تفسير البغوي - ج ٣

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٣

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

زريع أنا روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسير في طريق مكة فمرّ على جبل يقال له جمدان ، فقال : «سيروا هذا جمدان سبق المفردون» ، قالوا : وما المفردون يا رسول الله؟ قال : «الذاكرون الله كثيرا والذاكرات».

[١٦٣٠] أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي أنا خلاد بن أسلم ثنا النضر أنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت الأغر قال : أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتمه الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده».

وقال قوم : معنى قوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) أي «ذكر الله إيّاكم أفضل من ذكركم إيّاه». ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن بير.

[١٦٣١] ويروى ذلك مرفوعا عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، وقال (٢) عطاء في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ، قال : ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) ، قال عطاء : يريد ل أيخفى عليه شيء.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) ، لا تخاصموهم ، (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، أي بالقرآن

__________________

[١٦٣٠] ـ صحيح. خلّاد ثقة ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم غير الأغرّ ، فقد تفرد عنه مسلم.

ـ النضر بن شميل ، شعبة بن الحجاج ، أبو إسحاق عمرو بن عبد الله ، الأغر هو أبو مسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٢٣٣ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ٢٧٠٠ والترمذي ٣٣٧٨ وأحمد ٢ / ٤٤٧ وابن حبان ٨٥٥ من طرق عن أبي إسحاق به.

ـ وورد بنحوه من وجه آخر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه مسلم ٢٦٩٩ وأبو داود ١٤٥٥ والترمذي ٢٩٤٥ وابن ماجه ٢٢٥ وابن حبان ٧٦٨ وأحمد ٢ / ٢٥٢ و ٤٠٧.

[١٦٣١] ـ المرفوع ضعيف جدا ، والصحيح موقوف.

ـ أخرجه ابن الديلمي في «زهر الفردوس» ٤ / ١٦٥ من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن موسى بن عقبة به.

ـ وإسناده ضعيف جدا ، إسماعيل ضعفه غير واحد ، وعنه مجاهيل ، والصحيح موقوف على ابن عمر وابن عباس وغيرهما.

ـ وأثر ابن عباس ، أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٢٢٥٦ وابن أبي شيبة ٣٥٦٤٠ والطبري ٢٧٧٩ و ٢٧٧٩٢ و ٢٧٧٩٣ و ٢٧٧٩٤ و ٢٧٧٩٧ و ٢٧٧٩٩ من طرق متعددة عنه موقوفا ، وهو الصحيح.

(١) هو الآتي.

(٢) زيد في المخطوطتين «ابن» وهو إقحام.

٥٦١

والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه ، وأراد من قبل الجزية منهم ، (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ، أي أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب ، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، ومجاز الآي إلا الذين ظلموكم لأن جميعهم ظالم بالكفر. وقال سعيد بن جبير هم : أهل الحرب ومن لا عهد له. قال قتادة ومقاتل : صارت منسوخة بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [التوبة : ٢٩]. (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) ، يريد إذا أخبركم واحد منهم ممن قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عليه و ، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

[١٦٣٢] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد](١) المليحي أنا أحمد (٢) بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمد بن بشار أنا عثمان بن عمر أنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونه بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا (٣)».

[١٦٣٣] أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري أنا عبد الصمد بن عبد الرحمن لابزار أنا محمد بن زكريا العذافري أنا إسحاق بن إبراهيم الديري أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري أنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إذ](٤) جاءه رجل من اليهود ومرّ بجنازة ، فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أعلم» ، فقال اليهودي : إنها

__________________

[١٦٣٢] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٢٥ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٤٤٨٥ و ٧٣٦٢ و ٧٥٤٢ عن محمد بن بشار بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه النسائي في «التفسير» ٤٠٧ عن محمد بن المثنى عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد.

وانظر ما بعده.

[١٦٣٣] ـ إسناده لين لأجل ابن أبي نملة ، فقد وثقه ابن حبان ، وروى عنه جمع منهم الزهري وعاصم ويعقوب ابنا عمر بن قتادة ، وضمرة بن سعيد ، ومروان بن أبي سعيد ، وعلى هذا تزول جهالته حيث روى عنه أكثر من واحد ، وقال عنه الحافظ في «التقريب» : مقبول.

ـ عبد الرزاق بن همام ، معمر بن راشد ، الزهري محمد بن مسلم ، ابن أبي نملة اسمه نملة.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٢٤ بهذا الإسناد.

ـ هو في «المصنف» لعبد الرزاق ٢٠٠٥٩ عن معمر به.

ـ وأخرجه أبو داود ٣٦٤٤ وأحمد ٤ / ١٣٦ وابن حبان ٦٢٥٧ والطبراني ٢٢ / (٨٧٤) و (٨٧٥) و (٨٧٨) و (٨٧٩) والبيهقي ٢ / ١٠ والمزي في «تهذيب الكمال» في ترجمة أبي نملة من طرق عن الزهري به.

ـ وتقدم أن إسناده لين لكن لأكثره شواهد ، وقد حكم الألباني بضعفه في «ضعيف الجامع» ٥٠٥٢ وكأنه ضعفه بسبب لفظ «إنها تتكلم» وإلّا فللحديث شواهد دونها ، في حين قال الشيخ شعيب : إسناده قوي ، رجاله ثقات رجال الشيخين غير نملة ، فقد روى عنه جمع ، وذكره ابن حبان في «الثقات».

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) تصحف في المطبوع «محمد».

(٣) زيد في المطبوع «وما أنزل إليكم».

(٤) زيادة عن المخطوط.

٥٦٢

تتكلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه».

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) يعني كما أنزلنا إليهم الكتب (١) ، (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ، يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه ، (وَمِنْ هؤُلاءِ) ، يعني أهل مكة ، (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) ، وهم مؤمنو أهل مكة ، (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) ، وذلك أن اليهود وأهل مكة عرفوا أن محمدا نبي والقرآن حق فجحدا. وقال قتادة : الجحود إنما يكون بعد المعرفة.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا) ، يا محمد ، (مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) ، يعني من قبل ما أنزلنا (٢) إلى الكتاب ، (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) ، يعني ولا تكتبه يعني لم تكن تقرأ ولا تكتب قبل الوحي ، (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) ، يعني لو كنت تقرأ أو تكتب فبل الوحي لشك المبطلون المشركون من أهل مكة ، وقالوا : إنه يقرؤه من كتب الأولين وينسخه منها ، قاله قتادة. وقال مقاتل : المبطلون هم اليهود ، ومعناه إذا لشكوا فيك واتهموك ، وقالوا إن الذي نجد نعته في التوراة أمي لا يقرأ ولا يكتب وليس هذا على ذلك النعت.

