مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

يرى بالأبصار عيانا يراه المؤمنون فوق رءوسهم ، إلى غير ذلك من تنوع الدلالات على ذلك ولا يتكلم فيه بكلمة واحدة يوافق ما يقوله النفاة ولا يقول في مقام واحد ما هو الصواب فيه لا نصا ولا ظاهرا ولا بينة.

ومنها : أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان. وذلك إما جهل ينافي العلم ، وإما كتمان ، ولقد أساء الظن بخيار الأمة من نسبهم إلى ذلك ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلم بالباطل والسكوت عن بيان الحق تولد بينهما جهل الحق وإضلال الخلق. ولهذا لما اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارت بما يدل على التعطيل والنفي نصا وظاهرا ولا يتكلمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصا ولا ظاهرا. وإذا ورد عليهم من النصوص ما هو صريح أو ظاهر في الإثبات حرفوه أنواع التحريفات ، وطلبوا له مستكره التأويلات ومنها : أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل ، ولم تكن الحقائق من شأنهم ومنها أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ، ولم يستفيدوا منها يقينا ولا علما لما يجب لله ويمتنع عليه ، إذ ذاك أنما يستفاد من عقول الرجال. فإن قيل : استفدنا منها الثواب على ، تلاوتها وانعقاد الصلاة بها. قيل : هذا تابع للمقصود بها بالقصد الأول وهو الهدى والإرشاد والدلالة على إثبات حقائقها ومعانيها والإيمان بها ، فإن القرآن لم ينزل لمجرد التلاوة وانعقاد الصلاة بل أنزل ليتدبر ويعقل ويهتدي به علما وعملا ، ويبصر من العمى ويرشد من الغى ، ويعلم من الجهل ويشفى من العى ، ويهدي إلى صراط مستقيم ، وهذا القصد ينافي قصد تحريفه وتأويله بالتأويلات الباطلة المستكرهة التي هي من جنس الألغاز والأحاجى ؛ فلا يجتمع قصد الهدى والبيان وقصد ما يضاده أبدا.

ومما يبين ذلك أن الله تعالى وصف كتابه بأوضح البيان وأحسن التفسير فقال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩] فأين بيان المختلف فيه والهدى والرحمة في ألفاظ

٨١

ظاهرها باطل ، والمراد منها تطلب أنواع التأويلات المستكرهة المستنكرة لها التى لا يفهم منها بل يفهم منها ضدها؟ وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤) فأين بيّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يقوله النفاة والمتأولون؟ وقال تعالى : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب : ٤) وعند النفاة إنما حصلت الهداية بأبكار أفكارهم ونتائج آرائهم ، وقال تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (المرسلات : ٥٠) وعند النفاة المخرجين لنصوص الوحى عن إفادة اليقين ، إنما حصل اليقين بالحديث الذي أسسه الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم ، فبه اهتدوا ، وبه آمنوا ، وبه عرفوا الحق من الباطل ، وبه صحت عقولهم ومعارفهم ، وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢) وأنت لا تجد الخلاف في شيء أكثر منه في آراء المتأولين التى يسمونها قواطع عقلية ، وهى عند التحقيق خيالات وهمية نبذوا بها القرآن والسنة وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ* وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ* أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ* إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (الأنعام : ١١٢ : ١١٧).

* * *

فصل

في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه

يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته

ويكتفى من هذا الفصل بذكر مناظرة جرت بين جهمي وسني حدثني بمضمونها شيخنا ابن تيمية أنه جمعه وبعض الجهمية مجلس فقال الشيخ :

٨٢

قد تطابقت نصوص الكتاب والسنة والآثار على إثبات الصفات لله ، وتنوعت دلالتها أنواعا توجب العلم الضروري بثبوتها وإرادة المتكلم اعتقاده ما دلت عليه. والقرآن مملوء من ذكر الصفات ، والسنة ناطقة بما نطق به القرآن ، مقررة له ، مصدقة له ، مشتملة على زيادة في الإثبات ، فتارة يذكر الاسم الدال على الصفة كالسميع البصير العليم القدير العزيز الحكيم ، وتارة يذكر المصدر وهو الوصف الذي اشتقت منه تلك الصفة كقوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (النساء : ١٦٦) وقوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات) وقوله : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) وقوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف : ١٤٤) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١) ، وقوله في دعاء الاستخارة «اللهم إني استخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك» (٢) ، وقوله : «أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق» (٣) وقول عائشة رضي الله عنها : «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات» (٤) ونحوه. وتارة يذكر تلك الصفة كقوله : (قَدْ سَمِعَ اللهُ) (المجادلة : ١) (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (طه : ٤٦) وقوله : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (المرسلات : ٢٣) وقوله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة : ١٨٧) ونظائر ذلك كثيرة.

__________________

(١) رواه مسلم في (الإيمان / ١٧٩) ، وابن ماجه (١٩٥ ـ ١٩٦).

(٢) أخرجه البخاري (١١٦٢).

(٣) (صحيح) رواه الإمام أحمد (٤ / ٢٦٤) ، والنسائي (٣ / ٥٤ ـ ٥٥) ، والحاكم (١ / ٥٢٤) بإسناد صحيح.

(٤) رواه البخاري تعليقا في «كتاب التوحيد» باب (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) بلفظ : «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات» ، فأنزل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) وأخرجه ابن ماجه موصولا (١٨٨) بلفظ : «تبارك» وسياقه أتم ، والإمام أحمد (٦ / ٤٦).

قال ابن بطال : معنى قولها «وسع» : أدرك ، لأن الذي وصف بالاتساع يصح وصفه بالضيق وذلك من صفات الأجسام فيجب صرف قولها عن ظاهره ، والحديث ما يقتضي

٨٣

__________________

التصريح بأن له سمعا وقال أيضا : غرض البخاري في هذا الباب الرد على من قال إن معنى «سميع بصير» : عليم.

