنهما من عذاب الله شيئا من الإغناء بحق الزواج حتى يقال لهما عند الموت أو في القيامة : أدخلا النار مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.

وذكر امرأة نوح وامرأة لوط يحتمل وجهين : أحدهما الاستدلال بفعل النبيين على الجواز ، وفيه أن شريعة من قبلنا ليست بحجة علينا ، والثاني الاستدلال على نفاق امرأتي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفرهما بالتمثيل المذكور في الآية وهو أظهر ، فالمعنى أن الله مثل حالهما بحال المرأتين وخيانتهما بخيانتهما ، وخيانة امرأتي الرسولين لم تكن فجورا بل إنما كانت نفاقها وإبطانهما الكفر وتظاهرهما على الرسولين ولذا خلدتا في النار ولم ينفعهما شفاعة الرسولين على الله تعالى ، وقد قال المفسرون

١٩٣

صالِحَيْنِ » فقلت إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس في ذلك بمنزلتي إنما هي تحت يده وهي مقرة بحكمه مقرة بدينه قال فقال لي ما ترى من الخيانة في قول الله عز وجل « فَخانَتاهُما » (١) ما يعني بذلك إلا الفاحشة وقد زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلانا قال قلت أصلحك الله ما تأمرني أنطلق فأتزوج بأمرك فقال لي إن كنت فاعلا فعليك بالبلهاء من النساء قلت وما البلهاء قال ذوات الخدور العفائف.

فقلت من هي على دين سالم بن أبي حفصة قال لا فقلت من هي على

______________________________________________________

امرأة نوح قالت لقومه إنه مجنون ، وامرأة لوط دلت قومه على ضيفانه ، ولما كانت المرأتان مع نفاقهما تحت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإظهارهما الإسلام فيجوز نكاح المخالفات لذلك ، وقوله عليه‌السلام : إنهما قد كانتا ، نقل للآية بالمعنى.

قوله عليه‌السلام : ما يعني بذلك إلا الفاحشة ، يحتمل وجهين : الأول أن يكون استفهاما إنكاريا فالمراد بالفاحشة الزنا كما هو الشائع في استعمالها ، والثاني أن يكون نفيا ويكون المراد بالفاحشة الذنب العظيم وهو الشرك والكفر ، كما قال المفسرون في قوله تعالى : « وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها » (٢) وهو أظهر وفيه رد لقول زرارة وهي مقرة بحكمه ودينه إذ علاقة الزوجية لا تستلزم ذلك ، لظهور الفاحشة منهما.

« وقد زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلانا » أي عثمان ، هذا أيضا رد لما توهمه فإن الأمر هناك كان بالعكس ، إذا لمرأة تحت يد الزوج ، وهو مسلط عليها ، وظاهره جواز تزويج المؤمنة بالمخالف كما ذهب إليه المفيد والمحقق والمشهور المنع لأخبار كثيرة حملاها على الكراهة جمعا والإجماع الذي ادعوه على المنع غير ثابت ، والأحوط الترك وسيأتي القول فيه وفي عكسه في محلهما إن شاء الله.

ثم لما استشعر زرارة من الكلام المذكور الرخصة في تزويجهن أراد أن

__________________

(١) سورة التحريم : ٩.

(٢) سورة الأعراف : ٢٨.

١٩٤

دين ربيعة الرأي فقال لا ولكن العواتق اللواتي لا ينصبن كفرا ولا يعرفن ما تعرفون قلت وهل تعدو أن تكون مؤمنة أو كافرة فقال تصوم وتصلي وتتقي الله

______________________________________________________

يصرح بذلك فقال : ما تأمرني؟ إلخ ، فقال عليه‌السلام : إن كنت فاعلا فعليك بالبلهاء من النساء ، أي المستضعفة الكريمة الأخلاق القريبة من قبول الحق ، قال الجوهري : رجل أبله بين البله والبلاهة ، وهو الذي غلبت عليه سلامة الصدر ، وقد بله بالكسر وتبله والمرأة بلهاء ، وفي الحديث أكثر : أهل الجنة البله ، يعني البلة في أمر الدنيا لقلة اهتمامهم بها وهم أكياس في أمر الآخرة ، وفي القاموس : رجل أبله أي غافل أو عن الشر أو أحمق لا تمييز له ، والميت الداء أي من شره ميت ، والحسن الخلق القليل الفطنة لمداق الأمور أو من غلبته سلامة الصدر ، والبلهاء المرأة الكريمة المريرة العزيزة المغفلة ، وفي المصباح : بله بلها من باب تعب ضعف عقله فهو أبله والأنثى بلهاء ، والجمع بله مثل أحمر وحمراء وحمر ، ومن كلام العرب خير أولادنا الأبله الغفول ، المعنى أنه لشدة حيائه كالأبله فيتغافل فيتجاوز ، فشبه ذلك بالبله ، انتهى.