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) ، قال الحسن يعني القرآن آيات بينات ، (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، يعني المؤمنين الذين حملوا القرآن ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : بل هو يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب ، لأنهم يجدونه بنعته وصفته في كتبهم ، (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ).

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣))

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) ، كما أنزل على الأنبياء من قبل ، قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر آية على التوحيد ، وقرأ الآخرون آيات من ربه. قوله عزوجل : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ، وهو القادر على إرسالها إذا شاء أرسلها ، (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، أنذر أهل المعصية بالنار ، وليس إنزال الآيات بيدي.

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) ، هذا لا جواب لقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) قال : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) ، يعني أو لم يكفهم من الآيات القران يتلى عليهم ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) ، في إنزال القرآن ، (لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، أي تذكيرا وعظة لمن آمن وعمل به.

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) ، أني رسوله وهذا القرآن كتابه ، (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) ، قال ابن عباس : بغير الله. وقال قتادة : بعبادة الشيطان ، (وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

__________________

(١) في المطبوع «الكتاب».

(٢) في المطبوع «أنزل».

٥٦٣

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) ، نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء ، (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) ، قال ابن عباس : ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم [إلى يوم القيامة كما قال بل الساعة موعدهم وقال الضحاك مدة أعمالهم](١) لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب ، وقيل : يوم بدر ، (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) ، يعني العذاب وقيل الأجل ، (بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، بإتيانه.

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) ، أعاده تأكيدا ، (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ، جامعة لهم لا يبقى أحد منهم إلا دخلها.

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ) ، يصيبهم ، (الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، يعني إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنم كما قال لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ، (وَيَقُولُ ذُوقُوا) ، قرأ نافع وأهل الكوفة : «ويقول» بالياء أي ويقول لهم الموكل بعذابهم ، وقرأ الآخرون بالنون لأنه لما كان بأمره نسب إليه ، (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، أي جزاء ما كنتم تعملون.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٥٦) ، قال مقاتل والكلبي : نزلت في ضعفاء مسلمي مكة يقول إن كنتم في ضيق بمكة من إظهار الإيمان فاخرجوا منها إلى أرض المدينة إن أرضي [يعني المدينة](٢) واسعة آمنة ، قال مجاهد : إنّ أرضي واسعة فهاجروا وجاهدوا فيها. وقال سعيد بن جبير : إذا عمل في الأرض بالمعاصي فاخرجوا منها فإن أرضي واسعة. وقال عطاء : إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا فإن أرضي واسعة ، وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة. وقيل : نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة ، فأنزل الله هذه الآية ولم يعذرهم بترك الخروج. وقال مطرف بن عبد الله : [إن](٣) أرضي واسعة أي رزقي لكم واسع فاخرجوا.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ، خوّفهم بالموت لتهون عليهم الهجرة أي كل واحد ميت أينما كان فلا تقيموا بدار الشرك خوفا من الموت ، (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) ، فنجزيكم بأعمالكم ، وقرأ أبو بكر : «يرجعون» بالياء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) ، قرأ حمزة والكسائي بالثاء ساكنة من غير همز يقال (٤) : ثوى الرجل إذا أقام وأثويته إذا أنزلته منزلا يقيم فيه ، وقرأ الآخرون بالباء وفتحها وتشديد الواو وهمزة

__________________

(١) سقط من المطبوع.

(٢) زيد في المطبوع.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المطبوع «فقال».

٥٦٤

بعدها أي لننزلنّهم ، (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) ، علالي ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ).

(الَّذِينَ صَبَرُوا) ، على الشدائد ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم ، (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، يعتمدون.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا).

[١٦٣٤] وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون : «هاجروا إلى المدينة» ، فقالوا : كيف نخرج إلى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال ، فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) ، ذات حاجة إلى غذاء ، (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي لا ترفع رزقها معها ولا تدخر شيئا لغد مثل البهائم والطير ، (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) ، حيث كنتم ، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، السميع لأقوالكم لا نجد ما ننفق بالمدينة ، العليم بما في قلوبكم ، وقال سفيان عن علي بن الأقمر : «وكأيّن من دابّة لا تحمل رزقها» ، قال : لا تدخر شيئا لغد. قال سفيان : وليس شيء من خلق الله يخبّئ إلا الإنسان والفأرة والنملة.

[١٦٣٥] أخبرنا [أبو سعيد](١) أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي أنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق أنا محمد بن عبد العزيز أنا إسماعيل بن زرارة الرقي أنا أبو العطوف الجراح (٢) بن المنهال عن الزهري عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال : دخلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حائطا من حوائط الأنصار ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقط الرطب بيده ويأكل ، فقال كل يا ابن عمر ، قلت : لا أشتهيه يا رسول الله ، قال : لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أطعم طعاما ولم أجده ، فقلت إنا لله ، الله المستعان ، قال : يا ابن عمر لو سألت ربي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمّرت وبقيت في حثالة من الناس يخبئون رزق سنة ويضعف اليقين ، فنزلت هذه الآية : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا).

[١٦٣٦] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد](٣) المليحي أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي أنا أبو العباس السراج أنا قتيبة بن سعيد أنا جعفر بن سليمان (٤) عن ثابت عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان لا يدخر شيئا لغد.

__________________

[١٦٣٤] ـ لم أقف عليه مسندا. وذكر الواحدي في «الوسيط» ٤٢٤ نحوه عن مقاتل بدون إسناد ، فهو لا شيء ، ومقاتل إن كان ابن حيان ، فقد روى مناكير ، وإن كان ابن سليمان ، فهو كذاب.

[١٦٣٥] ـ باطل. إسناده ضعيف جدا ، وعلته الجراح بن منهال ، فإنه متروك الحديث ، واتهمه ابن حبان ، وهو كما قال ، فحديثه باطل ، لأن السورة مكية كما ذكر المؤلف نفسه.