قال : ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتا ولا يسمعها ، ولا شك أن من سمع وأبصر أدخل في صفة الكمال ممن انفرد بأحدهما دون الآخر ، فصح أن كونه سميعا بصيرا يفيد قدرا زائدا على كونه عليما ، وكونه سميعا بصيرا يتضمن أنه يسمع بسمع ، ويبصر ببصر ، كما تضمن كونه عليما أنه يعلم بعلم ولا فرق بين إثبات كونه سميعا بصيرا ، وبين كونه ذا سمع وبصر.

قال : وهذا قول أهل السنة قاطبة. ا ه.

قال الحافظ : واحتج المعتزلى بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصماخ ، والله منزه عن الجوارح ، وأجيب : بأنها عادة أجراها الله تعالى فيمن يكون حيا فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور ، والله سبحانه وتعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط ، وكذا يرى المرئيات بدون المقابلة وخروج الشعاع ، فذات البارى مع كونه حيا موجودا لا تشبه الذوات ، فكذلك صفات ذاته لا تشبه الصفات. أه (الفتح : ١٣ / ٣٨٥).

وقال البيهقي في «الأسماء والصفات» بعد أن ساق حديث أبي هريرة الذي أخرجه أبو داود بسند قوى على شرط مسلم قال : «رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها ـ يعنى قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ...) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً).

ويضع إصبعيه ـ قال أبو يونس : وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه.

قال البيهقي : وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله ببيان محلهما من الإنسان ، ويريد أن له سمعا وبصرا لا أن المراد به العلم ؛ فلو كان كذلك لأشار إلى القلب لأنه محل العلم ، ولم يرد بذلك الجارحة فإن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين.

ثم ذكر لحديث أبي هريرة شاهدا من حديث عقبة بن عامر : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنبر : إن ربنا سميع بصير ـ وأشار إلى عينيه» قال الحافظ : وسنده حسن.

وقال : وفي حديث «إن الله ليس بأعور» وأشار بيده إلى عينه ا. ه المصدر السابق.

قلت : وأورد البخاري في الباب حديث أبي موسى قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، فكنا إذا علونا كبرنا ، فقال : «أربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، تدعون سميعا بصيرا قريبا» ... الحديث.

٨٤

ويصرح في الفوقية بلفظها الخاص ، وبلفظ العلو والاستواء ، وأنه (في السماء) وأنه (ذو المعارج) وأنه (رفيع الدرجات) وأنه (تعرج إليه الملائكة) وتنزل من عنده ، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا (١) ، وأن المؤمنين يرونه بأبصارهم عيانا من فوقهم (٢) ، إلى أضعاف ذلك مما لو جمعت النصوص والآثار فيه لم تنقص عن نصوص الأحكام وآثارها. ومن أبين المحال وأوضح الضلال حمل ذلك كله على خلاف حقيقته وظاهره ، ودعوى المجاز فيه والاستعارة ، وأن الحق في أقوال النفاة المعطلين ، وأن تأويلاتهم هي المرادة من هذه النصوص ، إذ يلزم من ذلك محاذير ثلاثة لا بد منها ، وهى القدح في علم المتكلم بها ، أو في بيانه ، أو في نصحه.

وتقرير ذلك أن يقال : إما أن يكون المتكلم بهذه النصوص عالما أن الحق في تأويلات النفاة المعطلين ، أو لا يعلم ذلك؟ فإن لم يعلم ذلك كان ذلك قدحا في علمه. وإن كان عالما أن الحق فيها ؛ فلا يخلوا إما أن يكون قادرا على التعبير بعبارتهم التي هي تنزيه لله بزعمهم عن التشبيه والتمثيل والتجسيم ، وأنه لا يعرف الله من لم ينزه الله بها ، أو لا يكون قادرا على تلك العبارة؟ فإن لم يكن قادرا على التعبير بذلك لزم القدح في فصاحته. وكان ورثة الصابئة وأفراخ الفلاسفة ، وأوقاح المعتزلة والجهمية ، وتلامذة الملاحدة أفصح منه وأحسن بيانا وتعبيرا عن الحق وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة أولياؤه وأعداؤه وموافقوه ومخالفوه. فإن مخالفيه لم يشكوا أنه أفصح الخلق ، وأقدرهم على حسن التعبير بما يطابق المعنى ، ويخلصه من اللبس والإشكال ؛ وإن كان قادرا على ذلك ولم يتكلم به وتكلم دائما بخلافه ، كان ذلك قدحا في نصحه ، وقد وصف الله رسله بأنهم أنصح الخلق لأممهم ، فمع النصح والبيان والمعرفة التامة

__________________

(١) حديث النزول حديث متواتر له روايات كثيرة منها ما أخرجه البخاري (١١٤٥) ومسلم (٧٥٨) وغيرهما من حديث أبى هريرة وورد من رواية على بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وجابر ، وأبي سعيد وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ، وانظر هذه الروايات مفصلة في كتاب «اجتماع الجيوش» للمصنف.

(٢) تقدم حديث الرؤية في الفصل الأول.

٨٥

كيف يكون مذهب النفاة المعطلة أصحاب التحريف هو الصواب ، وقول أهل الإثبات أتباع القرآن والسنة باطلا؟

(لمحة عن مناظرة للمصنف مع أهل الكتاب) (*)

قال المصنف : وقريب من هذه المناظرة ما جرى لي مع بعض علماء أهل الكتاب. وأفضى بنا الكلام إلى مسبة النصارى لرب العالمين مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ، فقلت له : وأنتم بإنكاركم نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سببتم الرب تعالى أعظم مسبة ، قال : وكيف ذلك؟ قلت : لأنكم تزعمون أن محمدا ملك ظالم ليس برسول صادق ، وأنه خرج يستعرض الناس بسيفه فيستبيح أموالهم ونساءهم وذراريهم ، ولا يقتصر على ذلك حتى يكذب على الله ويقول : الله أمرني بهذا وأباحه لي ، ولم يأمره الله ولا أباح له ذلك ، ويقول أوحى إلى ولم يوح إليه شيء ، وينسخ شرائع الأنبياء من عنده ، ويبطل منها ما شاء ويبقى منها ما شاء ، وينسب ذلك كله إلى الله ، ويقتل أولياءه وأتباع رسله ، ويسترق نساءهم وذريتهم ، فإما أن يكون الله تعالى رائيا لذلك كله عالما به ، أو لا؟ فإن قلتم : إن ذلك بغير علمه واطلاعه نسبتموه إلى الجهل والغباوة.

