مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

ابن القيّم الجوزيّة

مختصر الصواعق المرسلة على الجهميّة والمعطّلة

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: رضوان جامع رضوان
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٨٧

مطابقا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يكشف عن ساقه» وتنكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال يكشف عن ساق عظيمة.

قالوا : وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه ، فإن لغة القوم أن يقال : كشفت الشدة عن القوم لا كشفت عنها ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) (الزخرف : ٥٠) فالعذاب هو المكشوف لا المكشوف عنه وأيضا فهناك تحدث شدة لا تزول إلا بدخول الجنة وهنا لا يدعون إلى السجود ، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة.

(التاسع) أن يقال : ذكر العين المفردة مضافة إلى الضمير المفرد والأعين مجموعة مضافة إلى ضمير الجمع. وذكر العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة ليس إلا كقولك : أفعل هذا على عينى. وأحبك على عيني ؛ ولا يريد أن له عينا واحدة. وإنما إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرا ومضمرا فالأحسن جمعها مشاكلة للفظ ، كقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (القمر : ١٤) وقوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) (هود : ٣٧) وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (الملك : ١) و (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (آل عمران : ٢٦) وإن أضيفت إلى ضمير جمع جمعت ، كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (يس : ٧١) وكذلك إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر كقوله : (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم : ٤١) وقوله : (فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) (الأنبياء : ٦١).

وقد نطق الكتاب والسنة بذكر اليد مضافة إليه بلفظ مفردة ، مجموعة ومثناة ، وبلفظ العين مضافة إليه مفردة ومجموعة. ونطقت السنة بإضافتها إليه مثناة ، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن العبد إذا قام في الصلاة قام بين عيني الرحمن. فإذا التفت قال له ربه : إلى من تلتفت ، إلى خير لك منى» (١) وقول

__________________

(١) (ضعيف) ذكره الهيثمي في «المجمع» (٢ / ٨٠) وعزاه للبزار من حديث جابر يرفعه وقال : وفيه الفضل بن عيسى الرقاشى وقد أجمعوا على ضعفه ، ورواه من حديث أبي هريرة ، وقال الهيثمي وفيه إبراهيم بن يزيد وهو ضعيف. ا ه.

٦١

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن ربكم ليس بأعور» (١) صريح بأنه ليس المراد إثبات عين واحدة فإن ذلك عور ظاهر تعالى الله عنه ، وهل يفهم من قول الداعى «اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام» أنها عين واحدة ليس إلا ـ إلا ذهن أقلف وقلب أغلف.

قال ابن تميم : حدثنا عبد الجبار بن كثير قال : قيل لإبراهيم بن أدهم : هذا السبع ؛ فنادى : يا قسورة ، إن كنت أمرت فينا بشيء ، وإلا بعيني فاذهب ، فضرب بذنبه ، وولى مدبرا ، فنظر إبراهيم إلى أصحابه وقال : قولوا اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام. واكنفنا بكنفك الّذي لا يرام ، وارحمنا بقدرتك علينا ، لا نهلك وأنت الرجاء. وقال عثمان الدارمي : الأعور ضد البصير بالعينين.

وقد استدل السلف على إثبات العينين له تعالى بقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (القمر : ١٤) وممن صرح بذلك إثباتا واستدلالا أبو الحسن الأشعري في كتبه كلها فقال في كتاب «المقالات» و «الإبانة» و «الموجز» وهذا لفظه فيها :

وأن له عينين بلا كيف كما قال : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) فهذا الأشعرى وغيره لم يفهموا من الأعين أعينا كثيرة ، ولا من الأيدي أيادي كثيرة على شق واحد.

ولما رد أهل السنة تأويل الجاهلين لم يقدر الجهمية على أخذ الثأر منهم إلا بأن سموهم مشبهة ، ممثلة ، مجسمة ، حشوية ، ولو كان لهؤلاء عقول لعلموا أن التلقيب بهذه الألقاب ليس لهم ، وإنما هو لمن جاء بهذه النصوص وتكلم بها ، ودعا الأمة إلى الإيمان بها ، ونهاهم عن تحريفها وتبديلها ، ولو كان خصومكم كما زعمتم وحاشاهم مشبهة ممثلة مجسمة لكانوا أقل تنقصا لرب العالمين منكم وكتابه وأسمائه وصفاته بكثير ، لو كان قولهم يقتضي التنقيص فكيف وهو لا يقتضيه لو صرحوا به؟ فإنهم يقولون : نحن أثبتنا لله غاية الكمال ونعوت الجلال ؛ ووصفناه بكل صفة كمال ، فإن لزم من هذا تجسيم وتشبيه لم يكن هذا

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧١٣١ ، ٧٤٠٨) فى ذكر الدجال من حديث أبي هريرة يرفعه بلفظ : «ما بعث نبى إلا أنذر أمته الأعور الكذاب ، ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ، وإن بين عينيه مكتوب : «كافر» ، ورواه مسلم في (الفتن / ٢٢٤٨ ، ٢٩٣٣).

٦٢

نقصا ولا عيبا بوجه من الوجوه فإن لازم الحق حق ، وما لزم من إثبات كمال الرب ليس بنقص.