وما فسره عليه‌السلام بيان لحاصل المعنى بذكر بعض صفاتها ، وفي النهاية : الخدر بالكسر ناحية في البيت يترك عليها ستر فتكون فيه الجارية البكر خدرت فهي مخدرة وجمع الخدر الخدور ، والعفائف جمع العفيفة وهي المرأة الممتنعة من القبائح حياءا من عف عن الشيء يعف من باب ضرب عفة بالكسر وعفافا بالفتح امتنع منه ، والجواري إذا كن كذلك لم يسمعن شبه المخالفين ، ولم تستقر في أنفسهن فهن أقرب إلى قبول الحق ودين الأزواج ، وهن من المستضعفات اللواتي لا ينصبن الحق وأهله ، وأبعد من سوء الأخلاق ونصب أهل البيت عليهم‌السلام ولما كان نفي الواسطة مستقرا في نفس زرارة عاد في السؤال ، وقال : أيجوز لي أن أتزوج من كان على دين سالم بن أبي حفصة ، وهو كان من رؤساء الزيدية.

١٩٥

ولا تدري ما أمركم فقلت قد قال الله عز وجل : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ » لا والله لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن ولا كافر.

قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام قول الله أصدق من قولك يا زرارة أرأيت قول الله

______________________________________________________

وروى الكشي روايات كثيرة تدل على أن الصادق عليه‌السلام لعنه وكذبه وكفره ، وربيعة الرأي من فقهاء العامة ، قال الشيخ في الرجال : ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ المعروف بربيعة الرأي المدني الفقيه عامي روى عن السجاد والباقر عليهما‌السلام.

وقال المطرزي في المغرب : الرأي ما ارتآه الإنسان واعتقده ، ومنه ربيعة الرأي بالإضافة فقيه أهل المدينة ، وفي القاموس : هو شيخ مالك وكأنه ٧ إنما نفي من كان على رأيهما لأنه علم أن مراده المتعصبات منهن لا المستضعفات لأن ظاهر سياق كلامه أنه قال ذلك على سبيل التشنيع والإلزام.

وفي النهاية : العاتق الشابة أول ما تدرك ، وقيل : هي التي لم تبن من والديها ولم تتزوج وقد أدركت وشبت ، ويجمع على العتق والعواتق.

( فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) استدل زرارة بهذه الآية على انحصار الناس في المؤمن والكافر وهي ليست صريحة في ذلك ، وليس فيها ما يدل على الحصر ، ولو كانت ظاهرة فيه فلا بد من تأويلها لوجود المعارض ، وأيضا قد عرفت أن للكفر إطلاقات كثيرة ، فيمكن أن يكون الكفر في هذه الآية بمعنى عدم الإيمان ، وفي الآيات الدالة على الخلود والنهي عن المناكحة وغيرها بمعنى الجحود فلا تنافي بينهما ، ولعله ٧ لم يتعرض لجوابه لظهوره ، وذكر ما يدل على أن المراد بالآية غير ما فهمه زرارة وإلا لزم التنافي بين الآيات ، وقد بينا ذلك في الأخبار السابقة.

وأشار عليه‌السلام إلى هذا بقوله : قول الله أصدق من قولك ، فنسب ما فهمه من الآية إلى قوله إيذانا بأنه ليس ما فهمته مرادا من الآية.