وذلك من أقبح السب. وإن كان عالما به ، فإما أن يقدر على الأخذ على يديه ومنعه من ذلك ؛ أو لا؟ فإن قلتم : إنه غير قادر على منعه نسبتموه إلى العجز فإن قلتم : بل هو قادر على منعه ولم يفعل ، نسبتموه إلى السفه والظلم ، هذا هو من حين ظهر إلى أن توفاه ربه يجيب دعاءه ويقضي حوائجه ، ولا يقوم له عدو إلا أظفره به ، وأمره من حين ظهر إلى أن توفاه الله تعالى يزداد على الليالي والأيام ظهورا وعلوا ورفعة ، وأمر مخالفيه لا يزداد إلا سفولا واضمحلالا ، ومحبته في قلوب الخلق تزيد على ممر الأوقات ، وربه تعالى يؤيده بأنواع التأييدات ، هذا هو عندكم من أعظم أعدائه وأشدهم ضررا على الناس ، فأى

__________________

(*) أورد المصنف هذه المناظرة في كتابه «هداية الحيارى» بأوسع مما هنا في الوجه التاسع والثلاثون من باب «نبؤات عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب المتقدمة» ، فانظره بتحقيقنا طبعة نزار البار بمكة المكرمة.

٨٦

قدح في رب العالمين ، وأى مسبة أعظم من ذلك؟ فأخذ الكلام منه ما أخذ ، وقال حاشا لله أن تقول فيه هذه المقالة ؛ بل هو نبي صادق. كل من اتبعه فهو سعيد وكل منصف منا يقر بذلك ويقول : أتباعه سعداء في الدارين. قلت : فما يمنعك من الظفر بهذه السعادة؟ فقال : وأتباع كل نبى من الأنبياء. فأتباع موسى أيضا سعداء قلت : فإذا أقررت أنه نبي صادق ، وقد كفر من لم يتبعه. فإن صدقته في هذا وجب عليك اتباعه ، وإن كذبته فيه لم يكن نبيا ، فكيف يكون أتباعه سعداء؟ فلم يحر جوابا ، وقال حدثنا في غير هذا (١).

فصل

في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل

المخالف لحقيقته وظاهره

أنزل الله الكتاب شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، ولذلك كانت معانيه أشرف المعاني ، وألفاظه أفصح الألفاظ وأبينها ، وأعظمها مطابقة لمعانيها المرادة منها ، كما وصفه الله تعالى بقوله (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان : ٣٣) فالحق هو المعنى والمدلول الذي تضمنه

__________________

(١) وقال في «هداية الحيارى» : فقلت له وأنا وهو خاليين : ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟ فقال لي : إذا قدمت على هؤلاء الحمير ـ هكذا لفظه ـ فرشوا لنا الشقاف تحت حوافر دابتي وحكموني في أموالهم ونسائهم ولم يعصوني فيما آمرهم به ، وأنا لا أعرف صنعة ولا أحفظ قرآنا ولا نحوا ولا فقها ، فلو أسلمت لدرت في الأسواق أتكفف الناس ، فمن الذي يطيب نفسا بهذا؟! فقلت هذا لا يكون ، وكيف تظن بالله إنك إذا آثرت رضاه على هواك يخزيك ويذلك ويحوجك؟! لو فرضنا أن ذلك أصابك فما ظفرت به من الحق والنجاة من النار ومن سخط الله وغضبه ؛ فيه أتم العوض عما فاتك ، فقال : حتى يأذن الله ، فقلت : القدر لا يحتج به ، ولو كان القدر حجة لكان حجة لليهود على تكذيب المسيح ؛ وحجه للمشركين على تكذيب الرسل ، ولا سيما أنتم تكذبون بالقدر فكيف تحتج به؟! فقال : دعنا الآن من هذا ـ وأمسك.

٨٧

الكتاب ؛ والتفسير الأحسن هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق ، فهو تفسيره وبيانه ، والتفسير أصله من البيان والظهور ، ويلاقيه في الاشتقاق الأكبر الإسفار ومنه «أسفر الفجر» إذا أضاء ووضح. ومنه السفر لبروز المسافر من البيوت ، ومنه السفر الذي يتضمن إظهار ما فيه من العلم. فلا بد أن يكون التفسير مطابقا للمفسر مفهما له.

ولا تجد كلاما أحسن تفسيرا ولا أتم بيانا من كلام الله سبحانه. ولهذا سماه الله بيانا وأخبر أنه يسره للذكر ويسر ألفاظه للحفظ ؛ ومعانيه للفهم ، وأوامره ونواهيه للامتثال.

ومعلوم أنه لو كان بألفاظ لا يفهمها المخاطب لم يكن ميسرا له بل كان معسرا عليه ، وإذا أريد من المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعانى أو يدل على خلافه فهذا من أشد التعسير ، فإنه لا شيء أعسر على الأمة من أن يراد منهم أن يفهموا كونه سبحانه لا داخلا في العالم ولا خارجه ، ولا متصلا به ، ولا منفصلا عنه ولا مباينا له ، ولا محايثا له ، ولا يرى بالأبصار عيانا ، ولا له يد ؛ ولا وجه من قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ومن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متى» ومن قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) (سورة غافر : ٧) وأن يجهدوا أنفسهم ويكابدوا أعظم المشقة في تطلب أنواع الاستعارات وضروب المجازات ووحشى اللغات ، ليحملوا عليها آيات الصفات وأخبارها ؛ ويقول يا عبادي اعلموا أني أردت منكم أن تعلموا أني لست فوق العالم ، ولا تحته ، ولا فوق العرش ؛ ولا ترفع الأيدي إلي ، ولا يعرج إلي شيء ولا ينزل من عندي شيء من قولى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) ، ومن قولي : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل : ٥٠) ومن قولي : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (المعارج : ٤) ومن قولي : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) (النساء : ١٥٨) ومن قولى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ) (غافر : ١٥) ومن قولي : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (الشورى : ٤) وأن تفهموا أنه ليس لي يدان من قولي : (لِما خَلَقْتُ

٨٨

بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) ، ولا عين من قولي (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (طه : ٣٩) فإنكم متى فهمتم من هذه الألفاظ حقائقها وظواهرها فهمتم خلاف مرادي منكم أن تفهموا منها ما يدل على خلاف حقائقها وظواهرها.