وأما أنتم فنفيتم عنه صفات الكمال. ولا ريب أن لازم هذا النفي وصفه بأضدادها من العيوب والنقائص. فما سوى الله ولا رسوله ولا عقلاء عباده بين من نفى كماله المقدس حذرا من التجسيم ، وبين من أثبت كماله الأعظم وصفاته العلى بلوازم ذلك ، كائنة ما كانت.

فلو فرضنا في هذه الأمة من يقول : له سمع كسمع المخلوق وبصر كبصره ويد كيده ، لكان أدنى إلى الحق ممن يقول لا سمع ولا بصر ولا يد ولو فرضنا قائلا يقول : إنه متحيز على عرشه ، تحيط به الحدود والجهات ، لكن أقرب إلى الصواب من قول من يقول : ليس فوق العرش إله يعبد ، ولا ترفع إليه الأيدى ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا هو فوق خلقه ، ولا محايثهم ، ولا مباينهم. فإن هذا معطل مكذب لله ، راد على الله ورسوله ، وذلك المشبه غالط مخطئ في فهمه. فالمشبه على زعمكم الكاذب لم يشبهه تنقيصا له وجحدا لكماله ، بل ظنا أن إثبات الكمال لا يمكن إلا بذلك ، فقابلتموه بتعطيل كماله ، وذلك غاية التنقيص.

(العاشر) أن لغة العرب متنوعة في إفراد المضاف وتثنيته وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه ، فإن أضافوا الواحد المتصل إلى مفرد أفردوه ، وإن أضافوا إلى اسم جمع ظاهرا أو مضمرا جمعوه. وإن أضافوا إلى اسم مثنى فالأفصح في لغتهم جمعه كقوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) (التحريم : ٢٤) وإنما هما قلبان. وكقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة : ٣٨) وتقول العرب : اضرب أعناقها ، وهذا أفصح استعمالهم ، وتارة يفردون المضاف فيقولون : لسانهما وقلبهما ، وتارة يثنون كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ظهراهما مثل ظهور الترسين» (١) القرآن إنما نزل بلغة العرب لا بلغة العجم والطماطم والأنباط (٢) الذين أفسدوا الدين وتلاعبوا بالنصوص فجعلوها عرضة لتأويل الجاهلين.

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠١٣) ، ومسلم في (الاستسقاء / ٨٩٧).

(٢) الأنباط : شعب سامىّ كانت له دولة في شمالى شبه الجزيرة العربية ، وعاصمتهم

٦٣

وإذا كان من لغتهم وضع الجمع موضع التثنية لئلا يجمعوا في لفظ واحد بين تثنيتين ، فلأن يوضع الجمع موضع التثنية فيما إذا كان المضاف إليه تثنية أولى بالجواز. يدل عليه أنك لا تكاد تجد في كلامهم : عينان ويدان ونحو ذلك ، ولا يلتبس على السامع قول المتكلم : نراك بأعيننا ونأخذك بأيدينا. ولا يفهم منه بشر على وجه الأرض عيونا كثيرة على وجه واحد.

(الحادي عشر) أن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع : مفردا ، ومثنى ، ومجموعا.

فالمفرد كقوله : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك : ١] والمثنى كقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، والمجموع (عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدى الفعل بالباء إليها فقال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء. فهذه ثلاثة فروق ؛ فلا يحتمل (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) من المجاز ما يحتمله (عَمِلَتْ أَيْدِينا) فإن كل أحد يفهم من قوله : (عَمِلَتْ أَيْدِينا) ما يفهمه من قوله : عملنا وخلقنا ، كما يفهم ذلك من قوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] وأما قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى ، فكيف وقد دخلت عليها الباء؟ فكيف إذا ثنيت؟

وسر الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد المراد الإضافة إليه كقوله : (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (الحج : ٧١) ، (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدى بالباء إلى يده مفردة أو مثناة فهو مما باشرته يده. ولهذا قال عبد الله بن عمرو «إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا : خلق آدم بيده ، وغرس جنة الفردوس بيده ، وكتب التوراة بيده» ، فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ؛ ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على كل شيء مما خلق بالقدر.

__________________

«سلع» وتعرف اليوم بالبتراء (الوجيز) ، والرجل الطمطم وهو الّذي في لسانه عجمة لا يفصح.

٦٤

وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أهل الموقف يأتونه يوم القيامة فيقولون «يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده» (١) وكذلك قال آدم لموسى في محاجته له «اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده» (٢) وفي لفظ آخر «كتب لك التوراة بيده» (٣) وهو من أصح الأحاديث ، وكذلك الحديث المشهور «إن الملائكة قالوا : يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال الله تعالى : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان» (٤) وهذا التخصيص إنما فهم من قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) فلو كان مثل قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) لكان هو والأنعام في ذلك سواء.

فلما فهم المسلمون أن قوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) يوجب له تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له ، وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه ، كانت التسوية بينه وبين قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (يس : ٧١) خطأ محضا كذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى» (٥) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح «يمين الله ملأى

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣٣٤٠) ، ومسلم في (القدر /) من حديث الشفاعة الطويل عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(٢) أخرجه البخاري (٦٦١٤) ، ومسلم (القدر / ٢٦٥٢).

(٣) أخرجه الإمام أحمد (٢ / ٢٤٨) ، وأبو داود (٤٧٠١) ، وابن ماجه في «مقدمة سننه» (٨٠).