١٩٦

عزوجل : « خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ » (١) فلما قال عسى فقلت ما هم إلا مؤمنين أو كافرين قال فقال ما تقول في قوله عز وجل : « إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً » (٢) إلى الإيمان فقلت ما هم إلا مؤمنين أو كافرين فقال والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ثم أقبل علي فقال ما تقول في أصحاب الأعراف فقلت ما هم إلا مؤمنين أو كافرين إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون وإن دخلوا النار فهم كافرون فقال والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ولو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون ولكنهم قوم قد

______________________________________________________

« فلما قال عسى فقلت » الظاهر أن مراده أنه لم يصبر زرارة حتى يتم عليه‌السلام الآية ، وبادر بالجواب بإعادة مطلوبه مرة أخرى ، وقيل : المراد أنه لما استدل عليه‌السلام بقوله عسى على أنه ليس بمؤمن لأن المؤمن يدخل الجنة قطعا ، ولا بكافر لأنه معذب البتة قلت : إن يرحمه‌الله فهو في علم الله مؤمن ، وإن يعذبه فهو في علم الله كافر « إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون » وذلك لما تقرر عنده أن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن « وإن دخلوا النار فهم كافرون » لما تقرر عنده أن النار لا يدخلها إلا كافر ، والمقدمتان ممنوعتان لأن الجنة قد يدخلها غير المؤمن برحمة الله ، والنار قد يدخلها غير الكافر بذنب غير الكفر.

قوله عليه‌السلام : لدخلوا الجنة ، أي ابتداء من غير توقف أو بسبب الإيمان كما دخلها المؤمنون كذلك ، وهذا لا ينافي دخولهم فيها بالرحمة « لدخلوا النار » أي ابتداء أو بسبب الكفر كما دخلها الكافرون كذلك ، وهذا لا ينافي دخولهم فيها بذنوب غير الكفر ، إما مع الخلود أو بدونها « استوت حسناتهم وسيئاتهم » قيل : كان المراد بهما الإقرار والإنكار وباستوائهما عدم رجحان أحدهما على الآخر أو الأعم

__________________

(١) سورة التوبة : ١٠٣.

(٢) سورة النساء : ٩٨.

١٩٧

استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم الأعمال وأنهم لكما قال الله عزوجل.

فقلت أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار فقال اتركهم حيث تركهم الله قلت أفترجئهم قال نعم أرجئهم كما أرجأهم الله إن شاء أدخلهم الجنة

______________________________________________________

منهما ومن الأعمال الصالحة والذنوب.

« فقصرت بهم الأعمال » أي لم تبلغ بهم الأعمال الحسنة إلى مقصدهم وهو الجنة ، قال في المصباح : قصرت بنا النفقة أي لم تبلغ بنا إلى مقصدنا ، فالباء للتعدية « لكما قال الله عز وجل » :

أقول : ظاهر الخبر أن أصحاب الأعراف يوقفون ابتداء فيها ثم يساقون إما إلى الجنة أو إلى النار ، ولا يبقون فيها كما قال بعض المفسرين إن في الدرجة الأدنى من الأعراف قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، أوقفهم الله عليها لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار ، ثم تؤول عاقبة أمرهم إلى الجنة برحمة الله وفضله ، كما قال عز وجل : « لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ » (١) أي لا يطمعون دخولها بعملهم ، بل بفضل الله وإحسانه أن ينقلهم من ذلك الموضع إلى الجنة.

« فقلت : من أهل الجنة هم أم من أهل النار » كان غرضه الإلزام بأنهم إن كانوا من أهل الجنة فهم مؤمنون ، وإن كانوا من أهل النار فهم كافرون « فقال : اتركهم حيث تركهم الله » أي يحتمل فيهم الأمران ، ولا ينافي عدم كونهم مؤمنين ولا كافرين « قلت أفترجئهم » كان مراده أن هذا مذهب المرجئة وهو باطل ، لأن مذهب المرجئة عدم الحكم بإيمان أحد وكفر أحد مطلقا وهذا الإرجاء ليس في المذهب ، وإنما هو إرجاء في الثواب والعقاب ، وبالنسبة إلى جماعة مخصوصة ، وقيل : أي أفتوقعهم في الرجاء والطمع للمغفرة ولا تحكم بكفرهم « برحمته » أي لا بإيمانهم لعدمه « بذنوبهم » أي لا بكفرهم لعدمه « ولم يظلمهم » إذ لا ظلم في العقوبة مع الاستحقاق بالذنوب.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٤٦.

١٩٨

برحمته وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم فقلت هل يدخل الجنة كافر قال لا قلت [ فـ ] ـهل يدخل النار إلا كافر قال فقال لا إلا أن يشاء الله يا زرارة إنني أقول ما شاء الله وأنت لا تقول ما شاء الله أما إنك إن كبرت رجعت وتحللت عنك عقدك.