فأي تيسير يكون هناك ، وأي تعقيد وتعسير لم يحصل بذلك؟ ومعلوم أن خطاب الرجل بما لا يفهمه إلا بترجمة أيسر عليه من خطابه بما كلف أن يفهم منه خلاف موضوعه. فتيسير القرآن مناف لطريقة النفاة المحرفين أعظم منافاة. ولهذا عسر عليهم أن يفهموا منه النفي عولوا فيه على الشبه الخيالية.

* * *

٨٩

فصل

اشتمال الكتب الإلهية على الأسماء والصفات

أكثر من اشتمالها على ما عداه

وذلك لشرف متعلقها وعظمته ، وشدة الحاجة إلى معرفته. فكانت الطرق إلى تحصيل معرفته أكثر وأسهل وأبين من غيره. وهذا من كمال حكمة الرب تبارك وتعالى وتمام نعمته وإحسانه ؛ أنه كلما كانت حاجة العباد إلى الشيء أقوى كان بذله لهم أكثر وأسهل. وهذا في الخلق والأمر. فإن حاجتهم لما كانت إلى الهواء أكثر من الماء في القوت كان موجودا معهم في كل مكان وزمان ، وهو أكثر من غيره وكذلك لما كانت حاجتهم إلى الماء شديدة ، إذ هو مادة أقواتهم وفواكههم وشرابهم كان مبذولا لهم أكثر من غيره. وهكذا الأمر في مراتب الحاجات. ومعلوم أن حاجتهم إلى معرفة ربهم وفاطرهم فوق مراتب هذه الحاجات كلها ، فإنه لا سعادة لهم ولا فلاح ولا صلاح ولا نعيم إلا بأن يعرفوه ويعتقدوه ، ويكون هو وحده غاية مطلوبهم ، والتقريب إليه قرة عيونهم. فمتى فقدوا ذلك كانوا أسوأ حالا من الأنعام ، وكانت الأنعام أطيب عيشا منهم في العاجل وأسلم عاقبة في الآجل.

وإذا علم أن ضرورة العبد إلى معرفة ربه فوق كل ضرورة كانت العناية ببيانها أيسر الطرق وأهداها وأبينها ، وإذا سلط التأويل على النصوص المشتملة عليها فتسليطه على النصوص التى ذكرت فيها الملائكة أقرب بكثير ، فإن الله تعالى لم يذكر لعباده من صفة ملائكته وشأنهم وأفعالهم عشر معشار ما ذكر لهم من نعوت جلاله وصفات كماله. فإذا كانت هذه قابلة للتأويل فالآيات التي ذكر فيها الملائكة أولى بذلك. ولذلك تأولها الملاحدة كما تأولوا نصوص المعاد واليوم الآخر ، وأبدوا لها تأويلات ليست بدون تأويلات الجهمية لنصوص الصفات. وأولت هذه الطائفة عامة نصوص الأخبار الماضية والآتية. وقالوا للجهمية :

٩٠

بيننا وبينكم حاكم العقل. فإن القرآن ، بل الكتب المنزلة ، مملوءة بذكر الفوقية وعلو الله على عرشه ، وأنه تكلم ، ويتكلم وأنه موصوف بالصفات وأن له أفعالا تقوم به ؛ هو بها فاعل ، وأنه يرى بالأبصار ، إلى غير ذلك من نصوص آيات الصفات وأخبارها التي إذا قيس إليها نصوص حشر هذه الأجساد وخراب هذا العالم وإعدامه وإنشاء عالم آخر ، وجدت نصوص الصفات أضعاف أضعافها ، حتى قيل : إن الآيات والأخبار الدالة على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه تقارب الألوف ، وقد أجمعت عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم ، فما الذي سوغ لكم تأويلها : وحرم علينا تأويل نصوص حشر الأجساد وخراب العالم؟

فإن قلتم : الرسل أجمعوا على المجىء به ، فلا يمكن تأويله ، قيل : وقد أجمعوا أنه استوى فوق عرشه ، وأنه تكلم ومتكلم ، وأنه فاعل حقيقة موصوف بالصفات ، فإن منع إجماعهم هناك من التأويل وجب أن يمنع هنا.

فإن قلتم : أوجب تأويل نصوص آيات الصفات ولم يوجب تأويل نصوص المعاد. قلنا : هاتوا أدلة العقول التي تأولتم بها الصفات ، ونحضر أدلة العقول التي تأولنا بها المعاد وحشر الأجساد ، ونوازن بينها ليتبين أيها أقوى.

فإن قلتم : إنكار المعاد تكذيب لما علم من الإسلام بالضرورة. قلنا : أيضا إنكار صفات الرب وأنه يتكلم. وأنه فوق سماواته ، وأن الأمر ينزل من عنده تكذيب لما علم أنهم جاءوا به ضرورة.