(٤) (موضوع) أورده الهيثمي في «المجمع» (١ / ٨٢) وعزاه إلى الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» وقال : وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي وهو كذاب متروك ، وفي سند «الأوسط» طلحة بن زيد وهو كذاب أيضا. ا ه.

(٥) أخرجه البخاري (٦٥١٩ ، ٧٣٨٢) ، ورواه مسلم في (المنافقين / ٢١٤٨ ، ٢٧٨٧) وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

٦٥

لا يغيضها نفقة ؛ سحاء الليل أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق؟ فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع» (١) وقال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (المائدة : ٦٤) وفي الحديث الذي رواه مسلم في «صحيحه» ، في أعلى أهل الجنة منزلة «أولئك الذين غرست كرامهم بيدي وختمت عليها» (٢).

وقال أنس بن مالك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده ؛ فقال لها : تكلمي ، فقالت قد أفلح المؤمنون» (٣) ، وقال عبد الله ابن الحارث قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» (٤) وفي «الصحيح» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تكون الأرض يوم القيامة

__________________

(١) رواه البخاري (٤٦٨٤) ، ومسلم في (الزكاة ٢ / ٣٧) من حديث أبي هريرة.

(٢) رواه مسلم في (الإيمان / ١٨٩) من حديث المغيرة بن شعبة.

(٣) (ضعيف وهو حسن لغيره) رواه الخطيب البغدادي في «تاريخه» (١٠ / ١١٨) ، والحاكم (٢ / ٣٩٢) وقال : صحيح الإسناد وتعقبه الذهبى فقال : بل ضعيف. ا ه.

وذكره الحافظ الهيثمي في «المجمع» بنحوه (١٠ / ٣٩٧) من عدة طرق : الأولى عن ابن عباس يرفعه بلفظ : «لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ثم قال لها تكلمى فقالت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، وفي رواية : «خلق الله جنة عدن بيده ودلى فيها ثمارها وشق فيها أنهارها ، ثم نظر فيها فقال لها : تكلمي ، فقالت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) فقال : وعزتى لا يجاورني فيك بخيل.

رواه الطبراني في «الأوسط» ، و «الكبير» وأحد إسنادى الطبرانى في «الأوسط» جيد ، وعن أبي سعيد يرفعه بنحوه رواه البزار مرفوعا وموقوفا ، والطبرانى في «الأوسط» ، ورجال الموقوف رجال الصحيح ، وأبو سعيد لا يقول بهذا إلا بتوقيف. ا ه.

(٤) (ضعيف مرفوع) رواه البيهقي في «الأسماء والصفات» وقال : هذا مرسل. ا ه. وذكره ابن القيم في «حادى الأرواح» وقال : المحفوظ أنه موقوف أه أفاده الألباني في «مختصر العلو» وقال : وأخرجه الآجرى في «الشريعة» عن جابر موقوفا وإسناده صحيح وأخرجه عبد الله في «السنة» (ص ٦٨) بنحوه ، وصححه الذهبى في «الأربعين» ، وأخرجه الدارمى عن ميسرة قال : فذكر مثله ، ورجاله ثقات وعن أنس عن كعب قال : فذكره وسنده صحيح ا ه. (مختصر العلو ص ١٣٠) بتصرف.

٦٦

خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة (١).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في استفتاح الصلاة «لبيك وسعديك والخير كله بيدك» (٢) ، وفي «الصحيح» أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» (٣) ، وقال عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأيدي ثلاثة : فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى» (٤) ، وفي «الصحيح» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين» (٥).

وفي «المسند» وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له ربه : يرحمك ربك يا آدم. وقال له : اذهب إلى أولئك الملائكة ـ إلى نفر جلوس ـ فقل : السلام عليكم ، فذهب فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ثم رجع إلى ربه ، فقال : هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم. فقال الله تعالى : ويداه مقبوضتان :

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦٥٢٠) ، ومسلم في (صفة القيامة / ٢٧٩٢) من حديث أبي سعيد الخدري.

(٢) رواه مسلم في (صلاة المسافرين / ٧٧١).

(٣) رواه مسلم في (التوبة / ٢٧٥٩) ، والإمام أحمد (٤ / ٣٩٥ ، ٤٠٤) من حديث أبي موسى الأشعرى.

(٤) (صحيح) أخرجه أبو داود (١٦٤٩) ، والحاكم (١ / ٤٠٨) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (٣٣٥١) ، والإمام أحمد (٣ / ٩٧).

قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (١٤٥١).

(٥) رواه مسلم في (الإمارة / ١٨٢٧) ، والنسائي (٨ / ٢٢١) من حديث عبد الله بن عمرو.

٦٧

اختر أيهما شئت ، فقال : اخترت يمين ربي ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته ...» الحديث (١) ، وقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خلق الله آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ؛ ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون» (٢).

وقال هشام بن حكيم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله أخذ ذرية بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم ، ثم فاض بهم في كفيه ، ثم قال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار» (٣) وقال عبد الله بن عمرو : «لما خلق الله آدم نفضه نفض المزود فقبض قبضتين ، فقال لما في اليمين : في الجنة ، وقال لما في الأخرى في النار» (٤) ،

__________________

(١) (صحيح) رواه الترمذي (٣٣٦٨) وقال : حديث حسن غريب من هذا الوجه ا ه ، ورواه الحاكم (١ / ٦٤) وقال : حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي أ. ه وأخرجه ابن حبان (٦١٣١ ـ ٦١٣٢ / إحسان) وقال الألباني في «صحيح الجامع» صحيح.