ـ وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٤٢٥ وفي «الأسباب» ٦٧٣ من طريق يزيد بن هارون عن الجرّاح بن منهال به.

ـ وأخرجه عبد بن حميد في «المنتخب» ٨١٦ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ٣ / ٣١٨ من طريق يزيد بن هارون عن الجرّاح بن منهال عن الزهري عن رجل عن ابن عمر به ، وهذه الطريق فيها علة أخرى ، وهي من لم يسمّ في الإسناد.

ـ وقال الحافظ ابن كثير ٣ / ٥١٨ : أبو العطوف الجزري ضعيف.

[١٦٣٦] ـ إسناده حسن ، لأجل جعفر بن سليمان ، فهو وإن روى له مسلم فقد ضعفه غير واحد ، ووثقه آخرون ، وفي الباب أحاديث.

ـ وهو في «شرح السنة» ٣٥٨٤ بهذا الإسناد.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المخطوط «الخراج».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) تصحف في المخطوط «سليم».

٥٦٥

[١٦٣٧] وروينا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنكم تتوكّلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا».

[١٦٣٨] أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري أنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن الفضل الفقيه أنا أبو (١) نصر بن حمدويه المطوعي أنا أبو الموجه محمد بن عمرو أنا عبدان عن أبي حمزة عن إسماعيل هو ابن أبي خالد عن رجلين أحدهما زبيد اليامي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أيها الناس ليس من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به ، وليس شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين قد نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته».

وقال هشيم عن إسماعيل عن زبيد [اليامي](٢) عمن أخبره عن ابن مسعود.

__________________

ـ وأخرجه الترمذي ٢٣٦٢ وابن عدي ٢ / ١٤٩ وابن حبان ٦٣٥٦ والخطيب في «تاريخ بغداد» ٧ / ٩٨ من طريق قتيبة بن سعيد به.

ـ وأخرجه ابن عدي ٦ / ٥٢ من طريق قطن بن نسير عن جعفر بن سليمان به.

ـ وقال الترمذي : هذا حديث غريب ، وقد روي هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا.

ـ قلت : رواه غير واحد عن جعفر موصولا ، فالمرسل لا يعلل الموصول فهو حسن إن شاء الله ، وفي الباب أحاديث تشهد له.

[١٦٣٧] ـ تقدم في تفسير سورة آل عمران عند آية : ١٦٠ ، وهو قوي.

[١٦٣٨] ـ صحيح بطرقه وشواهده. إسناده ضعيف ، رجاله ثقات لكنه منقطع ، زبيد اليامي لم يدرك ابن مسعود ، والراوي الآخر لم يسمّ ، وقد سماه البغوي في الرواية الثانية ، وللحديث شواهد.

ـ عبدان هو عبد الله بن عثمان بن جبلة ، أبو حمزة محمد بن ميمون ، زبيد هو ابن الحارث.

ـ وهو في «شرح السنة» ٤٠٠٦ بهذا الإسناد.

ـ وكرره ٤٠٠٨ عن إسماعيل عن زبيد وعبد الملك بن عمير عن ابن مسعود ، وهذا منقطع كلاهما لم يدرك.

ـ وأخرجه الحاكم ٢ / ٤ / ٢١٣٦ من طريق خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد بن أبي أمية عن يونس بن بكير عن ابن مسعود به.

ـ سكت عليه الحاكم ، وكذا الذهبي ، ورجاله ثقات غير سعيد بن أبي أمية وشيخه ، وكلاهما مجهول.

ـ وللحديث شواهد منها :

ـ مرسل المطلب بن حنطب أخرجه البغوي في «شرح السنة» ٤٠٠٥ والشافعي في «الرسالة» ٢٨٩ و ٣٠٦ والخطيب في «الفقيه والمتفقه» ١ / ٩٣ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٢٧ و «الشعب» ١١٨٥.

ـ وحديث أبي أمامة الباهلي أخرجه الطبراني في «الكبير» ٨ / (٧٦٩٤) وأبو نعيم في «الحلية» ١٠ / ٢٧ ، وفي إسناده عفير بن معدان ، وهو واه.

ـ وحديث جابر أخرجه ابن ماجه ٢١٤٤ والحاكم ٢ / ٤ وابن حبان ٣٢٣٩ والبيهقي ٥ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥ وفي «الشعب» ١١٨٦ وأبو نعيم ٢ / ١٥٦ ـ ١٥٧.

ـ وحديث الحسن بن علي أخرجه الطبراني ٣ / (٢٧٣٧) وقال الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٧٢ : فيه عبد الرحمن بن عثمان الحاطبي ضعفه أبو حاتم.

ـ الخلاصة : هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده.

(١) زيد في المخطوط ـ ب ـ «بكر» وليس في سائر النسخ و «شرح السنة».

(٢) زيادة عن «شرح السنة».

٥٦٦

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) ، يعني كفار مكة ، (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٢).

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، وقيل : قل الحمد لله على إقرارهم ولزوم الحجة عليهم ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، ينكرون لا توحيد مع إقراره بأنه الخالق لهذه الأشياء. قوله تعالى :

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) ، اللهو هو الاستمتاع بلذات الدنيا ، واللعب العبث سميت بها لأنها فانية ، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) ، أي الحياة الدائمة الباقية ، والحيوان بمعنى الحياة أي فيها الحياة الدائمة ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، فناء الدنيا وبقاء الآخرة.

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

قوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ،) وخافوا الغرق ، (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ، وتركوا الأصنام ، (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) ، هذا إخبار عن عنادهم وأنهم عند الشدائد يقرّون أن القادر على كشفها هو الله عزوجل وحده ، فإذا زالت عادوا إلى كفرهم ، قال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها ف ٠ البحر وقالوا : يا رب يا رب.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) ، هذه (١) لام الأمر ومعناه التهديد والوعيد ، كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] ، أي ليجحدوا نعمة الله في إنجائه إيّاهم ، (وَلِيَتَمَتَّعُوا) ، قرأ حمزة والكسائي [وابن كثير وقالون](٢) ساكنة اللام ، وقر. الباقون بكسرها نسقا على قوله : «ليكفروا» ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، قيل : من كسر اللام جعلها لامه كي وكذلك في «ليكفروا» ، والمعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة (٣) من غير نصيب في الآخرة.

__________________

(١) في المطبوع و ـ ط ـ «هذا» والمثبت عن المخطوطتين.