فإن قلتم : تأويلنا للنصوص التي جاءوا بها لا يستلزم تكذيبهم. قلنا : فمن أين صار تأويلنا للنصوص التي جاءوا بها في الميعاد يستلزم تكذيبهم دون تأويلكم : المجرد التشهي؟

فصاحت القرامطة والملاحدة والباطنية (١) وقالوا : ما الّذي سوغ لكم تأويل

__________________

(١) ظهرت دعوة الباطنية في أيام المأمون من : حمدان قرمط ، ومن عبد الله بن ميمون القداح وليست الباطنية من فرق ملة الإسلام ، بل هى من فرق المجوس ، وقال صاحب :

٩١

__________________

«الفرق بين الفرق» : اعلموا أسعدكم الله أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم ، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم ، بل أعظم من ضرر الدجال الّذي يظهر في آخر الزمان ، وقال : «وذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس ، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم ، ولم يجسروا على إظهاره خوفا من سيوف المسلمين ، فوضع الأغمار منهم أسسا من قبلها منهم صار في الباطن إلى تفصيل أديان المجوس وتأولوا آيات القرآن وسنن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على موافقة سننهم ، ثم قال : وذكر زعماء الباطنية في كتبهم أن الإله خلق النفس ، فالإله هو الأول ، والنفس هو الثاني ، وهما مدبرا هذا العالم ، وسموهما الأول والثاني ، وربما سموهما العقل والنفس ، ثم قالوا : إنهما يدبران هذا العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأول ، وقولهم : إن الأول والثاني يدبران العالم ، هو بعينه قول المجوس بإضافة الحوادث لصانعين أحدهما قديم والآخر محدث ، ثم قال : ولم يمكنهم إظهار عبادة النيران ، فاحتالوا بأن قالوا للمسلمين : ينبغي أن تجمر المساجد كلها وأن تكون في كل مسجد مجمرة يوضع عليها الندّ والعود في كل حال ، وكانت البرامكة قد زينوا للرشيد ـ رحمه‌الله ـ أن يتخذ في جوف الكعبة مجمرة يتبخر عليها العود أبدا ، فعلم الرشيد أنهم أرادوا من ذلك عبادة النار في الكعبة ، وأن تصير الكعبة بيت نار فكان ذلك أحد أسباب قبض الرشيد على البرامكة ، ثم إن الباطنية لما تأولت أصول الدين على الشرك احتالت أيضا لتأويل أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة ، أو إلى مثل أحكام المجوس أ. ه بتصرف. ولمزيد معرفة بهذه الفئة الضالة وخطورتها انظر : «مروج الذهب» (٣ / ٣٠٥ ، ٤ / ٥٢ ـ ٦٦ ، ٢٨٠) ، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (١ / ٤٠٩) ، و «الكامل» في التاريخ لابن الأثير في حوادث (٢٧٨) وسنة (٣٠١) وسنة (٣١١) وسنة (٣١٧) ، و «فرق المسلمين والمشركين» لفخر الدين الرازي (ص ٧٦) وما بعدها ، و «خطط المقريزي» (٢ / ٣٥٧) ، و «الفهرس» لابن النديم (ص ٢٧٨) ، «والفرق بين الفرق» (٢٨١ ـ ٣١١).

وقال ابن الجوزى في «التلبيس» : الباطنية قوم تستروا بالإسلام ، ومالوا إلى الرفض ، وعقائدهم وأعمالهم تباين الإسلام بالمرة ، فمحصول قولهم : تعطيل الصانع ، وإبطال النبوة والعبادات ، وإنكار البعث ، ولكنهم لا يظهرون هذا في أول أمرهم ، بل يزعمون أن الله حق ، وأن محمدا رسول الله ، والدين صحيح ، ولكنهم يقولون : لذلك سر غير

٩٢

الأخبار وحرم علينا تأويل الأمر والنهي والتحريم والإيجاب ، ومورد الجميع عن مشكاة واحدة؟ قالوا : وأين تقع نصوص الأمر والنهي من نصوص الخبر؟ قالوا : وكثير منكم قد فتحوا لنا باب التأويل في الأمر ، فأولوا أوامر ونواهي كثيرة وصريحة الدلالة أو ظاهرة الدلالة في معناها بما يخرجها عن حقائقها. فهلم نضعها في كفة ونضع تأويلاتنا في كفة ونوازن بينها ، ونحن لا ننكر أنّا أكثر تأويلا منهم ، ولكنا وجدنا بابا مفتوحا فدخلناه.

فهذا من شؤم جناية التأويل على الإيمان والإسلام.

* * *

فصل

(إبليس أول من جاء بالتأويل الفاسد) (١)

وقد قيل : إن طرد إبليس ولعنه إنما كان بسبب التأويل ، فإنه عارض النص بالقياس وقدمه عليه ، وتأول لنفسه أن هذا القياس العقلي مقدم على نص الأمر بالسجود ، فإنه قال (أنا خير منه) وهذا دليل قد حذفت إحدى مقدمتيه ، وهى : إن الفاضل لا يخضع للمفضول ، وطوى ذكر هذه المقدمة كأنها صورة معلومة. وقرر المقدمة الأولى بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف : ١٢) فكان نتيجة المقدمتين امتناعه من السجود. وظن أن هذه الشبهة العقلية تنفعه بتأويله ؛ فجرى عليه ما جرى. وصار إماما لكل من عارض نصوص الوحي بتأويله إلى يوم القيامة (٢).

__________________

ظاهر ، وقد تلاعب بهم إبليس ، فبالغ وحسّن لهم مذاهب مختلفة ، ولهم ثمانية أسماء : الباطنية ـ الإسماعيلية ـ السبعية ـ البابكية ـ المحمرة ـ القرامطة ـ الخرمية ـ التعليمية ـ وراجع طرقهم وحيلهم في إبطال عقائد المسلمين ـ المصدر المذكور.

(١) انظر في ذلك أيضا الوجه (٣١ ، ٣٢) (ص ٢١٥) وما بعدها ، (ص ٢٨٨) وما بعدها.

(٢) قال الإمام ابن مفلح المقدسى رحمه‌الله : هذا القياس لإبليس باطل من وجوه :

أحدها : أنه قياس في مقابلة النص ، الثاني : قوله (أنا خير منه) كذب ومستند باطل فإنه لا يلزم من تفضيل مادة على مادة المخلوق منها على المخلوق من الأخرى ، فإن من كمال قدرة الله سبحانه وتعالى أن يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق

٩٣

__________________

من غيرها ، ومحمد وإبراهيم وموسى عليهم‌السلام أفضل من الملائكة ، ومذهب أهل السنة أن صالح البشر أفضل من الملائكة ، وإن كانت مادتهم نورا ومادة البشر ترابا ، والتفضيل ليس بالمواد والأصول ، ولهذا كان العبيد والموالى الذين آمنوا بالله ورسوله أفضل عند الله ممن ليس مثلهم من قريش وبنى هاشم وهذه المعارضة الإبليسية صارت ميراثا في أتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى ، كما قال بعضهم :