(٢) (صحيح) أخرجه أبو داود (٤٧٠٣ ـ ٤٧٠٤) ، ورواه الترمذي (٣٠٧٥) وقال : هذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بين يسار وعمر رجلا مجهول ، ورواه ابن أبي عاصم في «السنة» (١٩٦ ، ٢٠١) ، وقال الألباني : صحيح إلا «مسح الظهر» ، وانظر «الضعيفة» (٣٠٧١) ، و «الطحاوية» [٢٦٦ ، ٢٢٠].

(٣) (حسن الإسناد وهو صحيح لغيره) رواه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (٩ / ٨٠) وابن كثير في «التفسير» (٢ / ٢٦٣). وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ١٨٧) وعزاه للبزار والطبراني وقال : وفيه بقية بن الوليد وهو ضعيف ، ويحسن حديثه بكثرة الشواهد وإسناد الطبراني حسن. أه.

(٤) (صحيح لغيره) ذكر الشيخ الألباني في «الصحيحة» عدة روايات قريبة من هذا المعنى وصححها في باب : القدر وحديث القبضتين حق ، وقال : وفي الباب عن أبي موسى ـ قلت : وهو الحديث الآتي هنا ، وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وغيرهما فليراجعها من شاء في «مجموع الزوائد» (٧ / ١٨٦ ـ ١٨٧).

قال الألباني : إن كثيرا من الناس يتوهمون أن هذه الأحاديث ـ ونحوها أحاديث كثيرة

٦٨

وقال أبو موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من

__________________

تفيد أن الإنسان مجبور على أعماله الاختيارية ، وما دام أنه حكم عليه منذ القدم وقبل أن يخلق بالجنة أو بالنار ، وقد يتوهم آخرون أن الأمر فوضى أو حظ ، فمن وقع في القبضة اليمنى كان من أهل السعادة ، ومن كان من القبضة الأخرى كان من أهل الشقاوة.

فيجب أن يعلم هؤلاء جميعا أن الله (ليس كمثله شيء) لا في ذاته ولا في صفاته ، فإذا قبض قبضة فهى بعلمه وعدله وحكمته ، فهو تعالى قبض باليمنى على من علم أنه سيطيعه حين يؤمر بطاعته ، وقبض بالأخرى على من سبق في علمه تعالى أنه سيعصيه حين يؤمر بطاعته ، ويستحيل على عدل الله تعالى أن يقبض باليمنى على من هو مستحق أن يكون من أهل القبضة الأخرى ، والعكس بالعكس كيف والله عزوجل يقول : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

ثم إن كلا من القبضتين ليس فيها إجبار لأصحابهما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار ، بل هو حكم من الله تبارك وتعالى عليهم بما سيصدر منهم من إيمان يستلزم الجنة أو كفر يقتضي النار والعياذ بالله تعالى منها ، وكل من الإيمان أو الكفر أمران اختياريان ، لا يكره الله تبارك وتعالى أحدا من خلقه على واحد منهما (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) وهذا مشاهد معلوم بالضرورة ولو لا ذلك لكان الثواب والعقاب عبثا والله منزه عن ذلك.

ومن المؤسف حقا أن نسمع من كثير من الناس حتى من بعض المشايخ التصريح بأن الإنسان مجبور لا إرادة له ، وبذلك يلزمون أنفسهم القول بأن الله يجوز له أن يظلم الناس ، مع تصريحه تعالى بأنه لا يظلمهم مثقال ذرة ، وإعلامه بأنه قادر على الظلم ولكنه نزه نفسه عنه كما في الحديث القدسي المشهور : «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ...» الحديث ، وإذا جوبهوا بهذه الحقيقة بادروا إلى الاحتجاج بقوله تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) مصرين بذلك على أن الله تعالى قد يظلم ولكنه لا يسأل عن ذلك ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وفاته أن الآية حجة عليهم لأن المراد بها ـ كما حققه العلامة ابن القيم وغيره ـ أن الله تعالى لحكمته وعدله في حكمه ليس لأحد أن يسأله عما يفعل ، لأن كل أحكامه تعالى عدل واضح فلا داعى للسؤال ، وللشيخ يوسف الدجوى رسالة مفيدة في تفسير هذه الآية لعله أخذ مادتها من ابن القيم فلتراجع. ا ه. «الصحيحة» (١ / ٧٠ ـ ٧١).

٦٩

جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فمنهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ، والسهل والحزن والطيب والخبيث» (١).

وقال سلمان الفارسي : «إن الله خمّر طينة آدم أربعين ليلة وأربعين يوما ثم ضرب بيديه فيها فخرج كل طيب بيمينه وخرج كل خبيث بيده الأخرى».

وقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تصدق أحد بصدقة من طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، إلا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل» متفق عليه (٢).

وقال أنس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله وعدني أن يدخل من أمتى أربعمائة ألف» فقال أبو بكر : زدنا يا رسول الله قال : «وهكذا» وجمع يديه. قال : زدنا يا رسول الله قال : «وهكذا» قال : زدنا يا رسول الله. فقال عمر : حسبك ، فقال أبو بكر دعني يا عمر ، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا؟ فقال عمر : إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحدة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق عمر» (٣).