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) تصحف في المطبوع «العاجلة».

٥٦٧

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) ، يسبي بعضه مبعضا ، وأهل مكة آمنون ، (أَفَبِالْباطِلِ) ، بالأصنام والشيطان ، (يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ ،) بمحمد والإسلام ، (يَكْفُرُونَ).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، فزعم أن لله شريكا وأنه أمر بالفواحش ، (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) ، بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، (لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) ، استفهام بمعين التقرير ، معناه : أما لهذا الكافر المكذب مأوى في جهنم.

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) ، الذين جاهدوا المشركين لنصرة ديننا ، (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، لنثبتنهم على ما قاتلوا عليه ، وقيل : لنزيدنّهم هدى كما قال : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) [مريم : ٧٦] ، وقيل : لنوفقنّهم لإصابة الطريق المستقيمة [والطرق المستقيمة](١) هي التي توصل إلى رضا الله عزوجل. قال سفيان بن عيينة : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور (٢) ، فإن الله قال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، وقيل : المجاهدة هي الصبر على الطاعات. قال الحسن : أفضل الجهاد مخالفة الهوى. وقال الفضيل بن عياض : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينّهم سبل العمل به. وقال سهل بن عبد الله : والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينّهم سبل الجنة.

وروي عن ابن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ، بالنصر والمعونة في دنياهم وبالثواب والمغفرة في عقباهم.

تفسير سورة الروم

مكية [وهي ستون آية ، وقيل : تسع وخمسون آية](٣)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣))

(الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) ، سبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون.

[١٦٣٩] أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودّون أن تغلب فارس الروم لأن أهل فارس

__________________

[١٦٣٩] ـ أخرجه الطبري ٢٧٨٧٢ عن عكرمة مرسلا دون عجزه «فلما خشي أبي بن خلف ....».

ـ وهذا الخبر ورد من وجوه متعدد بألفاظ مختلفة منها ما أخرجه الترمذي ٣١٩٣ والنسائي في «الكبرى» ١١٣٨٩ وفي «التفسير» ٤٠٩ وأحدم ١ / ٣٠٤ والطبري ٢٧٨٦٥ والحاكم ٢ / ٤١٠ والطبراني ٢ / ٢٩ / ١٢٣٧٧٧ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٣٣٠ ـ ٣١ من حديث ابن عباس في قول الله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قال : غلبت وغلبت ،

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيد في المطبوع «موضع المخافة في بروج البلدان» وهذا بلا ريب ليس من كلام ابن عيينة وإنما إقحام من الناسخ.

(٣) زيد في المطبوع.

٥٦٨

كانوا مجوسا أميين ، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونه أهل كتاب ، فبعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليها رجلا يقال له شهريراز (١) ، وبعث قيصر جيشا [وأمر](٢) عليهم رجلا يدعى بخنس (٣) ، فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم ، فغلبت فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق عليهم ، وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب و ، نحن أمّيّون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فو الله ليظهر (٤) على فارس (٥) أخبرنا بذلك نبينا ، فقام إليه أبيّ بن خلف الجمحي فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه ، والمناحبة المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت ، ففعلوا وجعلوا الأجل ثلاث سنين فجاء أبو بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بذلك ، وذلك قبل تحريم القمار ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل» ، فخرج أبو بكر ولقي أبيّا ، فقال : لعلك ندمت؟ قال : لا فقال : لا ، فتعال أزايدك في الخطر ، وأمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين ، وقيل إلى سبع سنين ، قال : قد فعلت ، فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلا فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر فلما أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه فقال لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا ، ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبيّ بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بارزه ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم. وقيل : كان يوم بدر.

__________________

كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب ، فذكره ل ٥ أبي بكر ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أما إنهم سيغلبون» فذكره أبو بكر لهم فقالوا : اجعل بيننا وبينه أجلا ، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل خمس سنين فلم يظهروا ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألا جعلته إلى دون قال : أراه العشر.

ـ قال سعيد : والبضع ما دون العشر. قال : ثم ظهرت الروم بعد.

ـ قال : فذلك قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) إلى قوله : (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ).

ـ قال سفيان : سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر.

ـ صححه الحاكم على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

وله شواهد أخرى منها :

ـ حديث نيار بن مكرم الأسلمي أخرجه الترمذي ٣١٩٤ وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث نيار بن مكرم لا نعرفه إلّا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد ؛ وإسناده حسن في الشواهد لأجل ابن أبي الزناد.

ـ ومرسل قتادة عند الطبري ٢٧٨٧٤ والبيهقي في «الدلائل» ٢ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤ وله شواهد أخرى وعامتها ضعيف ، لكن هذه الروايات تعتضد بمجموعها ، وانظر «الكشاف» ٨٣٦ و «أحكام القرآن» ١٨٣٧ بتخريجي.

(١) تصحف في المطبوع «شهرمان».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «بخين» والمثبت عن المخطوطتين.

(٤) في المطبوع «لنظهرن».

(٥) زيد في المطبوع «على ما».

٥٦٩

[١٦٤٠] وقال الشعبي : لم تمض تلك المدة التي عقدوا المناحبة بينهم أهل مكة صاحب قمارهم أبيّ بن خلف والمسلمون وصاحب قماره م. بو بكر وذ لك قبل تحريم القمار ، حتى غلبت الروم فارس ، ربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر أبو بكر أبينا وأخذ مال الخطر من ورثته ، فجاء به يحمله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصدق به».