لعمرك ما الإنسان سلمان إلا بدينه

فلا تترك التقوى اتكالا على الحسب

فقد رفع الإسلام سلمان فارس

وقد وضع الشرك الشريف أبا لهب

الثالث : ظنه أن النار خير من التراب باطل ، ومستنده ما فيها من الضياء والخفة ، وما في التراب من الثقل والظلمة ، ونسى الشيخ النجس ما في النار من الخفة والطيش وطلب العلو والإفساد بالطبع ، حتى إن شواظا منها لو وقع فى مدينة أفسدها ، والتراب خير من النار وأفضل من وجوه :

أحدها : أن طبعه السكون والرزانة ، وثانيها : أنه مادة الحيوان والنبات والأقوات ، والنار بخلافه ، وثالثها : أنه لا يمكن أن يعيش بدونه وبدون ما خلق منه ، ويمكنه أن يعيش برهة من الدهر بلا نار ، ورابعها : أن الأرض تؤدى إليك ببركتها أضعاف ما تودعها من الحب والنوى وتغذيه لك ، والنار تفسده ، وخامسها : أن الأرض مهبط الوحى ومسكن الرسل والأولياء وكفاتهم أحياء وأمواتا ، والنار مسكن أعداء الله ، وسادسها : أن في الأرض بيته محبط الأوزار وتكفير السيئات وجالبا لهم مطالع معاشهم ومعادهم. وسابعها : أن النار طبعها العلو والإفساد ، والله لا يحب المستكبرين ولا المفسدين والأرض طبعها الخشوع والإخبات ، ومعلم الخير من المادة الأرضية ، ومعلم الشر من المادة النارية. وثامنها : أن النار لا تقوم بنفسها ؛ بل لا بد لها من محل تقوم به لا تستغنى عنه ، فهى محتاجة إلى المادة الترابية في قوامها وتأثيرها ، والأرض قائمة بنفسها ، وتاسعها : أن التراب يفسد صورة النار ويبطلها ويقهرها وإن علت عليه ، وعاشرها : أن الرحمة تنزل على الأرض فتقبلها وتحيى بها وتخرج زينتها وأقواتها تشكر ربها ، وتنزل على النار فتأباها وتطفئها فبينها وبين النار معاداة ، وبين الرحمة والأرض مؤاخاة.

وحادى عشرها : أن النار تطفأ بالتكبير ، فتضمحل عند ذكر الرب ، ولهذا يهرب المخلوق منها عند الأذان ، حتى لا يسمعه ، والأرض تبتهج بذلك وتشهد به لصاحبها يوم القيامة ، وقد جاء أن الأرض تفتخر بمن يذكر الله عليها ، وثانى عشرها : يكفى في فضل

٩٤

فلا إله إلا الله والله أكبر. كم لهذا الإمام اللعين من أتباع من العالمين؟ وأنت إذا تأملت عامة شبه المتأولين رأيتها من جنس شبهته. والقائل : إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل ؛ من هنا اشتق هذه القاعدة وجعلها أصلا لرد نصوص الوحى التي يزعم أن العقل يخالفها ، وعرضت هذه الشبهة لعدو الله من جهة كبره الذي منعه من الانقياد المحض لنصوص الوحى. وهكذا إلحاد كل مجادل في نصوص الوحى إنما يحمله على ذلك كبر في صدره ما هو ببالغه. قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (غافر : ٥٦).

وكذلك خروج آدم من الجنة إنما كان بالتأويل ، وإلا فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقصد بالأكل معصية الرب (١). ثم اختلف الناس في وجه تأويله فقالت طائفة : تأول بحمله النهي المطلق على الشجرة المعينة. وغره عدو الله بأن جنس تلك الشجرة هي شجرة الخلد وأطمعه في أنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة. وفي هذا نظر ظاهر. فإن الله تعالى أخبر أن إبليس قال له (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ

__________________

المخلوق من الأرض على المخلوق من النار أن الله سبحانه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء ، فهل حصل للمخلوق من النار واحدة من هذه ا ه.

ثم قال : قد اطلعت على بحث شيخ القوم ورئيسهم ـ يعنى إبليس ـ فما الظن بمعارضة من التلامذة ، واعلم أن كل شبهة عارضوا بها الوحى المنزل ؛ فعند أئمة السنة ما يبطلها من وجوه كثيرة ، كما فعل الإمام أحمد في «الرد على الجهمية» وعثمان بن سعيد الدارمي ، وعبد العزيز المكي وهلم جرا من عالم بعد عالم. ا ه.

(١) وقال الشيخ في «الفوائد» : لما لبس درع التوحيد على بدن الشكر ، وقع سهم العدو منه في غير مقتل فجرحه ، فوضع عليه جبار الانكسار فعاد كما كان ، فقام الجريح كأن لم يكن به قلبة.

وقال : تالله ما نفعه عند معصيته عز : اسجدوا ، ولا شرف : وعلم آدم ، ولا خصيصة : لما خلقت بيدي ، ولا فخر : ونفخت فيه من روحي ، إنما انتفع بذل : ربنا ظلمنا أنفسنا.

٩٥

الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (الأعراف : ٢٠) فذكر لهما عدو الله الشجرة التي نهيا عنها ، إما بعينها أو بجنسها ، وصرح لهما بأنها هي المنهي عنها. لو كان عند آدم أن المنهي عنه تلك الشجرة المعينة دون سائر النوع لم يكن عاصيا بأكله من غيرها ، ولا أخرجه الله من الجنة ونزع عنه لباسه.

وقالت فرقة أخرى تأول آدم أن النهي نهي تنزيه لا نهي تحريم فأقدم ، وأيضا فحيث نهي الله تعالى عن فعل الشيء بقربانه لم يكن أصلا لتحريم كقوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (البقرة : ٢٢٢) (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (الإسراء : ٣٢) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) (الإسراء : ٣٤) ، وأيضا لو كان للتنزيه لما أخرجه الله من الجنة ، وأخبر أنه عصى ربه (١).