وقال نافع عن ابن عمر : سألت ابن أبي مليكة عن يد الله واحدة أو اثنتان؟ فقال : لا ، بل اثنتان. وقال ابن عباس رضي الله عنها : «ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهما في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم» ، وقال ابن عمر وابن عباس «أول شيء خلقه الله القلم ، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين فكتب الدنيا وما فيها من عامل ومعمول في بر وبحر ورطب ويابس فأحصاه عنده».

__________________

(١) (صحيح) أخرجه أبو داود (٤٦٩٣) وسكت عنه ، ورواه الترمذي (٢٩٥٥) وقال : حديث حسن صحيح. أه وأخرجه الإمام أحمد (٤ / ٤٠٠ ، ٤٠٦) ، وصححه الألباني.

(٢) أخرجه البخاري (١٤١٠) ، ومسلم (الزكاة : ١٠١٤) وراجع كلام الحافظ في «الفتح» (٣ / ٣٢٧ ـ ٣٢٩) (ط الريان) وتعقيب الشيخ ابن باز عليه.

(٣) (حسن) رواه عبد الرزاق في «مصنفه» (٢٠٥٥٦) ، وذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٤٠٤) بلفظ : مائة ألف ، بدلا من : أربعمائة ألف ، وعزاه لأحمد والطبراني في «الأوسط» وقال : وإسناده حسن. ا ه.

٧٠

وقال ابن عباس في قوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر : ٦٧) «يقبض الله عليهما فما يرى طرفها في يده» ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما «رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما على المنبر فقال : «إن الله تعالى إذ كان يوم القيامة جمع السموات والأرض في قبضته ثم قال هكذا : ومد يده وبسطها ، ثم يقول : أنا الله الرحمن ـ الحديث» (١) ، قال وهب عن أسامة عن نافع عن ابن عمر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ على المنبر : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، وقال : «مطوية بيمينه يرمى بها كما يرمى الغلام بالكرة وقال عبيد الله بن مقسم : نظرت إلى عبد الله بن عمر كيف صنع يحكي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال «يأخذ الله سماواته وأراضيه بيده ، فيقول : «أنا الله» ويقبض أصابعه ويبسطها «ويقول أنا الرحمن أنا الملك» حتى أني أنظر إلى المنبر يتحرك من أسفل منه حتى أني أقول أساقط هو برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢)؟ وقال زيد بن أسلم : لما كتب الله التوراة بيده قال «بسم الله ، هذا كتاب الله بيده لعبده موسى يسبحني ويقدسني ولا يحلف باسمي آثما ، فإني لا أزكى من حلف باسمي آثما».

وإنما ذكرنا هذه النصوص التي هي غيض من فيض ليعلم الواقف عليها أنها لا يفهم أحد من عقلاء بني آدم منها شخصا له شق واحد وعليه أيد كثيرة ، وله ساق واحدة ، وله أعين كثيرة.

* * *

__________________

(١) رواه البخاري (٧٤١٢) ، ومسلم في (المنافقين / ٢٧٨٨).

(٢) أخرجه مسلم في (المنافقين / ٢٥).

٧١

فصل

(في الوظائف الواجبة على المتأول)

لما كان الأصل في اللفظ هو الحقيقة والظاهر : كان العدول به عن حقيقته مخرجا له عن الأصل ، فاحتاج مدعى ذلك إلى دليل يسوغ له إخراجه عن أصله ، فعليه أربعة أمور لا تتم دعواه إلا بها :

(الأمر الأول) بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوله في ذلك التركيب الذي وقع فيه ، وإلا كان كاذبا على اللغة ، فإن اللفظ قد لا يحتمل ذلك المعنى لغة ، وإن احتمله فقد لا يحتمله في ذلك التركيب الخاص. وكثير من المتأولين لا يبالي إذا تهيأ له حمل اللفظ على ذلك المعنى بأي طريق أمكنه إلى مقصوده دفع الصائل ، فبأي طريق تهيأ له دفعه دفعه. فإن النصوص قد صالت على قواعده الباطلة ، وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على كل ما ساغ في اللغة والاصطلاح لبعض الشعراء أو الخطباء والكتّاب والعامة إلا إذا كان ذلك غير مخالف لما علم من وصف الرب سبحانه وأسمائه ؛ وما تضافرت به صفاته لنفسه وصفات رسوله ؛ وكانت إرادة ذلك المعنى بذلك اللفظ مما يجوز ويصلح لنسبتها إلى الله تعالى ؛ لا سيما والمتأول يخبر عن مراد الله ورسوله ، فإن تأويل كلام المتكلم بما يوافق ظاهره أو يخالفه إنما هو بيان لمراده.

فإذا علم المتكلم لم يرد هذا المعنى ، وأنه يمتنع أن يريده ؛ وأن في صفات كماله ونعوت جلاله ما يمنع من إرادته ، استحال الحكم عليه إرادته.

فهذا أصل عظيم يجب معرفته ؛ ومن أحاط به فعرفه تبين له أن كثيرا مما يدعيه المحرفون للتأويلات مما يعلم قطعا أن المتكلم لم يرده.