وكان سبب غلبة الروم فارسا على ما :

[١٦٤١] قال عكرمة وغيره : أن شهريراز بعد ما غلبت الروم لم يزل يطأهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ، فبينا أخوه فرخان (١) جالس ذات يوم يشرب إذ قال لأصحابه لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كلمته كسرى فكت إلى شهريراز إذ أتاك كتابي [هذا](٢) فابعث إلي برأس فرخان ، فكتب إليه أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان إن له نكاية وصوتا في العدو ، فلا تفعل البتة ، فكتب إليه إن في رجال فارس خلفا منه ، فعجل عليّ برأسه فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه ، وبعث يريد إلى أهل فارس أني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليم فرخان الملك ، ثم رفع إلى البريد صحيفة صغيرة أمره فيها بقتل شهريراز ، وقال إذا ولى فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه فلم اقرأ شهريراز الكتاب قال سمعا وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرخان ورفع إليه الصحيفة [فلما قرأها](٣) قال ائتوني بشهريراز فقدهم ليضرب عنقه ، فقال : لا تعجل علي حتى أكتب وصيتي ، قال : نعم فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف وقال : كل هذا رجعت فيك كسرى وأنت تريد أن تقتلني بكتاب واحد ، فرد الملك إلى أخيه وكتب شهريراز (٤) إلى قيصر ملك الرقوم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف فألقني ولا تلقني إلا في خمسين روميا فإني ألقاك في خمسين فارسيا ، فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطرق وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ثم بسط لهما فالتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ومع كل واحد منهما سكين فدعوا بترجمان بينهما فقال شهريراز إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ثم أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك ، قال قد أصبتما ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا فقتلا الترجمان معا بسكينهما فأديلت الروم على فارس عند ذلك فاتبعوهم يقتلونهم ، ومات كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية ففرح ون معه [بذلك](٥) فذلك قوله عزوجل : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ).

أي أقرب أرض الشام إلى أرض فارس ، قال عكرمة : هي أذرعات وكشكر ، وقال مجاهد : أرض الجزيرة. وقال مقاتل : الأردن وفلسطين. (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) ، أي الروم من بعد غلبة فارس إياهم ، والغلب والغلبة لغتان ، (سَيَغْلِبُونَ) ، فارس.

__________________

[١٦٤٠] ـ ذكره المصنف هاهنا عن الشعبي معلقا وهو مرسل بكل حال ؛ وأصح شيء في الباب حديث ابن عباس المتقدم.

[١٦٤١] ـ أخرجه الطبري ٧٨٧٣ عن عكرمة به.

(١) في المطبوع «فرحان».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) تصحف في المطبوع وقد تكرر «شهرمان».

(٥) زيادة عن المخطوط.

٥٧٠

(فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، والبضع ما بين الثلاث إلى السبع ، [وقيل : ما بين الثلاث إلى التسع](١). وقيل : ما دون العشر. وقرأ عبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري والحسن وعيسى بن عمر : «غلبت» بفتح الغين واللام ، «سيغلبون» بضم الياء وبفتح اللام ، وقالوا نزلت حين أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن غلبة الروم فارس ، ومعنى الآية : الم غلبت الروم فارس في أدنى الأرض إليكم وهم من بعد غلبهم سيغلبون] [يغلبهم](٢) المسلمون في بضع سنين ، وعند انقضاء هذه المدة أخذ المسلمون في جهاد الروم. والأول أصح وهو قول أكثر المفسرين. (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) ، من قبل دولة الروم على فارس ومن بعدها فأي الفريقين كان لهم الغلبة فهو بأمر الله وقضائه وقدره. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).

(بِنَصْرِ اللهِ) ، الروم على فارس ، قال السدي : فرح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك ، (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ) ، الغالب ، (الرَّحِيمُ) ، بالمؤمنين.

(وَعْدَ اللهِ) ، نصب على المصدر أي وعد الله وعدا بظهور الروم على فارس ، (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، يعني أمر معايشهم (٣) كيف يكتسبون ويتجرون ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون وكيف يبنون ويعيشون ، وقال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطئ وهو لا يحسن أن يصلي (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، ساهون عنها جاهلون لا يتفكرون فيها ولا يعملون لها.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١))

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي للحق ، وقيل : لإقامة الحق ، (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي لوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت وهو [يوم](٤) القيامة ، (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ).

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أو لم يسافروا في الأرض فينظروا إلى مصارع الأمم قبلهم فيعتبروا ، (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ) ، حرثوها وقلبوها للزراعة ،

__________________

(١) زيد في المطبوع.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع «معاشهم».

(٤) زيادة عن المخطوط.

٥٧١

(وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) ، أكثر مما عمرها أهل مكة ، قيل : قال ذلك لأنه لم يكن لأهل مكة حرث ، (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، فلم يؤمنوا فأهلكهم الله ، (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ، بنقص حقوقهم ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ، ببخس حقوقهم.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) ، أي أساءوا العمل ، (السُّواى) ، يعني الخلة التي تسوؤهم وهي النار ، وقيل : السوء اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة ، (أَنْ كَذَّبُوا) ، أي لأن كذبوا ، وقيل تفسير السوء ما بعده وهو قول «أن كذبوا» يعني ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا ، (بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) ، قرأ أهل الحجاز والبصرة : «عاقبة» بالرفع أي ثم كان آخر أمرهم السوء ، وقرأ الآخرون بالنصب على خبر كان ، وتقديره : ثم كان السوء عاقبة الذين أساءوا.

قوله تعالى : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الموت أحياء ، ولم يقل يعيدهم ، ردّه إلى الخلق ، (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، فيجزيهم بأعمالهم ، قرأ أبو عمرو وأبو بكر : «يرجعون» بالياء والآخرون بالتاء.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨))

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (١٢) ، قال قتادة والكلبي : ييأس المشركون من كل خير. وقال الفراء : ينقطع كلامهم وحجتهم. وقال مجاهد : يفتضحون.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) (١٣) ، جاحدين متبرءين يتبرءون منها وتتبرأ منهم.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) (١٤) ، أي يتميز أهل الجنة من أهل النار. وقال مقاتل : يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار فلا يجتمعون أبدا.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) ، وهي البستان الذي في غاية النضارة ، (يُحْبَرُونَ) ، قال ابن عباس : يكرمون. وقال مجاهد وقتادة : ينعّمون. وقال أبو عبيدة : يسرون ، والحبرة السرور ، وقيل : الحبرة في اللغة كل نعمة حسنة والتحبير التحسين ، وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير : تحبرون هو السماع في الجنة. وقال الأوزاعي : إذا أخذ في السماع لم يبق في الجنة شجرة إلّا وردت ، وقال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، فإذا أخذ في السماع قطع أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) ، أي البعث يوم القيامة ، (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ).

قوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ) ، أي سبحوا الله و [قيل](١) معناه صلوا لله ، (حِينَ تُمْسُونَ) ، أي

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

٥٧٢

تدخلوا في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) ، أي تدخلون في الصباح ، وهي صلاة الصبح.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قال ابن عباس : يحمده أهل السموات والأرض ويصلون له ، (وَعَشِيًّا) ، أي صلوا لله عشيا يعني صلاة العصر ، (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) ، تدخلون في الظهيرة وهو الظهر ، قال نافع بن الأزرق لابن عباس : هل تجد الصلوات (١) الخمس في القرآن؟ قال : نعم ، وقرأ هاتين الآيتين ، وقال : جمعت الآية الصلوات الخمس ومواقيتها.

[١٦٤٢] أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال سبحان الله وبحمده [في كل يوم](٢) مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر».

[١٦٤٣] أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر ثنا السري بن خزيمة الأبيوردي (٣) ثنا المعلى بن أسد (٤) أنا عبد العزيز بن المختار عن سهيل عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلّا أحد قال مثل ما قال أو زاد [عليه](٥)».

[١٦٤٤] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا

__________________

[١٦٤٢] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.

ـ أبو مصعب أحمد بن أبي بكر ، مالك بن أنس ، أبو صالح اسمه ذكوان ، مشهور بكنيته.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٢٥٥ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «الموطأ» ١ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ عن سمي به.

ـ وأخرجه البخاري ٦٤٠٥ ومسلم ٢٦٩١ والترمذي ٣٤٦٦ والنسائي في «عمل اليوم والليلة» ٨٢٦ وابن ماجه ٣٨١٢ وأحمد ٢ / ٣٠٢ و ٥١٥ وابن أبي شيبة ١٠ / ٢٩٠ وابن حبان ٨٢٩ من طرق عن مالك به.

[١٦٤٣] ـ صحيح. السري بن خزيمة قد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ سهيل هو ابن أبي صالح ، سمي هو مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، أبو صالح اسمه ذكوان ، مشهور بكنيته.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٢٥٦ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ٢٦٩٢ والترمذي ٣٤٦٩ والنسائي ٥٦٨ من طريق محمد بن عبد الملك عن عبد العزيز بن المختار به.

ـ وأخرجه أبو داود ٥٠٩١ وابن حبان ٨٦٠ من طريق روح بن القاسم عن سهيل به.

ـ وأخرجه أحمد ٢ / ٣٧١ والحاكم ١ / ٥١٨ وابن حبان ٨٥٩ من طريق حمّاد بن سلمة عن سهيل.

ـ وأخرجه أحمد ٢ / ٣٧١ والحاكم ١ / ٥١٨ وابن حبان ٨٥٩ من طريق حماد بن سلمة عن سهيل عن أبيه به.

[١٦٤٤ ]ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.]

(١) في المطبوع «صلاة».

(٢) ما بين الحاصرتين في المطبوع «في أول النهار وآخره».

(٣) تصحف في المطبوع «البيرودي».

(٤) تصحف في المطبوع «أسعد».

(٥) زيادة عن المخطوط.

٥٧٣

محمد بن إسماعيل أنا قتيبة بن سعيد أنا محمد بن فضيل أنا عمارة بن القعقاع عن [أبي زرعة عن](١) أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».

[١٦٤٥] أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا علي بن المديني أنا ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة قال : سمعت كريبا أبا رشدين يحدث عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ذات غداة من عندها وكان اسمها برّة فحوّله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسماها جويرية ، وكره أن يقال خرج من عند برد ، فخرج وهي (٢) في المسجد ورجع بعد ما تعالى النهار فقال : «ما زلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد؟ قالت : نعمه ، فقال : «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو [وزن كلماتك](٣) لوزنتهنّ : سبحان الله وبحمده عدد خلقه ، ورضاء نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته».

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣))

__________________

ـ أبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير البجلي ، قيل : اسمه هرم ، وقيل : عمرو.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٢٥٧ بهذا الإسناد.

ـ وهو في «صحيح البخاري» ٦٦٨٢ عن قتيبة بن سعيد بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٦٤٠٦ و ٧٥٦٣ ومسلم ٢٦٩٤ والترمذي ٣٤٦٧ والنسائي في «عمل اليوم والليلة» ٨٣٠ وابن ماجه ٣٨٠٦ وأحمد ٢ / ٢٣٢ وابن أبي شيبة ١٠ / ٢٨٨ و ٢٨٩ وابن حبان ٨٣١ و ٨٤١ من طرق عن محمد بن فضيل به.

[١٦٤٥] ـ صحيح. حميد ثقة ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال الصحيح.

ـ فقد تفرد البخاري عن علي بن المديني ، وتفرد مسلم عن محمد بن عبد الرحمن ، وابن عيينة وكريب روى لهما الشيخان ، فمثل هذا يصح أن يقال فيه : على شرط الصحيح ، أي بعض رجاله رجال مسلم وآخرون رجال البخاري.

ابن عيينة هو سفيان ، كريب ه وابن أبي مسلم.

ـ وهو في «شرح السنة» ١٢٦٠ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه مسلم ٢٧٢٦ ح ٧٩ وأبو داود ١٥٠٣ والنسائي في «عمل اليوم والليلة» ١٦١ وأحمد ١ / ٢٥٨ وابن حبان ٨٣٢ من طرق عن ابن عيينة به.

ـ وأخرجه الترمذي ٣٥٥٥ والنسائي ٣ / ٧٧ وفي «اليوم والليلة» ١٦٣ و ١٦٤ وابن حبان ٨٢٨ من طرق عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن به.

ـ وأخرجه مسلم ٢٧٢٦ وابن ماجه ٣٨٠٨ والنسائي ١٦٥ من طريقين عن مسعر عن محمد بن عبد الرحمن به.

ـ وأخرجه أحمد ١ / ٣٥٣ من طريق المسعودي عن محمد بن عبد الرحمن به.

(١) سقط من المطبوع.

(٢) في المطبوع «وهو».

(٣) عبارة المطبوع «وزنت بما قلت منذ اليوم».

٥٧٤

قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) قرأ حمة والكسائي «تخرجون» بفتح التاء وضم الراء ، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الراء.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) ، أي خلق أصلكم يعني آدم من تراب ، (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) ، تنبسطون في الأرض.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) ، من جنسكم من بني آدم ، وقيل : خلق حواء من ضلع آدم ، (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ، جعل بين الزوجين المودة والرحمة فهما يتوادّان ويتراحمان وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، في عظمة الله وقدرته.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) ، يعني اختلاف اللغات من العربية والعجمية وغيرهما ، (وَأَلْوانِكُمْ) ، أبيض وأسود وأحمر وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) ، قرأ حفص : «للعالمين» بكسر اللام.