وقالت طائفة : بل كان تأويله أن النهي إنما كان عن قربانهما وأكلهما معا ، لا عن أكل كل منهما على انفراده ، لأن قوله : (وَلا تَقْرَبا) نهي لهما عن الجمع ، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الانفراد ، وهذا التأويل ذكره ابن الخطيب (٢) في «تفسيره» وهو كما ترى في البطلان والفساد. ونحن نقطع أن هذا التأويل لم يخطر بقلب آدم وحواء البتة ، وهما

__________________

(١) وقال ابن حزم : حمل الأمر على الندب ، والنهي على الكراهة ، يقع فيه الفقهاء والأفاضل كثيرا وهو الذي يقع من الأنبياء عليهم‌السلام ويؤاخذون به ، وعلى هذا السبيل أكل آدم من الشجرة ، ومعنى قوله (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) : أى ظالمين لأنفسكما ، والظلم في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه ، فمن موضع الندب والكراهة فقد وضع الشيء في غير موضعه ا ه أفاده الشيخ ابن مفلح في «مصائب الإنسان».

(٢) هو الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير وقد سبق التعريف به ، وقال الشيخ حمد ابن عتيق رحمه‌الله تعالى في رسالته إلى الإمام محمد صديق خان : وهذا الرجل وإن كان يلقب بالفخر فله كلام في العقائد قد زل فيه زلات عظيمة وآخر أمره الحيرة نرجو أنه تاب من ذلك ومات على السنة فلا تغتر بأمثال هؤلاء ـ قال شيخ الإسلام رحمه‌الله في «المحصل» :

وسائر كتب الكلام والمختلف أهلها مثل كتب الرازي وأمثاله وكتب المعتزلة والشيعة والفلاسفة ونحو هؤلاء لا يوجد فيها ما بعث الله به رسوله في أصول الدين بل وجد فيها حق ملبوس بباطل ا. ه (مقدمة قطف الثمر بتحقيق د / عاصم القريوتى).

٩٦

كانا أعلم بالله من ذلك وأصح أفهاما ، أفترى فهم أحد من قول الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ونظائره ، أي إنما نهيتكم عن اجتماعكم على ذلك دون انفراد كل واحد منكم به ، فيا للعجب من أوراق وقلوب تسود على هذه الهذيانات (١).

والصواب أن يقول : إن آدم لما قاسمه عدو الله أنه ناصح له ، وأخرج الكلام على أنواع متعددة من التأكد ؛ أحدها : القسم ، الثاني : الإتيان بجملة اسمية لا فعلية ، والثالث : تصديرها بأداة التأكد أحدها القسم ، الرابع : الإتيان بلام التأكيد في الخبر ؛ الخامس : الإتيان به اسم فاعل لا فعلا دالا على الحديث ؛ والسادس : تقديم المعمول فيه. ولم يكن آدم يظن أن أحدا يقسم بالله كاذبا غموسا يتجرأ فيها هذه الجرأة ، فغره عدو الله بهذا التأكد ، فظن آدم صدقه ، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة ؛ ورأى أن الأكل وإن كان فيه مفسدة فمصلحة الخلود أرجح ، ولعله يتهيأ له استدراك مفسده النهي في أثناء ذلك ، إما باعتذار وإما بتوبة ، كما تجد هذا التأويل قائما في نفس كل مؤمن أقدم على المعصية (٢).

__________________

(١) وقالت طائفة : أكلها ناسيا ، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد على الأكل ، قال القرطبي : وهذا هو الصحيح قال : لإخبار الله تعالى حيث قال : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طه : ١٥٥) ، ولكن لما كان الأنبياء عليهم‌السلام يلزمهم التيقظ والتحفظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ، كان تشاغله عن تذكر النهى تضييعا صار به مخالفا. قال أبو أمامة : لو أن أحلام بنى آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ، ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم ، وقد قال الله تعالى : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، ويحتمل أن يخص من عموم كلام أبي أمامة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا ، وقال القرطبي : ويحتمل أن يخص منه الأنبياء عليهم‌السلام ا. ه المصدر السابق.

(٢) وذكر هذا القول الشيخ ابن مفلح في كتابه «مصائب الإنسان» وعزاه لشيخ الإسلام ابن تيمية ونقل أيضا عن أبى محمد بن حزم في «الملل والنحل» قال : لا براءة من المعصية أعظم من حال من ظن أن أحدا لا يحلف حانثا ، وهكذا فعل آدم عليه‌السلام ، فإنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا لنص القرآن ومتأولا وقاصدا إلى الخير ، لأنه قدر أنه يزداد حظوة عند الله فيكون ملكا مقربا أو خالدا فيما هو فيه أبدا ، فأداه ذلك إلى

٩٧

فصل

في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله

لما كان وضع الكلام للدلالة على مراد المتكلم ؛ وكان مراده لا يعلم إلا بكلامه ، انقسم كلامه ثلاثة أقسام ؛ أحدها ما هو نص في مراده لا يقبل محتملا غيره والثاني : ما هو ظاهر في مراده وإن احتمل أن يريد غيره ، الثالث : ما ليس بنص ولا ظاهر في المراد بل هو محتمل محتاج إلى البيان.

فالأول : يستحيل دخول التأويل فيه ، إذ تأويله كذب ظاهر على المتكلم ، وهذا شأن عامة نصوص القرآن الصريحة في معناها ، خصوصا آيات الصفات والتوحيد. وأن الله مكلم ، متكلم. آمر ، ناه ؛ قائل ، مخبر ، موجد ، حاكم ، واعد ، موعد ، مبين ، هاد ، داع إلى دار السلام ، وأنه تعالى فوق عباده ، عال على كل شيء ، مستوى على عرشه ، ينزل الأمر من عنده ويعرج إليه ، وأنه فعال حقيقة ، وأنه كل يوم في شأن فعال لما يريد ، وأنه ليس للخلق من دونه وليّ ولا شفيع يطاع ولا ظهير ، وأنه المتفرد بالربوبية والتدبير والقيومية (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) وأنه يسمع الكلام الخفي كما يسمع الجهر ، ويرى ما في السماوات والأرض ، ولا تخفي عليه منها ذرة واحدة. وأنه على كل شيء قدير ، ولا يخرج مقدور واحد عن قدرته البته ، كما لا يخرج عن علمه وتكوينه ، وأن له ملائكة مدبرة بأمره للعالم تصعد وتنزل وتتحرك وتنتقل من مكان إلى مكان ، وأنه يذهب بالدنيا ويخرب هذا العالم ويأتي بالآخرة ، ويبعث من في القبور ، إلى أمثال ذلك من النصوص التي هي في الدلالة على مرادها كدلالة لفظ العشرة والثلاثة على مدلولها ، وكدلالة لفظ الشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والخيل والبغال والإبل والبقر والذكر والأنثى على مدلولها ، لا فرق بين ذلك البتة.