وإنما كان ذلك مما يسوغ لبعض الشعراء أو الكتّاب القاصدين التعمية ، لغرض من الأغراض ، فلا بد أن يكون المعنى الذي تأوله المتأول مما يسوغ استعمال اللفظ فيه في تلك اللغة التي وقع بها التخاطب ، وأن يكون ذلك مما يجوز نسبته

٧٢

إلى الله تعالى ، وألا يعود على شيء من صفات كماله بالإبطال والتعطيل ، وأن يكون معه قرائن تحتف به تبين أنه مراد باللفظ ، وإلا كانت دعوى إرادته كذبا على المتكلم ، ونحن نذكر لك أمثلة :

* * *

٧٣

[أمثلة ما اختلفوا فيه في التأويل]

(المثال الأول : في الاستواء)

(تأويل الاستواء : بالإقبال)

المثال الأول : تأول قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (الفرقان : ٥٩) بأنه أقبل على خلقه ، فهذا إنشاء منهم لوضع لفظ (اسْتَوى) على (أقبل) وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة ؛ فإنهم ذكروا معاني (اسْتَوى) ، ولم يذكر أحد منهم في معانيه الإقبال على الخلق. فهذه كتب اللغة طبقت الأرض لا تجد أحدا منهم يحكى ذلك عن اللغة. وأيضا فإن استواء الشيء والاستواء إليه والاستواء عليه يستلزم وجوده ووجود ما نسب إليه الاستواء بإلى أو بعلى ، فلا يقال : استوى إلى أمر معدوم ولا استوى عليه. فهذا التأويل إنشاء محض لا إخبار صادق عن استعمال أهل اللغة.

* * *

(تأويل الاستواء : بالاستيلاء)

وكذلك تأويلهم الاستواء بالاستيلاء ؛ فإن هذا لا تعرفه العرب من لغتها ؛ ولم يقله أحد من أئمة اللغة. وقد صرح أئمة اللغة كابن الأعرابي وغيره بأنه لا يعرف في اللغة. ولو احتمل ذلك لم يحتمله هذا التركيب ، فإن استيلاءه سبحانه وغلبته للعرش لم يتأخر عن خلق السموات والأرض ، فالعرش مخلوق قبل خلقهما بأكثر من خمسين ألف سنة ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما صح عنه. وبطلان هذا التأويل من أربعين وجها سنذكرها إن شاء الله في موضعها من هذا الكتاب (١).

__________________

(١) ونضيف هنا جملة ذكرها المصنف في «اجتماع الجيوش» فقال :

قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) يتضمن إبطال قول المعطلة والجهمية الذين يقولون : ليس على العرش شيء سوى العدم ، وإن الله ليس مستويا على عرشه ،

٧٤

فعلى المتأول أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي ذكره أولا ويبين تعيين ذلك المعنى ثانيا فإنه إذا خرجت عن حقيقته قد يكون له عدة معانى ، فتعيين ذلك المعنى يحتاج إلى دليل.

الثاني : إقامة الدليل الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره. فإن دليل المدعى للحقيقة والظاهر قائم ، فلا يجوز العدول عنه إلا بدليل صارف يكون أقوى منه.

__________________

ولا ترفع إليه الأيدى ، ولا يصعد إليه الكلم الطيب ، ولا رفع المسيح عليه‌السلام إليه ، ولا عرج برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تعرج الملائكة والروح إليه ، ولا ينزل من عنده جبريل عليه‌السلام ولا غيره ، ولا ينزل هو (سبحانه) كل ليلة إلى السماء الدنيا ، ولا يخافه عباده من الملائكة وغيرهم من فوقهم ، ولا يراه المؤمنون في الدار الآخرة عيانا بأبصارهم من فوقهم ، ولا تجوز الإشارة إليه بالأصابع إلى فوق كما أشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أعظم مجامعه في حجة الوداع ، وجعل يرفع إصبعه إلى السماء ، وينكبها إلى الناس ويقول : «اللهم اشهد».

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله : وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوء مما هو نص أو ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء ، وأنه فوق العرش فوق السماوات مستو على عرشه مثل قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ... ثم ذكره عدة آيات من كتاب الله تنص على الرفع إليه وعلى الفوقية والعلو ، وفي آخر ما ذكر قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً).

قال أبو الحسن الأشعرى : وقد احتج بهذه الآية على الجهمية ، فكذب فرعون موسى عليه‌السلام في قوله : إن الله فوق السموات.

وأما الأحاديث فمنها : قصة المعراج وهى متواترة ، وتجاوز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السموات سماء سماء ، حتى انتهى إلى ربه تعالى فقربه وأدناه. وفرض عليه الصلوات خمسين صلاة ، فلم يزل بين موسى وربه تبارك وتعالى ، وينزل من عند ربه تعالى إلى عند موسى ، فيسأله كم فرض عليك فيخبره فيقول : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فيصعد إلى ربه فيسأله التخفيف ... إلخ.

ثم ذكر ما يقرب من خمسين حديثا في إثبات استوائه عزوجل على عرشه فلينظر فى «اجتماع الجيوش» طبعة مكتبة نزار الباز بمكة المكرمة بتحقيقنا.

٧٥

الثالث : الجواب عن المعارض ، فإن مدعى الحقيقة قد قام الدليل العقلي والسمعى عنده على إرادة الحقيقة : أما السمعى فلا يمكنك المكابرة أنه معه. وأما العقلي فمن وجهين : عام ، وخاص ، فالعام الدليل الدال على كمال علم المتكلم ، وكمال بيانه ، وكمال نصحه. والدليل العقلي على ذلك أقوى من الشبه الخيالية التي يستدل بها النفاة بكثير. فإن جاز مخالفة هذا الدليل القاطع فمخالفة تلك الشبه الخيالية أولى بالجواز ، وإن لم يجز مخالفة تلك الشبه فامتناع مخالفة الدليل القاطع أولى ، وأما الخاص فكل صفة وصف الله تعالى بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهى صفة كمال قطعا. فلا يجوز تعطيل صفات كماله وتأويلها بما يبطل حقائقها.