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ،) أي منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار أي تصرفكم في طلب المعيشة ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ، سماع تدبر واعتبار.

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) ، للمسافر من الصواعق ، (وَطَمَعاً) ، للمقيم في المطر. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ ،) يعني بالمطر ، (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ،) أي بعد يبسها وجدوبتها ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ). قال ابن مسعود : قامتا على غير عمد بأمره. وقيل :

يدوم قيامهما بأمره ، (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) ، قال ابن عباس : من القبور ، (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) ، منها وأكثر العلماء على أن معنى الآية ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ، مطيعون ، قال الكلبي : هذا خاص لمن كان منهم مطيعا. وعن ابن عباس : كل له مطيعون في الحياد والبقاء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة.

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، يخلقهم أولا ثم يعيده مبعد الموت للبعث ، (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ، قال الربعي بن خيثم و [الحسن و](١) قتادة والكلبي : أي هو هين عليه وما شيء عليه بعزيز ، وهو [في](٢) رواية العوفي عن ابن عباس ، وقد يجيء أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق :

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

٥٧٥

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

أي عزيزة طويلة. وقال مجاهد وعكرمة : وهو أهون عليه أي أيسر ووجهه أنه على طريق ضرب المثل أي هو أهون عليه على ما يقع في عقولكم ، فإن الذي يقع في عقول الناس أن الإعادة تكون أهون من الإنشاء ، [أي الابتداء](١) ، وقيل : هو أهون عليه عندكم. وقيل : هو أهون عليه أي على الخلق يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا إلي أن يصيروا رجالا ونساء ، وهذا معين رواية ابن حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) ، أي الصفة العليا (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، قال ابن عباس : هي أنه ليس كمثله شيء ، وقال قتادة هي أنه لا إله إلا الله (٢) (وَهُوَ الْعَزِيزُ) ، في ملكه ، (الْحَكِيمُ) ، في خلقه.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠))

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، أي بين لكم شبها بحالكم ، وذلك المثل من أنفسك ثم بيّن المثل فقال : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي عبيدكم وإمائكم ، (مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) ، من المال ، (فَأَنْتُمْ) ، وهم ، (فِيهِ سَواءٌ ،) أي [فيما](٣) شرع [سواء](٤) أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم التي أعطيناكم ، (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، أي تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم كما يخاف الحرّ شريكه الحرّ في المال يكون بينهما أن ينفرد فيه بأمر دونه وكما يخاف الرجل شريكه في الميراث ، وهو يحب أن ينفرد به.

قال ابن عباس : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا فإذا لم (٥) تخافوا هذا من مماليككم (٦) ولم ترضوا ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي ، ومعنى قوله : (أَنْفُسِكُمْ) أي أمثالكم من الأحرار كقوله : (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) [النور : ١٢] أي بأمثالهم ، (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، ينظرون إلى هذه الدلائل بعقولهم.

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، أشركوا بالله ، (أَهْواءَهُمْ) ، في الشرك ، (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، جهلا بما يجب عليهم ، (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ ،) أي أضله الله ، (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ، ما نعين يمنعونهم من عذاب الله عزوجل.

قوله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) ، أي أخلص دينك لله ، قاله سعيد بن جبير ، وإقامة الوجه وإقامة

__________________

(١) زيد في المطبوع.

(٢) في المطبوع «هو».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) كذا في المخطوطتين والنسخ ، وفي العبارة نظر ، ولعل الصواب «فإذا كنتم ...».

(٦) تصحف في المطبوع «ماليككم».

٥٧٦

الدين ، وقال غيره : سدد عملك ، والوجه ما يتوجه إليه الإنسان ودينه وعمله مما يتوجه إليه لتسديده ، (حَنِيفاً) ، مائلا مستقيما عليه ، (فِطْرَتَ اللهِ) ، دين الله وهو نصب على الإغراء أي الزم فطرة الله ، (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ، أي خلق الناس عليها وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة الدين وهو الإسلام وذهب قوم إلى أن الآية خاصة في المؤمنين وهم الذين فطرهم الله على الإسلام.

[١٦٤٦] أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن [محمد بن](١) محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحدم بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال : ثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يولد يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها» ، قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال : «الله أعلم بما كانوا عاملين».

[١٦٤٧] ورواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة من غير ذكر من يموت وهو صغير وزاد ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).

قوله : «من يولد يولد على الفطرة» يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ، وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهو الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها وإن عبد غيره كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] ، وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتب بالإرادة والفعل ألا ترى أنه يقول : «فأبواه يهودانه» ، فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين ، وهذا معنى :

__________________

[١٦٤٦] ـ إسناده صحيح. أحمد بن يوسف روى له مسلم ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

ـ عبد الرزاق بن همّام ، معمر بن راشد.

ـ وهو في «شرح السنة» ٨٣ بهذا الإسناد.

ـ وأخرجه البخاري ٦٥٩٩ ومسلم ٢٦٥٨ ح ٢٤ وأحمد ٢ / ٣١٥ من طرق عن عبد الرزاق به.

وانظر ما بعده.

[١٦٤٧] ـ صحيح. أخرجه مسلم ٢٦٥٨ وأحمد ٢ / ٢٧٥ وابن حبان ١٣٠ من طرق عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به.

وهو في «مصنف عبد الرزاق» برقم ٢٠٠٨٧.

ـ أخرجه مسمل ٢٦٥٨ وأحمد ٢ / ٢٣٣ من طريقين عن الزهري به.

ـ وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» ٣ / ٣٠٨ من طريق قتادة عن ابن المسيب به.

ـ وورد من وجه آخر مختصرا عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه ، وينصرانه ، ويمجّسانه».

أخرجه البخار ٠ ١٣٥٨ و ١٣٥٩ و ١٣٨٥ و ٤٧٧٥ ومسلم ٢٦٥٨ وأحمد ٢ / ٣٩٣ وابن حبان ١٢٨.

ـ وورد أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة باللفظ المذكور آنفا عند مسلم ٢٦٥٨ ح ٢٣ والترمذي ٢١٣٨ وأحمد ٢ / ٢٥٣ و ٤٨١ والطيالسي ٢٤٣٣ وأبو نعيم في «الحلية» ٩ / ٩٦ والمصنف في «شرح السنة» ٨٤.