______________________________________________________

« هل يدخل الجنة كافر؟ قال : لا » إنما لم يستثن عليه‌السلام فيه لأنه لا يحتاج إلى استثناء ، نعم لو قال مكان كافر غير مؤمن لاحتاج إلى الاستثناء ، وأما المقدمة الثانية فتحتاج إلى الاستثناء لأنه يمكن أن يدخل النار غير الكافر من الفساق والمستضعفين.

« رجعت وتحللت عنك عقدك » في القاموس : تحلل في يمينه استثنى ، وحل العقد نقضها فانحلت ، وقال : عقد الحبل والبيع والعهد يعقده شده ، والعقد الضمان ، والعهد والعقد بالكسر القلادة ، والعقدة بالضم الولاية على البلد ، والجمع كصرد والضيعة والعقار الذي اعتقده صاحبه ملكا ، وموضع العقد وهو ما عقد عليه ، والبيعة المعقودة لهم ، وتحللت عقده سكن غضبه ، وفي المصباح : عقدت الحبل عقدا من باب ضرب فانعقد ، والعقدة ما يمسكه ويوثقه ، ومنه قيل : عقدت البيع واليمين ، وعقدة النكاح وغيره إحكامه وإبرامه.

فإذا عرفت هذا فهذا الكلام يحتمل وجوها « الأول » : أن يكون العقد بضم العين وفتح القاف جمع العقدة بالضم والمراد أنك إن كبر سنك رجعت عن هذا المذهب الباطل الذي استقر في نفسك وانحلت عنك العقد التي في قلبك من الشكوك والشبهات في ذلك ، استعار العقد للشبهات وهي شائعة في المحاورات بين الناس ، وهذا أظهر الوجوه ، ومن قرأ تحللت بصيغة المتكلم فهو تصحيف إذ لم أجده في اللغة متعديا.

الثاني : أن يكون المراد بتحلل العقد سكون غضبه على المخالفين كما مر في القاموس.

١٩٩

______________________________________________________

الثالث : ما ذكره الكشي بعد إيراد هذه الرواية ، حيث قال : وأصحاب زرارة يقولون رجعت عن هذا الكلام وتحللت عنك عقد الإيمان ، انتهى.

ولعل المراد بأصحاب زرارة القائلون بهذا القول الذي كان زرارة عليه أولا فإنهم لما لم يرجعوا عن هذا القول ظنوا أن الإمام عليه‌السلام كان يصوب رأي زرارة باطنا ويتكلم معه ظاهرا للتقية ، فأخبر بأنه يرجع بعد كبره عن هذا القول ، ويرجع بذلك من الإيمان ، أو يضعف إيمانه ولا يخفى ركاكة هذا التأويل إلا أن يكون مرادهم تحلل العقد في مسألة الإيمان ، فيرجع إلى ما ذكرنا أولا.

الرابع : ما قيل : إن المعنى رجعت عن هذا القول الباطل وتحللت عنك هذه القلادة أو هذا الرأي.

الخامس : رجعت عن دين الحق وتحللت عنك هذا العهد والبيعة.

وأقول : لا يخفى اشتمال هذا الخبر على قدح عظيم لزرارة ، ولم يجعله وأمثاله الأصحاب قادحة فيه ، لإجماع العصابة على عدالته وجلالته وفضله وثقته ، وورد الأخبار الكثيرة في فضله وعلو شأنه ، والحق أن علو شأن هؤلاء الأجلاء وكثرة حاسديهم صار سببا للقدح فيهم ، وأيضا قدحوا في هذه الرواية بالإرسال ، وبمحمد ابن عيسى اليقطيني ، وإن كان له مدح وتوثيق من بعض الأصحاب ، فإنه جزم السيد الجليل ابن طاوس بضعفة ، والصدوق محمد بن بابويه وشيخه ابن الوليد ، وقال الشهيد الثاني قدس‌سره : فقد ظهر اشتراك جميع الأخبار القادحة في استنادها إلى محمد بن عيسى وهو قرينة عظيمة على ميل وانحراف منه على زرارة مضافا إلى ضعفه في نفسه ، وقال السيد جمال الدين بن طاوس ونعم ما قال : ولقد أكثر محمد بن عيسى من القول في زرارة حتى لو كان بمقام عدالة كادت الظنون تسرع إليه بالتهمة فكيف وهو مقدوح فيه.

٢٠٠