__________________

خلاف ما أمر الله به وكان الواجب أن يحمل أمر ربه على ظاهره ، ولكن تأول وأراد الخير فلم يصبه ، لو فعل هذا عالم من علماء المسلمين لكان مأجورا ، ولكن آدم لما فعل وأخرج عن الجنة إلى الدنيا كان بذلك ظالما لنفسه ، وقد سمى الله قاتل الخطأ قاتلا كما سمى العامد ، والمخطئ يتعمد معصية ، وجعل في قتل الخطأ عتق رقبة ، وهو لم يعمد ذنبا ا ه.

٩٨

فهذا القسم إن سلط التأويل عليه عاد الشرع كله مؤولا ، لأنه أظهر أقسام القرآن ثبوتا وأكثرها ورودا ودلالة. ودلالة القرآن عليه متنوعة غاية التنوع ، فقبول ما سواه للتأويل أقرب من قبوله بكثير.

القسم الثاني : ما هو ظاهر في مراد المتكلم ولكنه يقبل التأويل ، فهذا ينظر في وروده ، فإن أطرد استعماله على وجه واحد استحال تأويله بما يخالف ظاهره لأن التأويل إنما يكون لموضع جاء خارجا عن نظائره متفردا عنها فيؤول حتى يرد إلى نظائره وتأويل هذا غير ممتنع إذا عرف من عادة المتكلم باطراد كلامه في توارد استعماله معني ألفه المخاطب ، فإذا جاء موضع يخالفه رده السامع إلى ما عهد من عرف المخاطب إلى عادته المطردة.

وهذا هو المعقول في الأذهان والفطر وعند كافة العقلاء.

وقد صرح أئمة العربية بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادعى فيه حذفه قد استعمل فيه ثبوته أكثر من حذفه ؛ فلا بد أن يكون موضع ادعاء الحذف قد استعمل فيه ثبوته أكثر من حذفه ، حتى إذا جاء ذلك محذوفا في موضع علم بكثرة ذكره في نظائره أنه قد أزيل في هذا الموضع فحمل عليه. فهذا شأن من يقصد البيان ، وأما من يقصد التلبيس والتعمية فله شأن آخر.

* * *

(قاعدة فيما يجوز تأويله)

مثال ذلك قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف : ٥٤) في جميع موارده من أولها إلى آخرها على هذا اللفظ ، فتأويله باستولى باطل ، وإنما كان يصح أن لو كان أكثر مجيئه بلفظ استولى ، ثم يخرج موضع عن نظائره ويرد بلفظ استوى ، فهذا كان يصح تأويله باستولى ، فتفطن لهذا الموضع واجعله قاعدة فيما يمتنع تأويله من كلام المتكلم ويجوز تأويله :

ونظير هذا اطراد النصوص بالنظر إلى الله تعالى هكذا «ترون ربكم» ،

٩٩

و «تنظرون إلى ربكم» (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ولم يجيء في موضع واحد ترون ثواب ربكم ، فيحمل عليه ما خرج عن نظائره.

ونظير ذلك اطراد قوله : (وَنادَيْناهُ) (مريم : ٥٢) (يُنادِيهِمْ) (القصص : ٦٢) (وَناداهُما رَبُّهُما وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) (القصص : ٤٦) ، (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) (النازعات : ١٦) ونظائرها. ولم يجيء في موضع واحد أمرنا من يناديهم ، ولا ناداه ملك ، فتأويله بذلك عين المحال.

ونظير ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول» (١) في نحو ثلاثين حديثا (٢). كلها مصرحة بإضافة النزول في الرب تعالى ، ولم يجيء موضع واحد بقوله : ينزل ملك ربنا ، حتى يحمل ما خرج عن نظائره عليه.

وإذا تأملت نصوص الصفات التي لا تسمح الجهمية بتسميتها نصوصا ، وإذا احترموها قالوا : ظواهر سمعية ، وقد عارضها القواطع العقلية ، وجدتها كلها من هذا الباب.

ومما يقتضي منه العجب أن كلام شيوخهم وتصنيفهم عندهم نص في مرادهم لا يحتمل التأويل ، وكلام الموافقين عندهم نص لا يجوز تأويله ، حتى إذا جاءوا إلى كلام الله ورسوله وقفوه على التأويل.

القسم الثالث : الخطاب بالمجمل الذي أحيل بيانه على خطاب آخر ، فهذا أيضا لا يجوز تأويله إلا بالخطاب الذي يبينه ، وقد يكون بيانه معه ، وقد يكون بيانه منفصلا عنه.

والمقصود أن الكلام الذي هو عرضة التأويل أن يكون له عدة معان وليس معه ما يبين مراد المتكلم ، فهذا التأويل فيه مجال واسع ، وليس في كلام الله ورسوله منه شيء من الجمل المركبة ، وإن وقع في الحروف المفتتح بها لسور بل إذا تأمل من بصره الله تعالى طريقة القرآن والسنة وجدها متضمنه لدفع ما يوهمه الكلام من خلاف ظاهره ، وهذا موضع لطيف جدا في فهم القرآن نشير إلى بعضه.

__________________

(١) تقدم تخريجه وهو في «الصحيحين» وغيرهما.

(٢) وقد ذكرها المصنف بالتفصيل في «اجتماع الجيوش» انظره بتحقيقنا طبعة نزار الباز مكة المكرمة.

١٠٠