(١) زيادة عن المخطوط.

٥٧٧

[١٦٤٨] قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم».

ويحكى [معنى](١) هذا عن الأوزاعي وحماد بن سلمة وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : معنى الحديث إن كل مولود يولد على فطرته أي على خلقته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها [وعامل](٢) في الدنيا بالعمل المشاكل لها فنم أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاد دينهما ، وقيل : معناه أن كل مولود يولد في مبدإ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيّئ لقبول الدين فلو ترك عليها لاستمر على لزومها لأن هذا الدين موجد حسنه في العقول وإنما (٣) يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة النشوء والتقليد فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره ، ثم يتمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك عن الفطرة السليمة والحجة المستقيمة ، ذكر أبو سليمان الخطابي هذه المعاني في كتابه. قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) فنم حمل الفطرة على الدين قال معناه لا تبديل لدين الله فهو خبر بمعنى النهي أي لا تبدلوا دين الله ، قاله (٤) مجاهد وإبراهيم ، ومعنى الآية الزموا فطرة الله أي دين الله واتبعوا ولا تبدلوا التوحيد بالشرك ، (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، المستقيم ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، وقيل لا تبديل لخلق الله أي ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقوة لا يبدل فلا يصير السعيد شقيا ولا الشقي سعيدا. وقال عكرمة ومجاهد : معناه تحريم إخصاء البهائم.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣))

(مُنِيبِينَ) أي فأقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه لأن المخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدخل معه فيها الأمة كما قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] ، (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ،) أي راجعين إليه بالتوبة مقبلين إليه بالطاعة ، (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) أي صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى. وقيل : هم أهل البدع من هذه الأمة ، (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، أي راضون بما عندهم.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) ، قحط وشدة ، (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ،) مقبلين إليه بالدعاء ، (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) ، خصبا ونعمة ، (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ).

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)

__________________

[١٦٤٨] ـ هو بعض حديث عياض بن حمار ، وقد تقدم في تفسير سورة الشعراء عند آية : ٢١٤.

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) تصحف في المطبوع «وإنها».

(٤) تصحف في المطبوع «قال».

٥٧٨

وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩))

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) ، ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا ، هذا خطاب تهديد فقال : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، حالكم في الآخرة.

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) ، قال ابن عباس : حجة وعذرا ، وقال قتادة : كتابا ، (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) ، ينطق ، (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) ، أي ينطق بشركهم ويأمرهم به.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) ، أي الخصب وكثرة المطر ، (فَرِحُوا بِها) ، يعني فرح البطر ، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) ، أي الجدب وقلة المطر ويقال الخوف والبلاء (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ، من السيئات ، (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ، ييأسون من رحمة الله ، وهذا خلاف وصف المؤمن فإنه يشكر الله عند النعمة ويرجو ربه عند الشدة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) ، من البر والصلة ، (وَالْمِسْكِينَ) ، وحقه أن يتصدق عليه ، (وَابْنَ السَّبِيلِ) ، يعني المسافر ، وقيل : هو الضعيف ، (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) يطلبون ثواب الله بما يعملون ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

قوله عزوجل : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) ، قرأ ابن كثير : «أتيتم» مقصورا وقرأ الآخرون بالمدّ أي أعطيتم ، فمن قصر فمعناه ما جئتم من ربا ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء كما يقول أتيت خطأ وأتيت صوابا فهو يؤول في المعنى (١) إلى قول من مدّ. (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) ، قرأ أهل المدينة ويعقوب لتربوا بالتاء وضمها وسكون الواو على الخطاب أي لتربوا أنتم وتصيروا ذوي زيادة من أموال الناس ، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها ، ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا لقوله : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) ، في أموال الناس أي في اختطاف أموال الناس واجتذابها.

واختلفوا في معنى الآية.

فقال سعيد بن جبير ومجاهد وطاوس وقتادة والضحاك ، وأكثر المفسرين : هو الرجل يعطي غيره العطية ليثيبه أكثر منها فهذا جائز حلال ولكن لا يثاب عليها في القيامة ، وهو معنى قوله عزوجل فلا يربو عند الله ، وكان هذا حراما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة لقوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦] ، أي لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت ، وقال النخعي : هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله ولا يريد به وجه الله.

وقال الشعبي : هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه لوجه الله فلا يربو عند الله لأنه لم يرد به وجه الله تعالى ، (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) ، أعطيتم من صدقة

__________________

(١) في المطبوع «معنى».

٥٧٩

(تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ، يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها ، فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات ، تقول العرب : القوم مهزولون ومسمّنون إذا هزلت أو سمت إبلهم.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢))

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

قوله عزوجل : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، يعني قحط المطر وقلة النبات وأراد بالبر البوادي والمفاوز وبالبحر المدائن والقرى التي هي على المياه الجارية. قال عكرمة : العرب تسمي المصر بحرا تقول (١) أجدب البر وانقطعت مادة البحر ، (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) ، أي بشؤم ذنوبهم ، وقال عطية وغيره : البر ظهر الأرض الأمصار وغيرها والبحر هو البحر المعروف وقلة المطر كما تؤثر في البر تؤثر في البحر فتخلو أجواف الأصداف [لأن الصدف](٢) إذا جاء المطر يرتفع إلى وجه البحر ويفتح فاه فما يقع في فيه من المطر صار لؤلؤا ، وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : الفساد في البر قتل أحد بني آدم أخاه ، وفي البحر غصب الملك الجائر السفينة ، وقال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذبا وكان يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصد الحيوان بعضها بعضا.

قال قتادة : هذا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتلأت الأرض ظلما وضلالة ، فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجع راجعون من الناس بما كسبت أيدي الناس من المعاصي ، يعني كفار مكة ، (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) ، أي عقوبة بعض الذي عملوا من الذنوب ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، عن الكفر وأعمالهم الخبيثة.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) ، لتروا منازلهم ومساكنهم خاوية ، (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) ، فأهلكوا بكفرهم.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨))

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) ، المستقيم وهو دين الإسلام (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ، يعني يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله ، (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) ، أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير.

__________________

(١) في المطبوع «يقال».

(٢) زيادة عن المخطوط.

٥٨٠