فالدليل العقلي الذي دل على ثبوت الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر ، دل نظيره على ثبوت الحكمة والرضى والرحمة والغضب والفرح والضحك. والذي دل على أنه فاعل بمشيئته واختياره دل على قيام أفعاله به. ذلك عين الكمال. وكل صفة دل عليها الكتاب والسنة فهي صفة كمال. والعقل جازم بإثبات صفات الكمال لله تعالى ، ويمتنع أن يصف نفسه أو يصفه رسوله بصفة توهم نقصا. وهذا دليل أيضا أقوي من كل شبهة للنفاة.

يوضحه : أن أدلة مباينة الرب لخلقه وعلوه على جميع مخلوقاته أدلة عقلية فطرية توجب العلم الضروري بمدلولها.

وأما السمعية فتقارب ألف دليل. فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله. وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك. فنحن نطالبه بجواب صحيح عن دليل واحد وهو :

أن الرب تعالى إما أن يكون له وجود خارج عن الذهن ثابت في الأعيان ، أو لا؟ فإن لم يكن له وجود خارجى كان خيالا قائما بالذهن لا حقيقة له ؛ وهذا حقيقة قول المعطلة ؛ وإن تستروا بزخرف من القول ، وإن كانت وجوده خارج الذهن فهو مباين له ، أو هو منفصل عنه ، إذا لو كان قائما به لكان عرضا من أعراضه. وحينئذ فإما أن يكون هو هذا العالم ، أو غيره. فإن كان هذا العالم ،

٧٦

فهذا تصريح بقول أصحاب وحدة الوجود ، وأنه ليس لهذا العالم إله مباين له ، منفصل عنه. وهذا أكفر أقوال أهل الأرض. فإن كان غيره فإما أن يكون قائما بنفسه ، أو قائما بالعالم؟ فإن كان قائما بالعالم ، فهو جزء من أجزائه أو صفة من صفاته. وليس هذا بقيوم السماوات والأرض. وإن كان قائما بنفسه. وقد علم أن العالم قائم بنفسه فذاتان قائمتان بأنفسهما ليست إحداهما داخلة في الأخرى ، ولا خارجة عنها ؛ ولا متصلة بها ، ولا منفصلة عنها ، ولا محايثة ولا مباينة ، ولا فوقها ؛ ولا تحتها ؛ ولا خلفها ، ولا أمامها ؛ ولا عن يمينها ، ولا عن شمالها ، كلام له خبىء لا يخفي على عاقل منصف. والبديهة الضرورية حاكمة باستحالة هذا ؛ بل باستحالة تصوره فضلا عن التصديق به.

قالوا : فنحن نطالبكم بجواب صحيح عن هذا الدليل الواحد من جملة ألف دليل ونعلم قبل المطالبة أن كل الجهميين على وجه الأرض لو اجتمعوا لما أجابوا عنه بغير المكابرة والتشنيع على أهل الإثبات بالتجسيم والسب ، هذه وظيفة كل مبطل قامت عليه حجة الله تعالى.

* * *

فصل

في بيان أن التأويل شر من التعطيل

فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص ، وإساءة الظن بها ، فإن المعطل والمؤول قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات ، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص وإساءة الظن بها ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال فجمعوا بين أربعة محاذير اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله محال باطل ؛ فعرفوا التشبيه أولا. ثم انتقلوا منه إلى المحذور الثاني وهو التعطيل ، فعطلوا حقائقها بناء منهم على ذلك الفهم الذي لا يليق بهم ولا يليق بالرب سبحانه ، المحذور الثالث : نسبة المتكلم الكامل العلم ، الكامل البيان ، التام

٧٧

النصح ، إلى ضد البيان والهدى والإرشاد ، وأن المتحيرين المتهوكين أجادوا العبارة في هذا الباب ، وعبروا بعبارة لا توهم من الباطل ما أوهمته عبارة المتكلم بتلك النصوص. ولا ريب عند كل عاقل أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلم منه أو أفصح أو أنصح للناس. المحذور الرابع : تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها ... فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم وقد حلت بها المثلات ، وتلاعبت بها أمواج التأويلات ، ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد ، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويل ما يريد. فلو رأيتها وقد عزلت عن سلطنة اليقين ، وجعلت تحت تحكم تأويل الجاهلين. وهذا وقد قعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز ؛ وقالوا لا طريق لك علينا ، وإن كان ولا بد فعلى سبيل المجاز ، فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين. وأنت أدلة لفظية ، وظواهر سمعية. لا تفيد العلم ولا اليقين ؛ فسندك آحاد ؛ وهو عرضة للطعن في الناقلين. وإن صح وتواتر ففهم مراد المتكلم منها موقوف على انتفاء عشرة أشياء لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند الناظرين والباحثين.

فلا إله إلا الله والله أكبر!! كم هدمت هذه المعاول من معاقل الإيمان ، وتثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن. فكشف عورات هؤلاء وبيان فضائحهم من أفضل الجهاد في سبيل الله. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت : «إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن رسوله» (١).

واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه على أن الدين كله لله ، وأن الهدى هدى ، وأن الحق دائر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجودا وعدما ، وأنه لا مطاع سواه ولا متبوع غيره ، وأن كلام غيره يعرض على كلامه فإن وافقه قبلناه ، لا لأنه قاله ، بل لأنه أخبر به عن الله تعالى ورسوله ، وإن خالفه رددناه. ولا يعرض كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على آراء القياسيين ؛ ولا على عقول الفلاسفة والمتكلمين ولا أذواق المتزهدين ، بل تعرض هذه كلها على ما جاء به ، عرض

__________________

(١) رواه مسلم في (فضائل الصحابة / ٢٤٩٠).

٧٨

الدراهم المجهولة على أخبر الناقدين فما حكم بصحته فهو منها المقبول ، وما حكم برده فهو المردود.

فصل

في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره

وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد. وأن القصدين يتنافيان. وإن تركه

بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى السداد

لما كان المقصود بالخطاب دلالة السامع وإفهامه مراد المتكلم من كلامه وأن يبين له ما في نفسه من المعاني وأن يدله على ذلك بأقرب الطرق ؛ كان ذاك موقوفا على أمرين : بيان المتكلم ؛ وتمكن السامع من الفهم. فإن لم يحصل البيان من المتكلم ، أو حصل ولم يتمكن السامع من الفهم ، لم يحصل مراد المتكلم ، فإذا بين المتكلم مراده بالألفاظ الدالة على مراده ولم يعلم السامع معاني تلك الألفاظ ، لم يحصل له البيان ، فلا بد من تمكن السامع من الفهم وحصول الإفهام من المتكلم. وحينئذ فلو أراد الله ورسوله من كلامه خلاف حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لكان قد كلفه أن يفهم مراده بما لا يدل عليه ، بل بما يدل على نقيض مراده وأراد منه فهم النفي لما يدل على غاية الإثبات ، وفهم الشيء بما يدل على ضده ، وأراد منه أن يفهم أنه ليس فوق العرش إله يعبد ، وأنه لا داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا فوقه ؛ ولا تحته ، ولا خلفه ، ولا أمامه ؛ بقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ) (الإخلاص : ٢١) وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١) وأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إفهام أمته هذا المعنى بقوله : «لا تفضلوني على يونس بن متى» (١) وأراد إفهام كونه خلق آدم بقدرته ومشيئته بقوله :

__________________

(١) وأخرجه البخاري (٣٤١٢) عن ابن مسعود يرفعه بلفظ : «لا يقولن أحدكم إنى خير من يونس» زاد مسدد : «يونس بن متى» ، ورواه (٣٤١٣) عن ابن عباس يرفعه بلفظ : «ما ينبغى لعبد أن يقول إنى خير من يونس بن متى ، ونسبه إلى أبيه».

٧٩

(ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) وأراد إفهام تخريب السماوات والأرض وإعادتهما إلى العدم بقوله : «يقبض الله السماوات بيده اليمنى والأرض باليد الأخرى ، ثم يهزهن ، ثم يقول : أنا الملك» (١) وأراد إفهام معنى : من ربك ومن تعبد ، بقوله «أين الله» (٢) وأشار بإصبعه إلى السماء مستشهدا بربه ، وليس هناك رب وإله : وإنما أراد إفهام السامعين أن الله قد سمع قوله وقولهم. فأراد بالإشارة بإصبعه بيان كونه قد سمع قولهم. وأمثال ذلك من التأويلات الباطلة التي يعلم السامع قطعا أنها لم ترد بالخطاب. ولا تجامع قصد البيان.

قال شيخ الإسلام : إن كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة الذين لا يجدون ما يقولونه في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة بل يجدونها على خلاف الحق عندهم إما نصا وإما ظاهرا ، بل دلت عندهم على الكفر والضلال ، لزم من ذلك لوازم باطلة ، منها : أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذه الألفاظ ما يضلهم ظاهره ويوقعهم في التشبيه والتمثيل ، ومنها : أن يكون قد ترك بيان الحق والصواب ولم يفصح به ، بل رمز إليه رمزا وألغزه إلغازا لا يفهم منه إلا بعد الجهد الجهيد ، ومنها : أن يكون قد كلف عباده ألا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها ، وكلفهم أن يفهموا منها ما لا تدل عليه. ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك ، ومنها : أن يكون دائما متكلما في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق بأنواع متنوعة من الخطاب ، تارة بأنه استوى على عرشه ، وتارة بأنه فوق عباده ، وتارة بأنه العلى الأعلى ، وتارة بأن الملائكة تعرج إليه ، وتارة بأن الأعمال الصالحة ترفع إليه ، وتارة بأن الملائكة في نزولها من العلو إلى أسفل تنزل من عنده ، وتارة بأنه رفيع الدرجات ، وتارة بأنه في السماء ، وتارة بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء. وتارة بأنه فوق سماواته على عرشه ، وتارة بأن الكتاب نزل من عنده ، وتارة بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وتارة بأنه

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) أخرجه مسلم في (المساجد / ٥٣٧) ، والإمام مالك في «الموطأ» ، كتاب : العتق ، باب : ما يجوز من العتق.

٨٠